المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

التاريخ السري لأزهار الشر

بواسطة | يوليو 1, 2018 | ثقافات

طارق غرماوي – مترجم مغربي

ديوان «أزهار الشر» مفخرة أدبية، وذروة الإشراق الفني والألق الشعري. لكن لم يكن شارل بودلير ليجرؤ على نثر أزهاره الشعرية لولا أنه أمضى ردحًا يصقلها ويشذبها وينضجها.

لا تزال الذاكرة الأدبية تحتفظ بفصول محاكمة أثرين فنيين عظيمين في السنة ذاتها (1857م)، والمحكمة ذاتها: «أزهار الشر» لبودلير، و«مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير. والمتابعة القضائية لا تمثل إلا القطعة العائمة لجبل الجليد التي تخفي قصة مخاض مؤلم وطويل سبق ميلاد هذا الديوان الفذ الذي شغل بودلير طوال حياته، وكان يرجئ نشره لسنوات.

لقد رسمت المحن والتجارب القاسية مجراه، وصاغت معانيه، وسبكت عنوانه. لمَّا أدركت بودلير حرفة الأدب، كانت فرنسا تعيش ازدهارًا أدبيًّا غير مسبوق: فـ«تأملات لامارتين» (1820م)، والقصائد القديمة والحديثة لألفرد دي فينيي (1822م)، وميسي ولياليه (1835م)، وتيوفيل غوتيه، وكذلك، بطبيعة الحال، أعمال فيكتور هوغو، قد حجزت أماكنها في هيكل يغص بالشعراء.

كان الفتى بودلير يتابع هذا الموروث الرصين باهتمام بالغ، يستحسنه ويستهجنه في آنٍ. «منذ أن تعلمت القراءة لم يقع مني النظر على مؤلف راقني بكامله، واستحوذ على إعجابي من بدايته إلى منتهاه. ولهذا لم أعد أطالع» هكذا أبرق إلى أمه، وكان قد نيف على سبعة عشر ربيعًا، وذلك في الثالث من أغسطس 1838م، أشهرًا قليلة قبل فصله من ثانوية لويس لوكران. ففي غمرة هذا الإحساس بعدم الرضى وبالفراغ، هذا إذا لم يكن إحساسًا بالضجر من حالة الأدب المعاصر، نتساءل: هل كان يكتن في أعماقه الحدس الشعري الذي فاض بأزهار الشر؟ وهل كان يتولد في خاطره الإحساس بضرورته؟

عندما ناهز بودلير الثامنة عشرة من عمره، بعث إلى أمه برقية تتضمن باقة أزهار فريدة من نوعها: قصائد شعر. عامين بعد ذلك، سينظُم في عُرض المحيط الهندي، الأبيات الأولى التي ستصبح أحد أهم الأعمال الشعرية الفرنسية في القرن العشرين.

مخاض طويل

في سبتمبر 1841م ببورلويس بجزيرة موريس مضى ثلاثة أشهر على الفتى بودلير ذي العشرين ربيعًا، بعد أن أرغمه زوج أمه الجنرال أوبيك على مرافقته في رحلته البحرية صوب الجزر الهندية لإصلاح نشازه. تجشم بودلير السفر ووقع تحت طائلة الإنهاك البدني والإعنات النفسي. ولم يكن يشغل بالَه غيرُ العودة إلى فرنسا. ولكن رب ضارة نافعة: ففي هذه الرحلة ستنبجس في أعماقه معاني أزهار الشر. وبخاصة بعد اكتشاف التغريب الذي أطلق إبداعية الشاعر وأعاد رسم ضروب خياله. لقد عاد من المنطقة الاستوائية وفي جعبته سوناتتان هما: «إلى سيدة خلاسية» استلهمها من السيدة أوتا رد دو براكارد زوجة مضيفه بجزيرة موريس، و«القطرس» التي من المحتمل أن يكون قد ألفها «على متن السفينة في عُرض البحر»، كما يروي ذلك هنري هيكنارد زميل الشاعر في الثانوية. وبعد عودته إلى الضواحي الباريسية، ورأسُه غاصٌّ بذكرياته السفارية، بدأ ينغمس في حياة بورجوازية بوهيمية، فأصبح يحتك بالأوساط الفنية، ويؤلف بغزارة. فما بين عامي 1842 و1845م يكون بودلير قد كتب، على أقل تقدير، خمسين قطعة تمثل قلب جزء: السأم والمثال من ديوانه القادم «أزهار الشر». فقد جاءت إلى الوجود القصائد والسوناتات «دون جوان في الجحيم» و«الرمز» و«الجمال» وغيرها كثير من القطع التي سيتولى بودلير صقلها وتجويدها وإعادة حَوْكِها في الأعوام العشرة القادمة. لم يحدث أن نشر أيًّا من قصائده قبل عام 1845م، ولكنه كان يستظهرها بانتظام، في المحافل أمام أقاربه. لقد كُتبت أكثر قصائده في سنة 1847م، وظهر العديد منها فرادى بمجلات مختلفة. ولكن متى انبجست في ذهنه فكرة تجميعها في ديوان؟

