المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

الحالم (2048)

بواسطة | يوليو 1, 2018 | نصوص

إلى ذكرى ستيفن هوكينغ

الجهاز الضوئي الصغير..

بدأ يصف الحروف التي استخرجتُها من الزجاجة التي طفتْ على سطح البحر قبل قليل، ولم يتوقف،

ثم بدأ في خطّ كلماتٍ لم أعرف ما الرابط بينها.

«عسل. صيف. يعسوب. دفء. بني. ليلكي. قصب. دالية. كمشة من التراب. نسمة. ورق البردي. آيس كريم بالفانيلا. عنب. بهارات. شريط موسيقي. أزرق. ناي. قميص. فرس. ثلج…».

كنتُ قبلها بدأتُ التفتيش على معنى كلمة حُبّ، التي صرت أجدها في العديد من الكتابات الغامضة التي أعثر عليها مصادفةً. وجدتُ هذه الكلمة في الرسوم والشرائط التي تمثل جزءًا من الحياة على وجه الأرض قبل عصر المياه القوية. كلُّ هذه الأسماء الغريبة التي تتالت أمامي تُصيبني بالتوتر. كم هو غريبٌ أنني لا أعرف الكثير من الكلمات التي استخدمها الناس في الزمن العتيق؛ حين كانت الأشياء مختلفةً ومُغايرةً لما نعرفه اليوم بعد زمن الطوفان العظيم.

بدأ فضولي حين وقعَت بين يديَّ رسالةٌ في قنينةٍ زجاجيةٍ تطوف داخل تيارات المياه، وكانت مليئةً بكلمات تصف الحب الذي أتمنّى أن أعرف معناه. كانت تعود إلى رجلٍ أراد أن يُوصل إلى حبيبته مشاعره الفيّاضة، وكان ذلك قبل لحظة هجوم مياه المحيطات على اليابسة.

كان من مهمات جهازي اليابانيّ الصغير، الذي لا يتجاوز حجمه إصبعين، أن يجعلني أعرف معاني الأشياء المذكورة أو ارتباط بعضها ببعض. يُمكن لهذا الجهاز أن يقوم بالبحث في جميع الأنسيكلوبيديات المختصة بمجرد الكبس على زرٍّ واحد. ويمكن له أن يعلم عن طريق التليباثي إن كنتَ قد اكتفيت، أو أنّ عليه التفتيش عن المزيد.

أُريد أن أعرف ما هو الحب، أُريد أن أَلمسه، وأن أتطلع إليه وأن أحمله معي دومًا، لو كان فعلًا هناك. أثّرت الكلمة فيّ، وأضافت إلى جهازي معنى جديدًا ينبض بالغموض والشغف. صار الدفء يسيل على رؤوس أصابعي أثناء التفتيش، وهي التي عهدتها باردةً كالثلج. كانت الرسالة التي حملتها الزجاجة الأولى قد أُرفقت بملاحظةٍ تقول: إنها تعود إلى ثلاثين رسالةً سجَّلَتها اليد ذاتها. وحتى الآن، لم أجد إلا واحدةً منها. وعلى الرغم من أنّ الاحتمالات لا نهائية في أن أجد بعضها أو لا أجد شيئًا على الإطلاق، فإنّني كنتُ من القلائل بين مجموعتي الجبلية ممن سُمح لهم بالتدرُّب على الغوص ومحاولة العيش تحت المياه. ربما لهذا وجدت القارورةَ الزجاجيةَ التي حملها الموج بعد أن شُطبت الخرائط القديمة، وانقسمت البلدان السابقة، وتغيّرت الأجواء تمامًا. فقد تحوَّلت طبيعة الأرض، وتغيّرت طبيعة سكانها، منذ أيام «تسونامي العظيم» الذي أعقب ذوبان المحيطات والبحار المتجمدة، خصوصًا القطبين الشمالي والجنوبي.

بات البشر جميعًا يتحدرون الآن من نوعين لا غير: أهل الجبل وأهل البحر.

بعد أن غرق الكثيرُ الكثيرُ من سكان الأرض لم تعد هناك أعراقٌ متنوعة، بل عِرقٌ بشريٌّ واحدٌ يتمتع أصحابُهُ بأشكالٍ مختلفةٍ وألوانٍ متعددة، واسمه «حبُّ البقاء». وسبق ذلك إعلان «الأُمم المتحدة»، التي تحولت إلى كيانٍ معنويٍّ موجودٍ على الأجهزة الذكية فقط، أنَّ أهل الأرض يعودون جميعهم إلى منشأ جينيٍّ واحد، وأنّ عليهم أن يكفوا عن تفاهات العنصرية التي أوصلت كوكبنا إلى حافة الإبادة. كان اكتشاف عام 2017م عن إنسان Brigton في منطقة شيدار Cheddar واكتشافاتٌ موثوقةٌ أُخرى في أماكن أُخرى أثبتت أنّ لكثيرين من سكان العالم الشمالي وإنجلترا الأصليين بشرةً سمراء داكنةً وعيونًا زرقاء منذ العصر الميثولوني. وعزَّز هذا الفتح العلمي ظهور فتياتٍ ذوات شعرٍ أشقر وبشرةٍ فاتحةٍ في العالم العربيّ وإفريقيا، قاومن استعمار الحكومات واضطهادها كلَّ من لا يتمتع ببشرةٍ بيضاءَ ورصيدٍ محترم، فقضين على الخيالات الجامدة التي حددت الأعراق بألوان الناس وتدرُّجات الفاتح والغامق في ألوان البشرة وحدقات العيون.

حدث الخراب الأعظم قبل أكثر من عشرين عامًا، حينما التقى حاكم أقوى دولةٍ في شمال الأرض آخَرَ في أقصى جنوبها، وكان لكليهما طبعٌ نَزِقٌ وحادُّ المزاج ومصالحُ تجاريةٌ متعارضة، وهكذا تقاتلا يومها على معنى عبارة «الحد من التسلُّح النووي»، ووصل تحدّي المجانين بينهما إلى استخدام قنابل اختبارية هيدروجينية وفراغية اعتبراها بمثابة استعراض عضلات، لكنّها زلزلت الأرض، وأبادت قسمًا كبيرًا من السكان، والأفظع أنّها هيّجت المحيطات، فاندفعت لتمحو المدن الساحلية البهيجة.

لم يعد من منجى سوى الجبال. وهكذا صار لأهل البحر أن يعيشوا على قوارب فوق الماء، وأن يتدربوا على المكوث تحت المياه ساعاتٍ طويلةً ملتزمين بتدريباتٍ قاسية، لكي تنجو الأجيال القادمة من مصيرٍ قاسٍ لَحقَ بالأوائل. أما أهل الجبال، فيتدربون طيلة الوقت على أن يكونوا قافزين؛ مثل الرجل المطاطيّ الذي ظهر للمرة الأولى بين شعبٍ صغيرٍ كان مُهدَّدًا بأخطارٍ كبيرةٍ يُدعى الفلسطينيين. كان هذا منذ أيام الجدران العالية التي أقامها المستعمرون في بلادهم لتفصل ما بين قريةٍ وقرية، ومدينةٍ وأُختها، وأُناسٍ وعوائلهم. وكان مما يدعو إلى العجب أنّ ذلك أثَّر في تطوير قدرات بعض الفلسطينيين عبر طفرةٍ وراثيةٍ أنتجت جيلًا من عابري الأسوار العالية، بعد أن جعلهم قضاء الوقت الطويل على حواجزَ إلكترونيةٍ ذات أسوارٍ مُدججةٍ بالمعادن والأشرطة المكهربة يُجيدون اختراع فنونٍ من القفز واجتياز الحقول المكهربة مما لا يُتقنها غيرهم. وقد يسّر لهم هذا السكنى على الأشجار، تمامًا مثلما فعل سكان الغابات في القارات كافة.

