ظلال الماء ومرايا المعنى قراءة في شعر وديع سعادة

ظلال الماء ومرايا المعنى

قراءة في شعر وديع سعادة

هناك‭ ‬في‭ ‬مَهْجَره،‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬العالم،‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬الشعر،‭ ‬يشكل‭ ‬وديع‭ ‬سعادة‭ ‬غيماته،‭ ‬ينفخ‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬روحه،‭ ‬ويرسلها‭ ‬عبر‭ ‬المحيط‭ ‬الأعظم‭ ‬لتمطرنا‭ ‬شعرًا‭ ‬عذبًا‭ ‬كندى‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬زهرة،‭ ‬فياضًا‭ ‬كسيل‭ ‬هادر‭ ‬أو‭ ‬شعرًا‭ ‬مرًّا‭ ‬وشحيحًا‭ ‬كدمعة‭ ‬عجوز‭ ‬جف‭ ‬ماء‭ ‬جسدها،‭ ‬شعرًا‭ ‬لا‭ ‬يتشبه‭ ‬إلا‭ ‬بالماء‭ ‬والظلال‭ ‬هكذا‭ ‬يجيد‭ ‬التفلُّت‭ ‬فلا‭ ‬يستوعبه‭ ‬قالب‭ ‬ولا‭ ‬يأسره‭ ‬نمط‭. ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬رواد‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬التي‭ ‬‮«‬بعد‭ ‬مجاهدات‭ ‬ومعارك‭ ‬أدبية‭ ‬وغير‭ ‬أدبية‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬تقريبًا‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬انتزاع‭ ‬اعتراف‭ ‬جل‭ ‬المؤسسات‭ ‬النقدية‭ ‬بأنها‭ ‬وحدها‭ ‬الممثلة‭ ‬للشعرية‭ ‬العربية،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بأنها‭ ‬الممثلة‭ ‬لذروة‭ ‬ما‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬تلك‭ ‬الشعرية‭ ‬من‭ ‬تطور‭ ‬عبر‭ ‬تحولاتها‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‮»‬‭(‬1‭)‬‭ ‬

لكنه‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬القصيدة،‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الذروة،‭ ‬ولا‭ ‬يحتكر‭ ‬تمثيل‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬حتى‭ ‬نفسه،‭ ‬إنه‭ ‬شاعر‭ ‬متعدد‭ ‬الوجوه،‭ ‬يعرفه‭ ‬كل‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الشعر‭ ‬بوجهٍ،‭ ‬بديوانٍ‭ ‬هو‭ ‬لهذا‭ ‬الجيل‭ ‬ذروة‭ ‬الشعر،‭ ‬ولي‭ ‬ولكثير‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬الذين‭ ‬تفتَّحَ‭ ‬وعيهم‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬التسعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬بسبب‭ ‬غيمة‭ ‬على‭ ‬الأرجح‮»‬‭ ‬هو‭ ‬ذروة‭ ‬شعره،‭ ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬هكذا‭ ‬لنا،‭ ‬ربما‭ ‬بسبب‭ ‬التجربة‭ ‬الخاصة‭ ‬جدًّا‭ ‬لهذا‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬تجربتي‭ ‬الشخصية‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬أبنائه‭.‬

فتَّحتُ عيني فرأيت العالم ينهار، سقط سور برلين فوقف أنبياء الماركسية عُراةً يستعدُّون للتحليق في فضاء الافتراضات بعد أن جفَّتْ أنهار جنتهم الأرضية وتساقطت أوراق أشجارها لتكشف عن القمع والقتل والتعذيب باسم الإنسانية، هبَّتْ «عاصفة الصحراء» وملأت رمالُها عيونَ أنبياء القوميين العرب فصاروا يتخبطون حتى أوشكوا على السقوط في بئر العنصرية المقيتة، أما أنبياء الإسلاميين فقد غطَّتْ وجوهَم طبقةٌ سميكةٌ من دماء مئات الأبرياء حتى لم يبقَ من ملامحها إلا لون الدم القاني، أنبياء الليبرالية أغرقوا فراشات الحرية في النفط فحالت ألوانها الزاهية إلى السواد، أنبياء الصوفية تركوا الدنيا فضلُّوا الطريق إلى الله، وأنبياء المسيحية ابتلعتهم كنائس ارتفعت أسوارها وأخفى رنين أجراسها ما يجب أن تعلنه وتشهد له.

تكاثر على القلب الأنبياء فتمزق كجسد أوزوريس وتوزعت الأشلاء بين «ماكوندو» في أقصى المكان وسوفوكليس في أقصى الزمان وبينهما كان شاعر يعدو في الصحراء وأنبياء يطرقون أبواب السماء وأهل خرقة وأهل مسرة واتساع حارة وضيق مجرة، بصير أعمى وأصمّ يتغنى، جدران لونتها الحياة ليخلد الموت وأرض سقتها دماء لتزهر الحياة، شتاء كاواباتا وربيع براغ، ثقل إليوت وخفة كونديرا، قلعة كافكا وعقاب دوستويفسكي، فردوس ميلتون وجحيم دانتي، سأم بودلير ونشوة ليوباردي، صخب همنغواي وهدوء بيسوا، حرائق بيكاسو وحقائق هيغل، رسوخ هوسرل وشغب دريدا، تهافت الغزالي وبرهان ابن رشد، عقلانية أرسطو وهِيلِّينِيَّة أفلوطين، معرفة الخوارزمي وعرفانية ابن سينا، إنه قلب لا إيزيس له. لا تجمع أشلاءه أيديولوجيا سياسية أو دينية أو فلسفية، ورغم ذلك لم يسقط في العدمية؛ لأنه كان يؤمن بالشعر تمامًا كوديع سعادة الذي عاش تجربة الحرب الأهلية والهجرة والغربة لكن كل ذلك لم يَنَلْ من رُوحه، يقول في حوار معه «الحياة يا صاحبي جميلة ولكنها صعبة وقاسية، قد ندركها وقد لا نستطيع إدراكها.. مرة كان والدي في أيام الحرب يبحث في البراري عن عظمة، ليطحنها بحجر ويسدّ جوعه. من نسل تلك العظام المطحونة خرج أطفال، كنت واحدًا منهم؛ كنت ابن عظمة مطحونة. وما زالت الحياة تطحنني وتطحن زمني وخطواتي»(٢). تلك المرارة التي تشعُّ بهجةً، أو البهجة التي تنزُّ مرارة كانت لغتنا السرية، وتلك الصورة للجسد الذي رحل عن المكان تاركًا ظلاله تحرسه، أو الظلال التي تتمرد على الجسد فتتشبث بالمكان ولا تتركه صارت قدرنا.

كثير من مؤرخي قصيدة النثر العربية يعتبرونها قصيدة متمردة، منطلقها وغايتها التمرد على التراث أو الرفض للواقع أو الثورة على السلطة أو على الأعراف الجمالية أو ذلك جميعًا(٣)، بل إن هناك من يربطها بالعولمة وثورة المعلومات دارسًا إيَّاها باعتبارها مرآةً للمجتمع(4)، يبدو أن المكانة التي حققتها قصيدة النثر – كقصيدة متمردة – قد حولتها في النهاية إلى نمط جمالي راكد يسهل صبه في كليشيهات نقدية، لدرجة جعلت بعض النقاد ينظرون إلى محاولة بعض شعرائها التحرر من هذا الركود بوصفه نوعًا من التمرد عليها من الداخل!! هل حقًّا يمكن اختزال قصيدة النثر إلى «التمرد»(5)؟!

ليس في تجربة وديع سعادة الشعرية الممتدة لأكثر من أربعة عقود «تمرد»، قصيدة النثر عند وديع سعادة حافَةٌ بين عالَمين، بين جحيمين، قصيدته صراط رفيع بين مهاوي الذات، قصيدته إرادة معلَّقة، قصيدته تناقض لا يمكن إصلاحه، لو كان لا بد من اختزال قصيدة النثر إلى أحد مفرداتها فليكن التناقض، ألا تحمل قصيدة النثر تناقضها اسمًا لها وعلَمًا عليها، ألا يوحي التركيب الإضافي الذي تنفرد به اللغة العربية «قصيدة النثر» بهذا التناقض، فالنثر في هذا التركيب ليس قالبًا للشعرية كما نجد في اللغة الفرنسية أو الإنجليزية «poemes en prose» أو «poem in prose»(6)، وإنما هو مصدرها، فكما يعني التركيب الإضافي «ظلمة الشك» أن الشك ظلمة، كذلك يقول التركيب الإضافي قصيدة النثر إن النثر قصيدة، هكذا ليست ثورة «قصيدة النثر» في تمردها وإنما في تناقضاتها، في سعيها الدؤوب في اكتشاف ذاتها في الآخر، وفي إدراك الآخر في ذاتها، فحضارة الغرب كما يراها رائد قصيدة النثر يوسف الخال «هي نحن بقدر ما هي هم، فقد أسهمنا في بنائها في مرحلة من تاريخنا، ولن يكون لنا مستقبل ما لم نَعُدْ إلى الإسهام فيها من جديد»(7).