في وقت مبكر، ولربما حدث ذلك منذ عام 1841م كما تقول شروح ديوانه. وبدءًا من عام 1845 أخذ يعلن على أغلفة العديد من الإصدارات عن الصدور الوشيك لكتاب من توقيعه كان يحمل في البداية عنوان «المثليات». مضت أشهر ولم يصدر الديوان. فبودلير منهمك في تقويم منآده: يتركه بعض الوقت ليستأنف حَوْكَه من جديد… لقد بلغت رحلة المخاض ذروتها. وفي مستهلّ عام 1848م وعد القارئ بظهور إصدار ارتأى له، هذه المرة، عنوان «الأعراف» نظرًا للصبغة الروحية للكلمة. فالكتاب، حسب ما قيل لنا، «جاء ليجسد قلق الشباب المعاصر وكآبته». في إبريل سنة 1851م لم يبصر الديوان النور ولكن مجلة «Le Méssager de L’Assembleé» نشرت «مقتطفات» في شكل إحدى عشرة سوناتة: «الكآبة» و«الراهب»، و«المثال»، و«القطط»، و«موت الفنانين»، و«موت العشاق» من بين أشعار أخرى. وكان ينبغي انتظار سنة 1855م حتى يستقر على العنوان النهائي الذي كان من اقتراح صديقه الشاعر هيبوليت بابو.

إماطة اللثام عن جمال الشر

تعين العناوين الثلاثة، بجرأة، علاوة على طابعها المستفز، المنطقةَ الشعريةَ البكر التي احترثها الشاعر: الجحيم، أو بالأحرى، الشر عبر تجلياته الأكثر حسية والأكثر تجسدًا والأكثر إنسانية: «إن شعراء مرموقين اقتسموا لأنفسهم مناطق أكثر نصاعة في المضمار الشعري، وقد بدا لي الأمر مسليًا وأكثر من ذلك جذابًا رغم الصعوبة البالغة للمهمة: أن أميط اللثام عن جمال الشر». هذا ما قاله موضحًا في أول بادرة لتقديم الديوان. إن الأمر لا يتعلق، إذن، بتمجيد الشر، إنما يرتبط بالقول: إن كل شيء، بما فيه الخير، يكتسي، من حين لآخر، وأحيانًا، في الآن ذاته، طاقة إيجابية وسلبية. إن الديوان سيرتاد هذا التنافر الذي يدعى المسلمة المزدوجة، من خلال التلاحم الجسدي بين السوداوية والمثال. في عام 1850م توطدت مداميك الديوان، رغم أن باقة من القصائد الرائعة لم تر النور بعد، وهي قصائد دورة «السيدة ساباتيي» وبخاصة «تناغم المساء»، و«الأنشودة» إلى «السيدة العذراء». كان بودلير يتوق إلى وضع مؤلف شعري لا تتعاقب فيه القصائد المختلفة الواحدة تلو الأخرى، إنما تنصهر جميعها في وحدة متماسكة. فقد كتب إلى ألفرد دو فينيي قائلًا: «إن التقريظ الوحيد الذي أنشده لهذا المؤلف أن نعترف أنه ليس مجرد ألبوم قصائد، إنما هو المبتدأ والمنتهى. إن القصائد ينبغي أن تنتظم وتتصادى مثل مشاهد الحدث الدرامي الواحد، مثل فصول مؤلف روائي باذخ. بعضها يتلاحم في دورات، وبعضها في موضوعات، وبعضها الآخر في شبكة من التعارضات والتباينات. فجميع القصائد تشكل كلًّا أو لنقل إطارًا عضويًّا يتخلق من القصائد التي أبصرت النور، ويملك طاقة على توقيع شهادة ميلاد قصائد جديدة.