أما في الدولة التي اضطهدتهم، وكان تخصصها الأول بيع الأسلحة وإرشاد الدول الأُخرى إلى إقامة الجدران العازلة حول الأكواخ، فقد صار هدف وجود الكثيرين فيها الدفاع عن رأيهم وعن تفوُّقهم على أولئك الفقراء المحبوسين وراء الأسوار، وذلك بالكتابة على ما تبقَّى من الطرق الخَرِبَة والجُسور المُنهارة والبنايات الضخمة الآيلة للسقوط بسبب عنف الفيضان: «ليس لنا شريكٌ في السلام»، و«وحدنا أصحاب القرار»، و«مُوتوا بغيظكم، فنحن شعب الله المختار رغمًا عنكم».

كان هؤلاء الممسوسون يُشبهون آخَرين من سُكّان الكرة الأرضية ممن صعب عليهم الاقتناع بأنّ اكتشافات الـD.N.A أعلنت أنّ سكان الأرض يملكون المنشأ الجينيَّ ذاته، وأنّهم يتشابهون جميعًا في الحقوق، مهما تغيَّرت دياناتُهُم ومذاهبُهُم، وأنّ الألوان والأجناس المألوفة ليست إلا طلاءً خارجيًّا للبشر، يُشبه أن يصيرَ لونُ التفاحة أشدَّ حمرةً أو أكثر دكنةً وشُحوبًا، أو كاختلاف لون السمك الذي يعيش على الرمال عن قرينه بين الصخور.

لكنّ هذه الزجاجة والرسالة الغريبة داخلها أطارتا لُبّي.

فأنا بحقِّ الجحيم أُريدُ أن أفهمَ ما هو الحُب، وهذا الجهاز الضوئي الصغير لا يُقدم لي إلا شرائطَ ومعلوماتٍ لا أستطيع أن أستخلص منها شيئًا مُحدَّدًا. تحت كلمة «حب» تندرج ملايين الأغاني، ومليارات العبارات، ورقصاتٌ بعدد النجوم، وعباراتٌ غامضةٌ مثل ظواهر المجرات البعيدة التي لا يمكنني إدراك معانيها، أو حلّ رموزها دون الالتحاق بعلماء الفلك، وأنا مَن أتخصّصُ حاليًّا في علم المُحيطات حفاظًا على استمرار الحياة البشرية، ويشمل هذا قياس كثافة الأسيد الكربوني، ومدى انتقال الإشعاع عبر المياه، وقياساتٍ أُخرى خاصةً بالمحيطات لا علاقة لها بكلمات الحب.

ولأنّ معنى كلمات الرسالة المعقد وسياق تتابعها لم يكن واضحًا بالنسبة إليّ، بات عليَّ أن أُحاولَ فهم الصور التي وردت أمامي. كنتُ أُحاول أن أجد معنى كلمة حب بما يتجاوز القاموس أو الموسوعة. كانت عملية البحث لا نهائيةً فعلًا، حتى إنني عثرتُ على مخطوطٍ عربيٍّ لابن حزم الأندلسي اسمه «طوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف»، وهو رسالةٌ في الحبّ، قسّمها صاحبها إلى ثلاثين بابًا، ومنها في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة فقط اثنا عشر بابًا. وقد دُهِشتُ واهتزَّت المرئيات أمامي حينما قرأتُ مفتتح كتابه بالقول:

«الحب –أعزك الله– أولُه هزل، وآخره جد».

فماذا يعني هذا فعلًا لمن كان مثلي لا يعرف، أصلًا، الفرق بين الجدّ والهزل؟!

كم يبدو الحبُّ مُعقَّدًا وغامضًا، مُرتبِطًا بالمآسي والأهوال والغضب. كم يبدو ملتبسًا حين يضع مسؤولية الكائن بيد من يُحبه. كم استمعتُ لأُغنياتٍ باللغات المفهومة كلها، وكم قرأتُ أشعارًا تُحاول وصفه، فلا تُجيد في الإحاطة به، كأنه كائنٌ خرافيٌّ مصنوعٌ من الفرح والحزن معًا، لكنّ أحدًا لا يستطيع الإمساك بتركيبه الجينيّ.

وأكثر ما أثار دهشتي أنّ المراجع تربط الحب بأنواعٍ من: الكتابة، والطعام، والرقص الذي لا يمكننا حصر أنواعها التي تعددت بلا نهائيةٍ تُعادل أيام التاريخ الإنسانيّ، بل أدهشتني أسماء بعضها أو التشبيهات التي ترد في أغانيها مثلما تقول أُغنية Sway هذه:

When Marimba rythms start to play

dance with me

Make a sway

Like a lazy ocean hugs the shore

Hold me close, sway me more

حقيقةً كان من الصعب عليَّ استيعاب أنّ المحيط الذي يبتلع الناس بسهولةٍ كان يرقد في الأُغنية كسولًا هانئًا، وهو يحضن الشاطئ أمام المُحبّين. يبدو أنّ سلوك المياه وفورانها وغضبها قد ثارت على الناس منذ تلك السنوات التي غرقت فيها قوارب المُهاجرين من إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط إلى دول الشمال. ولا بُدَّ أنّ هذا ازداد عنفًا مع حدوث تسونامي المجنون.

كنتُ عثرتُ على منظارٍ يُشبه المرقاب على الشاطئ بالقرب من المكان الذي عثرت به على الزجاجة، وأردت استخدامه لأفهم ما يجري؛ لأنّ الأجهزة الذكية التي لدينا تربط الأشياء ببعضها، وتُدخلنا في حالة تخاطُر (تليباثي) مع مَن أرسلها كي نرى بعينَيه.

بدأتُ أُعالج المادة التي وجدتُها مكتوبةً على هذا المرقاب بعد أن وجدتُ الرسالة تلك، وأخيرًا استطعتُ أن أجد العلاقة بينهما، وأن أرى حرفَين محفورَين على جسد الأُنبوب النحاسيِّ داخل شكلٍ يُمثل القلب رمزيًّا. وعندما بدأ جهازي في العمل، بدأَت الكلماتُ تتحدُ مع بعضها. وبدأت أفهم أنَّ كلَّ حرفٍ يُشيرُ إلى اسمٍ واحدٍ من هذين المُحبين المجهولين.

انتبذتُ ركنًا قصيًّا بعيدًا عن درب الناقلات التي تُشبه عربات التلفريك قديمًا، وتحررَت الآن كليًّا من دعم الحبال المعدنية خلال طيرانها. كانت تلك هي المواصلات الفضائية التي تُستخدَم لنقل العلماء بعد أن انتهى عهد السيارات القديمة. وبدأتُ متابعة مسألةٍ غريبةٍ تبدَّت لي على شاشة الجهاز. رأيتُ عناوينَ ومناظرَ وصُوَرًا لحربٍ في الشرق الأوسط، حربٍ في البلقان، حروبٍ في اليمن، حربٍ في سوريا، حُروبٍ في فلسطين، حُروبٍ في كلِّ مكان. كان هذا كله على هذه الأرض التي غزتها المياه التي أدت إلى الطوفان الكبير. لحسن الحظ، استأنف بعضنا العيش، وتغلَّبَ على الكثير من العقبات والمآسي التي خلَّفتها حروب البشر وحروب الطبيعة ضدنا.

لم تكن معي قطرات الرحيق التي انتزعتُها من صمغ شجرات الصنوبر الصينيّ، التي آخذها ليلًا كي تُجدد نشاطي؛ لذا نمتُ بعُمقٍ تلك الليلة في كوخي المُعلَّق فوق الأشجار القليلة التي تبقَّت بعد الانفجار النوويّ الأخير في منطقتنا. صحوتُ في الصباح التالي، وكانت الموسيقا الصادرة عن الجهاز الصغير الذي ثبتُّه بالأمس على كلمة «حب» تعمُّ المكان، فالسات، رقصٌ شرقيّ، فلامنكو إسباني، حفلةٌ كاملةٌ كانت تصدر عن الجهاز محملةً بكل أنواع الموسيقا في العالم القديم. كانت تنزل بتراتُبٍ مُتّصل.

كانت فكرةً سديدةً أن أربط ذاكرة الجهاز مع ذاكرة المرقاب القديم المرميّ على الشاطئ؛ لأنّ الذرات تحمل ذاكرة الأحداث التي مرَّت بها، وهكذا بدأت التليباثي بينه وبين جهازي الخاص.

كان جهازي ينقل لي ما رأته عينا صاحب المرقاب في لحظاته الأخيرة. كان متمددًا على شاطئ بُحيرةٍ وهو يتأمل الطيور البيضاء التي تُغطّي السماء خلال طيرانها، وهي مرشومةٌ فوق المحيط الأزرق. ألوانٌ بهيةٌ زاهية.. لم يخطر لي أنها موجودةٌ قبلًا بسبب تعكُّر المحيطات والبحار.

الأزرق.. اللازورديّ.. السماويّ.. الأبيض.

يا لَلمزيج الرائع!

كان الرجل مرتاحًا على العُشب ينتظر زوجته المصورة التي تعمل لمجلة تُدعَى «الجغرافيا العالمية» في مشروعٍ يهدف إلى الحفاظ على الطبيعة وكائناتها النادرة. كان هو المحرر، وكانت هي التي تلتقط صور الحيوانات التي صارت نادرةً الآن؛ لكثرة الصيد وشدة التلوث وصعوبة حصول هذه الكائنات على غذاءٍ بعد أن بدأ الجليد في الذوبان. لقد رأيا بأُم عيونهما دُبًّا يحتضر جوعًا، وفراؤه الجميلُ الأبيضُ مُغطّى بِبُقعٍ من القذارة والفحم، وذلك لأنّ ذوبان الثلوج جعله عاجزًا عن اصطياد السمك وسط المياه المُندفعة في دوّاماتٍ جنونيةٍ حوله. كلاهما كان عاشقًا للدولفينات والحيتان والفقمات وعُجول البحر وطيور البنجوين الحساسة والثعالب القطبية البيضاء والكلاب، التي تتشابه والذئاب، ونوارس الماء، سواء الرمادية أو ذات اللون البنيّ، وكلاهما كان يعاني من مشكلة دمار الطبيعة بسبب تغلُّب التلوُّث والقذارة على بقاعٍ كانت عصيةً على الوصول إليها، إلا أنها امتلأت الآن بزوارقَ صغيرةٍ وكبيرةٍ تحمل جُموعًا وحشودًا من البشر لغرض السياحة والتسلية. كان العالمُ الطبيعيُّ قد تحوَّلَ إلى منبعٍ لصناعاتٍ ضخمةٍ أُقيمت من أجل تسلية الأغنياء وإيجاد أثاثٍ فاخرٍ لهم، وأمكنةٍ جديدةٍ يُروحوّن بها عن أنفسهم المَلولة، فيما الفقراء والمُهمَّشون من سكان الأرض الأصليين محتجَزون وراء جدرانٍ وشبكات أسلاكٍ ضخمة، لكي لا ينزعج برؤيتهم هؤلاء السعداء.

كان الرجل يرقد تحت أشعة شمسٍ بلون العسل (العسل: هو إفرازٌ حلو الطعم من النحل)، وكان ينتظر زوجته كي تنتهي من تصوير الطيور، التي غطت الهضبة المعشبة المُطلّة على البحر الشمالي، فيما كان مُغمضَ العينين على حلمٍ جميلٍ حينما بدأ الانفجار المائيّ الأول.

ركض ليُفتّش عليها، وترك وراءه حقيبته المنتفخة، التي حملت الزجاجةَ الأخيرة من رسائل الحبّ التي كان قد أَعدَّ لإسقاطها في ذلك اليوم على الشاطئ الذي حطّا عليه، ومرقابه النحاسيّ الصغير. لسببٍ ما كان قد أودع المياه تسعًا وعشرين زجاجةً سابقًا، وكان هذا احتفاءً بالحُبّ الذي جمعهما في هذه المنطقة الساحرة من العالم. ولم يخطر له أبدًا.. أبدًا لم يخطر له أن يبدأ انفجارٌ كونيٌّ من نوعٍ مختلف.

تصاعدت الأمواج العملاقة، وابتلعت العالم كله. أو هذا ما بدا له. عندما حدث هذا كانت امرأته تستدير عائدةً إليه، وشَعرُها المُجعَّدُ الطويلُ يطير خلف ظهرها وهي ترفع له يديها تعجُّبًا واستغرابًا.

ثم حدث كلُّ شيء.

أو إنّ ما حدث كان يؤدي إلى لا شيء.

وأنا! ما الذي سأفعله بعد أن انقبض جلدي وشعري وجسدي بسبب هذه القصة الحزينة؟

سأُواصل التفتيش عن معاني الكلمات التي لم أفهمهما. سأفهم معنى ما لم أُفكر فيه يومًا، ولم يخطر لي أبدًا قبلها. أُريد أن أعرف معانيها جميعًا:

«عسل. صيف. يعسوب. دفء. بنيّ. ليلكيّ. قصب. دالية. كمشة من التراب. نسمة. ورق البردي. آيس كريم بالفانيلا. عنب. بهارات. شريط موسيقي. أزرق. ناي. قميص. فرس. ثلج…».

أُريد أن أفهمَ لغة الرجل الحالم، أُريد أن أصير مثله، وأن أعرف دواعي استخدام هذه الكلمات.

قد أزور فصيل الشبان والشابات الذين يُواصلون دراسةَ علم الأشجار مع العلماء المتخصصين في النبات، ليشرحوا لي بعضًا منها.

وربما أيضًا علماء الشمس، بعد أن صرنا مُهدَّدين بخسارتها وانطفائها قريبًا.

وربما علماء النفس والسلامة العقلية، لكي أتأكد إنْ كانوا وجدوا الطرق لشفاء هؤلاء البشر الذين يكتبون مديحًا لأنفسهم على الجسور الخربة وفوق المباني المهدمة؛ لأنهم يظنون أنهم أفضلُ وأحسنُ وأهمُّ من بقية البشر، ويريدون لهذا الاستئثار بالأرض والخيرات والفضاء.

أُريد أن أسأل إن كان ثمة من سيشرح لي معنى كلمة حب؟!

ولا بد من أنَّني سأفهمُ يومًا ما كان الرجل يحلم به في تلك اللحظة على ظهر تلك الهضبة المُعشبة، وآلاف الطيور تعبر السماءَ الصافيةَ فوقه، والغيوم تمشي وئيدًا مثل قطيعٍ من الأفراس التي ترعى في سماءٍ زرقاءَ تحت أشعة شمسٍ عسليةٍ وهو ينتظر امرأته.

أزرق. أبيض. لازورديّ. سمائيّ.

هذه الألوان هي درسي الأول في الأحلام..

أو ربما الحب!

لا بد!

«فصل من رواية جديدة»

المنشورات ذات الصلة

سكرات الصداقة

سكرات الصداقة

في غرة شهر آب حينما بدأت الشمس تلتهب وتذيب ما تحتها، اخترق ضوؤها زجاج أحد مقاهي مدينة الرياض واستقر على منضدة الشابين...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *