المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

رسالة إلى دورين.. قصة حب أن تحبّ كاتبًا، فهذا يعني أن تحبّ أنّه يكتبُ

بواسطة | يوليو 1, 2018 | مقالات

ترجمة‭:‬‭ ‬أشرف‭ ‬القرقني‭   شاعر‭ ‬ومترجم‭ ‬تونسي

وُلد جيرار هيرش في فيينّا سنة 1923م من أب يهوديّ، تاجرِ خشب وأمّ كاثوليكيّة أصغر من الأب بخمس عشرة سنةً. سنة 1930م، تختار العائلة لقبًا أقلّ إحالة على يهوديّتها: هورست، اللّقب الذي شاع في الأوساط الفرانكفونيّة على أنّه لقبه الأصليّ، إذ لن تتوقّف المسألة هنا.

سيواصل جيرار تبديل أسمائه كما لو أنّها أقنعةٌ تحميه من العالم الخارجيّ المُرعب. فبعد دراسته في سويسرا، تحصّل على شهادة الهندسة في الكيمياء. ثمّ أبدى اهتمامًا كبيرًا بالفلسفة والفكر، خصوصًا بعد اطّلاعه على كتاب «الوجود والعدم» لجان بول سارتر. فتجاذبه إثر ذلك منزعان: الأوّل وجوديّ تغذّيه أسئلة الطّفولة وهواجسُ حضوره في عالم الحرب العالميّة الثّانية بجذور يهوديّة، والثّاني ماركسيّ اقتصاديّ. وقد حملهما معًا اسم آندري غورتز، مُنظِّرًا وجوديًّا سارتريًّا في مرحلة أولى وناقدًا لماركسيّة اقتصادويّة ومحلّلا مؤسّسًا لما بعد الرّأسماليّة. ودون انفصال عن غورتز، ظهر ميشال بوسكيه اسمه المستعار الآخر، الذي يحمل شخصيّة الصحافيّ المهتمّ بالمجال السّياسيّ الاقتصاديّ وعلاقاته خاصّة بما هو إيكولوجيّ (بيئيّ).

ولكنّ أمرًا طريفًا يتعلّق بتجربة هذا المفكّر والفيلسوف. وهو أنّه ابتدأ نشر أعماله واختتمها بمؤلّفين أدبيّين في التّرجمة الذّاتيّة، منحا له وبشكل ما صورة الكاتب الأديب. كان الأوّل كتاب «الخائن» المنشور سنة 1958م. وقد عرض في نصيب منه لعلاقته بحبيبته دورين كاير، مانحًا إياها اسمًا مستعارًا كذلك وهو كاي. وبعد قضاء ثمان وخمسين سنة من الحياة المشتركة مع هذه المرأة التي صارت زوجته ورافقته في شتّى مراحله الفكريّة والمهنيّة، بل كان لها دور مؤسّس في تشكّل مشروعه الكتابيّ عامّة، كتب غورتز «رسالة إلى د. قصّةُ حبّ». لقد احتاج العاشق أن يكشف لا عن مشاعره لزوجته فحسبُ، إنّما أيضًا ليقرّ بدورها في تشكيل تجربته الفكريّة. ومن خلال السّرد في هذا الكتاب، تنكشفُ طيّاتٌ عميقة وحيّة من فلسفة هذا الكاتب وتبين صلتها بحضوره في العالم، أي كيف تتشكّل الفلسفة خارج كرسيّ الجامعة بل في الحديقة العامّة، على حدّ عبارة إميل سيوران، أو في الطّريق إلى المرقص حيث اجتمع غورتز وحبيبته لأوّل مرّة، أو في أيّ مكان آخر يحلّ فيه الإنسان ممتلئًا بحواسّه وكينونته. من هذا الكتاب، نقتطف المقطع التّالي:

لم يكن لديك أيّ مكان يخصّكِ في عالم البالغين. وكنت محكومة بأن تكوني قويّةً لأنّ عالمك برمّته كان هشًّا. لطالما شعرتُ بقوّتك متزامنةً مع هشاشتك الكامنة. كنت أحبّ ضعفكِ المتغلَّب عليه، معجبًا بقوّتكِ الهشّة. كان كلّ واحد منّا طفلًا للهشاشة والصّراع. وقد جُبلنا لكي يحمي الواحد منّا الآخر، على نحو متبادل، من نفسه. كنّا نحتاجُ إلى أن نخلق معًا، الواحدَ بواسطة الآخر، المكان من العالم الذي كان قد أُنكر علينا في الأصل. ولكن ليتمّ ذلك، كان يجدر بحبّنا أن يكون أيضًا ميثاقًا من أجل الحياة.

لم أصُغْ كلّ هذا أيضًا بهذا الوضوح من قبل. كنتُ أعرفه في أعماق نفسي. وأشعر أنّك كنتِ تعرفينه بدورك. لكنّ الطّريق كانت أطول ممّا يسمح لهذه الثّوابت المعيشية أن تجترح مسلكًا ما في طريقتي في التّفكير والفعل. كان علينا أن ننفصل في نهاية السّنة. لقد انفصلتُ عن عائلتي في سنّ السّادسة عشرة. وتحتّم عليّ أن ألتقيها مجدّدًا في سنّ الخامسة والعشرين تقريبًا، بعد أن انتهت الحربُ. لقد أصبحتْ حينئذ، غريبة بالنّسبة إليّ، تمامًا مثلي بلدي. قرّرت في ذلك الوقت أن أعود إلى لوزان خلال أسابيع قليلة. لكنّك قد شعرت بالخوف على الأرجح من أن تستبقيني العائلة وتستعيدني. أعارنا صديق شقّته من أجل يومينا الأخيرين. تحصّلنا إذن على سرير حقيقيّ ومطبخ، حيث أعددتِ وجبة حقيقيّة. وذهبنا فيما بعدُ إلى المحطّة معًا، وفي صمت. أفكّر اليومَ أنّه كان ينبغي علينا أن نقيم خطبتنا في ذلك اليوم. في تلك اللّحظة المحدّدة، كنت مستعدًّا لذلك. على رصيف المحطّة، أخرجتُ من جيبي سلسلة السّاعة الذّهبيّة التي كان ينبغي أن أعيدها لأبي، وثبّتُّها حول رقبتك.

خلال زيارتي لفيينّا، أوتيتُ الصّالة الكبيرة للشّقّة، آلة البيانو التي فيها، مكتبتها ولوحاتها. كنتُ أحبسُ نفسي فيها صباحًا. وأغادر خلسة في المساء لأستكشف أنقاض المدينة القديمة. ولم أكن أرى أفراد عائلتي إلّا عند وجبات الطّعام. كنتُ بصدد إعادة كتابة الفصل الثّاني من مقالة: «التّحوّل الجماليّ، الفرح، الجميل» وأقرأ «ثلاثة جنود» لـدوس باسّوس وكذلك «مفهوم الوساطة في فلسفة هيغل» (لست أضمن دقّة العنوان). في نهاية يناير، أعلمتُ أمّي أنّني عائد لـ«بيتي» في لوزان، من أجل عيد ميلادي. «ولكن ما الذي يشدّك إلى ذلك المكان؟»، سألتني. أجبتُها: «غرفتي، وكتبي، وأصدقائي، وامرأة أحبّها». لم أرسل إليك سوى رسالةٍ وحيدة، أصفُ فيها فيينّا وذهنيّة أهلي، راجيًا ألّا تلتقي بهم أبدًا. في ذلك اليوم، أرسلت لك برقيّة: «إلى السّبت محبوبتي».

أعتقد أنّك كنت في غرفتي عندما عدتُ. كان بالإمكان فتح قفل الباب بواسطة موسى أو دبوس شعر. وكان الشهر حينئذ فبراير. وبما أنّ موقد الخشب الصّغير كان مطفأً، فإنّ الرّكون إلى السّرير مثّل الوسيلة الوحيدة للحصول على الدّفء. إنّ دقّة الذّكريات التي احتفظت بها تكشف لي إلى أيّ حدّ كنت أحبّك وإلى أيّ حدّ كان الواحد منّا يحبّ الآخر.

خلال الأشهر الثّلاثة التي تلت ذلك، عزمنا على الزّواج. كانت لديّ اعتراضات مبدئيّة وأيديولوجيّة. وكنت أرى الزّواج مؤسّسة برجوازيّة. وأعتبر أنّه يسنِّنُ قانونيًّا ويصيّر اجتماعيًّا، العلاقة التي، بقدر ما تكون موسومةً بالحبّ، تَصل شخصين فيما هو الأقلّ اجتماعيّة لديهما. يملك الرّابط القانونيّ نزوعًا، بل يتخذ لنفسه مهمّة أن يستقلّ بنفسه إزاء التّجربة ومشاعر الطّرفين. كنت أقول أيضًا: «ما الذي يثبت لنا أنّه بعد عشر سنوات أو عشرين، سيتطابق ميثاقنا من أجل الحياة مع رغبة ما سنصيره؟».

إجابتك كانت حتميّة: «إذا كنتَ تتّحدُ بشخص ما طيلة الحياة، فإنّكما تضعان حياتيكما موضع اشتراك وتتجنّبان القيام بما يقسِمُ أو يعارض هذا الاتّحاد. إنّ بناء قِرانكما هو مشروعكما المشترك. ولن يكون لكما أبدًا الانتهاء من إثباته، أقْلَمَتِه وإعادة توجيهه بحسب الظّروف المتبدّلة. سنكونُ ما سنفعله معًا». كاد ذلك أن يكون سارتريًّا.

شخصيتين غير قابلتين للانسجام

جيرار هيرش

في شهر مايو، توصّلنا إلى قرار مبدئيّ. وكنت قد أبلغتهُ لأمّي، راجيًا منها أن ترسل إلينا الوثائق اللّازمة. فأجابتني بواسطة وثيقة في علم الخطّ تقضي بأنّنا، أنا وأنت، نملكُ شخصيّتين غير قابلتين للانسجام. أتذكّر يوم الثّامن من مايو. إنّه اليوم الذي قدِمتْ فيه أمّي إلى لوزان. قرّرتُ حينئذ أن نذهب معًا للقائها في النّزل الذي تقيم فيه، عند السّاعة الرّابعة.

جلستِ أنت في قاعة الاستقبال، بينما ذهبتُ لأعلم أمّي بقدومنا. كانت مستلقية على السّرير حاملة كتابًا. «لقد جئتُ مع دورين»، قلت لها. «أريدُ أن أقدّمها لك».

-«من هي دورين؟»، سألت أمّي. «ماذا لديّ لأفعله معها؟».

-«أنا وهي، سوف نتزوّج».

خرجت أمّي عن طورها. وأبانت كلّ الأسباب التي كان هذا الزّواج، استنادًا إليها، مرفوضًا تمامًا. «إنّها تنتظرك في الأسفل-قلتُ لها- ألا تريدين لقاءها؟». «لا». «إذن، أنا ذاهب».

«تعالي. لنذهب -قلتُ لك- إنّها لا تريدُ لقاءك». كنتِ توشكين على جمع متاعك، حين نزلت السّيّدة الضّخمة، أمّي، الدّرج قائلة: «دورين، عزيزتي. كم أنا سعيدة للتّعرّف إليك أخيرًا». أريحيّتك المهيمنة، رقّتك المكشوفة… كم كنتُ فخورًا بك أمام هذه السّيّدة الكبيرة التي كانت تتبجّح بالتّربية التي منحتها لابنها. وكم كنتُ فخورًا بازدرائك للأسئلة الماليّة التي كانت تمثّل بالنّسبة إلى أمّي عائقًا معطّلًا لاتّحادنا.

كان لكلّ شيء أن يكون الآن أبسط من قبل. المخلوق الأكثر إشراقًا في الأرض مستعدّ لمشاركة حياته معي. كنت مدعوّة للـ«مجتمع الرّاقي» الذي لم أحتكّ به قط. وكان الأصدقاء يحسدونني والرّجال يلتفتون إليك حين كنّا نمشي معًا مشابكين أيدينا. لماذا اخترت هذا اليهوديّ النّمساويّ الفاقد للمال؟ على الورق، كنتُ قادرًا من خلال استدعاء هيرو ولياندر، وتريستان وإيزوت، وروميو وجولييت، أن أبرهن أنّ الحبّ هو الافتتان المتبادَل لذاتين، فيما لديهما ممّا هو الأقلّ قابليّةً للكشف والاشتراك الاجتماعيّ والأكثرُ تمنّعًا عن المهامّ والانتماءات الثّقافيّة والصّور المتعلّقة بهما، التي يفرضها عليهما المجتمع. كان باستطاعتنا أن نضع كلّ شيء تقريبا موضع اشتراك، لأنّه لم يكن لدينا تقريبًا أيّ شيء في البداية. كان يكفي أن أسلّم نفسي لعيش ما كنتُ أحياه آنذاك، لمحبّة نظرتك أكثر من أيّ شيء آخر ومحبّة صوتكِ، ورائحتكِ، وأناملك المدبّبة وطريقتك في سكن جسدك، حتّى ينفتح المستقبل كلّه أمامنا.

وفي المقابل، كنتِ قد وفّرتِ لي إمكانيّة الفرار من نفسي والمكوث في مكانٍ آخر، كنتِ فيه الرّسولة. معكِ، كنتُ قادرًا على منحِ عطلةٍ لحقيقتي. وكنتِ متمّمَ عدم تحقّق الواقع، الذي أشكّلُ جزءًا منه، الذي كنتُ أشتغلُ فيه، منذ سبع سنواتٍ أو ثمان، بواسطة نشاط الكتابة… حاملةً بالنّسبة إليّ للقوسين الذين يحيطان العالم المهدِّد، الذي أقيمُ فيه لاجئًا، بوجود غير مشروع، حيث لم يكن المستقبلُ يتجاوز عندي الأشهر الثّلاثة. لم أكنْ أرغبُ في العودة إلى الأرض، ملتصقًا بالمأوى الذي أجده في تجربة عجيبة، أخشى عليها من أن تُختطف من قبل الواقع. ورافضًا في أعماق نفسي ما يقتضي من فكرة الزّواج وحقيقته هذه العودةَ إليه.

بقدر ما تسعفني ذاكرتي، لطالما كنتُ باحثًا عن عدم الوجود. لذا كان عليك أن تعملي لسنوات طويلة كي تجعليني أتحمّل مسؤوليّة وجودي هذا. وهذا العمل، فيما أعتقدُ، لم يكن منتهيًا أبدًا.

هناك طرقٌ أخرى عديدة لتفسير تحفّظي من الزّواج واعتراضي عليه. وهناك أبعادٌ نظريّة وأيديولوجيّة في هذا التّحفّظ تُعقْلِنُهُ. لكنّ معناه الأوّل كامنٌ فيما اختزلتُه للتّوّ.

قمتُ إذن، ودون حماسةٍ، بالإجراءات الإداريّة التي يقتضيها زواجنا. كان عليّ أن أتبيّن أنّه لم يكن لذلك أيّ صلة في ذهنك بشَرْعَنَةٍ ما أو إشراك اجتماعيّ لارتباطنا. كلّ ما كان يعنيه ببساطة، هو أنّنا كنّا معا بحقٍّ، أنّني كنت مستعدًّا لأن أبرم معك هذا الميثاق مدى الحياة الذي يَعِد من خلاله كلّ منّا الشّخص الآخر بوفائه، إخلاصه ورقّته. لقد كنتِ دائمًا وفيّة لهذا الميثاق. لكنّك لم تكوني متأكّدة من أنّه بإمكاني أن أظلّ وفيًّا له بدوري. كانت تحفّظاتي ولحظاتُ صمتي مغذّيةً لشكوككِ، حتّى جاء يوم الصّيف ذاك الذي قلت لي فيه بهدوء: إنّك ما عدتِ ترغبين في انتظار قراري أكثر من ذلك. لقد كنتِ قادرة على فهم عدم رغبتي في أن أحيا حياتي معكِ وتحبّذين في هذه الحال أن تهجريني قبل أن يتمزّق حبّنا في الخصومات والخيانات. «الرّجال لا يحسنون الانفصال -كنتِ تقولين-أمّا النّساء فيفضّلن أن تكون النّهايةُ واضحةً». كان الأفضل بالنّسبة إليك آنذاك أن نبتعد من بعضنا لشهر، حتّى أملك الوقت الكافي لأقرّر ما كنتُ أريدهُ.

متحدين إلى الأبد

لقد أدركتُ في ذلك الآن أنّني لم أكن محتاجًا لأجلٍ حتّى أفكّر، وأنّني سأظلّ نادمًا، وعلى نحو مستمرّ، إذا ما فرّطتُ فيك. لقد كنتِ أوّل امرأة استطعتُ أن أحبّها، جسدًا وروحًا، فأحسّ إزاءها بتصادٍ عميق… حبّي الحقيقيّ الأوّل، حتّى أختزل كلّ ما يمكن قوله. ولذلك، إن لم أكن قادرًا على حبّكِ بشكل حقيقيّ، فإنّني لن أتوصّل إلى حبّ امرأة أخرى مطلقًا. عثرتُ على كلماتٍ لم أكن قد توصّلتُ إلى التّلفّظ بها من قبلُ، كلماتٍ لأقول لك: إنّني أريدُ أن نكون متّحديْن إلى الأبد.

دوس باسّوس

ذهبتِ بعد يومين للمكوث عند أصدقاء يملكون أراضي زراعيّة شاسعة. كنتِ قد أقمت عندهم في اليوم الموالي للحرب، فأنشأتِ إذن حملًا برضّاعة، يتبعك حيث ذهبتِ، مثلما هو الحال في أناشيد الحضانة التي كنت تنشدينها. فكّرتُ في السّعادة التي تمنحها لك الحيوانات، وفي صاحب الأراضي الزّراعيّة الذي كان مغرمًا بك ومقتنعًا أنّك ستقبلين الزّواج به بعد انتهاء إقامتك في تلك «القارّة».

لقد وعدتني بالعودة. لكنّني لم أكن مطمئنًّا تمامًا. كنتِ قادرة على تدبير حياتك من دوني، بشكل أيسر ممّا عليه الحال معي، إذْ لستِ في حاجة إلى أيّ شخصٍ حتّى تنشئي مكانك في هذا العالم. لديكِ سلطةٌ طبيعيّة وعفويّة، حسُّ اتّصال وانتظامٌ وروحُ الدّعابة. كنتِ مرتاحة وتمنحين هذه الأريحيّة للآخرين في شتّى الوضعيّات. تتحوّلين سريعًا إلى المرأة الواثقة النّاصحة للأشخاص الذين تحتكّ بهم. تمسكين حدسيًّا، وبسرعة مدهشة، بمشاكل الآخرين، فتساعدينهم على النّظر بوضوح في دواخلهم. كتبتُ لك كلّ يوم بعناية أرملة حربٍ مسنّة جدًّا، تعيش في لندن بنصف رطل في الأسبوع. وأحببتِ رسائلي. فقد كانت رقيقةً. وكنتُ واعيًا بحاجتي إليك حتّى أعثر على طريقي، وواعيًا بعدم قدرتي على حبّ امرأة أخرى غيرك.

مع نهاية الصّيف، رجعتِ لكي تشاركيني فقري المدقع. لقد اندمجتِ سلفًا في حياة لوزان بشكل أيسر منّي. بالنّسبة إليّ، كنتُ أحتكّ أساسًا بأعضاء جمعيّةٍ لقدماء طلبة الآداب. وخلال أشهر قليلة، اتّسعت دائرة أصدقائك -وصديقاتك المقرّبات- أكثر منّي. انخرطتِ في فرقة مسرحيّة أسّسها شارل آبوتيلوز. كانت فرقته تسمّى «الأنوف المزيّفة»، وهو عنوانٌ لمسرحيّة لآبوتيلوز، كان قد كتبها انطلاقًا من سيناريو لسارتر، منشور في «مجلّة السّينما» سنة 1947م. كنتِ تشاركين في تمارين هذه المسرحيّة. ولعبتِ في ثلاثة عروض منها في لوزان ومونترو.

تطوّرتْ معارفك في اللّغة الفرنسيّة بفضل المسرح دون شكّ، أكثر ممّا هو بفضلي. لقد كنتُ أدّعي مساعدتك بواسطة طريقة ألمانيّة تقوم على حفظ ثلاثين صفحة على الأقلّ من كتاب واحد، وعن ظهر قلب. وقد اخترنا كتاب «الغريب» لألبير كامو الذي يبدأ على هذا النّحو: «اليومَ ماتت أمّي، أو ربّما أمسِ. تلقّيتُ برقيّةً من المأوى، تقول: توفّيت الأمُّ. الدّفنُ غدًا. احتراماتنا». هذه الصّفحة الأولى ما زالت تضحكنا اليومَ أيضًا، حين نتلوها معًا.

خلال وقتٍ وجيز، تمكّنتِ من كسب أموال أكثر منّي: بواسطة دروس في الإنجليزيّة أوّلًا، ومن ثمَّ بوصفك سكرتيرة كاتبة بريطانيّة، قد أصبحت عمياء. كنتِ تقرئين لها، تكتبين بريدها. وتتجوّلين بها مساءً، طيلة ساعة، وأنت تمسكين بذراعها. وكانتْ تدفع لك، بشكل سرّيّ دون شكّ، نصف ما يكفينا لنعيش. كنتِ تشرعين في العمل عند السّاعة الثّامنة. وعندما تعودين من أجل الغداء، أكونُ قد استيقظتُ للتّوّ. أكتبُ حتّى السّاعة الواحدة أو الثّالثة ليلًا. ومع ذلك، لم تحتجّي عليًّ قط. كنت قد بلغتُ القسم الثّاني من المقالة التي تعمل على فَرْقِ العلاقات الفرديّة مع الآخرين وفق تراتبيّة أنطولوجيّة. كانت لديّ مشاكلُ كثيرة مع الحبّ (الذي خصّص له سارتر ما يناهز ثلاثين صفحة من الوجود والعدم)؛ إذ إنّه من المستحيل أن نفسّر فلسفيًّا لِمَ قد نحبّ ونريد أن نُحبَّ من قِبل ذلك الشّخص المعيّن تحديدًا، من دون أيّ شخص آخر.

الشغف العاشق

ألبير كامو

في تلك الفترة، لم أبحث عن إجابة لهذا السّؤال، في التّجربة التي كنتُ بصدد عيشها. لم أكتشف، مثلما هو الحال هنا، أيّ قاعدة يستند إليها حبّنا. ولم أكتشف بعدُ كذلك أنّه إذا ما كنتُ مهووسًا، على نحو مؤلم ولذيذ في الآن نفسه، بالمصادفة التي تظلّ موعودةً ومنفلتةً لمذاق جسدينا- وإذْ أقول جسد، فإنّني لا أنسى أنّ الرّوح هي الجسد لدى مورلوبونتي وسارتر- فإنّ هذه المصادفة تحيل إلى تجارب مُؤسِّسَةٍ، لها جذورها الممتدّة في الطّفولة: الاكتشاف الأوّل والأصليّ، وكيف يمكن لمشاعر يحدثها صوت ما أو رائحة أو لونُ بشرة أو طريقةٌ في الحركة والكينونة، التي ستظلّ دائمًا المعيار المثاليّ، أن تُحدِث صداها في داخلي. المسألة هكذا: إنّ الشّغف العاشق هو طريقةٌ للدّخول في تصادٍ مع الآخر، جسدًا وروحًا، ومعه هو أو هي فقط. نحنُ في محايثة وتعالٍ مع الفلسفة في الآن ذاته.