شعره صورة حياة

إن الوظيفة الجوهرية لهذه البنية الداخلية حساسة جدًّا منذ الطبعة الأولى لديوان «أزهار الشر» الذي قدم مخطوطه الأول في 6 فبراير 1857م للناشر بولي مالاسي. وقد اشتمل، على وجه الدقة، على مئة قصيدة من دون احتساب الخطاب الموجه إلى القارئ. وقد قسم إلى خمسة مقاطع على غرار المشاهد الخمسة المعروفة في التراجيديا الكلاسيكية: الكآبة والمثال والنبيذ وأزهار الشر، والثورة والموت وكل العمل يشتمل على حياة بكاملها. فالمؤلف ينفتح على صورة المهد، وينغلق على صورة اللحد. وبين الحدين يسافر الديوان في حياة الشر الذي أراده الشاعر أن يكون نقيضًا للفضيلة، كما أراده أن يكون نقيضًا للعافية. ففي مقطع الكآبة والمثال يعكف على النبش في جذورهما، في أعراضهما المتوارية، وتجلياتهما الأولى، ويصف لهما العلاجات المتاحة كاشفًا عن داء الشر في ذروة استفحاله. وقد أهدى للشاعر الرائع تيوفيل غوتييه الأزهار الذابلة التي ستبصر النور قبل متم الصيف.

الرقابة والملاحقات القضائية

غداة نشر الديوان، ظهر على صفحات جريدة لوفيغارو مقالان ينتقدانه بشدة فاتحين بذلك الباب على مصراعيه أمام ملاحقات قضائية. فقد كتب الصحافي غوستاف بوردان قائلًا: «هذا الكتاب هو مشفى مشرع الأبواب لكل أنواع العته العقلي، وجميع عفونات القلب». وفي العشرين من شهر أغسطس جرت محاكمة صورية أُدِين فيها بودلير وناشروه بتهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة، وقضت عليه المحكمة بغرامة مالية مشفوعة بحظر ست قصائد من ديوانه يجاهر فيها بتمجيد الشبقية والأهواء السادية. لقد رأى بودلير في مقص الرقيب بترًا لجزء من كيانه: كما لو أن هذه القصائد اقتطعت من قلبه. إن استئصال القصائد من الديوان تقويض للعمل برمته، لذلك آثر سحب أزهاره من البيع. «غفران مشؤوم» هكذا كتب يخاطب الرقيب بأسى ومرارة: «إنه اهتياج الخاطر في دنيا الشر، لماذا رغبتم في مصادرة حقه في التعبير الحر مهما بدا لكم جريئًا؟ أين تمضي مواعظكم المتزمتة التي تتصنع الاحتشام؟ أن توعز أن كل شيء على ما يرام، أن كل شيء جيد، أن كل شيء بَهِي… يالنفاق الوقح». لقد أغرق الحُكمُ الجائر الشاعرَ في الكرب، فأمضى شهورًا عصيبة يقاسي الإملاق والإهانة والخذلان. فقد كتب آل غنكور في صحيفتهم التي ظهرت في أواخر أغسطس 1857م أنه «أصبح بلا رابطة عنق، بلا ياقة ورأس حليق، ببذلة مَنْ يُساقُ إلى مقصلة». وكتب إلى أمه في شهر ديسمبر يصف حاله: «ما أشعر به هو إحباط عارم وإحساس بعزلة قاسية، وخوف لا يَرِيم من داء مبهم، وتقهقر لقواي، وفقدان كلي للرغبة، وتعذر في العثور على أي عزاء… إنني لا أَنِي أتساءل: ما الجدوى من هذا الأمر؟ وما فائدة ذلك؟». وعندما يستعيد قواه، يفتح من جديد ملفاته وكراريسه ويعكف على ورشه الوحيد والأوحد القادر على وضع البلسم على فؤاده الكسير: إنها الطبعة الثانية لأزهاره. ألم تجبره المحكمة على حذف ست من قصائده؟ ها هو يضيف اثنتين وثلاثين قصيدة! ومن سنة 1857م إلى سنة 1861م عكف على إعادة تنظيم التوازن الداخلي للمقاطع باثًّا معاني جديدة في كل قطعة. بعض القصائد القديمة مثل الكآبة تضاعف حجمها بمقاطع جديدة، وبعضها أزيح عن موقعه في الديوان لتحل محلها قصائد جديدة، وبعضها الآخر جزئ إلى قسمين كما جرى مع قصيدة غير قابل للعلاج.

الباقة النهائية

يبقى التغيير الأهم في عملية إعادة التنظيم الجديدة للديوان إضافة قسم جديد هو اللوحات الباريسية. ثماني قصائد دشنت دخول ثيمة المدينة الحديثة في الشعر، وأظهرت موضوعات قاسية: العاهرات، والعميان، والشحاذون، والعجائز… وقد طبقت شهرتها الآفاق، وبدلت المجرى العام للديوان: فالطبعة الأولى للديوان سجلت حركة نزول وصعود بعد ذلك في الكآبة، والطبعة الثانية سارت في منحى تنازلي، أي في نوع من التقدم الوئيد، يؤشر على خيبة الشاعر. وفي سنة 1861م نشرت الطبعة الثانية للأزهار التي بقيت مخلدة في ذاكرة الأجيال وتلقاها القراء بتحفظ سلبي في الغالب «ولربما ستدرك معانيها خلال سنوات آتية» كما كان يعلق الشاعر في عام 1866م. بودلير هو الشاعر المنبوذ ولكنه، مع ذلك، مقتنع حتى النخاع أنه أتم عمله العظيم؛ «أنفقت حياتي كلها أتعلم كيف أؤلِّف الجمل، وقلت، دون خشية من أن أثير الضحك: إن ما سأسلمه للمطبعة جاهز بالكامل». جاهز بالكامل أكيد، لكن القصائد الستة لن ترى النور إلا في سنة 1865م. فقد أراد أن يرفع الحظر عن قصائده الممنوعة أو الحطام فتأتى له ذلك ببلجيكا التي كانت فيها سلطة الرقيب أخف من وطنه فرنسا. وفي فرنسا كان ينبغي الانتظار حتى عام 1946م ليصدر قانون يرفع تهمة «الإساءة». ولكن الأزهار ظلت تعبق بأريجها الشبقي المهتاج والموبوء.


بودلير‭ ‬بأقلام‭ ‬الأدباء

فيكتور هوغو: «لقد تلقيت سيدي رسالتك السامية ومؤلفك الرائع. إن الفن مثل أديم السماء، فضاء لا متناه. وقد قدمتَ الدليل على ذلك. قصائد ديوانك تشع وتخطف الأبصار مثل نجوم السماء. استمِرّ. إني أهتف بكل ما أوتيت من قوة لأحيي ذكاءك الوقاد. واسمح لي أن أشفع هذه الأسطر القليلة بتهنئة. إنه توشيح نادر، قلما يمنحه النظام القائم، لقد نِلْته. هو ما يدعوه عدالته التي أدانتك باسم ما تدعوه أخلاقها. وهذا تتويج ينضاف إلى رصيدك».

