كيف أصبح العهد القديم كتابًا.. تدوين إسرائيل القديمة

كيف أصبح العهد القديم كتابًا.. تدوين إسرائيل القديمة

شَغَل العهد القديم المؤمنين به والقراء والباحثين والنقاد لآلاف السنين، فهو كتاب مقدس في كل من اليهودية والمسيحية، إلا أن أتباع الديانتين لم يتفقوا على حجمه ومضامينه وقبل ذلك على نصه الذي تكوَّن بشكل متطور على مدار تاريخ بني إسرائيل القديم من (الشفاهة) إلى (الكتابة)، لتثبيت نص التوراة فقط (أي أسفار موسى الخمسة وهي: التكوين، والخروج، والعدد، واللاويين، والتثنية) في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد وتدوينه كتابيًّا وهو الأمر الذي أخذ قرابة ثمانية قرون كاملة تقريبًا.

أما نص العهد القديم بكامل أقسامه وأسفاره فقد أخذ مرحلة تاريخية أكبر وأطول تُقدر بما يزيد على عشرة قرون كاملة تقريبًا، ولم يعتمد على الروايات الشفوية وحسب بل على مجموعة نصوص ومخطوطات كثيرة سواء بالعبرية أو بلغات أخرى، وساهمت فيه الكثير من أجيال الكتَبة والمترجمين.

يركز كتاب «كيف أصبح العهد القديم كتابًا؟… تدوين إسرائيل القديمة» من تأليف البروفيسور الأميركي ويليم م. شنيدويند أستاذ نقد العهد القديم بجامعة كاليفورنيا وترجمة الدكتور أحمد عبدالمقصود مدرس العهد القديم بجامعة القاهرة، وإصدار المركز القومي للترجمة بالقاهرة، على قضية التراث الشفاهي والكتابي للعهد القديم من خلال تتبع المراحل التي مر بها التراث الديني لبني إسرائيل بدءًا من مرحلة «الشفاهة» وصولًا إلى مرحلة «الكتابة». ومن ثم فإن الأهمية الرئيسة للكتاب تكمن في كونه يقدم وصفًا تاريخيًّا دقيقًا عن الكتابة عند بني إسرائيل في عصورهم القديمة وخلال مراحلها التاريخية المتتالية، وذلك من خلال الإجابة عن عدة تساؤلات؛ أبرزها: ما وظيفة (الكتابة) عند بني إسرائيل؟ وكيف انعكس الاهتمام المتزايد بالكتابة في إسرائيل القديمة على مسألة بناء العهد القديم وأدبه وتكوينه؟ وكيف ينظر العهد القديم نفسه إلى عملية تدوينه وانتقاله من الشفاهية ليكون نصًّا مكتوبًا؟، وكيف عبَّرت نصوصه عن ذلك؟ وما العلاقة بين التراث الشفوي والنص المكتوب عند بني إسرائيل؟

مَنْ كتب العهد القديم؟

مَن كَتبَ العهد القديم؟ هو سؤال ساحر وإشكالي في آن، إلا أن أهميته الحقيقية ليست في أن نعرف مؤلف العهد القديم لكن في معرفة متى كُتب العهد القديم؟ وبخاصة أن العهد القديم عبارة عن مجموعة من الكتب وليس نتاج مؤلف واحد، علاوة على أنه من الصعب تحديد إلى أي عصر ينتمي أي من نصوص العهد القديم وإلى أي مؤلف أو كاتب بالتحديد، بل إنه مقيد بتاريخ الشعب الذي كتبه، ثم قرأه، ثم تناقله، ثم أعاد كتابته، ثم أعاد قراءته من جديد، ومن ثم فإجابة السؤال ترتبط أكثر بالعصر الذي جُمِّعَ فيه التراثُ القديم وكتابته وتحريره، ثم إعادة كتابته إلى أن جُمع في النهاية في كتاب واحد سُمي العهد القديم.

لم يكتسب هذا السؤال أهميته إلا بعد ظهور الحضارة اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد، أي بعد كتابة معظم أسفار العهد القديم؛ إذ لم يكن ذلك السؤال مثار اهتمام في العالم السامي القديم، كما أن اللغة العبرية القديمة لا تعرف لفظًا واحدًا بمعنى (مؤلف) وأقرب لفظ لذلك هو סופר الذي يعني كاتبًا وليس مؤلفًا، ويشير كذلك إلى هيمنة الثقافة المكتوبة، رغم أن المجتمع الإسرائيلي القديم كان شفاهيًّا، ومع ظهور الحضارة الهيلينية وسيادة اللغة اليونانية ظهر مفهوم جديد هو (التأليف) وأصبح أي نص مكتوب مرتبطًا من ناحية مكانته وقيمته بمؤلفه، وكان من الطبيعي أن يشعر التراث الديني اليهودي بالاضطرار إلى إيجاد مؤلفين. وسُجلت أولى المحاولات لذلك في لفائف البحر الميت التوراتية التي اكتُشفت عام 1947م، وكان ملحوظًا فيها إحلال ضمير المتكلم (أنا)، محل ضمير الغائب (هو) الذي تحدث به موسى إلى ربه؛ وذلك لإظهار الإله على أنه مؤلف النص.

وعلى العكس من ذلك، فإن العهد القديم لا يُبدي أي اهتمام بتحديد هُوية مؤلفه، وهو ما مثَّل إزعاجًا للقراء اليهود الذين عاشوا في العصر الهيليني؛ إذ كانت شرعية النصوص ترتبط بمؤلفها، وهو ما أدى إلى ظهور بعض التفسيرات الخاصة بأن بعض الأسفار تُنسب لمن تحمل أسماءهم مثل أسفار صموئيل وأشعياء وأرميا. ثم بدأت تظهر في العصر الحديث فكرة أو نظرية مصادر التوراة على يد يوليوس فلهاوزن (1844-1918م) -أحد أشهر المتخصصين في مجال النقد الأعلى للعهد القديم وأكثرهم تأثيرًا في هذا المجال- الذي حاول أن يبرهن على نسبتها إلى مصدرين أساسيين هما اليهوي والإلوهيمي، ثم ظهور مصدرين آخرين بعد السبي البابلي وهما التثنوي والكهنوتي.

وخلال القرن الماضي، سيطرت نظريات النقد المصدري تلك على مجال دراسات العهد القديم، رغم معارضة المتدينين اليهود لها لأنها تُضعف من مكانة نص العهد القديم في قلوب المؤمنين به، علاوة على صعوبة تطبيق هذه النظريات على العهد القديم نظرًا لأنه لم يكن يهتم بمسألة من هو مؤلف نصوصه؛ إذ إن هوية المؤلف لم تكن أمرًا مُلِحًّا يؤثر في مكانة الرسالة الدينية أو معنى النص.

بدايات الكتابة

كانت للكتابة قوة رُوحية في المجتمعات التي لم تتعلم الكتابة بعد في منطقة الشرق الأدنى القديم، فقد كانت الكتابة في بادئ الأمر وسيلة لإحداث الرهبة الدينية ووُصِفتْ بأنها تمنح البركة الإلهية، ووصفت في التراث الديني اليهودي القديم بأنها أداة إلهية لبقاء الكون، واحتل (الاسم المكتوب) تحديدًا مكانة جوهرية في الفكر الديني اليهودي، فقد كان تغيير اسم الشخص وتعليله أو تفسيره من الأساطير المهمة التي وردت في التوراة والتي تمحور حولها الكثير من الرؤى والعقائد؛ مثال: أسطورة تغيير اسم يعقوب إلى إسرائيل الواردة في سفر التكوين 32/24-38.

وصلت الطبيعة الروحية للكتابة إلى ذروتها عندما أُعطِيَ موسى لوحي الكتابة على جبل سيناء، اللذين وُصفا في التوراة بأنهما (كُتبا بإصبع الإله) وهو الأمر الذي منحهما قوة سحرية استثنائية، رغم أن المجتمع الإسرائيلي القديم كان بدائيًّا وبدويًّا، ووُصف في العهد القديم نفسه بأنه (نصف بدوي) سيطرت عليه حياة الرعاة الرُّحَّل، ومن ثم كان من اللافت للنظر أن اللغة العبرية لا يوجد بها فعل مستقلّ يعني (يقرأ) بل إن الفعل العبري (קרא) يعني ينادي أو يعلن، ولم يكن في إسرائيل القديمة يستخدم بمعنى القراءة.

كما أن بدايات أدب العهد القديم تضمنت أناشيد كان الشعب يغنيها، إلا أنها كانت تنتمي إلى (الأدب الشفوي) وتناقلها بنو إسرائيل ومن ضمنها أنشودة عُرفت باسم ( أنشودة موسى) التي لا تزال تُتلى كجزء من الخدمة الصباحية في المعابد اليهودية، والتي تعد من أقدم النماذج الشعرية في أدب العهد القديم، ويؤرخ لها ببدايات القرن الثالث عشر قبل الميلاد.

مع مرور الوقت بدأت هذه الأناشيد وغيرها في التطور، وظهر من يعرفون بـ( كُتَّاب بني إسرائيل الأوائل) بعد استيطان بني إسرائيل أرضَ كنعان؛ لذلك فإن أسلوب الكتابة لديهم ظهر متأثرًا بالثقافة الكنعانية الزراعية، وبدت الكتابة في إسرائيل القديمة خليطًا من الثقافة البدوية البدائية والثقافة الكنعانية المتمدنة، علاوة على عدم خلوها من التأثيرات المصرية الفرعونية القديمة.

كان لظهور الإمبراطورية الآشورية أثرًا بالغًا في البدايات الأولى للكتابة عند بني إسرائيل، بل إن العهد القديم بدأ يتكون كتابيًّا خلال هذه الحقبة، فهذه الإمبراطورية اهتمت بشكل بالغ بالكتابة والتسجيل والتدوين، واحتلت مناطق واسعة من الشرق الأدني القديم، ومنها مناطق يعيش فيها بنو إسرائيل، ونقلوا إليهم (مهارة الكتابة) التي استخدمت في أوساط اجتماعية مختلفة؛ من ضمنها -بطبيعة الحال- طبقة الكهنة. ومن ثم فإن انتشار الكتابة في مملكة يهودا في القرن الثامن عشر قبل الميلاد لم يكن ظاهرة خاصة بهذه المملكة وحدها بل جزءًا من توجه أكبر في الشرق الأدنى القديم ارتبط بتوسع الإمبراطورية الآشورية.

في مرحلة لاحقة، ظهر من سموا بـ(الأنبياء الكتبة) وهم أشعيا وميخا وعاموس وهوشع، والغريب أنهم لم يكتبوا أي شيء، فقد أمرهم الله بالحديث وليس الكتابة، لكن أطلقت عليهم هذه التسمية؛ لأنه أُضيفت إلى أسفارهم داخل العهد القديم إضافات تحريرية تجمع كلمات الوحي المُنَزَّل عليهم، وهو الأمر الذي أسهم في التأريخ لزمن هؤلاء الأنبياء؛ إذ تعكس الإشارات القليلة للفعل العبري (כתב كتب) في سفر أشعيا 1-39، كيف أن الكتابة في هذه الحقبة كانت لها قوة سحرية، وكانت أداة لبلاط الملك عند بني إسرائيل وإدارته؛ فاستُخدمت في إطار تسجيل أحداث الحروب والحديث عن الناجين منها.

كما حدث عند بني إسرائيل القدماء وتحديدًا في عصر الملك يوشيا، وهو ما يمكن تسميته بـ(ثورة النص)؛ إذ بدت الحاجة ماسَّة في عصره لمعرفة القراءة والكتابة بسبب وجود نهضة أدبية انعكست على ثورة النص، وفي عصره انتقلت الكتابة من أيدي طبقات اجتماعية عليا مثل الكهنة إلى أيدي عامة الناس، وانتشرت خارج نطاق الأعمال الإدارية للحكومة.

وقد تزامن مع هذه الثورة التحول إلى المدنية في عموم بني إسرائيل الذين تحولوا من مجتمع بدوي إلى مجتمع زراعي/ حضاري يتصف بالتمدُّن إلى حد ما، وهو ما أدى إلى تطور الكتابة بحكم الضرورة العملية للحياة والاحتياجات اليومية سواء التجارية أو الإدارية، كما بدأ تعلم الكتابة بحكم المنافع التي يمكن أن تؤديها، ويعد العدد الضخم من الأختام الشمعية المكتوبة بالعبرية التي تعود لهذه الحقبة دليلًا على مدى انتشار الكتابة.

كان انتشار الكتابة في هذه الحقبة ومعها الإحساس بقيمة الكتابة وأصالة مكانتها نتيجةً طبيعيةً لتطور الوضع السياسي، إلا أن ذلك أظهر تبايناتٍ اجتماعيةً نتيجة ذلك الصراع بين مجتمع البدو ومجتمع المدينة داخل مجتمع بني إسرائيل، وهو الأمر الذي أدى إلى إدخال تعديلات كتابية على سفر التثنية لتوضيح مركزية الكتابة وأهميتهما والتخلص من أثر العبادات الأجنبية، مما أدى إلى إبراز سلطة النص الديني، على نحو جعل من الوضع الاجتماعي لدى بني إسرائيل خلال هذه الحقبة أكثر ملاءمة للكتابة؛ إذ لم تعد مكانتها مقتصرة على أوامر البلاط الملكي، بل تحولت إلى أداة للفهم الديني العميق، وهو ما مكَّن النص المكتوب من الانتشار على نحو واسع.

وقد تجلَّت ثورة الكتابة خلال هذه الحقبة في أنها جعلت السلطة المرجعية تنتقل من التراث والجماعة التي وضعته إلى النص وقارئه، فلم يعد الأمر كذلك في حاجة إلى الصوت الحي، بل إلى طرائق تعليم تقليدية وبِنى اجتماعية للمعرفة، وتحولت المرجعية الدينية في المجتمع من التراث الشفوي للآباء والشيوخ إلى جيل يكتب ويحمل مفاتيح الحكمة والمعرفة، فاحتلت النصوص المكتوبة محل الحكمة التراثية الشفاهية التي ترتكز حول الجماعة، وأصبحت شريعة (توراة) الرب تشير إلى نص مكتوب وليس لحكمة ترتبط بالتراث الشفوي للجماعة وكلام الأنبياء الذي يبلغونه للناس.

اتسمت العلاقة بين التراث الشفوي والنص المكتوب بالاتصال والتعارض في آن واحد، فقد اعتادت المجتمعات التقليدية في منطقة الشرق الأدنى القديم على الاعتماد على التراث الشفوي، ومع ظهور النصوص المكتوبة صار هناك تحدٍّ وصل إلى حد استئصال مصادر الحكمة التراثية، لكن النص المكتوب تمكن في النهاية من أن يحلّ محلّ الأنبياء والتراث الشفوي، وأصبحت (كلمة الرب) مرتبطة بالنص المكتوب أكثر من ارتباطها بالخطاب الشفوي للأنبياء. إلا أن ذلك لم يكن معناه انتهاء الصراع بين التراثين الشفوي والمكتوب، بل إنه استمر ولعب دورًا مهمًّا في الديانة اليهودية خلال مراحل لاحقة.

النص المكتوب

تعد عملية كتابة أسفار التوراة الخمسة مثالًا جليًّا على تدوين الديانة الإسرائيلية القديمة وكتابتها، وفي هذا الصدد نحن أمام موقفين متباينين، فحينما ننظر إلى سفر الخروج؛ الإصحاحات 19-23 تحديدًا، نلحظ عدم الاهتمام بأن يكون العهد القديم نصًّا مدونًا، لكننا سنجد العكس حينما ننظر إلى سفر التثنية؛ إذ يجعل السفر من عملية التدوين جزءًا حيويًّا من الوحي.

كما يعد موسى -عليه السلام- هو الشخصية الرئيسة في عملية تدوين التوراة وكتابتها؛ إذ ترتبط عملية تدوين التوراة وفقًا لتاريخ النصوص الأدبية بدور موسى في عملية الوحي، فموسى هو مُخلّص بني إسرائيل في المقام الأول، وثانيًا هو من كان يتلقى الوحي ويتحدث باسمه على جبل سيناء وهو من يتلقى الألواح الحجرية، وفي نهاية الأمر يتطور دور موسى ليصبح مؤلفًا للديانة اليهودية ومرجعية لها، وظلت الكتابات والتراث المنسوب لموسى يتسع محتواه حتى أصبح الحديث عن كتابته للتوراة كلها، وظل يهود العصر اليوناني بين 300 ق.م و300 م يكتبون أسفارًا مثل سفر اليوبيلات وينسبونها لموسى انتحالًا، وخلال الحقبة التي أعقبت دمار الهيكل الثاني 70م جمع بعض الحاخامات أمثال عقيبا ويهودا الناسي التراثَ التشريعيَّ الشفويَّ في مجموعة كتابات عُرفت باسم المشنا والتوسفاتا والتلمود، وهذه الأعمال جميعها نالت مرجعيتها وسلطتها نتيجة نسبتها لموسى، ونقلها عنه يشوع، ونقلها يشوع إلى الشيوخ، ونقلها الشيوخ إلى الأنبياء، ونقلها الأنبياء إلى رجال أو حاخامات المجمع الكبير (السِّنْهدرين).

أما المشهد التوراتي الذي يصور موسى ممسكًا بالوصايا العشر مكتوبة على اللوحين الحجرين ، فهو من إنتاج سفر التثنية الذي تعني تسميته بـ Deuteronomy في الإنجليزية Second law الشريعة الثانية، والذي يتضمن خطب موسى إلى بني إسرائيل قبل أن يعبروا نهر الأردن متوجهين إلى أرض كنان، وتشتمل هذه الخطب على تكرار مسهب لقصة وحي سيناء متضمنًا نسخة متطورة من الشريعة التي أصبحت (مدونة)؛ إذ تكررت الإشارة إلى مسألة الكتابة مرارًا في سفر التثنية، فيظهر من مطالعة سفر التثنية امتزاج الشفوي مع المكتوب، بشكل جعل من الوحي الإلهي نصًّا مكتوبًا.

يحيلنا سفر التثنية إلى عملية تدوين التوراة، التي كانت عملية متواصلة؛ إذ بدت الكتابة عنصرًا مهمًّا من عناصر الوحي، وهو ما يدل عليه (لفيفة المعبد) التي وُجدت ضمن النقوش المكتشفة في لفائف البحر الميت، وكُتبت على أيدي إحدى الفرق الدينية التي سكنت منطقة خِربة قمران منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، وتتشابه محتوياتها مع سفر التثنية رغم تغيير بارز في صيغ الفعل وطرائق التعبير.

مع ذلك فإن علمية التدوين كانت أكثر تعقيدًا من أن تكون مجرد تطور قائم على التوالي الزمني، وهي ليست عملية خط زمني بسيطة، فدور النص والتراث الشفوي عند بني إسرائيل قديمًا وفي مرحلة اليهودية التكوينية كان دورًا معقَّدًا، إضافة إلى دور العلاقة المتوترة بين التراث الشفوي اليهودي وبين الشريعة المكتوبة، وهو ما يعكس الخلفيات الاجتماعية المختلفة للجماعات والبيئات المختلفة في التاريخ الإسرائيلي القديم وفي مرحلة اليهودية التكوينية.

وكانت إصلاحات الملك يوشيا على سفر التثنية ثورية جدًّا ضد نخب المدينة والكهنة، وانتقلت مرحلة تدوين التوراة من (قلم الكتبة الكاذب) إلى (قلم الشعب والعوام)، ومن ناحية أخرى كان التراث الشفوي وكلمات أنبياء بني إسرائيل يرحب بها على أساس أنها الحكمة الحقيقية وأنها مرجعية دينية لا يمكن تجاهلها، وبشكل طبيعي اكتملت النصوص المكتوبة لتحل في النهاية مكان التراث الشفوي.

كما كان السَّبْيُ البابلي 586 قبل الميلاد، حدثًا فاصلًا في تاريخ تدوين ديانة بين إسرائيل؛ إذ ظهرت الحاجة المُلِحَّة لـ(الكتابة) كاستجابة طبيعية لمحاولة حفظ تراث الجماعة الإسرائيلية، وظهر في أدب العهد القديم ما سُمِّي بـ(معجم الصدمة)، الذي يعني تلك المصطلحات التي استُخدِمت في وصف السَّبْيِ البابلي مثل ( מוסרה أي قيد أو رابط)، وهي كلمات استخدمت كاستعارات على السجن والعبودية، وأُضيف إليها استعارات تتعلق بالعبودية في مصر كاستعارة تاريخية مهمة عن تجربة المَسْبِيِّينَ في بابل.

وتعد قصة سفر أرميا من أغرب القصص في تاريخ تدوين العهد القديم، فنحن أساسًا لدينا سفران مختلفان لأرميا؛ فهناك سفر أرميا غير القانوني الذي اكتمل قبل السَّبْيِ البابلي الثالث لمملكة يهودا عام 582 قبل الميلاد، وجاء التلميح إليه داخل سفر أرميا القانوني نفسه؛ إذ إن سفر أرميا القانوني نفسه جاء تحريره مرتين، فتعرض بذلك إلى مصدرين مختلفين، وهو ما يمكن أن يرشدنا إلى فهم موضوع تكوين العهد القديم وتدوينه خلال السبي البابلي؛ إذ يُظهر اختلاف ترتيب الإصحاحات في نسخ مختلفة من هذا السفر ولا سيما النسخة اليونانية ونسخة الترجمة السبعينية منه، أن النصف الأول من السفر يعود لحقبة ما قبل السبي، أما النصف الثاني أي ما بعد الإصحاح 25 منه يعود لحقبة بعد السبي البابلي، ولذلك كان ترتيب النصف الثاني مختلفًا تمامًا، رغم أن محتوى الوحي والنبوءات يتطابق إلى حد بعيد.

أما في العصر الفارسي، فإنه في الوقت الذي أصبحت فيه العبرية لغة هامشية بذلك العصر؛ ازدادت الكتابة نفسها أهميتها، وهو ما أثَّر في أدب العهد القديم الذي دُوّن في حدود الإمبراطورية الفارسية علاوة على تأثير الآرامية وهو ما ظهر في سفري عزرا ونحميا؛ إذ قُدمت بهما (الكلمة المكتوبة) كمفهوم مركزي في الفهم الديني.

النص النهائي

أثبتت الشواهد الأثرية أن الكتابة لعبت دورًا كبيرًا في تدوين أدب العهد القديم، كما أن ذلك ظهر داخل نصوص العهد القديم نفسه وتحديدًا من خلال تطور الوعي بأهمية الكلمة المكتوبة في روايات العهد القديم تحديدًا من خلال إصلاحات الملك يوشيا نهاية القرن السابع قبل الميلاد.

وقد كان هناك مدّ وجزر بين التراث الشفهي والنصوص المقدسة التي بدأت مع إصلاحات يوشيا، ومرت الكلمة المكتوبة بطرق صعبة لتصل إلى حالتها النهائية التي وصلتنا على شكل كتاب مقدس ونص نهائي، وثمة قضيتان شَكَّلَتَا هذا الطريق؛ الأولى هي ما حدث من شد وجذب بين الشفاهية والكتابة، أما الثانية فهي التنافس الذي حدث بين الشفاهة وتدوين النصوص في مفترق طرق، وكان طريق الشفاهية هو الأطول.

مع وقوع السبي الروماني لليهود عام 70 ميلادية، تراجعت قوة الكهنة والنخب الاجتماعية، واختفت بعض الفرق الدينية اليهودية التي كانت تمثل سلطة النص، ومع دمار اليهكل على أيدي الرومان عادت مرة أخرى سلطة الكلمة الشفاهية لتأكيد نفسها من جديد.

ولما ظهرت المسيحية تصارعت معها اليهودية التقليدية (الحاخامية)، وهو الأمر الذي أدى إلى زيادة سلطة النص المكتوب للعهد القديم مع الإقرار كذلك بمرجعية التراث الشفوي، غير أن المسيحية تحديدًا أقرَّت بسلطة النص المكتوب أكثر، لتنجذب إليها اليهودية التي وضعت تراثها الشفوي في ثوب مكتوب وظهر على شكل (التلمود).

تاريخ أدب بني إسرائيل وبدايات الأدب اليهودي

تاريخ أدب بني إسرائيل وبدايات الأدب اليهودي

يُقسّم المتخصصون الأدب اليهودي أو أدب بني إسرائيل إلى ثلاث مراحل كبرى؛ الأولى: المرحلة القديمة أو مرحلة أدب العهد القديم، وهي مرحلة «دينية» بحتة لا يوجد فيها أي أدب «دنيوي»؛ إذ ظهرت فيها الكتابات الدينية اليهودية المقدسة وحسب، سواء داخل العهد القديم أو خارجه. أما المرحلة الثانية: فهي المرحلة الوسيطة، وقد تنوعت ما بين الأدب «الديني» والأدب «الدنيوي» اليهودي، وشهدت أزهى إنتاج أدبي يهودي في كنف الحضارة الإسلامية بالأندلس، لدرجة أن الكتابات اليهودية تطلق عليها مرحلة «العصر الذهبي للأدب والفكر اليهودي». في حين أن المرحلة الثالثة والأخيرة هي المرحلة الحديثة والمعاصرة، وكان الأدب اليهودي فيها «دنيويًّا» في معظمه وتخلله القليل من الأدب «الديني».

يركز كتاب «تاريخ أدب بني إسرائيل وبدايات الأدب اليهودي» تأليف جيورج فورر وترجمة أحمد هويدي وصدر عن وزارة الثقافة المصرية (2018م) على المرحلة الأولى من مراحل الأدب اليهودي، لذلك فإنه يؤرخ ويعرض بالتفصيل للأجناس والأنواع الأدبية في العهد القديم وهو الكتاب اليهودي المقدس الرئيس، كما يتعرض لمراحل تكون هذه الأنواع والأجناس الأدبية، والبيئات التاريخية والثقافية والأدبية المختلفة التي نشأت فيها سواء داخل العهد القديم أو خارجه. فهو يعد وصفًا دقيقًا ونقديًّا لتاريخ أدب بني إسرائيل (اليهودي) المبكر.

تكمن الأهمية الرئيسة للكتاب، في كونه محاولة لتقديم صورة دقيقة ومن منظور قريب عن العهد القديم (كتاب اليهود المقدس)، بشكل يُقرِّب القارئ من عالم هذا الكتاب الذي استمر تدوينه لأكثر من 30 قرنًا من الزمان، وكذلك توضيح صورة ذلك الأدب الديني اليهودي الذي صاحبه، واستمر تدوينه لمدة تقارب من 3 قرون، وهو ما سُمِّي بالأسفار المنحولة أو أدب الأبوكريفا.

وقبل الولوج لعرض الكتاب، تجدر الإشارة إلى أن مادة العهد القديم تنوعت بين مادة أساسية مصدرها الوحي الإلهي ومادة أخرى (إنسانية) هدفت إلى شرح مادة الوحي أو تفسيرها، ونظرًا لطول مدة تدوين العهد القديم وعدم تثبيتها، فقد أدى ذلك لدخول هذه المادة الإنسانية إلى المادة الأصلية واختلاطها بها، وهو ما أدى إلى تعدد مصادر العهد القديم وتنوع المواد والأجناس الأدبية به، فأصبحت معه مادة العهد القديم في العصر الحديث محط اهتمام المؤرخين والأدباء والنقاد، بشكل أدى إلى تطور اتجاهات ومدارس نقدية مختلفة للعهد القديم، منها العلمي والديني والتاريخي والأدبي، وهو ما نتج عنه في النهاية ما يعرف بـ«نظرية المصادر الإنسانية للعهد القديم»، التي طوَّرها المستشرق الألماني الشهير يوليوس فلهاوزن مؤسس علم نقد الكتاب المقدس. في ضوء ما سبق، فإن هذا الكتاب الذي نعرض له يتعرض بالتفصيل لـ«الطبيعة المتنوعة للعهد القديم»، الذي اشتمل مادة أدبية واسعة غطت مجالات عدة ما بين دينية وتاريخية وأدبية. وهو ما نحاول إجماله هنا، وذلك على النحو الآتي:

أولًا- الإشكاليات والخلفيات

هناك إشكاليات أو قضايا تعترض المؤرخ أو الباحث في مجال الأدب اليهودي، وعلى رأسها الإشكالية «الأدبية»، وهي القضايا التي بُحثت بعمق فيما يُسمَّى بـ«علم مدخل العهد القديم»، وهو العلم الذي يبحث نشأة أسفار العهد القديم، وتوارثها في إطار أدب الشرق الأدنى القديم، بداية من الموروث الشفهي لهذه الأسفار حتى إقرارها نهائيًّا لتصبح «قانونية» في كتب أو أسفار داخل العهد القديم، ثم التحديد النهائي لشكل النص المكتوبة به. في هذا الصدد، تظهر إشكالية عدم وجود نص أصلي للعهد القديم؛ إذ إن المستخدَم هو نص جرى تعديله وتثبيته ووضعه بالتدريج منذ عام 1000 قبل الميلاد، وتكون هذا النص من عملية طويلة بوصفه نصًّا وحيدًا وملزمًا. إضافة إلى أن النص تألف في البداية من حروف صامتة وبمرور الزمن أضيفت له بعض الإضافات التي تدل على الحركات، وبداية من القرن الخامس قبل الميلاد عندما لم تعد العبرية لغة تخاطب، صار تقليد نطق نص العهد القديم من الكتاب المقدس ضعيفًا، وبعد قرون عدة سُجِّلت حركات بوساطة رموز خاصة فوق الحروف الصامتة وأسفلها.

الإشكالية الثانية هي الإشكالية «العلمية»؛ إذ  يرى المتخصصون أن التأريخ للأدب الإسرائيلي أمر محال؛ لأسباب علمية عدة أولها أن نص العهد القديم ظل حتى القرن 6 ق م شفويًّا، ولم يُصَغْ في صورة مكتوبة بشكل محكم إلا بعد مدة طويلة؛ وهو ما جعل عملية البحث والتأريخ الأدبي له كموروث شفهي أمرًا بالغ الصعوبة. في ضوء ما سبق، فإن الأدب داخل العهد القديم لا يمثل أدب بني إسرائيل بل «بقايا الموروث الشفهي لهذا الأدب»، الذي حاول العلماء تجميعه في وحدات أدبية متنوعة ومتماسكة، رغم أن هذا الأدب ينتمي (زمنيًّا) لحقبة تمتد لألف عام، وينتمي (مكانيًّا) إلى مناطق عدة ولهجات مختلفة. وقامت مجموعة من البشر ذات لهجة آرامية بمعالجة هذا الأدب. أما خلفيات أدب بني إسرائيل، فلا شك أن أبرزها وأولها هي خلفية أدب الشرق الأدنى القديم، الذي تتشابه معه بشكل جوهري أشكال التعبير والأنماط الأدبية المستخدمة في العهد القديم؛ إذ توافرت بهذا الأدب الموضوعات والموروثات الأدبية للشرق الأدنى القديم، لكن تحت تأثير مضامين ديانة بني إسرائيل.

من أبرز الأمثلة على تأثير أدب الشرق الأدنى القديم في أدب بني إسرائيل، تلك الأشكال «السردية» الموجودة داخل العهد القديم، التي جاءت على شكل الملحمة والأسطورة، وتنحدر من الأدب «السومري» تحديدًا، الذي كان سائدًا حتى الألف الثالثة قبل الميلاد في منطقة بلاد الرافدين، وكذلك الأدب المصري القديم الذي تضمن كثيرًا من الأساطير المُضمَّنة في الطقوس والترانيم وأقوال السحر.

وكذلك شكل «التقرير»؛ إذ يشكل التسلسل الزمني لقوائم الملوك في بلاد الرافدين، منهج إعداد التقارير في العهد القديم، الذي كان منتشرًا في أدب الأشوريين وحولياتهم، إضافة إلى «الحيثيين» الذين أنجزوا أعمالًا ضخمة في مجال «التقرير» وبخاصة حول الملوك.

ثانيًا- مرحلة التأسيس وما قبل الدولة

يبدأ تاريخ أدب بني إسرائيل بحقبة ما قبل تأسيس الملكية في بلاد كنعان، التي شملت موروثات أدبية لعصر آباء بني إسرائيل مثل: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، عليهم السلام، وكذلك موروثات تعود إلى عصر موسى، عليه السلام، إضافة إلى حكايات القضاة. وتتشكل نشأة أدب بني إسرائيل من نقطة أن موسى عليه السلام هو مؤلف الأسفار الخمسة للتوراة، وهي المعلومة التي أثبت الواقع خطأها، فالأسفار الخمسة أعمال أدبية مجهولة المؤلف، إلا أن محتواها يعود لموسى عليه السلام، وتوجد بعض الأجزاء مستوحاة منه، التي تشكلت في البداية على شكل موروثات شفوية. كما شهدت هذه المرحلة ظهور عدد من الملاحم والأساطير، وذلك بشكل جلي في سِفرَيِ التكوين والخروج، وتنوعت ما بين الملحمة المكانية والأسطورة المقدسة، وأسطورة العادة والملحمة العشائرية، والملحمة البطولية، وكان بعضها كنعانيَّ الأصل. كما ظهرت في هذه المرحلة أقدم صياغة لعددٍ من القوانين والأحكام القضائية وذلك في سفر القضاة، إضافة إلى قوائم الأنساب التي تحصي أسلاف إسرائيل، وتستند لفكرة النسب التي كانت سائدة عند البدو الرُّحَّل.

ثالثًا- الحقبة الملكية

تقسم الحقبة الملكية في تاريخ بني إسرئيل إلى ثلاث مراحل، وهي: أ- المبكرة. ب- الوسيطة. ج– المتأخرة. وهو التقسيم نفسه الذي اتبعه مؤلف هذا الكتاب في تأريخه لأدب بني إسرائيل في هذه الحقبة. ونبدأ بالمرحلة المبكرة من حقبة الملكية في تاريخ بني إسرائيل (1030- 930 ق.م)، فقد أدى ضعف القوى العسكرية بالشرق الأدنى القديم لإنشاء مملكة بني إسرائيل في أرض كنعان، وهو ما أدى إلى نشوء أدبي ديني مبني على عقيدة بني إسرائيل، تبعه ازدهار روحي وثقافي لبني إسرائيل، وقد أطلق عليه اسم عصر «التنوير السُّليماني» نسبة إلى سليمان عليه السلام، الذي كان أقوى ملوك بني إسرائيل في هذه الحقبة؛ إذ شهدت هذه الحقبة أعمالًا أدبية دُوِّنت كتابةً من دون أية معالجة، ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن أسفار المزامير والأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد المنسوبة لداود وسليمان عليهما السلام، لم تكن من تأليفهما رغم نسبتها إليهما، إلا أنها عبارة عن مجموعة من الأمثال والحكم التي تنتمي للثقافة الإسرائيلية ولغيرها من الآداب الشرقية.

أما المرحلة الثانية وهي «الملكية الوسيطة» ( 930 إلى 700 ق. م)، فقد شهدت انقسام مملكة بني إسرائيل بعد وفاة سليمان عليه السلام، إلى مملكة شمالية ومملكة جنوبية، وعلى الرغم من ذلك الضعف السياسي، فإن هذه المرحلة شهدت توسعًا أدبيًّا كبيرًا، نشأت فيه كثير من الحكايات الأدبية عن التاريخ المبكر لبني إسرائيل.

ظهر في هذه المرحلة كذلك، عدد من الحكايات الأدبية التي تتناول بالنقاش والنقد عصر الملكية المبكر، وهي الحكايات التي ضُمِّنت سفري صموئيل الأول والثاني في شكل «رؤى»، وجرى من خلالها الفكر النبوي والكهنوتي. كما ظهرت أيضًا نبوءة ناثان التي ضُمِّنت سفر صموئيل الثاني، وتحكي عن بطل يهودي رفض بناء المعبد قبل عصر داود في أرض كنعان، كما دُوِّن كذلك عدد غير قليل من الأحداث المعاصرة للبلاط الملكي لنقلها إلى الأجيال اللاحقة في عصر سليمان. كما شهدت هذه المرحلة ظهور المكون الأساسي لسفر التثنية في شكله الحالي، الذي تظهر فيه بوضوح علاقته الوثيقة مع ما يسمى سفر العهد، وهو أحد الأسفار القانونية التي ضُمِّنت سفر التثنية في حقبة متأخرة، ويظهر أنه – أي سفر العهد- بمنزلة تحسين للوضع القانوني لسفر التثنية.

شهدت هذه المرحلة أيضًا تطورًا مهمًّا في شكل الأنواع الأدبية لبني إسرائيل، تمثل في ظهور ما يعرف بـ«أسلوب نشوة الانفعال»، الذي استخدمه الرواة الإسرائيليون ولا سيما في بلاط ملوك بني إسرائيل في النصف الأول من عصر المملكة الوسيط، وهو ما يحيلنا إلى الأشكال الأدبية الانتقالية للنبوءات في هذا العصر، وقد ضُمِّنت في حكايات سفري الملوك الأول والثاني، كذلك يظهر في الموروث الأدبي الإسرائيلي عن النبي إيليا الذي تبلور في شكل أساطير وطُرف.

أما المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة الملكية المتأخرة ( 700 إلى 590 ق م)، فقد اتسمت بالجمود الأدبي؛ إذ لم تكن هناك أية أنشطة أدبية لمدة سبعة عقود تقريبًا، باستثناء بعض التحرير الأدبي لسفر التثنية، الذي تمثَّلَ في إبعاد ما يُعرَف بسفر العهد من موضعه وشبكه مع حكاية سيناء داخل سفر التثنية، وأُقحِمت مذكرة سفر العهد حول رعب الشعب أمام الرب وتقدم موسى أمامه.

رابعًا- حقبة النفي (الشتات)

تناول مؤلف الكتاب التغييرات الأدبية التي شهدها الأدب اليهودي في حقبة السبي التي مر بها بنو إسرائيل على مر تاريخهم، وذلك على النحو الآتي:

أ- النفي البابلي: وبدأ يظهر فيها «الشعر» بوصفه نوعًا أدبيًّا جديدًا، وتحديدًا في سفر المراثي الذي ضم خمسة أناشيد شعرية منفصلة، اتسم بعضها بالاتصال الموضوعي واللغوي مع بعض، واتسم الأسلوب فيها بدعوة الرعوية الدينية والموقف اللاهوتي، وغُنيت هذه الأناشيد نحيبًا على زوال أورشليم والنظر في أسباب هذا الزوال. كما أن عددًا قليلًا من المزامير مستمدة من هذا العصر وخصوصًا المزمورين 9 و10؛ إذ  إنه يأتي على شكل مرثية للفرد والشعب. أما المرحلة التي أعقبت حقبة النفي البابالي (540 – 400 ق. م)، فقد شهدت عملية التحرير الأدبي لأسفار الأنبياء، فعلى سبيل المثال يمكن التمييز في سفر أشعياء بين ثلاثة أعمال تحريرية، هي «أقوال للشعوب» و«أقوال الحكمة» وأقوال تدمج النوعين السابقين.

ب- النفي الفارسي: نشأت في هذه المرحلة ثلاثة أعمال أدبية كبيرة ومثيرة للإعجاب في نمطها، الأول منها كتب لتمجيد داود واللاويين، أما الثاني فكان سفر أيوب الذي يعد من بين أكبر الإنجازات الأدبية والفنية في التاريخ الأدبي لبني إسرائيل، وذلك مقارنة بأعمال «الكوميديا الإلهية» لدانتي و«فاوست» لجوته. أما العمل الثالث فهو مجموعة الحكم المدهشة في سفر الجامعة، الذي ناقش بصورة معمقة تعاليم الحكمة المعاصرة.

ظهر في هذه المرحلة أيضًا نوع من الأدب اليهودي سماه مؤلف الكتاب بـ«الأدب الجديد» وقد تمثل في سفر «روث» الذي يشبه «الملحمة الشعبية»؛ إذ يروي قصة عائلة يهودية هاجرت من بيت لحم إلى مؤاب، ومرت بعدد من الأحداث الدرامية نتجت عنها بعض الأفكار التشريعية. واشتملت القصة على حبكة وهدف واضحين، كما شملت أيضًا عددًا من الحكم التشريعية، وهو ما أدى إلى تعميق الرؤية الدينية من خلال قالب قصصي أدبي.

ج- النفي الروماني والهِلِّينستي: اتسم هذا العصر بالاضطراب الديني الشديد، نتيجة سيطرة الثقافة الرومانية والهِلِّينية على اليهود ولا سيما من ينتمون للطبقات العليا منهم في مصر وفلسطين، كما ظهرت جماعة «قمران» التي ثارت ضد النظام الديني اليهودي القائم آنذاك.

كان لظهور ما سُمي بـ«اليهودية – الهِلِّينية» ولا سيما في مصر، أكبر الأثر في ظهور كتابات يهودية، تبنت كل أشكال الأدب الهِلِّينستي وتبنت بعض الأفكار الهِلِّينية الأدبية والدينية الخاصة، وينتمي لهذا النمط الأدبي الفيلسوف اليهودي – السكندري الشهير (فيلو)، الذي ربط الموروث الكتابي اليهودي بالأسس الأفلاطونية الوسيطة وبعناصر الأناة والفيثاغورثية في فلسفة شاملة للدين. كما أن هذه الحقبة اتسمت بالغزارة في الكتابات الدينية اليهودية المقدسة، التي ظهر منها نحو 35 عملًا دينيًّا أدبيًّا يهوديًّا، كما استمرَّ في هذه الحقبة بعض أشكال الكتابات الأدبية اليهودية مثل السرد التاريخي، وأدب الحكمة، وشعر المزامير، إضافة إلى استعارة أشكال أدبية أخرى كثيرة وجديدة وتطويرها مثل الرواية والرؤيا وتفسير الكتاب المقدس، وإعادة سرد حكايات الكتاب المقدس، والعهد، والتعاليم الدينية «الهالاخا»؛ إذ يمكن القول من دون مبالغة أن اليهودية الهِلِّينية في مصر تحديدًا أسهمت إسهامًا ثريًّا جدًّا في الحياة الأدبية في تلك الحقبة.

وفي هذا العصر وما بعده، أصبحت الآرامية راسخة بوصفها لهجة عامية بدرجة كبيرة، في حين استمرت العبرية بوصفها لغة أدبية، وكان من الضروري ترجمة النصوص إلى اللهجة العامية في أثناء القراءة التعبدية، وهو ما أدى تدريجيًّا إلى ظهور «الترجوم» وهو الترجمة الآرامية للعهد القديم، وعلى غرارها أُجرِيت الترجمة السبعينية (اللاتينية) للعهد القديم في مصر منذ منتصف القرن الثالث الميلادي، ونشأ كذلك أدب ديني يهودي باللغتين الآرامية واليونانية. وفي مقابل ذلك نشأ أدب ديني يهودي باللغة العبرية معاد للأدب اليهودي الهِلِّيني، وقد برز بشكل خاص في كتابات «قمران».

ظهرت في هذه الحقبة أيضًا بعض الأسفار المتبقية من العهد القديم، التي دخل بعضها العهد القديم وضُمَّ بعضٌ آخر للأسفار غير القانونية (أبوكريفا العهد القديم)، وهي أسفار دانيال وإستير وطوبيت، ويشوع بن سيراخ ويهوديت ورسالة أرسطياس، إضافة إلى ما يعرف بالكتابات السرية التي كُتبت بتأثير يوناني روماني بحت، إلا أنها عُدت وحيًّا إلهيًّا، وكان يتحدث بعضها عن زوجة نوح عليه السلام.

خامسًا- الأشكال والأنواع

في نهاية الكتاب، لخص مؤلفه الأشكال والأنواع الأدبية التي وردت في تاريخ أدب بني إسرائيل قديمًا سواء داخل العهد القديم أو خارجه، وقام بالتعريف بها، مرتبًا إياها ترتيبًا أبجديًّا. كان من أبرز هذه الأشكال والأنواع الأدبية «الطُّرفة» وهي تعبير أدبي الْتصقَ بأحوال شخصية محددة عبر الفعل أو الكلمة أو الحدث، وتوجد في بعض الحكايات عن البطل التوراتي «شمشون»، وكذلك في حكاية مطاردة الثعلب داخل سفر القضاة. أما «الخرافة» فهي عبارة عن شعر أو قصة لهدف تعليمي، تعتمد على حياة الحيوان أو النبات، فبدلًا من الحوار العلني تتحدث الخرافة عن حقائق فعلية أو نقد مبطن أو سب لأشخاص غير مرغوب فيهم، وتوجد أمثلة لها في أسفار القضاة وسفر الملوك الثاني.

كما يوجد نوع أدبي شائع بشكل كبير وهو «الصلاة»، فمعظم المزامير هي صلوات على شكل أشعار، وقد تنوعت بين صلاة الدعاء وصلاة الكفارة وصلاة الشكر، وقد وردت الصلاة إما طقوسية ذات صيغة محددة أو غير طقوسية ليست لها أية صيغة، توجد كذلك «الترنيمة» وهي عبارة عن تراتيل توحيدية. توجد كذلك «القائمة» التي انتشرت أنماط متنوعة لها داخل العهد القديم، وتقسم إلى ثلاث مجموعات: الأولى قوائم الأنساب، التي تشمل قائمة الشعوب والأشخاص جنبًا إلى جنب في سفر التكوين، والثانية هي القوائم التاريخية – الجغرافية وتشمل أسماء القرى والحصون وعُولِج كثير منها في سفر يوشع، والثالثة هي قوائم الهدايا المقدسة وتوجد في سفر الخروج وعزرا، وتشمل حصرًا بالماشية المنهوبة والعبيد.

أما «الأسطورة» فهي تتعرض للآلهة التي لديها على الأقل نصيب ذو صلة بالأحداث المحكية، وهذا الحدث يمثل نموذجًا متكررًا بصورة دائمة، وتصف صورة حدث ما قبل التاريخ وتجسيد وتصوِّر مصاير الآلهة والأبطال.

أما «الأقصوصة» فهي تحكي مصير الأفراد في أحداث العالم ولا تشتمل على ذاكرة تاريخية وتمثل الواقعية على عكس الأسطورة.

أما «النبوءة» فإنها تستخدم صيغ إيحاءات وصيغ كهنوتية وطقوسية، وهي منتشرة أساسًا في أسفار الأنبياء مثل أرميا وأشعياء وهوشع.

أما «الحكمة» فهي فن أدبي شديد المهارة، وترد في صيغة عروضية، ويمكن أن تكون ادعاءً أو تجربةً أو سؤالًا مطروحًا، ويمكن أن تكون جملًا متشابهة، أو كلمات مترادفة.

أما «خطاب – خطبة» فإنه يوجد في أدب بني إسرائيل بعض تقنيات شكل الخطاب، التي تبدأ بشكل ثابت بالنداء لحث الشعب على الاجتماع، ويعرض الخطيب الصمت ويطالب بالاهتمام، ويدعو للإصغاء إليه، ثم يشير إلى أهمية موضوعه، ثم يبدأ في تصريحاته المخطط لها، ويحاول أن يظهر برهانه بالتكرار والتأكيد، لكي يتغلغل من خلال التأثير المباشر في إرادة مستمعيه. هناك أيضًا صيغة «المَثَل» الذي كان فنًّا أدبيًّا شائعًا لدى كل شعوب الشرق الأدني القديم، يهدف إلى تحديد الخبرات والمعارف حول نظام العالم والحياة وشرعيتهما، وتُعبِّر الأمثال عن تجارب حياتية إنسانية عامة مثلما ورد في سفر صموئيل الأول أو تعبر عن سياقات دينية محددة مثلما ورد في سفر «الأمثال»، ويمكن أن تتصل بسياقات تخص الإله أيضًا.