عنف واتهامات

ولعل هذا بالتحديد هو سر العنف الذي قوبلت به هذه القصيدة الذي يستمر حتى يومنا هذا(8)، ذلك الحضور الحي للآخر، الذي وإن جرى التسامح معه في فنون الأدب الأخرى التي نشأت جميعها من الاحتكاك بالآداب الأوربية، لا يمكن التسامح معه في مجال الشعر، فالشعر ديوان العرب، وتماهي الحدود بينه وبين النثر«يخالف مجمل نظرية الشعر عند العرب، هذه النظرية التي تعد الأساس والمركز لمفهوم الشعر والشعرية، والفكر النقدي عند العرب جملةً وتفصيلًا، الذي يصل التمسك به عند البعض حد العقيدة الدينية»(9)، وهذا ما تكشفه ما واجهته قصيدة النثر من اتهامات حتى من شعراء وكتاب مجددين وثوريين، فمثلًا ترى نازك الملائكة وهي واحدة من رواد التجديد في الشعر العربي أن «قصيدة النثر» تمثل خطرًا على الأدب العربي، وعلى اللغة العربية، وعلى الأمة العربية، بل خيانة للغة العربية وللعرب(10)، أما أحمد عبدالمعطي حجازي وهو رائد آخر من رواد التجديد يرى في انتشار قصيدة النثر «طغيانًا غير مُبرَّر»(11) ويتساءل: كيف نقبلها «وقد بلغت هذا الحدَّ من الصفاقة والغرور»(12)، أما عبدالحميد إبراهيم فقد رأى أن الجمع بين شِقَّيِ المصطلح يجعل قصيدة النثر أشبه بالمخلوق الذي لا ينتمي إلى جنس الذكر، وفي نفس الوقت لا ينتمي إلى جنس الأنثى(13)، أما شوقي بغدادي فقد ذهب إلى أن قصيدة النثر مؤامرة صهيونية، وأن «البرلمان الصهيوني قد اتخذ قرارًا سريًّا بتخريب اللغة العربية والشعر العربي عبر قصيدة النثر»(14)، أما الشاعر محمد عفيفي مطر فيرى أن شعراءها «يريدون هدْمَ أحد ثوابت الكون ألا وهو النظام الموسيقيّ»(15).

إذا كان أصحاب هذه الاتهامات العدوانية شعراءَ ونقادًا حداثيين ينتمون فكريًّا للتيارات الليبرالية واليسارية، فيمكننا أن نتخيل عنف موقف اليمين الديني والقومي تجاه هذه القصيدة وشعرائها، ويمكننا أن نتفهم العبء الذي تلقيه قصيدة النثر على كاهل مجتمع وثقافة تَعَوَّدَا تجاهُلَ تناقضاتهما، قد ينجح التقدميون ودعاة التحرر والثورية في التغلب على صعوبة استيعاب الاختلاف وقبول المختلف، لكن ما قرأناه في السطور السابقة يدل على أن قبول ومواجهة تناقضات الذات وانقسامات الهوية أشد وطأة وأبعد أثرًا على النفس والثقافة، في الجدال الذي امتد لما يقرب من القرن عن قصيدة النثر، وعن شكلها الذي ينغرس كسِكِّين مرهف الشفرة في جسد محتوى ثقافتها، لم يكن مُتَّسقًا مع أفكاره إلا طه حسين الذي كتب في جريدة الجمهورية عام 1957م أنه «ليس على شبابنا بأس، فيما أرى، من أن يتحرروا من قيود الوزن والقافية، إذا تنافرت أمزجتهم وطبائعهم، ولا يُطلب إليهم في هذه الحرية، إلا أن يكونوا صادقين»(16). ولا أعتقد أن الصدق الذي يُطالِب به طه حسين يتعلق فقط بالشكل وإنما وهذا هو الأهم بما يفتحه هذا الشكل من آفاق لمراجعة الذات والإبداع والثقافة.

لم يَفُتْ سوزان برنار صاحبة المرجع الرئيس في هذا النوع الشعري الجديد أن تشير إلى ما تثيره تناقضات الشكل من خطر وثراء «قصيدة النثر في الواقع مبنية على اتحاد المتناقضات، ليس في شكلها فحسب، وإنما في جوهرها كذلك: نثر وشعر، حرية وقيد، فوضوية مدمرة وفن منظم، ومن هنا يبرز تباينها الداخلي، وتنبع تناقضاتها العميقة والخطرة والغنية، ومن هنا ينجم توترها الدائم وحيويتها»(17) ترى برنار أن التناقض مظهر لبحث قصيدة النثر عن شكل فني جديد، وتَجَلٍّ للتمرُّد الإنساني وقوته الخلاقة(18) إلا أن تأمل شهادات شعراء قصيدة النثر الكبار يدفع باتجاه آخر، فالتناقض، وليس التمرد، هو سر هذا التوتر الذي يضمن الحيوية/ الحياة؛ لأنه يحمي القصيدة من التنميط، يقول أنسي الحاج: «لا نهرب من القوالب الجاهزة لنجهز قوالب أخرى، ولا ننفي التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه»(19)، لقد تخلَّتْ قصيدة النثر عن كل شيء «لتضع الشاعر أمام تجربته، مسؤولًا وحدَه، كل المسؤولية، عن عطائه»(20).

الشاعر وحده، متسلحًا بالصدق، في مواجهة تجربته، أي عطاء يمكن أن يمنحه إن لم يكن «شعرية التناقض» عنوان النوع الشعري الجديد، والقاسم المشترك بين تجارب مبدعيه وفي القلب منهم وديع سعادة.

مرايا الماء المتناقضة

لا يخلو شعر من الماء، ولم توجد حضارة لم يكن للماء دورٌ مركزيٌّ فيها، لم يفِضِ الماء على مكان كما أفاض على أخيلة الشعراء، الماء كلي القدرة (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، كلي الأشكال: صلب، وسائل، وغازي، كلي الأماكن، محيط وبحر وبحيرة ونهر وجدول ونبع وجوف ومستنقع، هو في السماء وفي الأعماق، فوق الأرض وفي باطنها، في الهواء، وفي الحجر، في الأجسام وفي الشجر، الماء كلي الفاعلية، فهو الطوفان والفيضان والعاصفة والمطر والسقي والري والندى، والضباب، إنه كلي القدرة يُحيي ويميت، كلي الأشكال لأنه لا شكل له، يأخذ شكل الوعاء الذي يحتويه، كلي الرائحة فلا رائحة له، كلي الألوان فلا لون له، كلي الذوق لأنه لا طعم له.

في خيال الشعراء يتلون الماء بكل المشاعر الإنسانية، يصير مالحًا في دمعة وعسلًا في رضاب، يتضوع في شَعر الحبيب زكيًّا، ويفوح من فم البغيض كريهًا، يظهر ما انطمر سرًّا عميقًا في النفس، ويمحو ما طفا أليمًا على صفحة الروح، لا يعرف الماء الثقل والخفة إلا في حضور الشعر(21)، فلا يتسع لمعاني الماء إلا خيال الشعراء، ولا يستغرق –من الغرق– صوره إلا الشعر، يتساءل وديع سعادة: كيف للسابح أن يصل والبحر يغرق؟(22) يغرق البحر في الخيال الشاعر فلا يصل الشاعر إلى برّ، وهل من شاطئ للشعر؟

ماء

ماء كثير

يدفق في شراييني

ولا مركب.

في قلبي بحر

وجمهور من الغرقى (23).

في ذات وديع سعادة لم يغرق فقط البحر، غرق عالمه القديم، ذلك العالم الذي يستفزه الماء، فيطل من بين الأمواج التي تنتاب الروح ظلالًا، ظلالًا لكل شيء، ظلالًا للاشيء، يعلن أنه «كانت له أسماء كثيرة، استحال جمعها في اسم. كانت له أسماء كثيرة، ولم يكن له اسم»(24)، ويؤكد أنه «بلا اسم كي أكون، كي أكون كل الأسماء، وبأعضاء متناثرة في كل مكان كي تكون كل الأمكنة مكاني، إن نادى أحدٌ أحدًا، أينما كان، أليس عليَّ أن أجيب؟ وإن كبا كائن في أي مكان، ألا يجب أن يكون مني شيء هناك كي أحنو عليه»(25)، إنه كالماء تناقضاته هي ضمانة حضوره.

اختار وديع سعادة الماء والظلال وما يشتق منهما وما يتعلق بهما، مفرداتٍ لعالم ديوانه، إطارًا لتناقضات الذات والقصيدة والعالم، أليس الماء هو المرآة الأولى، ألم تكن تلك الصورة المرتعشة على صفحة الماء، التي يحف بها الغموض والأسرار، ويكتنفها العمق، أول خبرة إنسانية في إدراك الذات، ألم يغرق في حبها «نرجس»؟ الماء هو المادة الخام لتناقضات الوجود ولكنه فوق ذلك مرآة، مرآة الذات الشاعرة، لا سيما تلك التي تبعثرت شظاياها، بين تجربة الحرب الأهلية، حيث الأحبة هم القتلة، حيث القتلة هم الأحبة، وتجربة الهجرة حيث نحمل ما تصل إليه أيدينا، وما تتسع له حقائبنا الصغيرة، من وجودنا، ونترك خلفنا شظايا حية منا، ونحمل في قلوبنا شظايا حية من المكان، المهاجر يهرب من الموت، وما الموت؟ الموت رحيل دائم، والرحيل موت مؤقت، أين تكمن حياتنا؟ ومتى نكون أحياء؟ قبل الرحلة أم بعدها؟! الحياة هي ما نخلفه وراءنا من ظلال، هي ما نحمله معنا من ظلال، الموت غياب، والرحيل غياب، وليس بين الغياب والحضور إلا الظل، إنه تماهٍ جديد حيث يشتبك الغياب والحضور. ليست الرحلة إلا عبور الماء، في سفينة، في طائرة، لا يهم، سيظل الماء حدًّا فاصلًا بين جحيمين، أو فضاءً رحبًا لتماهيهما!

اللغة العربية لا تبخل على شعرائها، أولئك الذين كشاعرنا يختارون أن يعيشوا حياتهم متخفين، الذين يتقنون تمويه وجودهم حتى على أنفسهم، الفعل «موَّه» في اللغة العربية يأتي من «مَوَه» وهو أصل الماء، والتمويه هو التلبيس واختلاط الشيء بغيره والإخبار على غير الحقيقة، وهو التوحد مع شيء آخر Identification والانتشار(26). هل توسل وديع سعادة بالماء وظلاله نوع من التمويه بالكلمات، نوع من ألاعيب اللغة، أم هو حالة تماهٍ بين حدود الوجود؟ يقول شريف رزق: «في سَبعينيَّاتِ القَرْنِ المَاضِي؛ حَيْثُ كانَتْ تَجْربَةُ مجلَّةِ (شِعر) اللبنانيَّةِ قدْ بلغتْ أقصَى تحقُّقاتِهَا الشِّعريَّة، عَبْرَ تجاربِ أدونيسَ، وأنسي الحَاج، وَزُملائِهِمْ، كانَ جِيلٌ شِعريٌّ جديدٌ، يتشكَّلُ، وَيُمثِّلُ انعطافَةً شِعريَّةً جديدَةً، عن المَسَارِ الشِّعريِّ المُتجسِّدِ لِلْقَصِيدِ النَّثريِّ، في مَشهدِ الشِّعرِ العَرَبيِّ، وَبَرَزَ في هَذا الجيلِ عبَّاس بيضون، وَبُول شاوول، وَشِرْبل داغر، وَآخرونَ، وعلى الرَّغمِ من ظهورِ مَسَارٍ جديدٍ لِلْقصِيدِ النَّثريِّ على أيديهم، بمرجعيَّاتٍ أخْرَى في حقيقَةِ الأمرِ، إلاَّ أنَّ النّزوعَ الثَّقافيَّ ظلَّ، كالحَلْقَةِ السَّابقةِ المؤسِّسةِ، يعلو على النّزوعِ الشِّعريِّ، وَبَدَا أنَّ هَاجسَ التَّجريبِ لدَى هذه الحَلْقَةِ، كَمَا كَانَ في الحَلْقَةِ السَّابقَةِ، كَانَ يعلو على التَّجربَةِ الإنْسَانيَّةِ، وَظلَّ الحُضورُ اللغَويُّ أعْلَى منْ الحُضورِ الإنْسَانيِّ، في المُنْجَزِ الشِّعريِّ الطَّليعِيِّ، غَيْرَ أنَّ صَوتيْنِ شِعريَّينِ كَانَا يُؤسِّسَانِ -على مَقْرُبَةٍ من هَذا الحَدَثِ الشِّعريِّ- لِشِعريَّةِ الشَّخصِيِّ وَالإنْسَانيِّ وَالمَعِيشِيِّ وَالحَيَاتيِّ، على نَحْوٍ بَارز، وَيُشَدِّدانِ على بَسَاطةِ الأدَاءِ الشِّعريِّ، وَكثافَةِ الحُضورِ الإنسَانيِّ فيه، كَانَ هَذانِ الصَّوتانِ هُمَا صَوْتُ وَدِيع سَعادَة (1948م -)، وَصَوْتُ بَسَّام حَجَّار(1955- 2009م)، وَكَانَ وَدِيع أسْبَقَ من بَسَّام. وَمُنذُ البدايَةِ بَرَزَ صَوْتُ وَدِيع سَعَادَة كثيفَ الإنسَانيَّةِ، شَخصِيًّا، عَمِيقًا، خَافِتَ النَّبرَةِ، اسْتِبْطانيًّا، يَجْنَحُ -أحْيَانًا- إلى التَّواشُجِ مَعَ عَنَاصِرِ الطَّبيعَةِ وَتفاصِيلِ الوَاقِعِ المَعِيْشِ المُحِيطِ بالذَّاتِ الإنْسَانيَّةِ الشَّاعرَةِ الوَحِيدَةِ، وَثمَّة حُضُورٌ وَاضِحٌ للذِّكريَاتِ، وَتتجَاوَرُ الهَوَاجسُ والشَّطحاتُ التصوريَّة مَعَ مَرَائِي الوَاقعِ المَعِيشِ، وَثَمَّة حُضُورٌ لتجربَةِ الفَقْدِ على نَحْوٍ كثيفٍ، وَعَلى مِحْورِ الشَّكلِ ثَمَّة حُضُورٌ وَافرٌ لجَمَاليَّاتِ الحِكايَةِ، وَتركِيزٌ وَاضِحٌ عَلى كثافَةِ الأدَاءِ الشِّعريِّ، وَتكثِيف البنَاءِ النَّصيِّ. ثَمَّة حضُورٌ إنْسَانيٌّ وَافرٌ، لِذَاتٍ شَاعِرَةٍ وحِيْدَةٍ تَنْثُرُ تَاريخَهَا الشَّخصِيَّ، وَنبضَاتِهَا، وَمُشَاهَدَاتِهَا، وَهَوَاجِسَهَا، في أعْطَافِ الخِطَابِ الشِّعريِّ، مُجَسِّدَةً شَخْصَنَةَ الخِطَابِ الشِّعريِّ وأنْسَنَتَهُ»(27).

يعتصم وديع سعادة إذن بالشخصي الإنساني، لا تغريه استعارة بمفارقته، لا يشبهه بغيره، فقط يعاين امتدادات الوجود في الذات، وامتدادات الذات في الوجود، ليس الماء رمزًا، وليس الظل استعارة، وليس المجاز عبورًا من الحقيقي إلى المتوهم، يطالبنا شعر وديع سعادة، بتجاوز مجاز الجملة إلى مجاز أرحب، وأقرب إلى جنون الواقعي، يمكننا أن ندعوه مجاز المشهد الذي يتوسل التماهي طريقًا للحضور. لنقرأ هذه القصيدة:

شيء على العتبة

كان ميتًا لكنه كان

يحس أناملهم على جبهته

أسبلوه وسط الدار

على فراش استأجروه وكان

يحب أن يشتري مثله،

أسبلوه وألبسوه ثيابًا

رأى مثلها في واجهات المدينة

وحين حملوه

ترك وهو يغادر البيت

شيئًا غريبًا على العتبة

وكانوا كلما دخلوا

يرتجفون ولا يعرفون السبب.

يفضل وديع سعادة أن يفتتح قصائده بمبتدأ نكرة محددة يجعل من القصيدة كلها خبرًا له، المبتدأ أو المسنَد إليه بعبارة سيبويه، يكشف عن ذلك الولع بالتناقض الذي لا يتجسد إلا في التماهي، فهذا النوع من المبتدأ يمثل صيغة نحوية للتماهي، حيث فيه من معنى المعرفة كما فيه من معنى النكرة، فهو بين المعرفة والنكرة لكنه ليس معرفة أو نكرة، وهو محدد بشِبْهِ الجملة بعده هي «على العتبة» والعتبة، ليست الخارج، وليست الداخل، لذلك هي موطن الغرابة، ومستودع أسرار ذلك «الكائن» الميت الذي تتحدث عنه القصيدة، هو أيضًا موزع بين عالمين، «كان ميتًا» لكنه «كان»، كان الثانية يحيل توزيع الجمل على بياض الصفحة إلى التباسها بين كان الناقصة «كان يحس» التي تفيد استمرار الإحساس في الماضي، وبين كان التامَّة، التي تُعلنُ عن كينونة مكتملة حية وحاضرة حتى في الموت، ثم يأتي بعد ذلك تبادل «الفعل» بين(ـه) وبينـ(هم)، يحس.. أسبلوه.. استأجروه.. يحب.. يشتري.. وأخيرًا الْتباس أزمنة الفعل بين الماضي والمضارع، كل تلك التقابلات تشكل إيقاع المشهد الشعري، لذلك الميت الحي، الذي ينال في موته ما حرم منه في حياته، هكذا يعبر العتبة إلى الخارج في دفء لم يعد في حاجة إليه، ويعبرون العتبة إلى الداخل مرتجفين في عريه. هكذا لا تكتمل القصيدة التي تخلو من المجاز، إلا باستدعاء قارئها للمجاز. حيث لا يمكن تأويل ارتجافهم دون استعارة تؤول ما ليس فيه استعارة. وهي تقنية شعرية يتحقق فيها تماهٍ آخر بين المجاز واللامجاز.

للُّغةِ طاقة تصويرية سابقة على المجاز، ففي سياق ثقافة الصورة التي تمثل السياق المعرفي لقصيدة النثر، يشير مصطلح التصوير Imagery إلى الصورة التي تنتج في الذهن بواسطة اللغة، والتي قد تحيل كلماتها وتعبيراتها إلى خبرات قد تولد أو تستثير إدراكات فيزيائية حسية عايشها القارئ حقيقة أو الإحساس بانطباعات عن معايشتها(28).

حيث يشير استخدامنا اللغوي المعاصر لكلمة خيال إلى القدرة على تكوين صور غابت عن متناول الحس ولا تنحصر فاعلية هذه القدرة في مجرد الاستعادة الآلية لمدركات حسية ترتبط بزمان أو مكان بعينه، بل تمتد فاعليتها إلى ما هو أبعد وأرحب من ذلك؛ فتعيد تشكيل المدركات وتبني عالمًا متميزًا في جدته وتركيبه. وتجمع بين الأشياء المتنافرة، والعلاقات المتنافرة، والعناصر المتباعدة في علاقات فريدة، تذيب التنافر والتباعد، وتخلق الانسجام والوحدة(29).

في بعض الدراسات الأحدث*، التي حاولت الإفادة من الزخم الهائل للفنون البصرية في العقود الأخيرة وتطوراتها المتلاحقة، أراد بعضٌ تجاوز حتى المصطلح الحديث للصورة الأدبية imagery، وأن يستبدلوا به مصطلحًا آخر أكثر انفتاحًا على الدراسات المقترنة بالفنون البصرية الحديثة، وربما أكثر التصاقًا بتلك الدراسات، وهو مصطلح verbal visuality الذي نترجم «التصوير اللفظي». وقد اقترح هذا المصطلح كريستوفر كولينز في كتابه «شعرية الإبصار الذهني» the poetics if mind eye بديلًا من مصطلح التصور أو التصوير imagery فيقول: «إن الالتباس والفوضى التي يثيرها استخدام مصطلح التصور/ التصوير imagery في المناقشات حول هذا المصطلح، ليست في الحقيقة ناتجة فقط عن تطبيق هذا المصطلح الواحد على أنماط متعددة للغاية من الصور. وبناء عليه فإني أقترح استخدام التصوير اللفظي verbal visuality للدلالة على قطاع عريض من الخبرات التي تتموقع فيها الصور الذهنية التي تثيرها النصوص المكتوبة. (…) سوف أعتبر الصورة/ اللفظية verbal image بوصفها كيانًا منتجًا بواسطة اللغة ولكنه لا يتموقع عمليًّا في داخل حدود اللغة(30).

حتى هذه المصطلحات الحديثة لا تتسع لشاعرية وديع سعادة؛ لأن شعرية قصائده تدرك بالعين التي ترى كما تدرك بالأنامل التي تتحسس فهي كما يقول ماكليش: «فالصورة الواحدة ترسم وتوطد بالكلمات التي تجعلها حسية جلية للعين أو للأذن أو اللمس- أو لأي من الأحاسيس»(31).

بماذا يشعر قراء وديع سعادة أمام صوره؟ كيف يتسللون إليها وماذا يجدون فيها؟ يقول عماد عبد اللطيف: «تكاد القصيدة تخلو من المجازات التقليدية مثل التشبيه والاستعارة والكناية التي تؤسس للخيال الشعري، ومع ذلك فإن قارئ القصيدة سوف يؤكد أنها مغرقة في الخيال، فكيف نفسر ذلك؟ حين نقوم بتحليل مجازات قصيدة ما فإن المعتاد هو أن نربط عالم القصيدة بعالمنا المعيش، وبتصوراتنا الذهنية عن الأشياء. وهي تصورات مجحفة لكائنات الوجود، وبخاصة مجرداته، ومتحيزة بشدة للإنسان. فإذا قال شاعر: «صرعني الخوف، وأنقذني الأمل» قلنا: توجد استعارتان مكنيتان؛ جعل الشاعر الخوف في الأولى إنسانًا يقتل، وجعل الأمل في الثانية إنسانًا يُنقذ، وكأنه لا يصرع ولا ينقذ إلا الإنسان. ثم أي إنسان هذا الذي يكون في بشاعة الخوف أو روعة الأمل؟ إننا حين نجعل الخوف إنسانًا نكون كمن يحول أسود الغاب إلى دمى. أي شيء أكثر توحشًا وضراوة من الخوف؟ ليس إلا الخوف ذاته. أي شيء أروع وأجمل من الأمل؟ ليس إلا الأمل ذاته. حين نقول: إن الشاعر جعل الخوف أو الأمن إنسانًا نكون قد أضعنا أثر القصيدة وأجهضنا معناها. لقد اعتدنا أن نفكك القصيدة إلى تشبيهات واستعارات وكنايات مستقلة بهدف قياس عالم القصيدة إلى عالمنا وتصوراتنا التي نعيش بها، وما شذ عن القوانين التي وضعناها لهذا العالم اعتبرناه مجازًا. وبذلك يتسرب من بين أيدينا العالم الذي تسعى القصيدة لإنشائه، وتضيع منا فرصة مشاهدة عالم القصيدة في مواجهة عالم الواقع»(32).

إنه النسق إذن، يجمع الشاعر صورًا «حقيقية» من العالم، تجاورها يخلق عالمًا آخر مواجها لعالم الواقع من دون أن يكون بالضرورة مشدودًا إليه، يشبه هذا ما قاله هنري كوربان عن «الخيال الخلاق عند ابن عربي ليس ابتكارًا للصور من مادة الواقع»(33)، ليس الخيال تابعًا للواقع، وليس مشدودًا لمفرداته بالخيوط السحرية للتشبيه والاستعارة، إنه إضافة لهذا الواقع، إغناء له، قوة التغيير فيه، الخيال، بالمعنى العربي لهذه الكلمة، واقع آخر.

ناقد آخر لم يرضَ بـ« الْتباسات» الخيال، واتجه للقراءة متسلحًا بـ« شعرية السرد»، هكذا يقرأ شريف رزق القصيدة الأخيرة من هذا الديوان، التي تحمل عنوانه، بسبب غيمة على الأرجح، حيث « تتجلى البنية السَّردية، في القصيدة، عبر إجراءات بنائية وتطريزية، تقوم على تكرار بنى محددة على مسافات، مثل بنية الاحتمال: (ربما قريبًا)، (أظن أن كوكبًا)، ثم توازي التركيب، القائم على الجمل الاسمية المبثوثة في السياق: (الحياة جميلة – برجي مائي – وهم لطيف – عرق الجباة مقيتُ)، والانتقالات من حال إلى حال، فمن الاحتمال إلى التقرير، ومن الداخل إلى الخارج، وهذا الارتداد بين العالمين يقوم بمزج الزمنين: الداخلي والخارجي، وتندر حروف العطف، وتتحقق شعرية السرد هنا اعتمادًا على المونتاج المكاني أو ما أسماه روبرت همفري بـ (المشهد المضاعف)، حيث يبقى الزمن ثابتًا ويتغير المكان، وثمة مراوحة بين (الزمن النفسي) و(الزمن الخارجي)، الأول فني والثاني واقعي، وينزع (الزمن السردي) إلى مزج هذين الزمنين، والتنقل بينهما، ليجعل النص في حالة حركة دائبة»(34).

يقدم سيد السيسي مدخلًا آخر في قراءة شعر وديع سعادة، حيث الصورة عابرة للقصائد يمكن أن تمتد عناصرها إلى قصيدتين أو أكثر، ليفتح بابًا جديدًا للتماهي بين ما فصلته إرادة الشاعر وما جمعته صوره «في قصيدتين أخريين لوديع سعادة من ديوانه «محاولة وصل ضفتين بصوت»، نجد فعالية مغايرة لاستخدام المجاز في تشكيل تصويري يتجاوز الحدود الجزئية التقليدية في التعريف البلاغي للمجاز:

أعشاش عالية

الذين ألِفناهم شجرًا باسقًا/ صاروا قشًّا حين حزنوا /ونزلت العصافير ورفعتهم/ بمناقيرها.

غيوم

الذين جرفتهم المياة إلى الوادي/ ارتفعوا غيومًا/ لم يمطروا/ وقفوا فوق/ نظروا إلى الأرض/ وتبددوا.

في القصيدة الأولى يمكن أن نلحظ بسهولة الاستعارة في السطر الأول «الذين ألفناهم شجرًا باسقًا» والتشبيه في السطر الثاني «صاروا قشًّا»، غير أن تصويرية القصيدة لا يؤديها فحسب هذان المجازان، بل إن الصورة كلها لا تكتمل دلالتها إلا في كُلِّيَّتِها كصورة متكاملة لا نستطيع فصل أي من عناصرها التصويرية، بوصفه مجازًا أو غير مجاز مستقلًّا عن فاعليته الوظيفية في تشكيل الصورة. فالأعشاش العالية في عنوان القصيدة هي جزء لا يتجزأ من بنية الصورة لمن كانوا شجرًا باسقًا حتى صيرهم الحزن قشًّا، فتأبى العصافير إلا أن ترفعهم بمناقيرها ليصيروا الأعشاش العالية. دلالة القصيدة هنا ليست فحسب ما فعله الحزن بمن كانوا شجرًا باسقًا فصاروا قشًّا، وإنما تتشكل دلالة القصيدة من تضافر كل عناصر الصورة، بدءًا بالعنوان في القصيدة الأولى «أعشاش عالية» ولا تكتمل إلا بنهاية القصيدة الثانية «غيوم»(35). أما عقل العويط فيتجه إلى باطن الشاعر يفتش فيه عن مصدر مفردات عالمه، قبل أن يعود إلى مزجها بالماء، فيطلق عليها شعرية النبع: «أعمارٌ، وأحلامٌ، وتخييلاتٌ، وصورٌ، وهلوساتٌ، وآلامٌ، وتراكماتٌ، وخيباتٌ، ومراراتٌ، تتلوّى كلّها في ليل الباطن، وتتخالط، وتتخمّر، قبل أن تنضج، وتعثر كينونتُها على درب عبورها إلى فم الأرض. أسمّيها شعرية النبع. على أن النبع جوهريّ. بمعنى أنه يمنح الجوهر، ولا يأتي مدجَّجًا بسوى هذا الجوهر، وإنْ علِق فيه ما ليس من طبعه. كلّ ما يترافق مع مسيرته، يندمج فيه. والحال هذه، فإن شعريته الدلالية، هي أيضًا، جوهرية»(36).

هذه القراءات الأربع لظاهرة المجاز/ اللامجاز في شعر وديع سعادة، تختلف في كل شيء إلا في أمرين؛ الأول هو ذلك الجدل، التباين، المواجهة، التماهي بين عالمين، والثاني هو استدعاء القارئ كشريك في بناء العالم أو كشاهد على لحظة الخلق الشعري.

ليس لوديع سعادة موقف أيديولوجي من المجاز، ليس معه أو ضده، ولا أعتقد أنه مشغول بتجديده أو تطويره، لا يعرف وديع سعادة كنه شعره قبل اكتمال القصيدة، إنه يطارد مجهولًا قد يدرك ماهيته عند الإمساك به، كل قصائد وديع سعادة هي رحيل نحو هذا الشعر، لا تخبرنا القصائد أبدًا من أين يأتي هذا الراحل، ولا يعرف هو إلى أين يذهب، لم يترك لنا خرائط تدلنا إلا الظلال، يبدو الشعر في القصائد ظلًّا للوجود، الظل هو الشعر، هو العلامة الكبرى على الوجود، ليس لمن لا يبالي ظل، نحن نعيش في عالم من الزجاج، لا ظلال فيه، لا عمق ولا غموض ولا أسرار، عالم كالزجاج لا وراء له، ولا عبور إليه، يدعونا وديع سعادة لأن نبالي، لأن نبحث عن ظلالنا، عن معنى وجودنا؛ «قل للعابر أن يعود ويجمع زهور ظله، وناس ظله، وقمر ظله، وشمس ظله، وموتى ظله»(37) للجسد ظل واحد، ولحبه ظل، لخوفه ظل، لغضبه ظل، لألمه ظل، لعزلته ظلال، الظل هو ما يجعلنا قادرين على الرحيل من دون أن نغادر أماكننا، هكذا «وفي بالهم إذا مر غيم.. ينزل المطر على حقولهم البعيدة»، والغيم لا يمطر وإنما يصنع الظلال، الغيمة ظل يملؤه الماء، الغيمة ظل الماء الذي قد يعيد الحياة للحقول الميتة يطفئ حرائق عطشها للمعنى، ويردّ إليها أحبتها المهاجرين، أولئك الذين هجرت أجسادهم الظلال.

ظهرت الفردية بمعناها الحديث في بداية القرن السايع عشر، وقد ارتبط ظهورها بعاملين رئيسين هما ظهور الغرفة الخاصة، والمطبعة(38)… ومع فضيلة العزلة تحوَّل الشعر من فردية الشاعر إلى فردية القارئ، وأمام فردانية القارئ تخلَّى الشعرُ عن موسيقاه الصاخبة وعباراته الرنانة التي تليق بجمهور المستمعين واكتفى بإيقاع هادئ يهمس به في أذن الواحد الذي لا يتجزأ، مع ميلاد القارئ الفرد اتسعت آفاق السرد وتبدلت اهتماماته من حكايات الفرسان الممتلئة بالأغاني إلى مأساة الفرد الذي ضاقت به الغابات والمراعي والجبال والبحار لتصبح مدينة مكتظة بالأفراد، متاهة لا يسهل الخروج منها، في المسافة بين دون كيشوت لسرفانتس وعوليس لجيمس جويس، كان الشعر قد تخلى عن قيثارته وأمسك بمنوال ينسج من لا مرئيات الحياة اليومية: العادي المفرط في عاديته، والغرائبي المفرط في هامشيته ألفة لعالم صار فريسة للاغتراب، اغتراب سلب العالم ظلاله.

هوامش:
1- سيد عبدالله السيسي، ما بعد قصيدة النثر، نحو خطاب جديد للشعرية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 2016م. ص 5

2- http://www.lahamag.com/article/106767 -الشاعر-وديع-سعادة-العائد-من-مهجره-القسري-لم-يترك-مسقط-روحه.
3- عبدالله شريق: في شعرية قصيدة النثر، نشرة اتحاد كتاب المغرب، الرباط 2003م، ص13. وانظر أيضًا، إيمان الناصر: قصيدة النثر العربية، التغاير والاختلاف، دار الانتشار العربي، البحرين 2002م، ص29. وانظر أيضًا: سيد عبدالله السيسي، ما بعد قصيدة النثر، نحو خطاب جديد للشعرية العربية، ص 21.
4- محمود إبراهيم الضبع، قصيدة النثر وتحولات الشعرية العربية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003م، ص 7.
5- كان لكتاب سوزان برنار«قصيدة النثر» تأثير شديد على كل من تناول قصيدة النثر العربية، مثل أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال، حتى ترجم الكتاب في عام 1998م، وتحول إلى الكتاب المقدس لقصيدة النثر وهو ما جعل فكرة التمرد التي تَعُدُّها برنار القوةَ المحركة والمنشئة لقصيدة النثر منطلقًا أساسيًّا لمن يكتبون ومن ينقدون قصيدة النثر. انظر: سوزان برنار، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة راوية صادق، مراجعة رفعت سلام، دار شرقيات، القاهرة،مج1، 1998م، مج2، 2000م.
6- Alex Preminger (with others) Princeton Encyclopedia of poetry and poetics, Princeton university press 1990, p 664.
7- يوسف الخال، مجلة شعر، بيروت، صيف 1960م، ص 80.
8- انظر: أحمد عبدالمعطي حجازي، قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء، دار الصدى ، دبي 2008م.
9- شريف رزق، آفاق الشعرية العربية الجديدة، دار الكفاح للنشر والتوزيع، الدمام، 2015م، ص 7.
10- نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، 1992م، ص 219.
11- أحمد عبدالمعطي حجازي، قد أفسد القول حتى أحمد الصمم، جريدة الأهرام المصرية، العدد 41785، 2 مايو 2001.
12- أحمد عبدالمعطي حجازي، السابق.
13- عبدالحميد ابراهيم، قصيدة النثر، مجلة الوسطية، العدد الرابع، نوفمبر 1999م، ص 5.
14- انظر: مجلة نٍزوى، مسقط، العدد 12، اكتوبر 1997م، ص 32.
15- محمد عفيفي مطر، لا يوجد ما يسمى بقصيدة النثر، حوار مع أشرف عبدالقادر، جريدة الأهرام المسائي، 7 فبراير 1999م.
16- غالي شكري، شعرنا الحديث إلى أين، دار الشروق القاهرة، 1991م، ص 50.
17- سوزان برنار، السابق، ص 129.
18- السابق 130.
19- أنسي الحاج، لن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ط2، 1982م، ص 18.
20-  السابق نفسه.
21- Gaston Bachelard water and dreams an essay on the imagination of matter, trans. Edith Farrell, Pegasus foundation, Dallas, 1999. P 94.
22- وديع سعادة، الأعمال الشعرية الكاملة، أبابيل كتب رقمية، ص 573.
23- وديع سعادة، السابق 487.
24- وديع سعادة، السابق 547.
25- السابق 548.
26- ابن منظور، لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1999م، ج13، ص 226-227.
27- http://www.ahram.org.eg/NewsPrint/323239.aspx جريدة الأهرام: 31 أغسطس 2014م.
28- Princeton Encyclopedia of poetry and poetics, p363
خصص الدكتور سيد السيسي في كتابه «ما بعد قصيدة النثر، نحو خطاب جديد للشعرية العربية» فصلين كاملين عن علاقة الشعر بالفنون البصرية مثلًا المرجع الرئيس الذي عُدت إليه وإلى مصادره فيما يتعلق بهذا الموضوع.
29- جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 1992م، ص 14.
30- Christopher Collins, The poetics of the mind’s eye, university of Pennsylvania press,1991, p 2
31- Archibald MacLeish, poetry and experience, Houghton Mifflin (T), Cambridge, 1961, p 73-75.
32- عماد عبداللطيف: شعرية قصيدة النثر، مجلة إبداع القاهرة، عدد 13-14، شتاء وربيع 2010م، ص 176- 179.
33- هنري كوربان: الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ترجمة فريد الزاهي، منشورات مرسم، الرباط، 2006م.
34- شريف رزق، السابق.
35- سيد السيسي، السابق 138- 140.
36- http://www.alhayat.com/Articles/3055961/قصائد-وديع-سعادة-سيرته-شعرًا
37- وديع سعادة، السابق 559.

38- Kevin Reilly – West and the World: A History of Civilization from 1400 to Present: 3rd (third) Edition , Markus Wiener Publishing , Princeton, United States, 2nd edition, p 257 .

ديمقراطية العدم .. ما بعد الحداثة تلعب دورًا حاسمًا في تقرير مصائر الأمم

ديمقراطية العدم .. ما بعد الحداثة تلعب دورًا حاسمًا في تقرير مصائر الأمم

الآن إذا ماتت الحقيقة، فإن كل شيء يصبح ممكنًا من الناحية النظرية، وإذا كان كل شيء اعتباطيًّا، وعارضًا، ونسبيًّا: فإن الحقيقة تكون هي ما أختاره لأقوم به. هذا بالضبط هو «التحرر» تذكرت تلك العبارة لإيهاب حسن وأنا أتابع الجدل السياسي العنيف الذي دار في إيطاليا على مدى العام الماضي، فالحزب الديمقراطي الحاكم يصرّ على تبرير هزائمه المتكررة في الاستحقاقات الانتخابية بشيوع ظاهرة «ما بعد الحقيقة»، حيث يكفي وصول معلومة زائفة إلى حد معين من الانتشار لتحولها إلى حقيقة واقعية، ففي المجتمع الأفقي الذي نعيش فيه احتلت قيمة الانتشار المكانة التي ظلت محفوظة طويلا لقيمة العمق.

هكذا لم يؤثر في الحزب الديمقراطي اليساري النقد السياسي الذي وجهه له منافسوه، لكنه انهار أمام تسونامي من المعلومات الزائفة التي استهلكت مواجهتها طاقة مؤسساته وشغلتها عن الإعداد الجيد للمعركة الانتخابية، فسقط فيها سقوطًا مدوّيًا، حيث أظهرت النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية الإيطالية التي جرت أخيرًا حصول ائتلاف يمين الوسط على 37.30%، وحصول ائتلاف يسار الوسط –الذي يضم الحزب الحاكم- على 22.90%، في حين استحوذت حركة خمسة نجوم على 32.50% من أصوات الناخبين، وهي أعلى نسبة من الأصوات يحصل عليها أحد الأحزاب منفردًا، وبهذه النتيجة من المتوقع في حال نجحت هذه الحركة في بناء ائتلاف انتخابي يضمن لها أغلبية برلمانية، أن يحكم الموقع الإلكتروني الذي يحتكر تمثيل حركة النجوم الخمسة، ويمثل أيضًا المظهر المادي الوحيد لها، الجمهورية الإيطالية ليكون ذلك الحدث –في حال تحققه– أكبر حالة لتداخل الواقع التقليدي والافتراضي وتماهي الحدود بينهما، وحيث تحقق «سياسات ما بعد الحقيقة»، كما يدعوها معجم أوكسفورد، انتصارًا جديدًا، بعد انتصارها في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهذه المرة في قلب أوربا وفي أحد أقدم مجتمعاتها وأكثرها تقليدية، إننا نشهد اليوم كيف تتجاوز ما بعد الحداثة ملاعب الفلسفة والفنون والآداب لتلعب دورًا حاسمًا في تقرير مصاير الأمم وهو ما يستحق وقفة تأمل.

ظهرت حركة النجوم الخمسة في سياق انتشار عدد من الحركات المتمردة على الوضع السياسي العام، والرافضة للسياسات المحلية، التي تعادي أيضًا الطبقة السياسية التقليدية التي دأبت هذه الحركات على وصفها بـ«الفاسدة»، مثل حزب سيريزا اليساري الراديكالي في اليونان وحزب بوديموس المحسوب على اليسار المتشدد في إسبانيا، وحركة الواقفون ليلًا في فرنسا، وغيرها من الحركات التي اكتسبت شعبيتها أولًا وأخيرًا من معاداتها للمنظومة السياسية القائمة وليس من امتلاكها طرحًا أيديولوجيًّا سياسيًّا جديدًا.

وتعد الحركة ظاهرة ثقافية – سياسية ما بعد حداثية بامتياز، فهي حركة شعبوية معادية للأجانب وللوحدة الأوربية ظهرت في سياق نوع من «الربيع» السياسي الأوربي الذي اكتسح بعض بلدان القارة العجوز في السنوات الأخيرة في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وارتباك حكومي وسياسي غربي، وبخاصة بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008م. مؤسس الحركة بيبَّى جريلُّو ممثل كوميدي إيطالي اشتهر بنكاته السياسية اللاذعة التي انتهت به إلى الطرد من التلفزيون الإيطالي بسبب انتقاداته لحكومة اليسار الإيطالي المتحالفة في ذلك الوقت مع غريمها السياسي التقليدي الحزب الديمقراطي المسيحي، وهو ما لم يترك له أي فرصة للعب على حبال الاختلافات الأيديولوجية بين الحزبين اللذين يتحكمان في المؤسسة الإعلامية للدولة في ذلك الوقت، فاتجه للعمل في المسرح الذي كان جمهوره محدودًا ونوعيًّا وغير مرضٍ للكوميديان الشهير الذي فضل في النهاية الاتجاه للواقع الافتراضي للتواصل مع قطاع أوسع من الجماهير، في عام 2005م أنشأ مدونة باسمه – بالتعاون مع جيان روبرتو كازالدجيو المستشار في إستراتيجيات الويب – سرعان ما اجتذبت عدة آلاف من المعجبين الذين انتهى التفاعل بينهم في الواقع الافتراضي إلى تأسيس حركة سياسية حملت اسم النجوم الخمسة في عام 2009م، حيث ترمز كل نجمة إلى أحد هموم الواقع اليومي للإيطاليين اليوم وهو ما جعلها أكثر قربًا من المشكلات اليومية للإيطاليين، وأكسبها شعبية كبيرة، كانت نتائجها واضحة في الانتخابات الأخيرة، ويمكن إجمال اهتمامات الحركة، وفقًا لإستراتيجيتها منذ تأسيسها، في البيئة والطاقة النظيفة، وتحسين وسائل النقل العام إضافة إلى توسيع مساحة العالم الافتراضي الذي تعبر عنه من خلال شعار «الإنترنت مجانًا للجميع»، حيث تطالب الحركة بالربط المجاني لجميع الإيطاليين بشبكة الإنترنت.

تعامل المجتمع السياسي الإيطالي بسخرية شديدة مع الحركة إلى أن اكتسحت الانتخابات المحلية في إيطاليا في عام 2012م فمن دون أي وجود مادي فيزيائي للحركة خارج العالم الافتراضي نجحت الحركة في الحصول على 9 ملايين صوت يمثلون أكثر من ربع المقاعد في البرلمان يمارسون بوساطتها تأثيرًا كبيرًا في كل ما هو غير «افتراضي» في إيطاليا من داخل الواقع الافتراضي. اضطر المجتمع السياسي الإيطالي إلى الاعتراف بالحركة بعد أن حلت في المركز الثالث في الانتخابات البرلمانية في عام 2013م، هكذا تحول المدونة إلى الجريدة الرسمية للحركة والمقر الرئيس لها الذي تنعقد فيه الاجتماعات ويصوَّت فيه على القضايا المهمة وتُجرَى الانتخابات الداخلية، ويُختار مرشحو الحركة للاستحقاقات الانتخابية، كل هذا يحدث خارج الغرف المغلقة، في الفضاء الافتراضي المفتوح للجميع. هكذا وبعد الانتخابات الأخيرة أصبحت إيطاليا حالة نموذجية لهذا النوع من الديمقراطية «السائلة» كما يطلقون عليها، وهي تختلف عن الديمقراطية التمثيلية حيث لا سياسيين يمثلون الجماهير، فكل فرد يساوي نفسه، حتى مؤسس الحركة نفسه لا يتمتع إلا بامتياز امتلاك حقوق الملكية الفكرية لشعار الحركة والتمثيل القانوني للــمدونة.

البرنامج السياسي لحركة «خمس نجوم» معادٍ تمامًا للمنظومة السياسية في البلاد، ويحارب جميع الأحزاب التقليدية سواء كانت محسوبة على اليسار أو اليمين، ويرفع شعار التصدي للفساد في جميع القطاعات، والتعاطي بالصرامة الكافية مع جميع الملفات. وتراهن الحركة على السياسة التشاركية للمواطن في اتخاذ القرارات الكبرى التي تهم البلاد، وتدعو في هذا السياق إلى إجراء استفتاء بشأن بقاء إيطاليا في الاتحاد الأوربي. كما تلحّ على تقليص أجور المنتخَبين، وإعادة النظر في الدعم المقدم للأحزاب والمؤسسات الصحافية.

العدم المقدس

في ثلاثينيات القرن الماضي قدس اليابانيون هيروهيتو الإمبراطور الإله الذي قادهم إلى تحقيق نهضة اقتصادية وبناء قوة عسكرية مكنتهم من السيطرة على مساحات واسعة من العالم، بعد الهزيمة المخزية لليابان في الحرب احتفظ الإمبراطور بقداسته، إلا أنها كانت قد فقدت معناها ليس فقط لأن الإمبراطور قد تحول إلى مجرد ديكور، لكن لأن الإمبراطور الإله قد قاد شعبه إلى تدمير بلاد الآخرين قبل أن يدمر بلاده نفسها، هكذا بدأ اليابانيون يطلقون عليه اللاشيء المقدس. اللاشيء المقدس هي أفضل عبارة نصف بها الآليات والشروط التي تمارس بها قيم الحضارة الغربية اليوم، حيث تُفرَّغ هذه القيم من معناها رغم تقديس الجميع لها، مثل قيمة الحرية التي أصبحت لأوّل مرّة في التاريخ خبرة جماعيّة، حيث ينظر إلى الحرية اليوم على أنها انفتاح على المطلق، على المجهول، وهو ما يجعلها محاولة دؤوبة للانسلاخ من الواقع، لم يعد التحرر مجرد فعل يهدف إلى التخلص من القيود الاجتماعية أو السياسية أو القانونية، إنما سعي للانعتاق من كل روابط الماضي والحاضر، ليست الحرية إذن دفاعًا عن معنى نؤمن به للحياة، أو هوية نراها محدِّدة لوجودنا، الحرية اليوم هي التخلص من هذه الأشياء التي ترسم حدودًا للذات وتحدّ من الانفتاح على اللاشيء، على ذلك الذي لم نعرفه بعد، ومن ثم نحن عاجزون عن تسميته، ولماذا يجب أن ننشغل بالأسماء ونحن نعيش في عالم ما بعد الأسماء؛ ما بعد الحداثة، ما بعد الصناعة، ما بعد الكولونيالية، ما بعد التاريخ، وأخيرًا ما بعد الحقيقة!

هذه النزعة نحو اللاشيء يغذّيها على السواء الجناح الفكري السياسيّ اليساريّ الذي يرفع شعار «أنا مشرِّعٌ لنفسي»؛ وكذلك الجناح الفكري السياسي اليمينيّ الذي يختصر دفاعه عن الحرية في شعار «تتّسع حرّية كلّ امرئ بمقدار ما تتعدّد الخيارات المطروحة عليه» وبالطبع لا تتسع الخيارات من دون التحرر من التحيزات التي يتسع مفهومها ليشمل كل مفردات الذات والواقع الذي نعيش فيه، ومرة أخرى نحن لا نتحدث هنا على المستوى النظري إنما عن ممارسة يومية في حياة الأشخاص العاديين، فمثلًا سألت إحدى مدارس إقليم فينيتو وعاصمته مدينة فينسيا، أولياء أمور الطلاب؛ إذا كانوا يوافقون على خضوع أبنائهم لاختبارات تساعدهم على تعرف هويتهم الجنسية؛ وعندما سأل أحد أولياء الأمور عن المقصود بكلمة هوية، قيل له: نحن نُولَد ذكورًا وإناثًا، لكننا نكون رجالًا أو نساءً حسب اختيارنا، كما أن تعرُّف «الرجل» و«المرأة» وغيرهما ليست إلا مفاهيم ثقافية لدينا مطلق الحرية في قبولها أو رفضها. لست بصدد إصدار أي حكم أخلاقي هنا، لكني أرصد فقط هذا الفهم للحرية بوصفها «انفصالًا»، بوصفها حالة من الرفض الأوديبيّ ليس فقط للأب والتراث، إنما للواقع كذلك، ليصبح –في إطار هذه النزعة- الحديث عن تحقيق الذات مجرد انفتاح ساذج تجاه جديد مجهول، كثيرًا ما ينحدر باتجاه السخيف والمُنافي للعقل. إنّ حريّة مطلقة –أي منفصلة عن كلّ شيء– تنتهي بهذا الشكل إلى ذلك «الهراء السامي» الذي يتحدث عنه إيزكس. أو تنتهي، في شكلها الأدنى، إلى الاكتفاء بملذّات صغيرة متسلسلة تحاول أن تُشبع ذاتيّة لا أساس لها.

عندما وضع نيل أرمسترونج قدمه على القمر قال: «خطوة صغيرة لإنسان وقفزة هائلة للإنسانية»، تعكس هذه الجملة نوعًا ما الوحدة التي شعر بها أرمسترونج مع «الإنسانية»، هل ما زالت هذه الوحدة ممكنة؟ هل ما زال ممكنًا أن يجتمع «مطلق» الإنسانية و«نسبية» الفرد في فعل أو حدث أو نص أو شخص في ثقافة انفصلت عن ماضيها البعيد ومستقبلها القريب وانحصرت – انحسرت في غموض «ما بعد-ها»؟!

يعتقد «ما بعد الحداثيون» أنهم حرروا الإنسانية من أسر الثنائيات الفكرية مثل: الخير – الشر؛ الأنا – الآخر؛ الجسد- الروح؛ أو اليمين – اليسار، كما يبدو الأمر في حالة حركة النجوم الخمسة؛ لكنهم في الحقيقة لم يفعلوا إلا الانتقال من التقابل بين الثنائيات (وما يترتب عليه من القدرة على إصدار أحكام تعكس في مجموعها ثقافة وهوية وشخصية فردية – جماعية) إلى التساوي بين الثنائيات (وما يترتب عليه من عدم القدرة على إصدار الأحكام الذي يعني التوقف عن التفاعل مع الواقع وهو ما يؤدي بالهوية الفردية والجماعية إلى الانحلال). التقدم الملحوظ في كل استحقاق انتخابي للأحزاب الشعبوية – المعادل السياسي لثقافة البوب – يؤكد سوء مآل نضالات ما بعد الحداثة، فقد ناضلت ما بعد الحداثة ضد « إقصاء» الحداثة للآخر «المختلِف» بدعوى التفوق العرقي أو الثقافي ولكنها لم تجد طريقًا لهذا إلا «إقصاء» الاختلاف، الذي غيب الثقافة بشكل عام، وهو ما يدفع ثمنه في النهاية الجماعات والثقافات المهمشة مثل المهاجرين، حيث تراجعت دعوات إخراجهم من الهامش أمام الدعوات الشعبوية لإخراجهم من المجتمع.

أهم رموز حركة النجوم الخمسة الذين سيشاركون بنصيب الأسد في الحكومة الإيطالية المقبلة في حال النجاح في بناء ائتلاف لتشكيلها، ليسوا سياسيين ويفتخرون بأن علاقتهم بالسياسة مؤقتة، وهو ما يقابل بإعجاب من الجماهير التي سئمت من تلك المجموعة من العاطلين عن العمل الذين يديرون شؤون البلاد، ولعل جزءًا من هذا الإعجاب مرتبط بأننا نعيش في عالم أصبح فيه المؤقت مركزيًّا، نعيش حياة مؤقتة، وأعمالًا مؤقتة، وعلاقات مؤقتة، وزواجًا مؤقتًا، وسكنًا مؤقتًا، كل ما نستخدمه أيضًا في حياتنا اليومية أصبح مؤقتًا كالمناديل الورقية والأكياس والأكواب والملاعق البلاستيكية، لا شيء يحمل علامة، لا شيء يحمل معنى لأن كل شيء زائل، فقد تحول الانتباه الثقافي المعاصر من الكينونة أو الوجود في العالم إلى السيرورة أو العبور في العالم، إنه عالم العابر والمؤقت، نعم سقطت الأيديولوجية ولكن الخوف من الآخر يتزايد، تراجعت العدمية لكن الحياد السلبي من كل شيء قد حل محلها، فمصطلح «المابعد» الذي أشرت إليه سابقًا لا يعني إلا غياب القدرة على إضفاء المعنى على الحالة الإنسانية الراهنة.

إنّ المرحلة التي تمرّ بها المجتمعات المتقدمة المُنهكة اقتصاديًّا وسياسيًّا، وقبل كلّ شيء، روحيًّا؛ تتيح لنا أن نفهم بوضوح كان مستحيلًا حتّى بضع سنوات خلت «الغيابَ» الأساسَ الذي يخترق هذه المجتمعات، وهو غيابٌ ناتج عن «انعدام ثقة في الوجود» واسع الانتشار، علينا أن نفهمه كنتيجة للقضاء على مسألة «الحقيقة» حيث إنّنا لم نعرف كيف نتناولُها، فقرّرنا تجنّبها، أو توظيف غيابها وهو ما تجسد في ظاهرة «ما بعد الحقيقة» التي انتشرت لدرجة اختيار معجم أوكسفورد لها في عام 2016م بوصفها كلمة العام، أطلت ما بعد الحقيقة برأسها أول مرة عام 2008م بعد الأزمة الماليّة الكبيرة التي أظهرت ما يمكن أن تُعرِّضنا له ما بعد الحداثة من خطرِ خلقِ عالَمٍ وهميٍّ يصبح فيه الواقعُ أكثر فأكثر سطحيّة، ففي سياق نصل فيه للشكّ بتماسك الواقع فضلًا عن تماسك حياتنا ذاتها، لا ينبغي لنا أن نندهش إذا دارت تجاربنا الحياتية، على الصعيد الشخصي أو الجماعي، في حلقة مفرغة من الأوهام والشكوك والمخاوف.

الفرد يجوب عالم الوهم

إنّ هذا التركيز على الأنا يرتبط بالفقدان التدريجي لتماسك الواقع، حيث يسود ما دعاه دو سيرتو «نظام التكافؤ» حيث كلّ شيء، وقد اختُزل إلى مجرّد رأي، هو بالتعريف، ومن ثم يجب أن يبقى مساويًا لكلّ شيء آخر. إنّه نظام من دون عمق. وكلّما أصبح التأثير الذاتيّ على هذا الواقع السريع التغيّر مستحيلًا، انفتح المجال لانتشار نظامٍ تقنيٍّ متكاملٍ يشكِّل، في نهاية المطاف، آخِرَ ما تبقّى اليوم ممّا يمكننا أن نعدّه واقعيًّا، مجرد بيئة اصطناعية لممارسة الخبرات حيث يجوب الفرد عوالم الوهم متحررًا من قيود قوانين الطبيعة وقيود قوانين المجتمع، حيث يهيم الفرد من خلال التفاعلات الافتراضية، في عالم كوكبي عالمي، لا يتطلب منه الحضور الجسدي، فهو حاضر جسديًّا أمام الكمبيوتر، غائب اجتماعيًّا من سياقه الاجتماعي وعلاقاته التقليدية، إنه مجتمع نظام اقتصادي عصبُه الرئيسُ تكنولوجيا المعلومات ومنظومة الحاسبات والاتصالات، ومنتجُه الرئيس هو المعرفة، وموادُّه الأولية هي الموارد الذهنية، إنه مجتمع انفصمت فيه العلاقة بين الثقافة والمجتمع حيث انحلت الوسائط التقليدية التي كان يشد أحدهما الآخر وكان في مركزها دائمًا الفعل الاجتماعي، فوحدات التحليل التقليدية مثل الأسرة أو القبيلة أو الدولة أو الطبقة أو المهنة لم تعد بالضرورة وسيطًا نشيطًا في توضيح العلاقة بين ما هو ثقافي وما هو اجتماعي. على الجانب الآخر يرى جان بودريار أن أهم ملامح الانتقال من عالم الحداثة إلى عالم ما بعدها هو الانتقال من المعرفة إلى المعلومات، فالمعلومات على عكس المعرفة يمكن أن توجد مستقلة عن الخبرة الإنسانية، ونحن نشهد اليوم تحولًا جديدًا من تحولات المعرفة؛ وهو تحول المعلومات إلى محتوى يمكنه الوجود مستقلًّا عن الواقع، فإذا وضعنا في الحسبان أن 20 % من البشرية تتفاعل وتتواصل من خلال الفيسبوك ومادة التواصل يصل حجمها إلى 41 ألف منشور في الثانية، يعدُّها 71 % من الشباب (بين 18- 24 سنة) المصدر الرئيس للمعلومات والفن والأدب، لأدركنا حجم التهديد الذي يواجهه الواقع كما عرفناه.

يحتج بيل غيتس على هذا الخوف من التغيير، فقد تكون الهوية في العالم الافتراضي غير حقيقية لكنها هوية مختارة، إنها إحدى حقائق الذات التي يصدق عليها وصف الجرجاني في كتابه ذائع الصيت «التعريفات» حيث يقول عن الذات: إنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب!

لكن ماورو ماجاتتي عالم الاجتماع الإيطالي الشهير، لا يرى فيها إلا مرضًا تشخيصه واضح عندما نفكِّر بأوربا. فعجزها عن تقديمها مشروعًا لنفسها – مشروعًا ثقافيًّا أكثر منه سياسيًّا – ينجم، أساسيًّا، عن حقيقة أنّ اسمها (أوربا) لم يعد قادرًا على «تسميتها»، بمعنى أنّه لم يعد قادرًا على إدراك جوهرها، ومن ثم غير قادر على صياغة دعوتها لتبني طرحًا جيدًا يصل ماضيها بمستقبلها. فهذه الدعوة/ النداء لا يمكنها أن تسمع أو تتحقق إلا بامتلاك الواقع، فالحاضر هو حيث الماضي والمستقبل يلتقيان، لذلك تجد أوربا نفسها اليوم، في سياق ثقافي تهيمن عليه التعدّديّة الفوضويّة المتنافرة، مضطرة إلى أن تحيا فقط من خلال السوق والقواعد المجرّدة التي تمليها بيروقراطيّة بروكسل. والنتيجة خيبة أمل كبيرة تعرّض الوحدة الأوربيّة نفسها للخطر.