تيوفيل غوتيه: «من بين الشعراء الذين بزغوا بعد الإشعاع المتألق للمدرسة الرومانطيقية يكون السيد شارل بودلير أكثر أصالة بسجيته وتصميمه […] يملك الموهبة ولكن يملك المثابرة كذلك. يعي ما يفعل، شارك في نقد أشعاره، في إسداء النصح إليها، في استنفارها، في كبح جماحها واقتيادها حيث يريد».

بول فاليري: إن الأصالة الحقة لشارل بودلير تكمن، في تقديري، في التجسيد القوي والجوهري للإنسان الحديث الذي هذبته الحضارة المفرطة. الإنسان الحديث بحواسه المتيقظة والمرتجة، وبروحه المرهفة بكيفية مترعة بالمعاناة، وبرأسه المشبع بالتبغ، وبدمه المحترق بالكحول، وبكلمة واحدة نكد المزاج دون منازع، على حد تعبير هيبوليت تين.

آرثر رامبو: «بودلير هو الرائي الأول، سلطان الشعراء، لقد عاش في وسط متحذلق فنيًّا وشعريًّا أكثر من اللزوم. ولذا فصياغته الشعرية التي طالما أغرقوا في مدحها تافهة- إن إبداعات المجهول تتطلب أشكالًا شعرية جديدة».

ستيفان ملارمي: «في فصل الشتاء يهدني الخدر، أغوص بتلذذ في الصفحات النفيسة لأزهار الشر. وما إن ينفتح لي شاعري بودلير حتى أنجذب إلى مشاهد مذهلة تنتعش بنظرة فاحصة كتلك التي أسكرها أفيون قوي. هنا في الفوق وفي الأفق سماء متجهمة اخترقتها شقوق زرق سطرتها صلاة محظورة».

جوريس كارل هيسمنس: «كلما أعاد إيسانت قراءة بودلير أقرّ لهذا الكاتب بسحر لا يأتي عليه الوصف، ففي الوقت الذي عادت فيه أبيات الشعر لا تصف إلا الجوانب البَرَّانية للكائنات والأشياء، تمكن هو من وصف ما تكدي القرائح أمام وصفه، بلغة مكتنزة وجزلة تملك، أكثر من غيرها، قدرةً عجيبةً على القبض على الأوضاع السقيمة، الأشد انفلاتًا، الأشد ارتباكًا، والإمساك بالعقول المرهقة والأرواح الكئيبة».

مارسيل بروست: «كم يبدو الأثر العظيم لفيكتور هوغو مترهلًا غامضًا بلا نبرة في حضرة أزهار الشر. لم يَنِ هوغو يتحدث عن الموت دون اكتراث كأكول نَهِم وكشهواني منغمس في الملذات. يمكن للأسف! هل ينبغي احتواء الموت الزؤام، والوقوع تحت طائلة الحبسة مثل بودلير كي تُتملَّك بصيرتُه في ذروة الألم، وتُتَملَّك نبراتُه الدينية في قصائده الشيطانية».

بول فاليري: «بفضل بودلير تخطى الشعر الفرنسي حدود الوطن، وقرأه الناس في العالم، وقدَّم نفسه كشعر للحداثة، وأغرى الناس بالنسج على منواله، وأخصب عقولًا كثيرة […] ونتيجة لذلك بمستطاعي أن أقول إذا كان بين ظهرانينا شعراء عظام يتمتعون بموهبة فذة مثل بودلير، فليس هناك، مِنْ بينهم، مَنْ هو أعظم منه».

لويس أراكون: «ليس هناك شاعر يحرك عواطف أكثر مثل بودلير. لا يمكن الحديث عن ذلك أو الكلام عنه حتى لا نسيء إلى أحد. يغمرني تجاهه فيض من المشاعر. مضت سنون وما كان لي أن أنبس بكلمة نقد في حقه. مضت شهور ولم يكن بمقدوري أن أقرأ سطرًا من شعره دون أن أثور».

إيفيس بونفوا: «شأني شأن الألوف المؤلفة، في القرن الموالي، أدين له، في المقام الأول، بكونه أبقى على الثقة في الشعر».

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *