المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

صحوة اليمين الأصولي الأميركي .. قراءة في الجذور التراثية والاختراقات التي جرت للعقلية الأميركية

بواسطة | يوليو 1, 2018 | قضايا

هل بات العالم على موعد مع عودة التيار اليميني الأصولي الأميركي الضارب جذوره في ذاك المجتمع، الذي يعرف أحيانًا عند البعض بتعبير «الصهيونية المسيحية» من جديد؟ ينبغي بداية الإشارة إلى أن هذه القضية الفكرية شديدة التعقيد لأسباب شتى، في مقدمتها تداخل ما هو سياسي مع ما هو ديني، عطفًا على اختلاط التاريخي بالعوامل الثقافية، وامتزاج الجذور الأوربية مع التربة والبيئة الأميركيتين. أمر آخر لا بد منه في مفتتح الكلام وهو إشكالية ضبط المعاني والمباني والكلمات، فعلي سبيل المثال أضحى من الخطأ الجسيم إلصاق الصهيونية تلك الحركة العنصرية، بالمسيحية الديانة التي جوهرها الرحمة وباطنها الحب والسلام، لا اغتصاب أراضي الآمنين المطمئنين، بالقوة المسلحة، وطرد سكانها كما الحال في فلسطين.

ولعل أحد أهم أسباب تناولنا لقضية اليمين الأصولي الأميركي وصحوته غير المحمودة هذه، هو الآثار السلبية التي يتوجب على العرب والمسلمين عامة، وعلى الشعب الفلسطيني والمقدسات في فلسطين ولا سيما المسجد الأقصى خاصة دفعها من جراء استعلاء اليمين الأصولي الأميركي مرة ثالثة، وفي ظل إدارة أميركية لا تؤمن إلا بالقوة الخشنة، أي حسم المعارك بقوة السلاح، ولا دالة لها على طريق القوة الناعمة، حيث المثالية الأيديولوجية والنماذج الأخلاقية والمعايير الأدبية هي النبراس والمشاعل على الطريق. من أين للمرء البداية في سياق فض الاشتباك وتخليص الخيوط وترسيم الخطوط لشرح أبعاد الأزمة وانعكاساتها بنوع خاص على الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وفيه من الجوانب الدينية الكثير، مما لا يمكن أن يوارى أو يدارى؟ الشاهد أنه للتخفيف على القارئ غير المتعمق في الأبعاد الثيولوجية سنحاول بلورة القراءة برمتها في سطور معدودات وفقرات شبه مستقلة، غير أنها جميعها تمضي في سياق واحد.

أميركا علمانية الهوية دينية الهوى

حين يختتم رئيس الولايات المتحدة خطبته بكلمات «فليبارك الله أميركا GOD BLESS AMERICA» فإنه يستحضر تراثًا طويلًا جدًّا لدولة رسميًّا هي علمانية، في حين أنها في العمق دينية حتى النخاع، والعبارة المتقدمة ليست سوى عملة سياسية لمكافأة كل من يستجلب ما هو إلهي ومقدس باستمرار. بكلمات أخرى يحظى المكون الديني في الولايات المتحدة الأميركية بنفوذ كافٍ لصياغة اللغة السياسية، والعبارة وما ورائياتها هي جزء من التراث الإنساني والإيماني الذي أثر في تطور الولايات المتحدة منذ بداياتها.

هذا هو التراث المسيحاني الذي جعل «أميركا» تعبيرًا مشحونًا بالدلالة، ومحملًا بالمعاني إلى هذا الحد. ففي المعنى الكامل تعد «أميركا بلدًا ضخمًا يحمل رسالة عظيمة، كيانًا تاريخيًّا منح وعدًا استثنائيًّا». والشاهد أن الولايات المتحدة الأميركية ولدت في الأصل كمشروع «مسيحاني»، ولا سيما أن مواطنيها الجدد من الأوربيين كان جلهم من الهاربين من عسف السلطة الدينية في أوربا في القرون الوسطى، أولئك الذين حين وصلوا إلى شواطئ العالم الجديد، بعد رحلة طويلة ومرعبة ومحفوفة بالمخاطر، اقتنعوا في أعماقهم بأن مشروعهم يحظى بهداية وحماية الله. فبين عام 1619 – 1640م، وصل أكثر من عشرين ألفًا من المتطهرين «البورتيانيين»، وعدوا أنفسهم شعب إسرائيل الجديد، وأطلقوا على الأرض التي تركوها من خلفهم «بريطانيا فرعون»، أو «أرض العبودية»، مستعيرين بذلك المفاهيم والقصص التوارتية عن خروج بني إسرائيل من مصر، إلى أرض كنعان الجديدة، أي فلسطين. والمثير أن العقلية نفسها التي حكمت اليهود الذين خرجوا من أرض مصر في تهجير سكان كنعان الأصليين من العرب، هي التي فعلت فعلها في الأراضي الأميركية الجديدة، على يد المهاجرين الأوربيين المدفوعين بدافع ديني مهلك، ذلك أن ما شاهدوه أمامهم كان أرضًا جديدة ونقية لم ينخرها الفساد وتعد بداية جديدة. ومثلما اضطر اليهود القدماء الى محاربة الفلسطينيين والاستيلاء على أرضهم، كذلك رأى المهاجرون الجدد أنفسهم مفوضين بخوض المعركة مع الشعوب والقبائل الوثنية لامتلاك ما عدوه أرضهم الموعودة، حتى إن كلفهم ذلك إبادة مئة وأربعين مليون هندي أحمر.

يمين أصولي يخترق الروح الأميركية

كانت الخطوة التالية التي تجذرت فيها الروح والمفاهيم التوراتية في النفس الأميركية، عطفًا على بقية مؤسسات الدولة، تتمثل في الإيمان بأن عظمة أميركا لا بد أن تستدعى تاريخيًّا وروحيًّا من حياة الشعب العبراني، وهنا يمكن للعالم العربي والإسلامي بنوع خاص، أن يفهم السر الحقيقي للعلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية، وبين دولة إسرائيل، إنها علاقة المطلق وليس النسبي، فالمطلق هو الديني العقائدي، ذاك الذي لا يمكن له أن ينقسم أو ينفصم، إنه كل واحد لا يتجزأ، فيما النسبي هو السياسي والأيديولوجي، ذاك الذي يمكن تقديم بعض التنازلات من حوله، ويقبل فلسفة المواءمات. والشاهد أن هذا الاختراق للروح المسيحانية لم تجر به المقادير على الأراضي الأميركية بادئ ذي بدء، بل في أوربا، في القرن السادس عشر في زمن «مارتن لوثر» (1483 – 1546م) الراهب المنشق عن المؤسسة الكاثوليكية الذي خلق التيار المعارض، الذي عُرف باسم «البروتستانت».

كانت البابوية هي العدو الأكبر ليهود أوربا، ولذلك عمل «لوثر» على استمالتهم إليه قدر المستطاع وأزيد، عبر اعتماد العهد القديم كوثيقة أصيلة وحيدة للإيمان وعدّ تجارب بني إسرائيل وقصصهم هي نبراس الأمم والشعوب سياسيًّا. وثانيًا عبر تقريظهم من خلال كتابه المسمى «عيسى وُلد يهوديًّا»، غير أنه بعد نحو عشرين عامًا، اكتشف خلال علاقته معهم كيف أنهم هم الذين اتخذوه مطية لتحقيق رغائبهم وإدراك أهدافهم، فجاء بكتاب آخر لينسخ الكتاب المتقدم، وأسماه «اليهود وأكاذيبهم»، غير أن السهم كان قد نفذ، وباتت الاختراقات اليهودية للروح الأوربية والأميركية فاعلة ونافذة. كان في عمق تلك الاختراقات فكرة العودة إلى الوحي، أو التوراة، العهد القديم، من دون التفات يذكر للعهد الجديد، بما فيه من مفاهيم السلام والتضحية بالذات، وإعلاء شعار «المحبة الخادمة». كان خط الدفاع الذي اختطه البروتستانت بمختلف شيعهم رفض العقلانية، والتخندق بإصرار في خندق الوحي، على النحو الذي يعبر عنه ما كتبه اللورد «شافتسبري» السياسي الإنجليزي البارز، في يومياته عام 1871م: «إن الوحي موجه إلى القلب لا إلى العقل، فالله لا يهتم لعقل الإنسان، لكنه يهتم بقلب ذلك الإنسان، فمثقال ذرتين من الإيمان والمحبة أعظم قيمة لدى الله، بما لا يقاس من أي خزانة إنسانية مكتظة بكنوز الفكر والمعرفة». والشاهد أن الحديث المتقدم، وإن كان ظاهره طيبًا، إلا أن باطنه كان يسعى لإيقاف التفكير على نحو عقلاني، وبما يقطع الطريق على إعمال العقل في النقل، ومنع تأويل أو تفسير أي نصوص، ليحدث الاختراق الأكبر للعقلية الأميركية، وتحديدًا لجهة أرض فلسطين.

المجيء الثاني وقيام الدولة اليهودية

كان حديث اللورد «شافتسبري» جميلًا مفعمًا بالإيمان والطيبة بغير شك، لكنه في أواخر القرن التاسع عشر، كلام إنسان مأزوم ومحاصر قد تخندق وقرر إبطال العقل، وذلك فيما يكشف عنه مسار الأصولية اليمينية الجديدة، وهو ما فعله البروتستانت سواء في إنجلترا أو في القارة المكتشفة حديثًا «أميركا الشمالية» تخندقوا، وبالحقيقة انكفؤوا وراء غائصين في الإيمانيات المعبرنة (من العبرانيين) أكثر فأكثر، كأنما في رمال متحركة، وبمفارقة لم تفقد غرابتها. كان الغوص في الإيمانيات هربًا من مواجهة اجتياح العلم والعقلانية للقلاع القديمة التي بدأت تتكشف عن معمار من رمال، لواذًا بأمل المجيء الثاني للمسيح الذي انتظره وتعجله المؤمنون المحاصرون بالعقلانية، كيما ينقذهم وينقذ العالم من الشيطان الذي تربع على عرشه في العقل البشري اللعين. في الولايات الأميركية المكتشفة حديثًا، باتت البروتستانتية المخترقة يهوديًّا أكثر سطوة أكبر بكثير مما تمتعت به في إنجلترا وهي سطوة بلغت التيارات الأصولية الأميركية بفضلها ذروة تمثلت في ثقافة شعبية واسعة الانتشار، تدامجت فيها بوضوح كثرة من المفاهيم الروحية والدينية المكونة للموقف الصهيوني، من هذا المنطلق وجد في التاريخ الأميركي منذ بدايته الأول ميل مسيحي قوي للاعتقاد بأن المجيء الثاني متعين أن يظل رهينًا بإنشاء الدولة اليهودية التي يلتئم فيها شمل اليهود. وعلى الرغم من أن هذا الاعتقاد لم يكن رأيًا أجمع عليه كل اللاهوتيين المسيحيين في الولايات المتحدة، فإنه شكل جزءًا مهمًّا من مكونات التاريخ الفكري الأميركي، وشمل شيوع تيار قوي ولحوح من التطلع إلى العصر الألفي السعيد في الفكر المسيحي الأميركي.

من ذلك التراث الذي أينع، وُلِدت الأصولية الأميركية التي يشير إليها الكاتب المصري الأصل شفيق مقار في مؤلفه: «المسيحية والتوراة بحث في الجذور الدينية وصراع الشرق الأوسط». كانت أهم الطوائف الدينية التي شملها التيار الأصولي في الولايات المتحدة من مبدأ الأمر طائفة المعمدانيين، والبروتستانت اللوثريين، وبعض الشيع المشيخية. والواقع أن الأصوليين، الذين جمع بينهم الأخذ بالتفسير الحرفي للنبوءات الواردة بالعهد القديم والإيمان بحتمية الإحياء القومي للشعب اليهودي، شكلوا جانبًا كبيرًا من البروتستانتية الأميركية قرب نهاية القرن التاسع عشر، وجعلتهم صهيونيتهم (التي سبقت صهيونية اليهود) ينظرون إلى اليهود بوصفهم مفتاح المستقبل لأميركا وشعبها. من هنا رسخ إيمان عقائدي لا يقبل التفاوض أو الشراكة بأن اليهود هم مفتاح مستقبل أميركا، وأن إسرائيل هي أمل المستقبل كذلك، ومنبع البركة للولايات المتحدة، ولهذا، فإنه لم يكن من المستغرب أن يكون أول قنصل أميركي في القدس درويشًا دينيًّا من طائفة الكويكرز، التي أسسها «جورج فوكس» (1624 – 1691م)، ذلك الإنجليزي المُتهوِّس الذي أشاع أن السماء تحدثه مباشرة لنيل التنوير بمعزل عن الوساطة البشرية.

الستينيات والإحياء الجديد للأصولية الأميركية

عاشت الأصولية الأميركية المتهودة لقرون طويلة تحت الجلد الأميركي ظاهرة تارة ومتخفية تارة ثانية، وبينهما ظلت أميركا تعيش إشكاليتها الأشهر وهي «تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة» أي الصراع، بين الديني والدنيوي، تفعل شيئًا وتتكلم عن نقيضه، تنادي بالحرية والديمقراطية، وتدعم الانقلابات والأنظمة القمعية، ترى في ذاتها «مدينة فوق جيل»، وفي الوقت عينه تسعى لإطفاء أنوار الأمم والشعوب الساعية للتخلص من ربقة العبودية الجديدة، عبر أدواتها العصرانية، مثل البنك والصندوق الدوليين، والهيئات الأممية المختلفة. غير أن لحظات بعينها في ستينيات القرن الماضي استدعت إعادة وقراءة جديدتين لمعين أميركا الأصولية، ولا سيما خطاب الأب المؤسس جورج واشنطن (1732 – 1799م).

كان عام 1967م عامًا غير اعتيادي في تاريخ الولايات المتحدة، ففي هذا العام الحزين وتحديدًا في شهر يونيو منه، استطاعت إسرائيل أن تحتل مساحات شاسعة من الأراضي العربية في مصر وسوريا والأردن، عطفًا على احتلالها القدس الشرقية، وقد حدث ذلك كله في ستة أيام فقط لا غير. ولعله من مفاجآت القدر أن الولايات المتحدة بسطوتها ونفوذها السياسي والعسكري وبكامل قوتها الخشنة، كانت تعيش في عمق واحدة من أسوأ أزماتها، المستنقع الفيتنامي، الذي ألحق بها عارًا عسكريًّا وإنسانيًّا لا يزال باقيًا حتى الساعة. في تلك الأوقات نفذ التيار اليميني الأصولي الأميركي الجديد إلى السطح الأميركي من جديد، وروج أشياعه وأتباعه صيغة قوامها أن روح الرب عضد وساند اليهود في إسرائيل، ولهذا حققوا نصرًا كبيرًا على العرب والمسلمين، وفي الوقت ذاته فإن روح الرب قد فارق أميركا ولهذا فإن الهزائم تلاحقها على نحو غير مسبوق، كما تجري الحال في فيتنام.

من هنا كانت حتمية إعادة قراءة سطور «جورج واشنطن» في خطاب القسم، ومن هنا أيضًا سوف تثمر الأصولية الأميركية توجهات سياسية قاتلة وخرقاء. يقول واشنطن: «لا يوجد شعب يقر ويعترف ويعشق اليد الخفية التي تسير أمور البشر أكثر من شعب الولايات المتحدة، فكل خطوة تقدم بها نحو إقامة أمة مستقلة تبدو متميزة برمز دلالي يشير إلى العناية الإلهية». ويضيف فيما بعد: لأننا يجب أن نقتنع بأن ابتسامات السماء الميمونة، لا يمكن أن تنتظرها أمة تتجاهل القواعد الأبدية للنظام والحق التي قدرتها السماء ذاتها، لذا فإن الحفاظ على نار الحرية المقدسة ومصير نموذج الحكم الجمهوري، يعتمد حقًّا اعتمادًا عميقًا ونهائيًّا على التجربة الموكولة إلى أيدي الشعب الأميركي.

على أن السؤال: كيف وجهت تلك الصحوة أميركا في نهايات القرن العشرين وأوائل الحادي والعشرين؟

رونالد ريغان وتجليات الأصولية الجديدة

رونالد ريغان

باختصار غير مخلٍّ أيضًا يمكننا القطع بأن الأصولية الأميركية الحديثة قد مرت بمرحلتين تاريخيتين انعقد كل منها تحت لواء رئيس أميركي مختلف. كانت المرحلة الأولى في عهد رئاسة رونالد ريغان. لم يكن ريغان الآتي من شاشة هوليوود باحثًا أو أكاديميًّا مخضرمًا، ولهذا بدا كأنه «قشة» في مهب رياح الأصولية، وقد تلاعب به غلاة اليمين المتطرف من التيارات البروتستانتية على اختلاف أشكالهم وألوانهم. يروي السياسي الأميركي «جيمس ميلز» للمجلة الأميركية «سان دييغو ماغازين» أنه في عام 1981 وفي أثناء حفل غداء، انتحى به ريجان كما لو كان من الوعاظ المؤمنين ليوضح له أن كل النبوءات اللازمة لنشوب معركة هرمغدون قد تحققت، وذكره بأنه مكتوب في الإصحاح (38) من سفر حزقيال أن الله سيأخذ بني إسرائيل من بين الوثنيين الذين شتتوا في أراضيهم، وأنه سيجمعهم ثانية في الأرض الموعودة، ثم أكد له أن ذلك تحقق بعد ألفي سنة، وأن كل شيء أصبح بذلك لأول مرة معدًّا ومهيأً لنشوب معركة هرمغدون وحدوث المجيء الثاني للمسيح.

في المجلة عينها يذكر السياسي «ميلز» أنه عندما ذكر محدثه الذي كان يملك سلطة إشعال حرب نووية لا تبقي ولا تذر بأن الشيء الوحيد المؤكد والواضح في الكتاب المقدس عن المجيء الثاني هو أن أحدًا لا يعرف أو يمكن أن يعرف متى يمكن أن يحدث، احتد الرئيس الأميركي، وعلت نبرته ثانية وهو يردد على محدثه قائلًا: إن كل شيء بات معدًّا الآن، وإن الأمر لن يطول، وذكره بما قاله حزقيال (أحد أنبياء بني إسرائيل) من أن يهوه وعده بأنه سوف يمطر على جيش أبناء الظلام «حجارة برد عظيمة ونارًا وكبريتًا»، يدمر بها أعداء شعبه المختار، قائلًا له: إن ذلك يعني شيئًا واحدًا، وهو أن أعداء إسرائيل سوف يدمرون بالأسلحة النووية التي تنبأ بها حزقيال… كان رونالد ريغان ضحية ولا شك لعصبة من قادة اليمين الأميركي الديني الذين علا شأنهم دعائيًّا في ثمانينيات القرن الماضي، من أمثال «جيري فالويل»، و«بات روبرتسون».

وقد كان من نتاج هذه الأفكار أن سعى رونالد ريغان، الذي عدّه الأميركيون من أهم الرؤساء الذين رسموا صورة لأميركا القوية، إلى ابتكار البرنامج المعروف باسم حرب النجوم أو الكواكب الذي يعني إقامة مظلة نووية في الفضاء الخارجي، مظلة صاروخية، عمادها أشعة الليزر، قادرة على إبطال مفاعيل أية صواريخ توجه إلى القلب من الولايات الأميريكية من حدها الشرقي حيث المحيط الأطلسي، إلى جانبها الغربي على شاطئ المحيط الهادي.

الحادي عشر من سبتمبر وأصولية جورج بوش

جورج بوش

كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م على نيويورك وواشنطن فرصة ذهبية لإحياء المرحلة الثانية من الأصولية اليمينية الأميركية، إذ عبرت وعلى مستوى متضخم كثيرًا، كما يشير إلى ذلك البروفيسور «جيكوموللر – فاهرنهولتز»، الباحث الألماني اللاهوتي والكاتب المستقل في مؤلفه الشائق «الصراع على الله في أميركا»، إذ يرى أن الإرهاب الذي جرى على الأراضي الأميركية أفسح المجال واسعًا لأفكار الأمة المسيحانية، «الأمة المنقذة»، وتخليص العالم من الشر، برنامج يحمل المسيحانية الأميركية اليمينية إلى حدود قصوى متخيلة. استدعى «جورج بوش» في كلمته الأولى للتعليق على ما جرى تعابير وأوصافًا مغرقة في الأصولية والعداء والكراهية، مذكرًا العالم بزمن حروب الفرنجة كما سمّاها العرب، أو الحروب الصليبية كما أطلق عليها الأوربيون. وفي خطبته عينها، قسَّم بوش العالم تقسيمًا مانويًّا (نسبة إلى ماني الفارسي ومذهبه، حيث قال بإلهين يحكمان العالم أحدهما للخير وآخر للشر)، ووضع بوش أمم الأرض أمام خيار من اثنين؛ إما معنا وإما علينا. كان بوش نفسه ووصوله للرئاسة الأميركية، نتاجًا مغشوشًا لتبعات واستحقاقات الإغراق في الأفكار اليمينية الجديدة، حدث ذلك حين كانت الأسرة البوشية مجتمعة للصلاة ذات يوم من أيام الآحاد، في مجمع للعبادة التابع للفكر البروتستانتي عينه، حيث نظرت إليه والدته «باربرا بوش» التي ترعرعت في أوساط أصولية مسيحية، قائلة له: «أرى أنك تشبه موسى النبي، الذي قاد العبرانيين من أرض العبودية في مصر، إلى أرض كنعان… واختتمت تشبيهها «الأبوكريفي» ولا شك بالقول… يمكنك أن تكون مثالًًا جديدًا لموسى، لتقود أميركا والأميركيين إلى عالم آخر مغاير».

لم يكذب بوش الابن والدته، ذلك أن إدارته لم تمنح نفسها الوقت الكافي للتفكير في البدائل، ولم تسمح للشعب الأميركي بالتفكير في التأثيرات البعيدة المدى لسياسات الرد العنيف، فبعد مضيّ أقل من أسبوع على الحادي عشر من سبتمبر، كانت الحرب على الإرهاب في طور التخطيط النهائي وعلى وشك التنفيذ، بدءًًا من أفغانستان، مرورًا بالعراق، عطفًا على معارك أخرى لم يقدر لها أن تمضي قدمًا. كان بوش الابن في المطلق ضحية لليمين الأميركي المتهوّس، وقد وصف ذات مرة قراره الحرب على العراق، بأنه تكليف مباشر من السماء (وحاشا لله) والعهدة هنا على الراوي الفلسطيني الدكتور نبيل شعث المفاوض المعروف والقطب الفتحاوي اللامع، على هامش لقاء في البيت الأبيض مع الرئيس، المولود ثانية.

ترمب الحصاد الأخير لليمين الأميركي

دونالد ترمب

حين رحلت إدارة بوش الابن عام 2008م، وجاء باراك أوباما سيدًا للبيت الأبيض بخلفياته المتعددة، العرقية والدينية، خُيِّل لجميع الناظرين للمشهد أن أميركا قد ضربت صفحًا عن دعم أنصار اليمين الأصولي، الذي قادهم إلى مستنقعات ذكرت الجميع هناك بمأساة فيتنام التاريخية، لكن من الواضح أن المشهد لم يكن إلا تاثيرًا وقتيًّا، ومسكنًا موضعيًّا، سرعان ما انتهى مفعوله، وفقد قدرته على إبقاء الأميركيين في حالة ثبات انفعالي، إيماني وعقائدي. لعبت عناصر عدة أدوارًا بالغةً في إحياء الأصولية اليمينية التي جاءت بدونالد ترمب، منتصرًا على هيلاري كلينتون، في مقدمتها التشكيك في ولاء أوباما نفسه لأميركا، حيث طاردته الإسلاموفوبيا مرتكزة إلى جذوره العرقية الأبوية، عطفًا على أن الكثير جدًّا من سياسات أوباما فتحت الباب واسعًا لتيارات رأى الأميركيون أنها اختصمت من النفوذ السياسي للإمبراطورية الأميركية، ناهيك عن إحجامه عن اتخاذ قرارات كان لا بد منها. في هذه الأجواء استطاع «المتلاعبون بالعقول» العزف من جديد على أوتار الأصوليين واليمينيين في الداخل الأميركي.

كانت القوة الضاربة الفكرية لترمب تتمثل في «ستيف بانون»، ذلك الأصولي بامتياز، والمؤمن إلى أبعد حد ومد بأن للحرب تأثيرًا تطهيريًّا جيدًا، كما أن للعنف فاعلية في مواجهة الإرهاب، والمتبني لرؤية القطب الشيوعي السوفييتي الأشهر «لينين» بهدف الدولة القائمة وإقامة صروح جديدة، وهو الأمر الذي انعكس على شعارات ترمب في شأن «أميركا الجديدة»، أو أميركا من جديد، و«أميركا الأولى»، وجميعها منطلقات شوفينية من دون أدنى شك.

رسم بانون الخريطة الانتخابية لترمب، وعزف جيدًا على إيمان «البورتيانيين» من الأميركيين الجدد، ومن هنا طفت على السطح قضايا قديمة من عينة معركة هرمغدون، ثم الملك الألفي السعيد، وصولًا إلى القدس، التي غازل فيها ترمب أتباع ذلك التيار الذين يعدون بالملايين، ثم تبقى القضية الأكثر خطورة ووعورة أي قضية هدم المسجد الأقصى، وبناء هيكل سليمان في موقعه وموضعه…

والآن وقبل الانصراف…

نجح ترمب في الدخول إلى البيت الأبيض، وقد بدأت ارتدادات وانعكاسات هذا الفوز تتجلى بشكل راديكالي غير مسبوق ولا سيما في الشرق الأوسط، وفيما يتصل بفلسطين والصراع الدائر هناك… ماذا يجري وإلى أين تمضي سياقات الأحداث وكيف نفك شيفرات القضايا المتقدمة؟

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *