«عن الحرب».. سردية المصاير والمآلات

«عن الحرب».. سردية المصاير والمآلات

من «فلسفة الحرب» يمكننا أن نبدأ، من (كارل فون كلاوزفيتز)، الجنرال والمؤرخ البروسي، الذي صنع كتابًا مهمًّا يعد مرجعًا مركزيًّا في الفكر العسكري. ففي كتابه «عن الحرب» -الذي نشرته زوجته بعد وفاته بعام، أي في سنة 1832م- لا تحضر الخطط العسكرية وإستراتيجيات القتال فحسب، لكن تبرز بالأساس مرامي الحروب وغاياتها، دوافعها ومبرراتها، بحيث شكل السِّفر الضخم مكونًا أساسيًّا فيما اصطلح على تسميته فيما بعد باسم «فلسفة الحرب». يقدم كارل أداءً رفيعًا على مستوى الطروح النظرية الخارجة من رحم خبرة عسكرية عززتها مشاركاته القتالية من جهة، وتأملاته الفكرية من جهة ثانية، بدءًا من التعاطي مع فكرة الحرب بوصفها شكلًا من أشكال الوجود الاجتماعي، ومرورًا بالتمايزات التي جعلها حدًّا فاصلًا بين آليات الدفاع والهجوم، واعتباره الدفاع أصلًا في الحرب، ووصولًا إلى وعيه الخلاق بجدل السياسي والعسكري، حيث تبدو الحروب وسيلة، بينما السياسة غاية.

كارل فون كلاوزفيتز

إن أية قراءة متمعنة لفكرة الحرب لا بد لها من أن تدرك تلك العلائق المتشابهة بين الحرب والمناحي الحياتية الأخرى كافة، بل إنها تمتد في جوهرها إلى ما هو أبعد، وأكثر عمقًا، حيث معاينة المصاير والمآلات المأساوية للبشر في أشد الأوقات خطرًا ورعبًا.

ولعل الحرب الروسية الأوكرانية قد كشفت عن جملة من الكوارث الإنسانية للعالم الجديد الذي لا يكتفي بتوسيع رقعة الاستقطاب فحسب بين مكوناته المختلفة، وإنما يتغول في هدم الإنسان ذاته، جدارته ومعناه الحر، وسعيه المستمر إلى معانقة عالم أكثر جمالًا وتكاملًا. وتبدو هذه السردية المثالية بحاجة إلى استعادة حقيقية، حين تحمل الحرب ظلالًا اقتصادية واجتماعية مروعة.

وإنه لمن المفارقات الكبرى أن عالم ما بعد الحداثة القائم على فكرة التعدد الخلاق، وانتفاء المسافات بين المتون والهوامش، والمراكز والأطراف، تأتي الحرب لتلقي بظلال شاكة ومتسائلة عن تلك المباعدة الهائلة بين المعرفي والواقعي، والبون الشاسع بين الرحابة الفكرية، والجمود الفعلي في النظر إلى عالم متغير بالأساس.

سردية الحرب في الأدب العالمي

لطالما شكَّل الأدب ميدانًا وسيعًا للحروب، وخلق سرديته الخاصة التي يمكن أن نسميها بـ«سردية الحرب»، حيث تشظي الإنسان المعاصر في مواجهة آلة المحو والفناء. وإذا كان سؤال الأدب الأساسي الذي سيظل يبحث عنه دائمًا متمثلًا في جملة «جورج لوكاتش» الأثيرة «ما الإنسان؟»، فإن سردية الحرب قد شكلت ثيمة مركزية في الأدب العالمي، ليس بوصفها استجابة جمالية للحظات قاسية ومخيفة، أو بطولية وشجاعة في حياة الإنسان الفرد فحسب، ولكن بوصفها -أيضًا- تعبيرًا متماهيًا، أحيانًا، مع استكشاف الجوهر المخبوء للإنسان الفرد.

وربما عبر الأدب أيضًا عما لم تذكره مدونات الحروب، وفلسفاتها، وإستراتيجياتها القتالية، وخططها العسكرية، وآثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، حيث كشف الأدب عن المسكوت عنه، أو ما لم يقله المؤرخون العسكريون، مبرزًا الظلال النفسية داخل سيكولوجية الشخوص على نحو ما نرى مثلًا في رواية إريك ريمارك «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية». فـ«باول» ورفاقه متقدون بالحماسة، والعاطفة الجياشة للقتال، بفعل الخطابات العاطفية لمعلمهم الذي يرى حتمية انتصار ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. لكن الأمور لم تسر كما أرادوا؛ فالمعارك تدور حول مساحات مقتطعة بالكاد، وجغرافيا قابلة للتغير بين عشية وضحاها، فلا هم انتصروا، وليس ثمة هزيمة بالمعنى المطلق. وهكذا هي الحرب التي أدرك الكاتب الألماني «ريمارك» سرها الدفين. غير أن «باول» نفسه قد تغير، وصار أكثر تأملًا في المصاير العبثية التي يراها كل يوم، والمآلات المقبضة التي يشاهدها لرفاقه أو حتى للآخرين. فعندما يجد نفسه فجأة في مواجهة جندي فرنسي، يكون أمامه خياران: إما القتل، أو القتل، فيقرر أن يكون القاتل وليس القتيل، لكنه يزداد تعاسة بعدها، فلا شيء يهم، ربما النجاة وحدها هي ما حفزته على البقاء.

ويصبح «باول» فريسة لصراع الإقدام/ الإحجام حيث التردد اللانهائي، لكن ليس ثمة طريق للعودة، وبخاصة أن الحاضنة الاجتماعية الممثلة في قريته قد افتقد أنسها المعهود، وصار غريبًا في زياراته القليلة لبلدته، وعاجزًا عن الإجابة عن التساؤلات الدرامية لأبيه الطامح إلى انتصار تاريخي للألمان، حتى لو على جثث المزيد من الجنود الذين من بينهم «باول» نفسه في مفارقة روائية تعد إحدى آليات السرد داخل النص هنا.

تتسع جغرافيا السرد في الرواية ما بين الجبهة، والبلدة، وتحتل ميادين القتال المسكونة بالجثث والمصابين، والناجين من جحيم أرضي سببته الحرب. المتن الكمي الأبرز في السرد، هستيريا أطلق عليها «هستيريا القذائف» تحاصر الجميع.

ثمة لحظات حميمة تتمترس حول الأم بشكل محدد. ففي الزيارات العابرة للبلدة التي قرر «باول» ألا يعود إليها في أية إجازة مقبلة، تصبح الأم هي آلية التواصل الوحيدة مع هذا العالم. ومن ثم يتسع الاغتراب النفسي بوفاتها، حيث انفصال «باول» عن البنية الاجتماعية المحيطة به، بل شعوره العارم بالإخفاق، جراء فشله في تحقيق ما يريده، واعتقاده بعد عامين من الحرب أنه ليس ثمة جدوى في العالم والحياة. ومن ثم يأخذ الاغتراب النفسي بُعدًا وجوديًّا يكشف مأزق الإنسان المعاصر أمام اللحظات المأساوية الكبرى التي يواجهها، في ظل عالم شديد القسوة والقتامة.

الحرب في أدبنا العربي

وقد حظيت موضوعة الحرب في أدبنا العربي بحضور واعد داخل المدونة الإبداعية، حيث يمكن لك أن تستعير تاريخًا من الحروب سطرها الشعر الجاهلي، وفي الأدب الحديث ستجد حضورًا للحرب بوصفها إطارًا سرديًّا، من قبيل ما نراه في روايتي «خان الخليلي»، و«زقاق المدق»، للروائي الفذ نجيب محفوظ. حيث دارت فضاءات الرواية زمنيًّا على خلفية من أحداث الحرب العالمية الثانية، والتأثيرات البعيدة/ القريبة من عموم المصريين. وهناك أيضًا ما اصطلح على تسميته بـ«أدب أكتوبر»، حيث الروايات والمجموعات القصصية التي عززت معنى الفداء والتضحية، والشعور الوطني بعد الانتصار المصري العربي في حرب السادس من أكتوبر 1973م. وقد اتخذت معظم الأعمال هنا طابعًا تسجيليًّا، يرصد بطولات الجنود، وصناع الانتصار المجيد. غير أن ثمة أعمالًا إبداعية لم تخلُ من متعة فنية على نحو ما نرى في رواية «الرفاعي» للروائي جمال الغيطاني، التي تجعل من القائد المصري إبراهيم الرفاعي، قائد ومؤسس المجموعة 39 قتال، مركزًا لها. وهناك أيضًا رواية «الحرب في بر مصر» للروائي يوسف القعيد، وقد اتخذت منحى مغايرًا في الطرح الروائي عبر تعاطيها مع الداخل المعبأ بالوجع، والتناقضات.

إن خلخلة السائد والمستقر، وجعل الحرب موضوعة مركزية داخل النص، واستعارتها بحسبها عنوانًا على عالم ممتد هو عين ما تعنيه «سردية الحرب»، وما تمثله من تبيان للمآلات والمصاير، والكشف عن مأزق النفس البشرية، واحتمالها توترات اللحظات الدرامية المعقدة، حيث جدل الحياة والموت، والقوة والوهن، والوجود والعدم، في ظل عالم يتحول إلى آلة جهنمية تغاير آلة جان كوكتو، بل تفوقها تدميرًا.

أزمنة مركبة ونوستالجيا لا تنتهي «ورد الجليد» لأحمد الخميسي

أزمنة مركبة ونوستالجيا لا تنتهي

«ورد الجليد» لأحمد الخميسي

عن النجمة الساحرة وهي تزين ورد السماء، وأفئدة المارة والعابرين، عن الحياة وهي تنمو في قلب العدم، عن وردة الجليد التي تحضر مثل قطعة ليل مفعمة بالأمل والبهجة والحيوية تأتي القصة المركزية في مجموعة «ورد الجليد» للقاص المصري أحمد الخميسي، والصادرة في القاهرة حديثًا عن مؤسسة مجاز للنشر. يتشكل المتن السردي للمجموعة من ثماني عشرة قصة قصيرة، تتسم بتعدد الأداء اللغوي، وتنوع صيغ السرد، وطرائق الحكي، وتتماسّ في جوهرها مع سؤال الزمن، وأنسنة الحنين، والذكرى التي تحضر بوصفها مركزًا للسرد، ولذا تسترجع الذات الساردة الزمن كثيرًا في نصوص المجموعة، وتتأمل مساراته، ومآلاته المتحولة.

في «ورد الجليد» ثمة سارد بطل، وثمة معلمة روسية هي«نينا أندريفنا» بطلة القصة، ومركز الحكي وجوهره، والحلقة الواصلة بين شخوص القصة المتنوعين، أولئك الطلاب الذين يدرسون في السنة الأولى في روسيا، والقادمون من جنسيات مختلفة، وثقافات متباينة، هنا مثلًا سنجد عايدة الكوبية، وماريا من كوستاريكا، وموبوتو الإفريقي، ومعهم فتاتان أوربيتان من فنلندا، ويبدو النص مثل حوارية سردية بين أصوات مختلفة تتقاطع فيما بينها وتتجادل لتشكل متن القصة: «أحسست بالغضب من محاولة إثارة العطف عليّ فزعقت فيها: «أنا أموت من البرد». لاحظت انفعالي فربتت على كتفي ورجتني بهدوء أن أجلس ثم خاطبتنا جميعًا: «على أي حال ليس في الطبيعة طقس سيئ. أتعلمون أن الزهور تنمو حتى في الصقيع وقسوة الجليد؟». ثأثأت ماريا بدهشة: «و..و..ح..حقًّا؟». أردفت «نينا أندريفنا»: «نعم. تنمو تحت سطح الجليد الشفاف وتبدو مثل دانتيلا من زهور بيضاء». سدد موبوتو سبابته إلى عينه: «أنت رأيت ذلك بنفسك؟؟» قالت: «نعم أنا من تلك المناطق، من مدينة «دودينكا». هناك يمكن أن ترى ورد الجليد». (ص 38/ 39).

يحيل المقطع السردي السابق إلى تعدد أصوات السرد داخل القصة، حيث نرى هنا كلًّا من (السارد البطل المتورط في الحكاية الذي يحكي من داخلها/ نينا أندريفنا/ موبوتو/ ماريا/…)، ويحمل المقطع أيضًا إشارة نصية إلى عنوان المجموعة وقصتها المركزية «ورد الجليد».

محاكاة تهكمية

في «غلطة لسان» نجد أنفسنا أمام محاكاة تهكمية للواقع الثقافي، في قصة مبنية على المفارقات الساخرة، حيث ثمة كاتب عجوز تفصله ساعتان عن الموت، يجري حواره الصحافي الأخير مع شاب مغمور، يتلمس طريقه لعالم وسيع، وبفعل الزهايمر والذاكرة التي تراجعت كثيرًا، يشير الكاتب العجوز- كما تصفه القصة- إلى الكاتب الرائد في جيله عبدالعاطي وهدان على أنه عبدالعال شعبان، وحينما يتذكر يكون الوقت قد فات؛ لأن ثمة ساعتين تفصلان بين الحياة والموت، بين الحضور والغياب، بين استحضار كاتب واختراعه اختراعًا، وتغييب آخر، ويصبح الاستدعاء لاسم كاتب وهمي محركًا للسرد، في قصة يبدو الزمن فيها مفصليًّا ومركبًا، وتتأسس على آلية السخرية المنتجة للمعنى، عبر جملة من المواقف السردية والإشارات النصية من قبيل الإشادة النقدية الهائلة التي يتلقاها عبدالعال شعبان من الناقد المخضرم، والصلة العائلية التي ينتحلها شاعر شاب مع الاسم المخترَع، وإشاعته أن عبدالعال خاله، فضلًا عن الدعوات العبثية التي تتم للحفاظ على تراث الكاتب الكبير، في نص يتماهى مع واقعه، وتبدو لغته الفصحى، وحواراته المكتنزة دافعة لآلية السرد، وغير معطلة لها. وفي نهاية القصة يعود السارد الرئيسي إلى الحكي عن كاتبه العجوز الذي نسيه الجميع في خضم الاحتفاء بالاكتشاف للكاتب الوهمي.

ثمة ولع بالشخصيات الغائبة المحركة للسرد في قصص المجموعة، رأيناها في«غلطة لسان» عبر الشخصية القصصية «عبدالعال شعبان»، ونراها أيضًا في قصة «الشاهد»، هذا الشاهد الذي لا يجيء أبدًا، حيث ثمة غياب لذلك الشاهد الذي لم يزل يحتفظ بجدارة الإنسان، فالفتاة المغتصبة قد رآها الجميع من دون أن يتدخلوا، فالصيدلي شاهد سيرها الوئيد متكئة على الجدران، وحارس العقار المقابل للمكان الخرب الذي هددها واغتصبها فيه الرجل الهمجي سمع صوت استغاثة ولم يتدخل، وصاحب المحل المقابل لتلك «الخرابة» -مكان الفعل السردي- لا يتحرك لنجدة الفتاة، مبررًا غياب مروءته وتخاذله وانتفاء المعنى النبيل الكامن في الإنسان بجملته الجاهزة «ماذا إن أقحمت نفسي وتعرضت لطعنة سكين؟».

تتواتر الصور السردية بالإحالة إلى شخوص متنوعين، لا يعبِّرون فحسب عن شرائح اجتماعية أو تكوينات فكرية مختلفة، إنما يعبِّرون بالأساس عن إمحال لصورة الإنسان، هذا الإنسان/ الشاهد الغائب، الذي باتت الفتاة نفسها في بحث مستمر عنه، أكثر من أي شيء آخر.

تتوزع صور الحنين وصيغه وأشكاله في مجموعة «ورد الجليد»، حيث تهيمن (نوستالجيا المنشأ)، والحنين إلى الجذور الأولى في قصة «قدمان»، التي تستلهم عالمها من رجع الصوت/ الصدى، ومن إيقاعات اللغة المنسية التي فاتها ذلك المهاجر إلى تلك البلاد البعيدة الباردة، الذي يبدو مثل سيزيف بلا خلاص، وتظل نهاية القصة محكمة، ومشحونة بشحنات فكرية وعاطفية، والأهم أنها نافذة صوب متلقيها، في نص يعتمد الإيجاز والتكثيف لغةً وحدثًا قصصيًّا: «ولم يبقَ منه سوى ساقين وقدمين تخوضان في الصقيع كل ليلة، تندفعان إلى الأمام تفتشان في ظلال الغابات الشاسعة وفي الندى والصمت عن روح عزيزة ضائعة». (ص18).

آليات الاستبطان

ويرتبط الحدث القصصي هنا بالحركة الداخلية ذات الطابع النفسي للشخصية القصصية، وتتعزز آليات الاستبطان للداخل الثري للإنسان في المجموعة، مثلما نرى أيضًا في قصة «على ربوة»، حيث التوترات المكتومة في العلاقة البينية بين الابنة والأب والجدة، فالابنة لا تدرك أن الأب قد نال منه الزمن حقًّا، وهي اللحظة الزمانية التي يبدأ عندها الأب في استعادة ما فات، وتذمره هو الآخر من أمه حين هرمت، أو على الأقل عدم استيعابه لإيقاعها البطيء بفعل الزمن؛ ولذا تبدأ القصة بجملة سردية دالة (فجأة فهمت. الآن فهمت)، وهي الجملة التي تتواتر في النص، والتي يبدو فيها السارد/ البطل (الأب) أمام لحظة كشف/ تنوير، ويبدو خط الزمن هنا مركبًا للغاية، وتحوي النهاية روحًا وثّابة، وظلالًا من نور، ورغبة في المصالحة مع العالم، بل مع الزمن نفسه.

يطفئ ابن بائع الروبابيكيا فرحة الرجل المُسن، حين يعلن أمامه أنه في كل مرة يعطيهم الأوراق المهملة مجانًا، بعد أن يطلب منهم مبلغًا كبيرًا، ثم يصنع لهم هذه المفاجأة المتكررة، ويعطيهم ما يحتاجونه بلا مقابل، فالرجل المسن مصاب بالزهايمر، وبائع الروبابيكيا يعرف ذلك؛ ولذا فهو يبدي سعادته ودهشته المفتعلة في كل مرة، لتحدث حالة البهجة ذاتها لدى الجد المثقف المسن، الذي يثور حين يعرف الحقيقة، لكنه يتمنى أن يتذكر وجه الرجل وطفله في أية مرة قادمة، ويتجادل مع هذا الخط القصصي خط آخر يتصل بالحفيد الصغير (حاتم) الذي يلعب معه الجد (بطل القصة) لعبة الاختباء، وعلى الرغم من علمه بالمكان الذي يختبئ فيه، إلا أنه ينادي في كل مرة (يا ترى حاتم فين). ثمة شخوص على شفا النسيان دومًا في مجموعة «ورد الجليد»، وتنحو قصص (غدا/ رشفة عشق/ تحرش/ هدية بسيطة) منحى إنسانيًّا خالصًا، وتخلو قصة «بيسا» من انفتاح الأفق الدلالي، حيث يغلب فيها السياسي على الجمالي، وتقدم قصة «رسائل من القلب» تصورًا رومانتيكيًّا للعالم، مستخدمة لغة شعرية شفيفة ورهيفة في آنٍ.

وبعد.. تبدو «ورد الجليد» معنية بما هو إنساني، ومشغولة بتنويع القص، وجغرافيا السرد وعوالمه الممتدة بين فضاءات مختلفة تعد علامة على تلك الأمكنة المولعة بأزمنة ممتدة، ومركبة، ومسكونة بأنفاس البشر وهواجسهم، وأحلامهم المقموعة، وذكرياتهم التي لا تنتهي.

«جدار أزرق» لجمال القصاص..  تمجيد الجمالي وتخييل المعرفي

«جدار أزرق» لجمال القصاص.. تمجيد الجمالي وتخييل المعرفي

بدت التجربة الشعرية للشاعر المصري جمال القصاص منفتحة على أسئلة مختلفة، تخص الشعر والحياة معًا، تسد الفراغ المصطنع للحد الفاصل بينهما، فتحمل معها وعيها الجمالي ابن التجربة الحياتية المحضة، والمجاز الآسر، وتتمركز في بنية الشعر العربي بوصفها تعبيرًا عن نفس مختلفة، وصوت بدا طليعيًّا منذ ديوانه الأول «خصام الوردة» (1984م)، فخلق بصمته الأسلوبية الخاصة منذ البداية، وصيغه الرائقة، وحسه الجمالي الذي لا يعرف صخبًا زائفًا، وإن حوى توترات داخلية مكتومة تحيل النص إلى حال من السؤال المتجدد والمفتوح على قسوة الحياة وألمها وأشواقها المكسوة بالأسى والانكسار.

يكتب القصاص نصًّا ممتدًّا، يستقي عوالمه من الحياة ذاتها، ويجعل مادته الخام من حكايات ناسه وشخوصه، وذواته المختلفين، التي ترتبط دومًا بجدل خلاق مع الذات الشاعرة، فتصبح أنسها وألفتها، وإخفاقاتها وعذاباتها اليومية أيضًا، ومجلاها العصي على الموت/ العصي على النسيان. وفي ديوانه «جدار أزرق»، الصادر في القاهرة حديثًا عن (منشورات بتانة)، يحمل جمال القصاص قصيدته فوق ظهره ويمضي، لا يلوي على شيء، ولا يعبأ بشيء سوى الجمال والحرية: «معذرة أيها الحارس/ لا تسألني من أين يولد النهر/ لست سبورة الغيم/ لست الشمس/ بالكاد أحمل قصيدتي فوق ظهري وأمضي».

يحيل عنوان الديوان «جدار أزرق» إلى عالم الحوائط الشخصية في الفيس بوك، ويبدو الدالان المكونان لبنية العنوان موسعين للمعنى، فاتحين لأفق الدلالة، ليصبح جدار الشاعر هنا نابضًا بالحياة، وليس حائطًا أصم، فتتسق حيويته مع زرقته الدالة على الصفاء والحساسية الشديدة، حيث ينتمي اللون الأزرق إلى مجموعة الألوان الباردة، كما تبدو إحالاته الشعورية نافذة بعمق صوب الروح. يتشكل ديوان «جدار أزرق» من اثني عشر نصًّا شعريًّا، تتبع إستراتيجية في البناء الشعري، إذ تبدأ القصيدة بمقطع يجمل القول الشعري، ينتهي نهاية مفتوحة صوب تنويعات شعرية جديدة، ولا يأخذ هذا المقطع المركزي المجمل ترقيمًا، ثم يتلوه مجموعة من المقاطع الشعرية المتنوعة التي تُفَصّل القول الشعري، وتنفتح معها الرؤية الشعرية على أفق دلالي وجمالي وسيع. وتأخذ هذه المقاطع ترقيمًا عدديًّا (1، 2، 3،…) وقد تحوي القصيدة الواحدة 21 مقطعًا مرقمًا كما في النص الأول «لست مطمئنًّا لشيء»، أو أحد عشر مقطعًا كما في «أن تعبر النهر وحدك»، أو اثني عشر مقطعًا كما في «في حضن نيزك صغير». وهكذا. يعد المقطع المركزي بمثابة افتتاحية للنص الشعري، ويوظف الشاعر فضاء الصفحة الورقية توظيفًا معبرًا، حيث يأخذ المقطع الافتتاحي شكلًا بارزًا في الخط المكتوب، تتلوه المقاطع المرقمة التي تأخذ شكل الخط المعتاد في الكتابة الورقية. ويتكئ الديوان على هذا الجدل الخلاق بين المجمل والمفصل، المتن والتنويعات، وتتسع الرؤية الشعرية بتعدد المقاطع وتنوعها الخلاق، فكل مقطع يمنح الرؤية الشعرية بعدًا جديدًا، وبما يشكل جدارية القصيدة / جدارية النص.

جمال القصاص

عالم مدهش

في «لست مطمئنًّا لشيء» ليس ثمة سمات خارقة يسبغها الشاعر على الذات الشاعرة، ومن ثم يتخلص من حمولات المجانية، غير أنه يقدم عالمًا مدهشًا تختلط فيه الأسطورة بالواقع، بدءًا من الاستهلال الشعري: «لا أعرف نساء دلفي، ولا حاملات القرابين في وادي الملوك، لم تسقط واحدة منهن في حجري، الماء لم يكن طازجًا وهن يعزفن للشيطان حتى يصب النبيذ دفعة واحدة، وينام خلف الأريكة». ثم تبدو الذات الشاعرة الممسوسة بعقدة الفيضان، مسكونة في الأساس بروح مصرية خالصة، توظف المجاز جيدًا وبلا افتعال: «لن أنتظر أن تهذب هذه الساعة شاربها الأخرق/ أو تبول على نفسها». كما يصنع الشاعر صورًا بصرية متواترة، تعتمد في جانب منها على حكمة مكتنزة، وهي ليست الحكمة بمعناها الكلاسيكي، بل هناك نسق تتجادل فيه الخبرتان الجمالية والمعرفية فتنتجان القصيدة التي تصبح استجابة جمالية ومعرفية لذات تقاوم القبح بالجمال، والكراهية بالمحبة، وترى في الجسد درجًا للروح، وفي الروح خلاصًا وارتقاء. إنها ذات شعرية يمكن تلمس ملامحها السيكولوجية، حيث تنشد عالمًا بلا حروب، بلا ادعاءات، أما معجمها الشعري فتتواتر فيه مفردات دالة وكاشفة عن روح تحتفي بما هو إنساني وحر ونبيل، هنا يجد المتلقي دوالَّ مثل: «الأطفال/ الحرب/ المدرسة/ الحليب/ الأم». ويتوزع حضور الإشارة إلى اسم الشاعر ذاته في الديوان عبر أكثر من نص، وبصيغ متعددة، فتارة يأتي «جمال القصاص»، وتارة أخرى يأتي «ابن القصاص» تبعًا للمسار الشعري للقصيدة.

وعبر جدل الخبرتين المعرفية والجمالية تتحقق عناصر الإدهاش في قصيدة جمال القصاص، التي تنحو صوب كسر أفق التوقع لدى قارئها، من قبيل «معنى أن تعبر النهر وحدك/ أن تقيسه بمساحات المطر/…». تحمل القصيدة الثانية «أن تعبر النهر وحدك» عنوانًا أتى ذكره في القصيدة الأولى ضمن متنها الشعري، لكنه هنا يحمل ظلًّا تأويليًّا آخر، ولذا فإنني أشير إلى أن الجدل بين نصوص الديوان قائم دومًا في ديوان مبني بعناية، لنصبح أمام خليط من الدقة والفوضى الجمالية، البناء والهدم، حيث ثمة عالم تتجاور فيه جماليات متنوعة، تقف على عتبات عالم ما بعد الحداثة الشعري بامتياز، فتصبح جماليات التجاور والتنوع هوية شعرية لنص القصاص. في «أن تعبر النهر وحدك»، ثمة أنسنة لمعنى القصيدة، بلا معاظلات وأسئلة مجانية عن الشعر وجدواه، فالشاعر هنا يبعد ببون شاسع عن خطى الدجال، وتتواتر الصور الشعرية بتنويعاتها البيانية والبصرية والمركبة، حيث يتعاطى الشاعر هنا مع مفهوم الصورة الشعرية بوصفها مجلى للعالم، كونًا قابلًا للتأويل، وليس محض أدوات تقنية وبلاغية تتأسس عليها القصيدة.

يبني جمال القصاص نصه على مجموعة من التقنيات اللافتة من بينها آلية البناء على المفردة، حيث يخلق صورة مركبة من عناصر مختلفة اعتمادًا على دالّ بعينه، وبما يفضي إلى اتساع المعنى، وانفتاح مدارات التأويل لنص متجدد باستمرار. للنحت اللغوي حضور بارز في نص القصاص، وبما يتسق مع معجمه الشعري شديد الخصوصية، الذي تتجاور فيه لغتان إحداهما لغة كلاسية سامقة، ابنة المجاز المحلق، والأخرى لغة تداولية تستمد جماليتها من السياق الشعري الذي توضع فيه، فتكتسب معنى جديدًا، ويصبح هذا العادي أداة للتخييل الشعري: «الساعة الحائطية مهذبة على غير العادة/ عقرباها أحس أنهما يطبطبان على كتفي/ يعتذران عن خطأ ما». تهيمن بنية السؤال على نص «الفتاة الهزيلة المنمقة»، ويبتعد النص من التقرير والتنبؤ، فكل شيء محض سؤال، والتغير سمة حياتية تصيب كل شيء، حتى العلاقات الإنسانية، ويحضر الإيروتيكي هنا أيضًا ويصبح أداة لرؤية العالم، يكتبه الشاعر عبر تفعيل قدر عارم من المجاز، فيحيل الأشياء إلى مرموزات أبعد وإن لم تفقد وهج التعبير الجمالي عن الجسد، والمرأة، والعالم. ثمة حضور في ديوان «جدار أزرق» على مستوى البنية الشعرية لمقلوب الشكل الذي قدمه الشاعر في ديوانه «السحابة التي في المرآة»، كما نجد أيضًا إحالة إلى ديوانه «نساء الشرفات»، حيث نسوة الشاعر اللاتي يطلعن من الشرفات يعضضن أظافرهن!

تجاور نيتشه وسقراط وهيراقليطس

يتجاور في «جدار أزرق» نيتشه وسقراط وهيراقليطس، فينفتح النص على المعرفي بلا افتعال، وبلا إحالات مجانية، ففي «أجرب عبودية أخرى» يحضر نيتشه بوصفه علامة على نسبية العالم، ومن ثم يمثل استدعاؤه في النص ضربًا للأبنية الجاهزة التي ثار عليها الشاعر في نصه: «الحياة فكرة لا متناهية الصغر/ لا متناهية الكبر/ في شقوقها أكتشف عورة المطلق/ أجعل نيتشه يمشي حافيًا فوق شوارب المنهج/ هذا لا يمنع أنه فيلسوفي الأمهر/ باسمه يمكنني أن أمنح هايدغر بداهة السقوط». وتتسرب الإحالات المعرفية هنا على نحو دالّ وغير متعاظل، فتشير إلى الفكرة الجوهرية لدى صاحبها. ويستخدم الشاعر جملًا شعرية دالة للتعبير عما يريده ولفتح أفق الدلالة (عورة المطلق/ حافة السقوط)، فليس مطلوبًا منه مثلًا أن يحكي قصة هايدغر، أو معنى الوجود الأصيل والوجود الزائف لديه… لكن يجعل المعرفي في متن الجمالي. في «عاريات فوق الرصيف» ثمة نزوع إيروتيكي يتكئ على المجاز، كما تحيل التناصات هنا إلى طرق مختلفة في التعبير الجمالي عن المرأة والعلاقة معها، حيث نجد حضورًا للمتنبي وأبي نواس وأدونيس وصلاح عبدالصبور والذات الشاعرة أيضًا، فتتعدد زوايا النظر في نص يغاير بنيته أحادية الصوت، منطلقًا صوب بنية بوليفونية تتعدد فيها الأصوات، وتتقاطع، مشكلة بنية شعرية متجانسة. يوظف الشاعر تقنية كسر الإيهام في «بؤس رجل يملك أربعة أقنعة»، حيث الإيحاء بواقعية النص الشعري، وإزالة الحائط الوهمي بين النص ومتلقيه. في «توا خرجت من المصح» نجد جدلًا بين مساحات زمانية مختلفة، يتقاطع فيها الماضي بالحاضر، ونرى روحًا شفيفة وأسيانة، تناهض القبح بمجداف عتيد، ويوظف الشاعر هنا تقنية الاستباق في استهلاله الشعري الدال: «سأفصّل كفني بيدي، سأجعله دافئًا ووثيرًا كأغنيات الحصاد».

تهيمن بنية درامية على قصيدة «ما لون هذه الشجرة»، حيث ثمة نزوع حكائي، ومحاولة فنية لتخليق صور كلية الطابع، تضع قدمًا في الواقع، وأخرى في المجاز، ويعد الحلم هنا إحدى التقنيات المركزية التي يعتمدها في نصه، وعلى الرغم من تواتر الصور هنا فإنها لا تنحو صوب التجريد، بل تتنسم دومًا عبق الحياة وعنفوانها. تتسرب إشارات سياسية على نحو أكثر بروزًا بدءًا من نص «أبعد من خطى الدجال» حيث يقف الشاعر الحقيقي موقف الشاعر، ويقف غيره مع الدجال، كما يتجادل السياسي والفني في قصيدة «الدبابة في الميدان»، ونصبح أمام بنية شعرية منفتحة على واقعها، تعرف التنوع والأداءات اللغوية المتعددة، وتكسر الإيقاع اللغوي الثابت «الثورة كانت هنا يا أولاد …». في النص الأخير «حزمة أنفاس كتبتها الريح»، تكتسي العزلة بطابع روحي، وتبدو خلاصًا من كل شيء، ليختتم الشاعر قصيدته/ ديوانه بمقطع طويل مثلما بدأ، في تفعيل للبناء الدائري، ولإستراتيجية بناء شعري تخص صاحبها.

وبعد.. عن قسوة الحياة ومأساويتها، عن تعقدها اللانهائي، عن خيباتنا وهزائمنا، ومسراتنا القليلة، وبهجاتنا الخاطفة، عن عالم يقف في قلب الكراهية، تقاوم قبحه ووجوده الزائف، متكئة على روافد جمالية متعددة وتصورات فكرية تتجدد بتجدد الشعر واتساع العالم، يأتي جدار أزرق للشاعر جمال القصاص خطوة إضافية وضافية في مسار صاحبها ومسار الشعرية العربية الراهنة.