لقد انتهت سنوات مشقّتنا، على نحو مؤقّت، في صيف 1949م، لأنّنا كنّا نناضل من أجل منظّمة «مواطنو العالم» ونبيع صحيفتها، هاتفيْن، على أرصفة لوزان. اقترح عليَّ سكرتيرها الدّوليّ، رونيه بوفار، الذي كان قد سُجن لاعتراضه على الخدمة العسكريّة، أن أصبح سكرتير المنظّمة في باريس: سكرتير السكرتير. ولأوّل مرّة في حياتي، انتُدبت في عمل براتب عاديّ. لقد اكتشفنا باريس معًا. ومثلما حدث الأمر مع كلّ المهن التي اشتغلتها لاحقًا، كنتِ تتحمّلين نصيبًا من المهامّ التي كان عليَّ أداؤها. تجيئين إلى المكتب لتساعديني في جرد آلاف الرّسائل وترتيبها التي كانت عالقة. وتشاركين في صياغة الدّوريّات بالإنجليزيّة. كنّا قد تعرّفنا إلى الأجانب الذين كانوا يزورون المكتب. فندعوهم إلى الغداء. لم نعد مرتبطيْن في حياتنا الخاصّة فحسبُ، إنّما كنّا كذلك أيضًا في نشاط مشترك يخصّ المجال العامّ. إلّا أنّني كنت أنطلق في السّاعة العاشرة ليلًا في العمل مجدّدًا على مقالتي حتّى السّاعة الثّانية أوالثّالثة صباحًا. «تعال إلى السّرير»، كنتِ تقولين ابتداءً من السّاعة الثّالثة. وكنت أجيبكِ: «أنا قادم». فتردّين: «لا تكن قادمًا. تعال». ولم يكن هناك أيّ نبرة للعتاب في صوتك. كنتُ أحبّ تنبيهكِ لي، مع أنّك كنت تتيحين لي أيضًا كلّ الوقت الذي يلزمني.

كنتِ تقولين لي: إنّك مرتبطة بشخص لم يكن قادرًا على الحياة دون أن يكتب. وكنتِ تعرفين أنّ من يريد أن يصبح كاتبًا يحتاج القدرة على الانعزال، وتدوين ملاحظات في أيّ ساعة من النّهار أو اللّيل، وأنّ اشتغاله على اللّغة يستمرّ تمامًا بعد أن يضع قلمه جانبًا، ويمكن له أن يتلبّسه بشكل مطلق وعلى نحو مفاجئ، أثناء تناوله لوجبة طعام أو خلال محادثة. وتقولين لي أحيانًا أمام لحظات صمتي الطّويلة والحالمة: «آه، لو كنتُ فقط قادرةً على معرفة ما يحدث في رأسك». لكنّك تعرفين ذلك جيّدًا، لأنّك أنت أيضًا قد خبرت هذا الأمر من قبل: دفقُ كلماتٍ تبحث عن انتظامها الكريستاليّ الأمثل، نتفُ جمل يعادُ تشكيلها بشكل دائم، نتوءات أفكار تهدّد بالغثيان في حال لم تنجح كلمة سرّ أو رمزٌ ما في ترسيخها في الذّاكرة. «أن تحبّ كاتبًا، فهذا يعني أن تحبّ أنّه يكتبُ»، كنتِ تقولين لي: «إذن، اكتبْ».

لم يكن لدينا أيّ شكّ أنّني كنت في حاجة إلى ستّ سنواتٍ أخرى حتّى أنهي المقالة. هل كنت لأثابر في العمل عليها، لو كنت عرفت ذلك؟ «أنا متأكّدة من ذلك»، أجبتِني. ليس ما يكتبُهُ الكاتب هو ما يمثّل هدفه. إنّ حاجته الأولى هي الكتابة نفسها. أن تكتب، فهذا يعني أن تغيّبَ ذاتك من العالم ومن نفسك، حتّى تصنع منهما في النّهاية مادّة تشكيلات أدبيّة. إنّه، وعلى نحو ثانويّ فقط، يُطرح سؤال «الموضوع» المطروق. وهذا الموضوع هو الشّرط الأساسيّ والمحدَّد على نحو أساسيّ كذلك لإنتاج كتاباتٍ. إنّ أيّ موضوع يكون المناسب ما أمكن أن يتيح الكتابة. طيلة ستّ سنوات، وصولًا إلى سنة 1946م، كنتُ أحتفظ بمفكّرة. وكنتُ أكتب فيها، تجنّبًا للرّعب، أيّ شيء. لقد كنتُ كُوَيْـتِبًا. والكُويْتبُ يصير كاتبًا عندما تستندُ حاجته إلى الكتابة إلى موضوع يسمح له ويقتضي منه في آنٍ، أن تنتظم هذه الحاجة ضمن مشروع. هناك ملايين من النّاس يقضون حياتهم في الكتابة دون أن ينهوا عملًا أو ينشروه أبدًا. أنتِ نفسك قد مررت بهذا الأمر. وكنتِ تعرفين، منذ البداية، أنّه ينبغي عليك حماية مشروعي إلى ما لا نهاية.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *