الفكر العربي في الألفية الجديدة: الإشكاليات والتحديات

الفكر العربي في الألفية الجديدة: الإشكاليات والتحديات

«لما كانت حرية الرأي ضرورة للإيمان الصحيح

فإن حرية الرأي أيضًا ضرورة للسلام الداخلي في الدولة،

فإذا قُضي على حرية الفكر قُضي على الدولة»

سبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة»

طوى العرب القرن العشرين على إشكاليات معلقة في الاجتماع والسياسة والدين والثقافة، وظل «العقل العربي والإسلامي»، أسير اليقينيات والماضي وغياب القدرة على طرح الأسئلة حول المستقبل، نتيجة الأطر التاريخية والعقدية المشكلة له على مدار قرون، وهو ما جعلنا حضارة تُبنى على الوثوقية والجمود -في عالم لا يهدأ في مواجهة الأفكار والسرديات الكبرى- وليس على المساءلة والتفكيك وإعادة البناء، وهو ما حال دون تطوير منظومتنا الفكرية والثقافية وجعلنا ورثة لأعباء تتعدد بناها وأشكالها، ولا سيما ما يتعلق بأزمة ثنائية الإسلام والحداثة، التي شكلت وتشكل إحدى أهم القضايا التي طرحها الكتّاب والعلماء العرب في حقولهم المعرفية المختلفة.

ولئن اعتبرنا –تجاوزًا– أن الانشداد نحو التراث أو «العقل التراثي»، يُعد من بين أهم العقبات التي تعرقل مسيرة التحديث في الدين الإسلامي، فإن أوضاع المجتمعات العربية على مستويات عدة، ليست أفضل حالًا؛ إذ عمل الاستبداد السياسي على إفقارها وتجويفها وإغراقها بالجهل والأمية الثقافية. ومع ضرورة التأكيد أن مثقفينا وعلماءنا، من أمثال: محمد أركون (1928- 2010م)، ومحمد عابد الجابري (1935- 2010م)، ونصر حامد أبو زيد (1934- 2010م) وأدونيس، وعلي حرب وعبدالمجيد الشرفي، وغيرهم من الأعلام العرب المبدعين، عالجوا في أطروحاتهم ومؤلفاتهم المسائل التاريخية والثقافية والدينية المهمة، وساءلوا ما يعتبره البعض بمنزلة المقدسات، إلَّا أن إنتاجهم بقي أسير النخبة وبعض الدوائر العلمية العربية، ولم يستطع اختراق الجمهور لتحريره من السياج الأسطوري.

أتى القرن الحادي والعشرون على العرب وهم معلقون بأثقال القرن الذي مضى، وأحدثت التحولات العالمية والإقليمية في الألفية الجديدة تصدعات خطيرة، وكان من الصعب إقصاء تأثيرها عن ثقافتنا ورؤيتنا تجاه الذات والعالم. ولعل البانوراما السياسية والزلزالية التي فجّرها ما اصطلح عليه بـــ«الربيع العربي» وضعنا أمام معضلة «التفاوت التاريخي» وكشف عن الحجم الهائل للمشاكل التي تعانيها مجتمعاتنا، خصوصًا العنف والتعصب الديني. فصحيح أن الحراك الاحتجاجي، كانت له إيجابيات، لكنه -على حد توصيف الكاتب والمترجم السوري هاشم صالح- فجر البراكين التراثية؛ فالحالة الظلامية المسيطرة على العالم العربي بسبب العنف السياسي والديني، وسيادة العقل الأصولي، والصراع الطائفي والمذهبي وانتشار التنظيمات الإسلامية، تقدم كلها مؤشرات على شيء صاعد من الأعماق، كان مكبوتًا منذ مئات السنين والآن حان أوان انفجاره؛ «ولن نصل إلى حل قبل أن تشبع الطبقات التراثية العميقة انفجارًا وتفجيرًا»(١).

في موازاة القيام بالنقد الراديكالي «للذات التراثية» وهو مطلب ملحّ، يُطرح سؤال إشكالي حول «مستقبل الثقافة العربية»، فبعد أن نشر عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (1889- 1973م) «مستقبل الثقافة في مصر» عام 1938م، لم نلاحظ وجود جهد فكري معتبر يدرس مستقبل الثقافة عند العرب، وقد يعود ذلك إلى غياب المشروعات الفكرية الكبرى التي يمكن لها النهوض بهذا الهم المعرفي. نقول هذا ونحن أمام إشكالين: الأول تراثي، والثاني اجتماعي/ ثقافي. وعلى الرغم من أن الانسداد والتفاوت التاريخيين يمنعان انطلاق وتيرة الحداثة، فلا يكف المثقفون العرب المتنورون عن التصدي لمعضلات الراهن العربي، بعضهم ضمن مقولات «القطيعة الإبستمولوجية» (La rupture épistémologique) مع العديد من الثوابت التي تكبل حركية المجتمعات وتطورها، والبعض الآخر بتجديد قراءة التراث عبر المناهج العلمية الجديدة. طبعًا، لم يكن الدين وحده ما أثار اهتمام الفكر العربي المعاصر، فثمة أمور أخرى طغت عليه، ربما تكون أشد خطورة وإلحاحًا من مصالحة الإسلام مع الحداثة؛ ونرى أن التحديث والإصلاح الحقيقيين يجب ألَّا يقتصرا على المنظومة الدينية والإيمانية ورموزها، فأي ثورة معرفية وعلمية جادة لا بد أن تطول كل المجتمع.

حوارات «الفيصل»

انشغل «الفكر العربي على مشارف الألفية الجديدة: حوارات مع أبرز المفكرين العرب» بقضايا رئيسة يتصدرها أربع: الإسلام والحداثة، واضطرابات الربيع العربي، والإرهاب، والحركة الثقافية العربية. لقد تضمن الكتاب مقابلات امتدت بين عامي 2016- 2019م نشرتها مجلة «الفيصل»(٢) السعودية، أُجريت مع كتّاب وعلماء عرب بارزين، أثروا بشكل لافت في المشهد الثقافي العربي. وإننا حين نشير إلى هذه الرباعية التي طغت على النسق العام المتحكم بطبيعة الأسئلة المطروحة، فهذا لا يعني أن أمورًا أخرى أقل أهمية غابت عنها، كما أنه يبدو لنا أن سؤال الحداثة كان الأكثر حضورًا، فالثقافة العربية اليوم تحاول وبجهد مضنٍ بناء هويتها والخروج على «التابو السلفي» وهي تواجه موجات عاتية من حراس العقيدة.

انطلاقًا من السؤال الإشكالي المطروح أعلاه حول «مستقبل الثقافة العربية»، يحضر طرح آخر على اتساق به، تناوله بحصافة زكي الميلاد في مقاله «مستقبل الثقافة في السعودية»، حيث تساءل عن كتابة عمل يستشرف آفاق مستقبل الثقافة في بلاده: «عملًا نريد منه أن يحمل صفة الكتاب المرجعي، أو صفة الكتاب الرائد، أو صفة الكتاب الملهم… بحيث يرسم لنا خطة، ويكشف لنا أفقًا، ويفتح نقاشًا يكون واسعًا وممتدًّا حول مستقبل الثقافة في السعودية، وما يتفرع منه في الحديث عن مستقبلنا الثقافي ومنظورنا الثقافي المستقبلي». غير أن أهم سؤال طرحه الكاتب السعودي هو: «ما سؤالنا الثقافي؟ فالثقافة بلا سؤال ثقافي، هي ثقافة بلا وعي وبلا بصيرة بذاتها ووجودها، بحركتها وفاعليتها (…) والسؤال اللافت والمحير هو: كيف يغيب عنا مثل هذا السؤال؟ أو لا يتجدد طرحه باستمرار، مع أنه السؤال الذي يفترض ألّا يغيب عنا؛ لأن الإجابة عنه أو الاقتراب من هذه الإجابة، لا تتوقف على مجرد إبداع هذا السؤال واكتشافه، إنما على طرحه المتكرر، وكثرة النظر فيه؛ لأنه ليس من نمط الأسئلة البسيطة أو السهلة أو العادية، بل هو سؤال الأسئلة في الثقافة، وسؤالها الحيوي، ويفترض أن يمثل محور النقاشات فيها»(٣).

عربيًّا، يمكن لنا الحديث عن صراع بين الحداثة و«التتريث»(٤) اشتد مع اتساع رقعة الأصوليات الإسلامية وسعيها الدؤوب لمصادرة الإسلام وتبديل هويته. ولعل القضية الأهم التي يجب أن تحتل النقاش الثقافي العلمي في فكرنا العربي المعاصر: أي إسلام نريد؟ إن حتمية التطور الإيجابي تفرض علينا ضرورة النقد العميق للبنى والحقيقة التراثية المقدسة في الإسلام، كما فعل فلاسفة الغرب مع المسيحية، فالإسلام لم يدخل بعد فيما دعاه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Paul Ricœur) (1913- 2005م) بــــ«أزمة الحقيقة مع ذاتها». إنه لم يتوصل بعد إلى «أشكلة» مفهوم الحقيقة، أي جعله إشكاليًّا لا بدهيًّا ولا إطلاقيًّا يقف خارج كل نقاش كما يعتقد الأصولي(٥).

لا أسعى في هذا التقديم للكتاب إلى عرض ما احتوته الحوارات التي أجريت مع أعلام عرب مبدعين من مشارب مختلفة، إنما هدفي فتح النقاش حول مسائل أجدها مهمة طرحت فيه، وقد حرصت على قراءتها كلها ولاحظت -كما أشرت سابقًا- أن الأجوبة انشغلت بأربع قضايا: الإسلام والحداثة(٦)، واضطرابات الربيع العربي، والإرهاب، والحركة الثقافية العربية. وقفت مطولًا عند جسارة بعض المفكرين، يتقدمهم الكاتب والأكاديمي الأردني فهمي جدعان، فإلى جانب خطابه النقدي للنزعة الدينية/ الاجتماعية المتمسكة بالماضي، قدَّم أفكارًا رؤيوية في مواجهة الحركات الدينية السياسية الحديثة، تتقدمها الثورية الراديكالية الإسلاموية التي تريد -وفق تعبيره- «جعل زمن الصراع التاريخي زمنًا أبديًّا، وأن تكون العلاقة بين الإسلام والمخالفين له أو المختلفين معه، علاقة صراعية دائمة، حتى بعد أن استقر دينُ الإسلام في العالم وبين البشر بما هو دين أخلاقي إنساني حضاري. هذا خِيار –والكلام لا يزال لجدعان- لكنه خِيار بائس وكارثي. لذلك هو يتطلب حلًّا تجاوزيًّا، وهذا الحل يكمن عندي في ثلاثة أمور:

الأول: الدفاع عن إستراتيجيات معرفية تعزز مبدأ «تاريخية» النصوص الدينية الصراعية، وما يقاربها من نصوص «مربكة» تتطلب الدراسات التاريخية والمفهومية المعمقة توجيه فهمهما توجيهًا سديدًا.

الثاني: تعزيز الفهم المنهجي المستند إلى ردّ «الجزئي» أو «الذري» إلى «الكلي» أو «العام» أو «الهولستي» أي المقاصدي.

الثالث: إقرار مبدأ التأويل القرآني –بالمعنى العقلاني- بديلًا لمبدأ القراءة الظاهرية للنصوص. هذه المبادئ تأذن، بصراحة، بالتحول من سياسة العنف إلى سياسة السلم والعدل القرآنية»(٧).

هامش الحرية الكبير

إن أهمية الحوارات في الكتاب أتت بالدرجة الأول من هامش الحرية الكبير الذي فاجأني حين قرأتها، خصوصًا صدامها المعلن ضد الماضوية في الدين والنصوصية التفسيرية والتراثية التي تعرقل الحداثة الدينية، والتخلف الاجتماعي وبناه الغائرة والعميقة، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على المساحة الواسعة المتاحة التي أعطيت لمجلة «الفيصل»، وهذا جهد لا يستهان به خصوصًا في السنوات الأخيرة التي تضيق فيها المنابر التي تنقد الخطاب الديني المتشدد. وإن الذي يعيش في دول الخليج العربي يدرك من كثب أن ثمة حراكًا ثقافيًّا لافتًا، فالمنطقة -وفق رأينا- تحاول بناء نفسها وتشكيل هويتها وصورتها، وأعتقد أن معركة حرية التعبير ومناقشة الأفكار في الفضاء العام بمسؤولية وطنية وأخلاقية، ستشكل أبرز تحدٍّ لاستكمال مسيرة التحديث الجارية، على الرغم من التأثيرات الهائلة التي تسببها الصراعات الإقليمية من تأخير، وأحيانًا ضمور وتراجع وانكسار. وليس خافيًا على أحد أن الحالة الثقافية في العالم العربي تأثرت كثيرًا بالتصدعات الزلزالية التي أصابت المنطقة بدءًا من عام 1967م، وما تلاه من أحداث كقيام الثورة الإيرانية عام 1979م، وتراجع الأحزاب القومية والناصرية، وانفجار المد الإسلاموي والجهادي في سبعينيات القرن المنصرم، وحرب الخليج الأولى والثانية، وأحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001م، والاحتلال الأميركي للعراق عام 2003م، وما ترتب على الربيع العربي من اضطرابات منذ أواخر 2010م، فأنتج بدوره أزمات جديدة تتعلق بالحفاظ على الدولة وصون أمنها إزاء المخاطر الناجمة عن الحركات المتطرفة العابرة للقارات والحدود.

هذه الأحداث السياسية أدت إلى تراجعات هائلة على المستوى الثقافي، فغاب عن الفكر العربي المعاصر المشروعات الكبرى الهادفة إلى بناء ثقافات حداثوية عالمة، بعيدًا من «العقل الخرافي والأسطوري». فهل ما زلنا نجرُّ وراءنا ذيول النكسة وتبعاتها؟ وأي سؤال ثقافي جامع يشغلنا الآن؟ كيف يمكن لنا الخروج على الذاكرات المتنازعة التي تكبل حركة تقدمنا؟ وأي دور للدولة في إرساء قواعد الحداثة؟ وهل استقال العقل العربي والإسلامي المعاصر من دوره؟ وإلى أي حد نحن إزاء صراع بين الإسلامات في المنطقة العربية: الإسلام السلفي والأصولي، والإسلام التقليدي، والإسلام الصوفي، والإسلام الحداثي؟ بمعنى آخر: هل نواجه اليوم معركة حرب النصوص والتأويلات؟

لا نغالي إذا قلنا: إن الإسلام كله في مخاض، وكذلك العالم العربي، خصوصًا بعد انفجار العنصر الجهادي. لقد لامست الحوارات المدرجة في الكتاب «معضلة الإرهاب» التي وصلت إلى ذروتها الأعنف، مع ما يسمى «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). وكان لافتًا بعض التحليلات التي نظرت إلى هذا التنظيم الإرهابي كحركة «رجوع بدائي» إلى الإسلام، وبأنه يريد تكوين دين جديد؛ في كل الأحوال لا يمكننا اختزال الإشكال الإرهابي بهذه العودة المرضية إلى العنف وإلى زمن البدايات الإسلامية؛ إذ ينبغي الإصغاء إلى طبقات كثيفة متشكلة في اللاوعي الديني والجمعي، تحتاج إلى منهجية علمية لفهم ظواهرها والسلوكيات الناجمة عنها. في هذا السياق تبرز أهمية التحليل الذي تقدم به علي حرب في المقابلة التي أجريت معه؛ حيث يرى أن «الجهاد الإرهابي هو آخر مراحل الإسلام السياسي. وهذه هي حصيلة كل سعي للتطابق مع الأصل: انتهاكه باستئصال كل مخالف ولو كان قريبًا أو حليفًا (…) هذا هو مآل العودة إلى نماذج مستهلكة أو بائدة لتطبيقها في هذا العصر: الإطاحة بمكتسبات الحضارة القديمة والحديثة، وانتهاك كل المقدسات والقيم والأعراف: أي البربرية والعدمية في آنٍ واحد»(٨).

والحال، هل يمكن عدّ الجهادية الإسلاموية ردًّا على الحداثة وعودة مرضية للأصلنة/ الجذور؟ إذا كانت الأصلنة (Radicalisation) تحتوي على قيمة عرضية فهي أيضًا ترمز إلى دلالة حمائية. عاين فتحي بن سلامة خلال نشاطه العيادي في الخدمة العامة ضمن الضواحي شمال باريس، وجود خطاب «فائق الإسلامية» يستبطن رغبة طارئة بتأصيل الجذور. وبهذا المعنى تُفهم الأصلنة كعَرض رغبويّ للتجذر لأولئك الذين لا جذور لهم. لم يكن مصطلح الأصلنة حاضرًا في الاستخدامات السياسية والتحليلية، وجرى الاستعاضة عنه سابقًا بمصطلحات أخرى من قبيل: الأصولية، التعصب، التبشير المتحمس (أو الدعوة الحارة للدين). يشرح ابن سلامة العلاقة بين الهوية والأصلنة الكامنة التي تتغذى على الإحباطات والكره ورفض العالم الواقعي، فتجد جوابًا لها لدى الإسلاموية الجذرية(9).

من بين القضايا المهمة التي طرحها كتاب «الحوارات»، والمدرجة في إشكاليات الاجتماع العربي، فشل مشروعات تحديث الدولة. كان للأيديولوجيات القومية واليسارية والدينية، القدرة المعطلة لمهام الحداثة السياسية؛ إذ حاول «العقل الحزبي الوصائي» تغليب الأيديولوجيا والعزو إلى غائب، على المعرفة والعلم والفهم العقلاني لمشاكل المجتمعات، وهو ما فجَّرَ البنى والعصبيات المناهضة للدولة كالقبلية والمذهبية والطائفية والهويات المحلية ونزعات الانفصال، والأخطر في المشهد، الصراع السني- الشيعي، وهو صراع يُخاض على أسس طائفية وإستراتيجية.

جمع الكتاب أسماء بارزة لها إسهاماتها الثقافية في الفكر العربي المعاصر ضمن تخصصات مختلفة ومدارس عدة، أجمعت كلها من دون استثناء على «سؤال التنوير» في الإسلام والاجتماع وعلى أولوية الخروج من الانسدادات البنيوية الراهنة؛ وهذه علامة فارقة ودالَّة تؤشر على قوة الوعي النخبوي بالأزمات العربية، سياسيًّا وثقافيًّا ودينيًّا ومجتمعيًّا.

يعرف الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Immanuel Kant) (1724- 1804م) «سؤال الأنوار» أو «التنوير» بأنه «خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه، والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد الآخر. وإن المرء نفسه مسؤول عن حالة القصور هذه عندما يكون السبب في ذلك ليس نقصًا في العقل، بل نقصًا في الحزم والشجاعة في استعماله دون إرشاد الآخر. تجرأ على أن تعرف! كن جريئًا في استعمال عقلك أنت! ذاك شعار الأنوار. الكسل والجبن هما السببان في أن عددًا كبيرًا جدًّا من الناس يفضلون البقاء قُصَّرًا طوال حياتهم، بعد أن حررتهم الطبيعة منذ أمد بعيد من أي توجيه خارجي. وهما السببان أيضًا في أنه من السهل على الآخرين أن ينصّبوا أنفسهم أوصياء عليهم. وما أيسر أن يكون المرء قاصرًا (…) إن الاستعمال العمومي للعقل ينبغي أن يكون دائمًا حرًّا، وهو وحده القادر على نشر الأنوار بين الناس، بينما الاستعمال الخاص قد يكون في العديد من الحالات محدودًا بشكل صارم دون أن يعوق ذلك بوجه خاص تقدم الأنوار. وأقصد بالاستعمال العمومي من قبل المرء لعقله: أن يستعمل عقله بوصفه عالِمًا أمام الجمهور بأكمله الذي هو عالم القرّاء. وأسمي استعمالًا خاصًّا ذلك الاستعمال للعقل، المسموح به للمرء في ممارسة المسؤولية أو الوظيفة التي أُسندت إليه بوصفه مواطنًا»(١٠).

ما الذي نستشفه أو نستخلصه من الطرح الكانطي إذا طبقناه على واقعنا العربي؟ وهل ستقودنا العقلانية إلى إدارة رشيدة لأزماتنا؟ وهل الاستعمال المستقل للعقل يساهم في تكوين المواطن الفرد وليس إنسان الجموع؟ وأي دور للحريات في تطوير الوعي بالدين والإيمان الفردي؟ وهل بمقدور العرب أن يكونوا أحرارًا في استعمال عقولهم من دون قيد أو توجس من الرقيب السياسي والديني؟ وما الدرجات التي تقاس بها الحريات عندنا؟ على قدر ما تضعنا هذه الأسئلة الصعبة أمام حرج ثقافي ومعرفي، على قدر إدراكنا بأهمية عدم القدرة على تجاوزها، فقمع الحرية وتكبيل الاستعمال العمومي للعقل، يشكلان أهم المعضلات التي تعرقل تطوير ثقافتنا العربية الراهنة التي تضيق فيها مساحات الحريات والإدارة العقلانية لشؤوننا، والتي من الضروري النظر إليهما كركيزة أساسية في أي مشروع حول مستقبل الثقافة العربية.

جعل الفيلسوف الألماني هيغل (Hegel) (1770-1831م) «تاريخ العالم ليس إلَّا تقدم الوعي بالحرية»؛ هذه المعادلة يضاف إليها سؤال «مستقبل الثقافة العربية»، يعدان من الضرورات التي يجب أن تناقش وباهتمام في الجامعات والمنابر العلمية والفضاء العمومي في العالم العربي من أجل تحديث مجتمعاتنا وتطوير وعيها بذاتها وبالعالم المحيط بها، وأيضًا في سبيل تقليم أظافر التطرف والتعصب والأصوليات والجاهليات الجديدة التي تنمو في البيئات التي تنتهك فيها كرامة الإنسان وحريته، وتغيب عنها العدالة والمساواة والحق في الاعتقاد وعدم الاعتقاد؛ «ولما كانت حرية الرأي ضرورة للإيمان الصحيح، فإن حرية الرأي أيضًا ضرورة للسلام الداخلي في الدولة، فإذا قُضي على حرية الفكر قُضي على الدولة»، هذا ما ينبهنا إليه الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا  (1632-1677م)  (Baruch Spinoza) في «رسالة في اللاهوت والسياسة»(١١). إن سؤال الحرية يرتبط بالفلسفة والديمقراطية(١٢) التي يجب النظر إليها بمنزلة الثالوث المقدس؛ فحين يسيطر الطغيان السياسي والديني، وهو -في الغالب- طغيان يعمل على تأبيد الواقع وتوطيد بنيته، يتراجع الخطاب النقدي، فتنكفئ العقول النقدية لصالح العقل الإقصائي الذي يتأسس على العنف والتطرف وإلغاء الآخر.

قدمت الحوارات المدرجة في الكتاب أفكارًا نقدية لم تهادن الأصولية ولا الاستبداد الديني والسياسي ولا القمع، واحتلت المطالبة بالقراءة الحداثية للنصوص الدينية الإسلامية حيزًا ملحوظًا في الأسئلة والإجابات عنها. طبعًا، لم يكن الدين وحده الشغل الشاغل للمفكرين الذين حُووِرُوا، فالقضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أخذت الاهتمام المطلوب. لقد لاحظنا أن الخطاب الثقافي النقدي تجاه التيارات السلفية والأصولية، كان الأشد وقعًا، فثمة لغة واضحة تطالب بالتحرر من ثقل «العبء السلفي» الذي يكبل حركية الإسلام ومسارات تطوره.

إن مسيرة التحرر من الانسدادات الدينية والثقافية والسياجات الدوغمائية المغلقة(١٣) تستوجب قبل كل شيء النظر إلى مشاكلنا وواقعنا المأزوم بعين العقل على خطى ابن رشد وغيره من الفلاسفة العقلانيين؛ كي نُخرج الإسلام المعاصر من الذائقة الموجود فيها، وكي نحرر وعينا من الجمود الفكري، بعد أن وقفت محطته عند ابن تيمية، أي في القرن الثالث عشر.


هوامش:

(١) انظر: صالح، هاشم، العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل إلى إسلام الأنوار؟ دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2016م.

(٢) يُسجل لــ«الفيصل» منذ تأسيسها عام 1977م القيام بدور تنويري في الخليج العربي والدول العربية، وقد قدمت المجلة بدءًا من عام 2016م نهجًا جديدًا واحتلت مساحةُ النقد فيها، خصوصًا في مساءلة الدين والتطرف والإرهاب، حيزًا مهمًّا وربما تجاوزت في محطات كثيرة الحدود التي يتصورها المهتمون بالشأن الثقافي لناحية الانطباعات العامة المتشكلة حول حرية التعبير والكتابة في المملكة العربية السعودية وضوابطها ضمن بيئة محافظة يشكل الدين أحد أهم هوياتها.

(٣) الميلاد، زكي، مستقبل الثقافة في السعودية، مجلة الفيصل، 1 نوفمبر 2018م.

(٤) هذا المصطلح وضعه عالم الاجتماع اللبناني خليل أحمد خليل قاصدًا به العودة المرضية للتراث بوصفه النظام والمنطلق الذي يجب أن تُبنى عليه قيمنا ورؤيتنا المعاصرة للذات والعالم.

(٥) هاشم، صالح، العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل إلى إسلام الأنوار، مرجع سابق، ص108.

(٦) نستحضر مقالة علي حرب «لا مصالحة بين الإسلام والحداثة» التي نشرها في صحيفة النهار اللبنانية في 21 مارس (آذار) 2015م؛ لسببين: الأول: اللغة النقدية العالية التي اتسمت بها، والثاني: قوله باستحالة المصالحة بين الإسلام والحداثة. يخلص صاحب «النص والحقيقة: الممنوع والممتنع» إلى «أن الإسلام الذي كان في الماضي، عنوانًا لحضارة مزدهرة، يتحول الآن كما يمارسه حراسه، إلى طوطم سلفي أو إلى ديناصور ثقافي، إلى بعبع خرافي أو إلى تنين إرهابي، وكلها صور ونماذج تستخدم في مواجهة موجات الحداثة المتلاحقة التي أفاد منها المسلمون وتأثروا بها، وإن أنكروا ذلك وجهلوه».

(٧) راجع المقابلة معه في الكتاب.

(٨) راجع: الحوار معه في الكتاب.

(9) Benslama, Fethi, Un furieux Désir de Sacrifice. Le Surmusulman, Paris, Le Seuil, 2016.

(١٠) كانط، إيمانويل، تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟ تعريب وتعليق: محمود بن جماعة، دار محمد علي للنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2005م، ص85 وما بعدها.

(١١) سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم: حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 2012م.

(١٢) راجع: نصار، ناصيف: «الفلسفة والديمقراطية وكرامة الإنسان»، صحيفة النهار اللبنانية، 18 يوليو 1995م. يناقش الفيلسوف نصار في هذا المقال العلاقات بين الديمقراطية والفلسفة، ويشير إلى أن الديمقراطية تحتاج إلى الفلسفة، والفلسفة تحتاج إلى الديمقراطية. يسعى إلى قراءة موقع الديمقراطية في أنظمة التعليم في العالم العربي، ويخلص إلى أن «أنظمة التعليم تلعب دورًا كبيرًا في انتشار التفكير الفلسفي وفي خلق الاستعدادات الإيجابية للتفاعل معه. إن التربية الفلسفية تؤدي إلى تحسين منطق التفكير والحكم، وإلى تحميل كل فرد مسؤولية التفكير في شؤونه الخاصة وفي الشؤون العامة، وإلى خلق مناخ من الحرية الفكرية ومن النقد ومن الاحترام المتبادل بين المواطنين».

(١٣) استعمل محمد أركون في نقده للعقل الإسلامي وفي مشروع ضمن الإسلاميات التطبيقية مصطلح «السياج الدوغمائي المغلق» (la clôture dogmatique) «قاصداً به السياج المشكل من العقائد الإيمانية الخاصة بكل دين، التي بقيت بمنأى عن كل تفحص نقدي أو علمي، بسبب استخدام إستراتيجية الرفض من قبل المؤمنين التقليديين». راجع: أركون، محمد، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم، دار الطليعة، بيروت، 1999م، ص50.

النسوية ما بعد الكولونيالية.. تفكيك الخطاب الاستشراقي حول «نساء الهامش»

النسوية ما بعد الكولونيالية.. تفكيك الخطاب الاستشراقي حول «نساء الهامش»

أطلق كتاب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935-2003م) «الاستشراق» حركة واسعة النطاق على صعيد قضايا «الجندر» و«النسوية ما بعد الكولونيالية»، حيث برزت أطروحات سعت إلى تفكيك الرؤى الاستعمارية والاستشراقية حول النساء في الدول المُستعمرَة سابقًا، ولا سيما تلك المرتبطة بالحريم الشرقي، والبطريركية، والإيروتيكية، وقمع الشرق للمرأة. تُعد الدراسات «النسوية ما بعد الكولونيالية» من الحقول المعرفية المعاصرة. تسعى هذه الدراسة إلى قراءة ملامح «الإنتاج الفكري النسوي ما بعد الكولونيالي»، من أجل مقاربة الترميزات الثقافية النمطية والإسقاطية حول الجندر في منطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم، المنتجة من قبل خطاب المُستعمِر والخطابات السياسية الغربية المعاصرة(1).

حين بدأتُ بالكتابة تنبهت لمسألة أساسية: أن الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية نشطت بشكل رئيس في الهند وأميركا اللاتينية وباكستان واليابان، في حين بقيت في العالم العربي خجولة؛ فالأدبيات العربية الصادرة قليلة جدًّا، وهذا ما فرض تحديًا معرفيًّا كان عليّ تجاوزه، ليس بسبب ندرة الخلاصات العربية في ميدان النسوية ما بعد الكولونيالية فحسب، وإنما لإدراكي أن علينا كباحثين وباحثات أن نولي اهتمامًا أكبر لهذا النمط من الدراسات، لكوننا أولًا في العالم العربي خضعنا للاستعمار الذي سبقته وواكبته حركة استشراقية، حملت العديد من الصور النمطية عن النساء الشرقيات المسكونات بالغواية والسحر بالنسبة لبعض «الآخر» الغربي، «النبيل والعقلاني والمتعفف». وثانيًا، لأن روايات الرحّالة وكتب المستشرقين حملت مضامين كثيرة عن نساء الشرق –سلبية أو إيجابية- فنحن أمام مخزون علينا فهمه ودرسه لنتمكن من بلورة حركة معرفية معاكسة أو أصوات بديلة. وثالثًا، لأن الخطاب السياسي الغربي المعاصر –وكذلك جزء من الخطاب الثقافي المعاصر- يضع نفسه في موقع الناطق والمدافع عن المسلمات «المعنفات» و«الخاضعات» و«المقهورات» –تحديدًا في العالمين العربي والإسلامي- بسبب المجتمع والدين ويأخذ عدته الثقافية مما أنتجته أدبيات القرن التاسع عشر.

لا بد من توضيح مسألة أخرى وردت في عنوان الدراسة: «نساء الهامش»، فما الذي أقصده؟ احتلت ثنائية المركز/ الهامش موقع الصدارة في الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية؛ والمقصود بالهامش «أولئك النساء المقهورات من قبل منظومتين: المنظومة الاستعمارية التي صورتهن ضحايا النظام البطريركي والدين، والمنظومة الأبوية الشرقية التي مارست هي أيضًا تهميشًا للنساء، قد يكون أكثر ضراوة، وهذا ما استنتجته ولاحظته العديد من المشتغلات في هذا الحقل وتطرقت في دراستي إلى بعض مظاهره.

تنطلق هذه الدراسة من أربعة محاور رئيسة:

أولًا- النسوية ما بعد الكولونيالية: الإرهاصات والوعي.

ثانيًا- «دراسات التابع»… الكتابات النسوية في الهند: غاياتري سبيفاك.

ثالثًا- ليلى أبو لغد: هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟

رابعًا- النسوية العربية والخطاب الكولونيالي: أساطير أوربا في الشرق: رنا قباني أنموذجًا.

النسوية ما بعد الكولونيالية: الإرهاصات والوعي

يتناول مفهوم «ما بعد الكولونيالية» (Postcolonialism) آثار الاستعمار على الثقافات والمجتمعات. ولمصطلح ما بعد الكولونيالي -بحسب استخدام المؤرخين له في الأصل عقب الحرب العالمية الثانية في سياقات مثل «دولة ما بعد الكولونيالية»- معنى تاريخي تسلسلي واضح؛ إذ يشير إلى حقبة ما بعد الاستقلال. على أية حال فقد استخدم النقّاد الأدبيون هذا المصطلح بداية في أواخر السبعينيات لمناقشة الآثار الثقافية المتعددة للاستعمار. وعلى الرغم من أن دراسة قوة التمثيل المسيطرة داخل المجتمعات المستعمرة، انطلقت في أواخر السبعينيات من أعمال إدوارد سعيد مثل كتاب «الاستشراق»، وأفضت إلى تشكل ما عُرف لاحقًا باسم نظرية الخطاب الكولونيالي في أعمال نقّاد مثل هومي بابا (H. Bhabha) وغاياتري سبيفاك (G. Spivak)؛ فالمصطلح الفعلي «ما بعد الكولونيالي»، لم يوظف في تلك الدراسات الأولى حول قوة الخطاب الكولونيالي في تشكيل الرأي والسياسات في المستعمرات. على سبيل المثال استخدمت سبيفاك مصطلح ما بعد الكولونيالي لأول مرة في مجموعة المقابلات الشخصية والكتابات المجمعة، التي نُشرت عام 1990م تحت عنوان «الناقد ما بعد الكولونيالي». وعلى الرغم من أن دراسة تأثيرات التمثيل الكولونيالي كانت محورية في أعمال هؤلاء النقاد، فإن مصطلح «ما بعد الكولونيالي» في حد ذاته استخدم في البداية للإشارة إلى أشكال التفاعل الثقافي داخل المجتمعات الكولونيالية في الدوائر الأدبية(2).

لقد أفضى كتاب إدوارد سعيد إلى توليد الدراسات النسوية والنقاشات المتعلقة بها في دراسات الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى تذهب أبعد من وراء هذا الحقل. تلاحظ ليلى أبو لغد، الباحثة الفلسطينية، وأستاذة الأنثروبولوجيا والدراسات النسوية في جامعة كولومبيا، أن ثمة أربعة طرق كان فيها لعمل سعيد تأثير في هذا الشأن.

أولًا- فتح الاستشراق الإمكان للآخرين حتى يذهبوا أبعد من سعيد في استكشاف مناطق الجندر والجنسانية في خطاب الشرق نفسه.

ثانيًا: قدم الكاتب تسويغًا قويًّا لظهور الأبحاث التاريخية والأنثروبولوجية المزدهرة التي زعمت أنها تتجاوز القوالب النمطية للمرأة المسلمة، أو الشرق أوسطية والعلاقات الجندرية بشكل عام.

ثالثًا: أسهم التعافي التاريخي للنسوية في الشرق الأوسط بدوره، والناجم عن هذه الوفرة الجديدة في البحث، في التحريض على إعادة بحث هذه القضية المركزية في الاستشراق: سياسة شرق/ غرب.

وأخيرًا عمل موقف سعيد على تزويد الدراسات الجندرية والنقاشات النسوية في الشرق الأوسط ببعض المشكلات الشائكة بشكل خاص، حين ألقى الضوء على الطرق الغربية التي يجري بها تحديد مكان النقد النسوي في السياق الكوني(3). يمكن تعريف خطاب ما بعد الكولونيالية بأنه «خطاب نقدي ينحو إلى تفكيك الخطاب الاستعماري، وإلى إعادة النظر في تاريخ آداب المستعمرات التي واجهت الاستعمار الأوربي. إن الهدف الأول لخطاب ما بعد الإمبريالية بجهوده الكبيرة هو إعادة كتابة تاريخ الحضارة الاستعمارية من وجهة نظر من استُعمِروا (…) إن نظرية ما بعد الكولونيالية، هي في الحقيقة قراءة للفكر الغربي في تعامله مع الشرق، من خلال مقاربة نقدية بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية(4).

أوضح لنا إدوارد سعيد المنظومات الاستشراقية المتنوعة عن الشرق التي حملها المستشرقون والرحّالون والأكاديميون الغربيون، فشخّص «كيف كان الشرق صورة مرآة عكسية لــ«الآخر»، أي الغرب المتفوق. لقد كانت مقولته بأن التصوير لشرق أحادي ومتسق يؤدي إلى صور جوهرية ونمطية، يصنف بها الشرق بصفته متخلفًا وغير قابل للتغيير، وغير عقلاني ومهددًا ويجب السيطرة عليه جنسيًّا، وهي مقولة مثيرة للنقاش والتحدي. فلم يسبق أن قُدِّمت خيالات الحريم والحمام التركي، وهي مجازات رئيسة في الخيال الأوربي، كرموز جنسية نمطية للشرق المتخيل، بصورة أبرز من تلك التي قدمها في الاستشراق. نجد أن سعيدًا قد عرض لموضوع الخيالات الذكورية الغربية: فقد كان على الشرق الأنثوي والضعيف أن يتعرض لغزو الغرب القوي والمسيطر جنسيًّا. فعلينا أن ننسب إليه لفت أنظارنا إلى فكرة الاستعمار القائم على مفاهيم الجندر، ولكن من غير المؤكد أنه يجب النظر إلى عمل سعيد على أنه يهتم أساسًا بمسائل الجندر في حد ذاتها، أو أن عمله يركز على قصد الصورة وبنائها. ومع ذلك، فإن مقولته الأساسية قد أعطت بالتأكيد دفعة للدراسات الأنثروبولوجية عن الحياة الجنسية والتاريخية، وأعادت التفكير في العلاقات المتشابكة للسيادة بين الشرق والغرب، حيث أدت نظريته إلى صقل المقاربات النسوية وتطوير الدراسات ما بعد الكولونيالية. فقد كان أول من ربط الخيالات الجنسية للرحّالة بنزعة الهروب إلى الشرق. ونتج عن هذا الوعي إنتاج فكري مهم استعار منهجه من ميشال فوكو (Michel Foucault) (1926- 1984م) وتنظيره حول السلطة، وهدف إلى تفكيك الصور النمطية في البحوث التي تتناول المجتمعات الإسلامية. وقد واصل كثيرون ما بدأه سعيد من جهود، مثل ماري لويز برات، وبيتر هيوم، وهومي بابا، وغاياتري سبيفاك، ورنا قباني وغيرهم. فمنذ ظهور كتاب الاستشراق ظهرت كمية مدهشة من الأعمال في شتى مجالات الإنسانيات. وركز الإنتاج الفكري ما بعد سعيد على التحيزات والترميزات الثقافية النمطية والافتراضات المسبقة حول الجندر في الحقبة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وقد تم هذا على مستويين: من خلال التحليل النصي وفي الدراسات الأنثروبولوجية(5).

نجد في كتاب «خيالات كولونيالية: نحو قراءة نسوية للاستشراق» (Colonial Fantasies: Towards a Feminist Reading of Orientalism) لأستاذة الدراسات الثقافية وعلم الاجتماع (المتخصصة في دراسات ما بعد الكولونيالية) ميدة يغينوغلو (Meyda Yeğenoğlu) دراسة غنية ومدهشة للتمثيل الثقافي للغرب لنفسه من خلال الآخر، فهي تبحث في الاستشراق وتعبيره عن الاختلافات الجنسية والثقافية، كما تحلِّل كلًّا من فئتي الجندر والاستشراق من أجل إعادة صوغ الخطاب الاستشراقي. وتركز على مفهومي الخيال والرغبة، وتربطهما بالبناء التاريخي المحدد وبالعملية الجماعية، فهي تبحث بالتحديد في الطريقة التي نُظر بها إلى الحجاب وممارسة التحجب والحريم في الخيال الغربي، بداية من ملاحظات فرانز فانون حول الحجاب في الجزائر. فقد كان ينظر إلى الشرق باعتباره تجسيدًا للحسية، وفُهِم بمفردات أنثوية. أما الحريم فكان يمثل العالم الغامض للشرق، والحيز الخفي والمحظور الخاص بالنساء. وتتساءل الكاتبة حول كتابات الرحَّالات الغربيات من النساء، وكيف أن كتاباتهن تدعم كتابات الرجال وتكملها بـــ«المعرفة من الداخل»(6).

أما ليلى أبو لغد فقد طرحت في كتابها (Remaking Women) «إعادة تشكيل النساء» مسائل الحداثة وبناء الدولة القومية وما بعد الكولونيالية في علاقتها بتاريخ النسوية في الشرق الأوسط(7). لن نتطرق إلى كتاب ليلى أبو لغد في ورقتنا هذه، إنما سندرس مقالها «هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ تأملات إناسية في النسبية الثقافية وحواشيها»، حيث تقدم فيه مقاربة نقدية للمبررات التي رفعت لتبرير التدخل الأميركي في أفغانستان بعنوان: «تحرير أو (إنقاذ) المرأة الأفغانية». من المهم الإشارة إلى أن المقال تطور إلى كتاب يحمل العنوان نفسه: (Do Muslim Women Need Saving) صدر عام 2013م عن (Harvard University Press).

يعتبر «أساطير أوربا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ» للباحثة السورية رنا قباني، من ضمن أبرز الأدبيات التي تندرج في الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية، وسوف ندرس بعض الأفكار التي عالجتها في هذه الدراسة. إن حقل الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية في العالم العربي، ما زال في مراحله الجنينية قياسًا إلى الدراسات في الهند وأميركا اللاتينية واليابان. وهنا من المفيد الإشارة إلى الكتاب الذي حررته وقدمت له أستاذة دراسات العالم العربي المعاصر في جامعة مانشستر هدى الصدة تحت عنوان: «أصوات بديلة: المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث»(8)، وهو كتاب يحتوي على مقالات مترجمة لمفكرات مهتمات بالدراسات النسوية، وبدراسات التابع في العالم الثالث الذي يشهد على الاهتمام بهذا الحقل المعرفي.

في كتابه «الحريم الاستعماري» (The Colonial Harem) (1986) قام الناقد الأدبي الجزائري مالك علولة (1937- 2015م) بدراسة لبطاقات البريد التي أنتجها الفرنسيون في أثناء الاحتلال الفرنسي، محللًا كيف جرى تأطير واختزال شخصية المرأة في صورة، وبذلك استخدم مفهوم رولان بارت في رؤيته للكاميرا كفاعل اختزالي للشخصية، وأضاف له رؤيته الخاصة في كيفية التطويع التاريخي لصورة الجزائري والعربي، وتكييف الصورة بما يناسب العين «الشريرة» التي تريد تصميم الشرق حسب رؤيتها الخاصة. يقول الكاتب في مقدمة الكتاب: «ليس هناك توهم بلا جنس، ومن خلال هذا الاستشراق يتم إعداد منتج يشمل الجيد والسيئ –والسيئ إجمالًا– هذا المنتج يحمل صورة متكاملة تمثل هاجسًا واحدًا هو الحريم (Harem). يؤول علولة بعض أوجه استخدام هذه الصور في إعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية مرة أخرى، بجعل المحتل والناظر في موقع الذات الفاعلة أو الناظرة للجزائريات، وهن في موقع الموضوع أو المفعول به، عن طريق إعدادهن لوقفة الصورة ووضعهن في إطار محدد، ومن ثم خلق صورة معينة لهن. يرى علولة أن بطاقات المعايدة التي تصور الجزائريات تعمل من خلال آلية فعل ثلاثية: علم الأعراق، الذي يدعي تمثيل الحقيقة، أيديولوجية استعمارية لا تبوح بعلاقة القهر الموجودة بين الفرنسيين والجزائريين، والوهم الذي ينطوي على خيالات مكبوتة لدى الرجال الفرنسيين عن النساء الجزائريات(9).

إدوارد سعيد

«دراسات التابع»… الكتابات النسوية في الهند: غاياتري سبيفاك(10)

أنتجت «الدراسات ما بعد الكولونيالية» ما يطلق عليه المتخصصون «دراسات التابع» (Subaltern Studies)؛ وهو ميدان معرفي يناقش مؤثرات الاستعمار في الثقافات والشعوب التي عانت الحكم الكولونيالي. تبلور في ثمانينيات القرن المنصرم على يد مجموعة من الباحثين الهنود، وفي مقدمهم المفكر الهندي رانا جيت غوها (Ranajit Guha)؛ أحد رواد «دراسات التابع». وبدءًا من منتصف التسعينيات دخلت «دراسات التابع» الدراسات النسوية والإفريقية والأميركية اللاتينية –ولاحقًا العربية وإن لم تأتِ بمستوى التنظير نفسه- وهو ما جعلها مقاربة للتاريخ قائمة بحد ذاتها لا تقتصر على منطقة جغرافية محددة(11).

«تعد سبيفاك من المؤسسين الفعليين لنقد الخطاب الكولونيالي الجديد، وهي أول منظِّرة هندية في مرحلة ما بعد الاستعمار. اهتمت بالدفاع عن المرأة الشرقية، ومواجهة الهيمنة الغربية، والدفاع عن المهاجر والاهتمام بالأدب والثقافة (…) ظلت منذ أواخر السبعينيات مرتبطة بتأسيس نظرية ما بعد الكولونيالية، وتعتبر واحدة من أبرز نقادها، وكانت مؤثرة بشكل كبير في فهم مجموعة من الأسئلة تطرح عن الاستعمار والهوية، وكان إسهامها في نظرية ما بعد الاستعمار بمثابة مزيج متنوع من الماركسية وما بعد البنيوية والنسوية، رغبة منها في إدراك التشكيل المعقد للذاتية والهوية الثقافية. تهتم سبيفاك بالأبعاد المعرفية والخطابية للتدخلات الأوربية في ثقافات الآخرين (…) وتركز بصورة مشابهة لإدوارد سعيد، على العلاقات النصية المتمثلة بالأدب واللغة، التي تسعى إلى إخضاع ثقافة الآخرين لخدمة المركز لتخدم المركز الثقافي، وهذا لا يعني أنها لا تحاول إظهار القوى المادية للمستعمِر والاستغلال الاقتصادي للأمة المستعمرَة، إنما تعمل جاهدة على فهمها من طريق البنى التمثيلية والخطابية. وهكذا فإن عملها ينصب بشكل أساسي على الهامش والمركز للبحث عن مكانة النساء بصورة مقارنة بين المرأة في العالم الثالث المهمشة، والمرأة في العالم الأول السائدة، من أجل الوصول إلى خصوصية وضعية المرأة في العالم الثالث»(12).

«عرفت دراسات التابع منذ ربع قرن، واستأثرت باهتمام كبير في أوساط المؤرخين والمفكرين والنقاد، وتمثل اليوم الموضوع المركزي لدراسات ما بعد الاستعمار (أو الكولونيالية) في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وتمثل لبّ الدراسات الثقافية التي تخطت المفاهيم التقليدية للنقد الأدبي، وفتحت الأبواب بين الأدب والفكر والتاريخ والأنثروبولوجيا والسياسة باعتمادها على فكرة التمثيلية (Representation)، أي الكيفية التي تتجلى فيها الأحداث في الخطابات بكل أشكالها. وفي مطلع ثمانينيات القرن العشرين ظهرت جماعة دراسات التابع (Subaltern Studies Group) وهي جماعة أكاديمية جريئة من المؤرخين الهنود الذين قلبوا تاريخ الهند الرسمي الذي كتبته النخبة المتأثرة بالسياسات الاستعمارية البريطانية، واقترحوا إعادة كتابته في ضوء مفاهيم مغايرة متصلة بالتاريخ الشفوي المنسي الذي استبعدته النخب الاستعمارية (…) صدر المجلد الأول من دراسات التابع عام 1982م، وصدر المجلد الحادي عشر منها عام 2000م»(13).

«وظفت دراسات التابع مفهوم (التمثيل) الذي اقترحه فوكو وطوره إدوارد سعيد في نظريته النقدية القائمة على هذا المفهوم، كما تأثرت بمناهج ما بعد البنيوية والتفكيكية، ومنها الدراسات المتخصصة في قضايا الخطاب. أفادت سبيفاك من كل ذلك في مجال دراسات اللغة، وقوة الخطاب، فكشفت طبيعة التعارض بين الثقافات الأصلية والثقافات الاستعمارية. وطورت جوانب حيوية في مجال دراسة المرأة، حيث فُتِحَ مجالٌ أمام كتابة تاريخ جديد للأنوثة، عبر التركيز على دراسة مفهوم الجنوسة، لكشف الجانب المغيب للأنوثة لأن تمثيلها عرف غيابًا في خطابات مدارس الحداثة، وما بعد الحداثة»(14).

في بحثها: «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟»(15) (Can the Subaltern Speak?)(16) تطرح سبيفاك سؤالًا جوهريًّا: «هل توافرت السياقات الثقافية المواتية للتابع كي يتكلم؟ هل يتمكن من الحديث كي يسمع صوته؟ فالشعوب المستعمَرة سُلب منها حق تمثيل نفسها، أي سلبت حق الكلام (…) تؤكد سبيفاك أن البحث عن التابعية الجديرة بالتصديق والأصلية، هو مشروع مضلل ولا يمكن بلوغه. ويمكن متابعة هذه المسألة من طريق مثال «ساتي» (Sati) وهو طقس هندوسي تقوم فيه الأرملة برمي نفسها في محرقة زوجها؛ وهذا التقليد الهندوسي يساعد على فهم ما تطلق عليه سبيفاك «العزل المضاعف» للمرأة في الهند، وأن هذا الطقس الهندوسي منظّم بواسطة العادات الأبوية في الهند، والقانون البريطاني الاستعماري. فالوطنيون الهنود الذين يستندون إلى النظام الأبوي يؤسسون خطابًا مشغولًا بنوايا النساء اللاتي يمارسن طقس «ساتي»، ويرون أن المرأة نفسها هي التي ترغب في أن تموت، في حين أن البريطانيين شرعوا قانون منع هذا الطقس عام 1929م في أثناء انتدابهم للهند. كانوا يؤسسون تشريعهم هذا على أساس ينطلق من مفهوم التحضر الشامل، وكأنهم يريدون أن يقولوا: إن الإنسان الأبيض قد أنقذ المرأة السمراء من الرجل الأسمر؛ ولذلك فإن صوت المرأة يغيب في كلا الموقفين: الموقف الاستعماري، والموقف الأبوي. وتصل سبيفاك إلى نتيجة مهمة في فهم تاريخ «ساتي» تتمثل في أنه تاريخ للقمع المضاعف وسرد يقوم على المرأة المهمشة والتابعة»(17).

«تقول سبيفاك: إنه من خلال قيامهن بطقس (ساتي)، تعبر النساء المهمشات من الهندوس عن صوتهن، صوت نعتبره اليوم غير مفهوم وغير منطقي. فثمة تضافر بين الهيمنات الكبرى للنصوص الدينية الهندوسية المشجعة على حرق المرأة، وبين فكرة تبعية المرأة للرجل بفعل هيمنة الثقافة الذكورية، ثم هيمنة الأبوية، والهيمنة الاستعمارية، وما دام الصوت تابعًا؛ وهو هنا المرأة التي وجدت أن فكرة الحرق تعبير عن الوفاء مخنوقًا، وسط دوائر متضافرة من الحجب والمنع، فهو –إذن- صوتٌ صامتٌ ومحكومٌ بالفشل؛ لأن قوة المتبوعين سواء كانوا تقاليد دينية، أو ثقافة أبوية، أو ثقافة استعمارية، تحول دون انبثاق صوت التابع، ولكنها تقترح حلًّا لا يقف أمام هذه النهاية، يتمثل في استعادة وعي التابع عبر صوت المثقف المنبثق من صلب الجماعة، لكي ينوب عنها في التعبير، لكن ذلك – في حد ذاته- يعيدنا إلى فكرة التمثيل، بما فيها التي طرحها ماركس حول عجز الشرقيين عن تمثيل أنفسهم. وسؤال سبيفاك يتخطى المباشر إلى آخر فلسفي متعالٍ، فهي تتحدث أيضًا عن إمكان حقيقة تأثير كلام التابع وصدقه؛ إذ ليس كل كلام يحمل الحقيقة، فحديث التابع محاط بسياقات ضاغطة، من ثقافات أخرى تجعله غير قادر على التعبير عن الحقيقة، فقد جرى التواطؤ بسبب السياسات الاستعمارية، بأن التابع غير قادر على تمثيل نفسه، ولا بد أن تمثله السلطة الاستعمارية»(18).

ليلى أبو لغد

ليلى أبو لغد: هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟

في مقالها: «هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ تأملات إناسية في النسبية الثقافية وحواشيها»(19)، تتساءل ليلى أبو لغد عما إذا كان يمكن للإناسة، بوصفها علمًا مكرسًا لفهم الاختلاف الثقافي والتعامل معه، أن توفر لنا مقاربة نقدية للمبررات التي قدمت لتبرير التدخل الأميركي في أفغانستان بعنوان تحرير أو إنقاذ المرأة الأفغانية. إن الهدف من استحضار هذه المقالة محاولة فهم الكيفية التي يرفع فيها الخطاب السياسي الغربي المعاصر رؤيته «الإنقاذية» للنساء «المسلمات المقموعات» في العالم الإسلامي، مستعيدًا بذلك النبرة الاستشراقية التي عملت –سابقًا- على تكريس نمطين: الأول: صورة المرأة الشرقية/ المسلمة الخاضعة. والثاني: النظر إلى الشرق بوصفه شرقًا حسيًّا مستبدًّا قامعًا للنساء، وهو ما يستدعي إنقاذهن ضمن نبرة تبشيرية.

تحلِّل أبو لغد الخطاب السياسي الأميركي الذي رافق الحرب الأميركية على الإرهاب في أفغانستان، تلك الحرب التي اتخذت مهمة تحرير أو إنقاذ المرأة الأفغانية كإحدى مبرراتها من براثن طالبان. تؤسس الباحثة خلاصاتها عبر القراءة النقدية، انطلاقًا من درسها لهذا الخطاب السياسي والإعلامي، آخذة في الاعتبار الجانب الثقافي «المعياري» والنمطي المسيطر على العديد من البرامج التلفزيونية في الولايات المتحدة. تضعنا أمام سؤالين إشكاليين: لماذا يُعتقد أن معرفة ثقافة المنطقة، وخصوصًا المعتقدات الدينية السائدة فيها وأساليب معاملة النساء، أهم من الكشف عن تاريخ تطور الأنظمة القمعية في المنطقة، ودور الولايات المتحدة في ذلك؟ لِمَ كانت المرأة المسلمة عمومًا، والأفغانية خصوصًا، بمثل هذه الأهمية لهذا النمط من التحليل الثقافي الذي يتجاهل التشابكات المعقدة، التي نجد أنفسنا –أحيانًا- متورطين جراءها في بعض التحالفات الصادمة؟ لماذا جرت تعبئة الرموز الأنثوية في هذه الحرب على الإرهاب بصفة غير مسبوقة في أي صراع آخر؟)(20) تفند أبو لغد خطاب لورا بوش الإذاعي الذي بثّ يوم 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2001م، «فمن ناحية، قام هذا الخطاب بهدم الاختلافات القديمة؛ إذ تضمن خلطًا مستمرًّا بين طالبان والإرهابيين، ليغدو الأمر في نهاية المطاف أمرًا واحدًا: وجهان لهوية شرسة ومتوحشة. ومن ثم نجد تغييبًا تامًّا للأسباب الحقيقية لمعاناة الأفغانيات من سوء التغذية والفقر والمرض، والحرمان من حق العمل الذي أقرته طالبان، وصولًا إلى التعليم ومتعة طلاء الأظافر. ومن ناحية أخرى، لعب خطاب لورا بوش لصالح تقسيمات عميقة مستجدة بين الشعوب المتحضرة القاطنة جلّ أرجاء المعمورة، التي تنفطر قلوبها حزنًا على النساء والأطفال الأفغان من جهة، وطالبان الإرهابيين، تلك الوحوش الثقافية التي تسعى -بحسب عبارتها- إلى فرض عالمها على بقيتنا، من جهة أخرى»(21).

تركز أبو لغد في مقالها على الكيفية التي تعاطى بها الإعلام والخطاب السياسي الأميركي، مع البرقع الذي ترتديه الأفغانيات أو «المرأة المغطاة» والمفروض عليهن من قبل جماعة إرهابية، فتستعيد موقف التاريخ الاستعماري من قضية الحجاب في العالم العربي وتحديدًا في الجزائر؛ «فتجربة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، شهدت على الدوام هيمنة الصورة الجنسية والحسية والإيروتيكية لنزع الحجاب، وشهوة كشف الغطاء واختراق الخفاء، وليس صورة نزع الحجاب بهدف تحرير المرأة»(22). تدقق أبو لغد في مسألة النساء الأفغانيات التي ادعت لورا بوش أنهن فرحن حين حررهن الأميركيون من طالبان. ولكن لماذا لم تتحرر الأفغانيات من البرقع بعد ذلك؟ تلفت إلى أن طالبان لم تخترع البرقع. فقد كان البرقع شكلًا محليًّا للتّغَطِّي، تلبسه نساء البشتون عند مغادرتهن المنزل. والبشتون هي إحدى المجموعات العرقية المتعددة بأفغانستان، التي طورت أشكالًا مختلفة للتغطي بشبه القارة الآسيوية وجنوبها الغربي، كوسيلة ترمز لتواضع المرأة أو لحرمتها. فقد قام البرقع مثل بعض أشكال الغطاء الأخرى، وفي أمكان مختلفة، بتورية الفصل الرمزي بين مجال الرجال ومجال المرأة، نظرًا لتعامل المرأة مع المنزل والعائلة، لا مع الفضاء العمومي الممتلئ بالغرباء»(23).

تشير أبو لغد إلى خلاصة أولية دالة في نقاشها حول الأشكال المختلفة للتغطية، فتعتبر أنها تحمل دلالات مختلفة داخل الجماعات التي تنتمي إليها، فلا يجب الخلط بين الأمور «وألا نجعل من التحجب علامة على فقدان السيطرة على الذات». تصل إلى هذه الخلاصة بناءً على التقرير الذي أنجزته حول إحدى الجماعات البدوية المصرية، حين قامت بأعمال ميدانية هناك أواخر السبعينيات وخلال الثمانينيات؛ «فإن تغطية الوجه بقماش أسود أثناء التحدث مع رجال محترمين من كبار السن، تعتبر حركة عفوية، تبادر بها النساء ذوات الحس الأخلاقي العميق والمرتبطات بفكرة شرف العائلة، أي: إن تلك الممارسة تتحول في سياقات معينة مخصوصة إلى إحدى الطرق التي تظهر بها النساء التزامهن بذلك، وهن يقررن عن طواعية من هم الرجال المناسبون الذين ينبغي التحجب أمامهم»(24).

ترى أبو لغد خلال نقاشها للخطاب السياسي والثقافي والإعلامي الغربي تجاه «تحرير النساء المسلمات من الحجاب» «أنه لا بد من النظر إلى الحجاب في سياقاته المختلفة، بعيدًا من القوالب الثقافية الجاهزة وفي سبيل تقبل الاختلاف، داعية إلى العمل الجاد من أجل تعقل الاختلافات واحترامها بما هي منتجات لتواريخ مختلفة، وتعبيرات عن ظروف وتمظهرات لرغبات مبنية بصيغ متمايزة. قد نكون نريد العدالة للمرأة لا أكثر ولا أقل، لكن هل يمكننا تقبل فرضية وجود أفكار متمايزة عما نعتقده بشأن ماهية العدالة، وأن نساء مختلفات ربما سيرغبن في، أو يخترن، مصائر مختلفة عن مصائرنا؟»(25). تلفت أبو لغد إلى أن مشروعات إنقاذ النساء تعتمد على شعور بالتفوق لدى الغربيين، وتعززه، والحال هذه، أنه شكل من أشكال الغطرسة التي ينبغي تحديها (…) ونحن بوصفنا أنثروبولوجيين أو نسويات أو مواطنين مسؤولين، يجب أن نحذر من النهل من عقليات القرن التاسع عشر، وأعني بذلك عقليات المبشرات المسيحيات اللواتي كرسن حياتهن لإنقاذ شقيقاتهن المسلمات»(26). تتساءل أبو لغد: ألا يمكننا ترك مسألة التحجب ودعوات إنقاذ الآخرين جانبًا، والنظر إلى الوسائل المناسبة لجعل العالم أكثر عدلًا؟ كان جوابها بصيغة طرح إشكالية جديدة: هل يمكن أن نوظف لذلك لغة أكثر مساواتية ترتكز على مفاهيم التحالف والائتلاف والتضامن، بدلًا من الإنقاذ؟(27)

مالك علولة

النسوية العربية والخطاب الكولونيالي: أساطير أوربا في الشرق: رنا قباني أنموذجًا

يناقش كتاب الباحثة السورية رنا قباني: «أساطير أوربا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ»(28) ما سجله بعض الرحّالة الأوربيين من انطباعات حول الشرق في رواياتهم، وخصوصًا ما يتعلق بالنساء الشرقيات والمسلمات. تلاحظ قباني أن الإسلام احتل حيزًا مهمًّا من تمثلات هؤلاء الرحّالة؛ ذلك الإسلام الذي نُظر إليه لمدة طويلة، من قبل الوعي الأوربي، على أنه دين التعصب والعنف، وعلى أنه «إلغاء للمسيحية»، وأن رسوله محمدًا «عدو المسيح»، وقد انعكس ذلك في الأفكار العامة التي تحكمت في مسار هذه الروايات الأوربية على مستوى الدين والعرق والثقافة والمرأة. تجدر الإشارة إلى أن الأدبيات الأوربية والحوليات والوثائق المعنية بالدين الإسلامي، كانت حتى القرون الوسطى تستخدم مصطلحات مثل: الإسماعيليون أو السراسنة (Sarrasins) أو الهاجريون، حين كانت تتحدث عن المسلمين، ولم تستعمل عبارتي «مسلم» أو «إسلام» قبل القرن السادس عشر. لا نتوخى هنا تقديم قراءة شاملة لـ«أساطير أوربا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ» بل سنتوقف عند بعض محطاته. يتضمن الكتاب في عمقه «صوت التابع» أو «الأصوات البديلة» وهو يحاجّ «الروايات الأوربية عن الشرق» التي تركز بشكل متعمد «على تلك السمات التي تجعل هذا الشرق مختلفًا عن الغرب، وتنفيه إلى عالم الآخر، وتخفضه إلى مرتبة الغير الذي لا صلاح له. وكان في هذه الروايات الأوربية التي تصف الآخر مقولتان لافتتان للنظر: الأولى: الإلحاح على الادعاء بأن الشرق هو (مكان الفسق والملذات)، والثانية: أن هذا الشرق هو (عالم العنف المتأصل). وكان لهاتين المقولتين أهميتهما في فكر العصور الوسطى، وظلتا تترددان بدرجات متفاوتة من القوة حتى وقتنا الحاضر»(29).

يغطي الكتاب أدب الرحلات الأوربية إبان القرن التاسع عشر. بعد صدور كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، وُظـِّف أدب الرحلات في الحقول المعرفيّة المختلفة لتحليل الخطاب الغربي، وكشف الطرائق التي سلكها الأوربيّون في رؤيتهم وتصويرهم للأجناس الأخرى في الشرق(30). تنطلق قباني من فرضيتين: الأولى: أن بريطانيا أنتجت حجمًا هائلًا من أدب الرحلات، وذلك في محاولتها المسعورة لمعرفة العالم الذي كانت بصدد غزوه. فالرحَّالون سافروا لخدمة وطنهم، وكانوا عينه التي ترى، وصوته الذي يروي. ولهذا كانوا يتمتعون بالدعم المالي الرسمي، باعتبار أن روايات رحلاتهم هي التي صوّرت العالم كما أرادته الإمبريالية. والثانية: كانت روايات الرحلات الفيكتورية المرتبطة بعلم حديث الولادة هو الأنثروبولوجيا. ومع أن هذا العلم أصبح -فيما بعد- يساوي بين الثقافات والأجناس، فإن بداياته كانت غالبًا ما تدغدغ زهو الأوربي بنفسه، وتُدخل في روعه أنه هو «ذروة التفوق بين أجناس البشر الأخرى»، وأن تلك الأجناس هي أدنى مرتبة منه»(31).

ثمة ملاحظة دالة تشير إليها الكاتبة حين تسترشد بمقولة سعيد: «عندما عمل الغرب على توثيق الشرق (أو ذلك الآخر، ذلك النقيض، ذلك العدو) فإنه انتهى إلى توثيق نفسه». «ومع أن قصص الرحلات في إنجلترا الفيكتورية عكست خصوصية كل فرد من أولئك الرحالة، فإنها كانت بشكل رئيس تكرارًا لأفكارٍ موروثة (…) ولكن هذا لا يعني أن جميع الرحالة الذين تحدثوا عن الشرق أساؤوا تصويره –كما تلفت قباني- وإنما يعني أن سوء التصوير هو الذي طغى، وهو الذي أسر خيال عامة الناس»(32).

تستند قباني إلى مجموعة من الروايات الأوربية التي عكست الصورة «الحريمية والإيروتيكية» للمرأة الشرقية، وهي انطباعات إسقاطية ظللت أدب الرحلات. تقدم رواية (Bevis of Hampton) أنموذجًا «للأميرة المسلمة العاشقة»: فهي على أتم الاستعداد لتخدم فارسها المسيحي بخنوع وإخلاص، أما هو فيثير فيها الرغبة الجامحة لأنها «شهوانية بالفطرة». إن الأميرات المسلمات في مشاهد الغواية في روايات القرون الوسطى «هن اللواتي يتوددن إلى الفارس، وهن اللواتي يقتحمن مخدعه ويمنحنه أجسادهن، ولكنه هو الذي يتعفف ويرفض»، بل «إن هؤلاء المسلمات الغاويات مستعدات للتخلي عن دينهن من أجل حب الفارس»(33). وفي حين تصور الأميرة المسلمة «خائنة وفاجرة وأنانية» كما تشخصها رواية (The Sowdone of Babylone)، نجد بالمقابل البطلة المسيحية في الرواية تُصور امرأة عفيفة تضحي بنفسها عن طيب خاطر: ففي رواية (ملك التار) (The king of Tars) ترضى أميرة مسيحية بالزواج من ملك مسلم أسود وهمجي؛ في سبيل أن تنقذ قومها من الهلاك»(34). لقد احتل مفهوم «الغواية» للمرأة الشرقية موقعًا فضائحيًّا في أدب الرحلات الأوربية إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتجلى ذلك –أيضًا- في الرسومات التي تصف الحمامات وما يجري فيها، مثل لوحة (الحمام) لـجان ليون جيروم (Jean-Leon Gerome) وهو من أشهر الفنانين المستشرقين، درس اللاتينية والإغريقية والتاريخ. قام بأربع رحلات إلى الشرق أولها لمصر، ورسم لوحات عديدة تضمنت صور العاريات في الحمامات، وأسواق الجواري، والراقصات.

شكلت قصص «ألف ليلة وليلة» مركزًا آخر لتمثلات الرحالة والمستشرقين حول الشرق. تقول رنا قباني: إن أنطوان غالان (Antoine Galland) المستشرق الفرنسي الذي ترجم «ألف ليلة وليلة» لأول مرة عام 1704م، «كان العنف في الشرق في يومياته، غالبًا ما يُقرن بالمرأة»، وهو أمر تكرر في كتابات الرحلات الأوربية: «فعالم الحريم العدواني النزعة والزاخر بالجرائم العاطفية»، كان حاضرًا باستمرار في ذهن الرحالة الأوربيين، وطالما فتنه وأثار فضوله، فعمل بكل الوسائل على تصويره»(35). كانت المشاعر الأوربية –كما تشير قباني- حيال المرأة الشرقية متذبذبة لا تستقر على حال؛ إذ كانت تنوس بين الرغبة والشفقة وبين الاحتقار والغضب. وكانت النساء الشرقيات يُصوَّرن مرات «ضحايا للجنس» و«مرات ساحرات ماكرات». وقد رأى الرحالة والكاتب الفرنسي جان شاردان (Jean Chardin) في روايته (Voyages de monsieur le chevalier Chardin en Perse et autres lieux de l’Orient) في الشرقيات «أكثر نساء الأرض مكرًا، وأنهن متعجرفات، وغادرات، ومخادعات، وشريرات، وفاجرات، وأنهن يقضين كل حياتهن في الإعداد للجنس وحبك المكايد الجنسية (…) ويلخص صفاتهن بقوله: «إن الشرقيات يقضين عمرهن باللامبالاة والكسل، ولا عمل لهن إلّا الاستلقاء طيلة النهار على الأسرّة، حيث يتلذذن بمرور أيدي الجاريات على أجسادهن تمسيدًا ودعكًا، أو أنهن يمضين وقتًا في التدخين»(36).

«لقد فُتنت أوربا بشرق يومئ إليها من بعيد، ويعدها بمباهج مثيرة، وبرحلة خارج الذات هربًا من قيود البرجوازية وتعاليم حواضرها، وتصرف الأوربي أمام الشرق كما لو أنه أمام امرأة». هنا تسجل رنا قباني انطباع إدوارد لين (Edward Lane) المستشرق الإنجليزي حين قصد مصر لأول مرة، التي لطالما حلم بها منذ طفولته: «وجدتني وأنا أقترب من الشاطئ كأنني عريس شرقي يوشك أن يرفع نقاب عروسه». وتعقيبًا على ذلك تقول: «لقد انجذب الأوربي إلى الشرق بدافع الجنس وحين دخل إلى هذا الشرق، دخل إلى عالم الحريم المتخيّل، مثقلًا بتوق مبهم غامض الملامح. فهذا الأوربي يأتي من عصر جُعلت فيه المرأة واحدة من ثلاث: فهي إما الزوجة المترفة التي ماتت لديها شهوة الجسد، أو هي خادمة المنزل التي سلبها عملها كل جاذبيتها، أو أنها المومس التي تنوء بالمهمات التي أُعفيت الزوجة منها»(37).

لم يكن الرقص الشرقي بمعزل عن الانطباعات التي سجلها الرحالون الأوربيون: (لقد أُضفي على الرقص الشرقي في الفن الغربي طابع التعري الذي بهر المشاهد، وجعله يرى الشرق كله متمثلًا فيه. فلوحات القرن التاسع عشر الاستشراقية، جعلت هذا الرقص رمزًا إلى الشرق المتهتك، وأبرزت اختلافه الدرامي عن الرقص الغربي؛ إذ إنه «لم يكن مثله مجرد تصوير نوعٍ من النشاط الاجتماعي»، بل كان يهدف بالدرجة الأولى إلى إرضاء المشاهد الذي لا يشارك في الرقص، بل يجلس ليملي النظر بالمرأة الراقصة التي لا يكاد يستر جسدها شيء. وهكذا أصبح بالمستطاع استخدام الرقص وسيلة للتعبير عن الرؤية الغربية لصفات الشرق: فهو يصور العري الأنثوي والأماكن المترفة المغلقة، والمجوهرات، والتلميحات إلى السحاق والتراخي والعنف الجنسي، أي بكلمة واحدة: أصبح هذا الرقص هو «الشرق»)(38).

أظهرت رنا قباني الجوانب السلبية لأدب الرحلات الذي كُتب حول الشرق، وقد ركزت على فكرة العوالم المنقسمة بين الغرب العقلاني والشرق الغرائزي، حيث تحتل فيه النساء الغاويات موقع الصدارة. كشف الكتاب عن تحليل نقدي تأثر -إلى حد كبير- بخلاصات إدوارد سعيد؛ غير أن هذه النزعة النقدية عند قباني تجاه دراسات أدب الرحلات لم تتخذ نمطًا واحدًا؛ أي: إن ثمة خلاصات أخرى لم تستبطن الصورة النمطية أو السلبية لأدب الرحلات، كما برهنت عليها قباني وسعيد. وقد وجه العديد من الكتّاب النقد للمدرسة «السعيدية»؛ فجون سبينسر ديكسن (John Spencer Dixon)، في كتابه (تمثيلات الشرق في أدب الرحلات الإنجليزية والفرنسية من 1798−1882)(39) يُجادلُ سعيدًا، ويختلف معه من الناحية المنهجية، ويُهاجمُ أطروحتَه بأنها انتقائية جدًّا، من حيث اقتصاره، دعمًا لحجّتِه، على أولئك الرحالين ذوي المواقفِ الإمبريالية الظاهرةِ. ويقول بأن النصوص التي يَعْرضُها في أطروحتِه، تثبت أن أدب الرحلات الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر «واسع المجال، ويمثل مصر من أوجه عدة، وأن بعضه فقط يظهر التحيّز والإجحاف»(40).

رنا قباني

أصوات بديلة

فتح حقل الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية الباب واسعًا أمام الأفكار المولجة في نقد الرؤى الاستعمارية والاستشراقية تجاه النساء في المستعمرات القديمة. لقد ساعد هذا الحقل النسوي على تأطير أصوات بديلة، تمكنت من نقل اللغة الصامتة والمصادرة للنساء المقموعات من قبل الداخل والخارج، أو اللاتي صُنعن طبقًا للمتخيل الأوربي في بعض وجوهه –من دون تعميم- ولا سيما ما يتعلق بتمثلات النساء الشرقيات في أدب الرحلات، حيث نُظر إليهن ضمن صور مختلفة، مثل الغواية والجنس والعزلة والحريم. إن هذه الأنماط التي عكستها –أيضًا- الأدبيات الاستشراقية حول النساء في الشرق، تركت تأثيرات في بعض الكتابات الغربية الحديثة والمعاصرة، وتحديدًا تلك المتعلقة بالحجاب وموقف الإسلام من المرأة، وهذا لا ينفي أن ثمة إصدارات علمية كثيرة، وفي ميادين مختلفة، تحررت من الموروث الثقافي الكولونيالي، فطورت النظرة الغربية تجاه العالم العربي، وتجاه دراسات الإسلام عمومًا، والإسلام والجندر خصوصًا.

إن النزعة الإنقاذية التي تتضح في الخطاب السياسي والإعلامي الأميركي – والأوربي أيضًا، وهذا يتضح في العديد من البرامج الثقافية، والكتب التي تتبنى قضايا «المسلمات المضطهدات» من قبل دينهن ومجتمعهن- الموجهة للنساء في الشرق الأوسط، وهو ما أظهرته العديد من المناسبات، تأثرت إلى حد كبير –كما أشرنا أعلاه- بالأبعاد الثقافية للخطاب الكولونيالي. لقد وضع الرجل الغربي نفسه في موقع الدفاع عن المرأة الشرقية، مستندًا إلى نزعته في مصادرة أصوات اللائي لا صوت لهن من النساء المقموعات، وقد تجلى هذا «الإلحاق الثقافي» في أساليب مختلفة سياسية وحقوقية وقانونية وإنسانية؛ «فخلال العقد الماضي –كما تحاجّ ليلى أبو لغد- قُدمت النساء المسلمات بدءًا من الطفلة اليمنية نجود علي –التي صدر كتاب عنها تحت عنوان «أنا نجود عمري (10) سنوات ومطلقة»(41) (I Am Nujood, Age 10 and Divorced) شاركت في كتابته صحفيات غربيات- إلى ملالا يوسفزي على أنهن ضحايا الحجاب(42) والزواج القسري وجرائم الشرف والاستغلال العنيف؛ لقد طُرِحهن على أنهن يعانين نقصًا في الحقوق بسبب الإسلام(43). رأى الكاتب الأميركي سام هاريس (Sam Harris) أن قضية ملالا تمثل رمزًا للانتفاضة ضد الإسلام التقليدي، علمًا بأن الإسلام يعطي الحق الكامل للنساء في التعلم. ما زالت الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية في مراحلها الأولى في العالم العربي، وهي تحتاج إلى تطوير على مستوى القضايا والأفكار والمناهج. ليس الهدف منها رفع الأصوات البديلة فحسب، وإنما التأسيس لقاعدة معرفية قادرة على تصويب العديد من القراءات الغربية المغلوطة تجاه المرأة المسلمة عمومًا والشرقية خصوصًا، بمعنى أدق دراسة واقع النساء كما هو خارج الأيديولوجيات وأساليب التعامي عن الحقائق، بما يساعد على حسن الفهم والإدراك. حين تغدو لغة الآخر الجندري المتخيل مكتوبة ومرئية، تصبح أداة فاعلة في صناعة الخطاب المعاكس والبديل.

الــهــوامـــش:

1) من الأهمية الإشارة إلى أن الغرب في خطاباته السياسية المعاصرة تجاه العالم العربي، خصوصًا ما يتعلق بالنساء وحقوق المرأة، ليس كتلة واحدة، ما نحاول درسه هنا في هذه الدراسة، النزعة الإنقاذية التي تتبدى في بعض الخطابات الغربية تجاه النساء (الحجاب، النقاب، الختان، قيادة السيارة، الحقوق السياسية… إلى غير ذلك)، وهذا يدفعنا إلى القول: إن الغرب السياسي لم يتجاوز بعد نزعته الأنوية والتبشيرية.

2) دراسات ما بعد الكولونيالية: المفاهيم الرئيسة، بيل أشكروفت، غاريث غريفيث، هيلين تيفين، ترجمة: أحمد الروبي، أيمن حلمي، عاطف عثمان، تقديم: كرمى سامي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010م، ص282-283.

3) أبو لغد، ليلى، الاستشراق والدراسات النسوية في الشرق الأوسط، مجلة الروزنة، الأردن، العددان السادس والسابع، شتاء 2010-2011م، ص16.

4) ثقافة الهند، المجلد (65) العدد (1) 2014م، ص36.

5) موسوعة النساء والثقافات الإسلامية، المنهجيات والمنظومات والمصادر، تحرير: سعاد جوزيف، ترجمة هالة كمال، دار بريل بوسطن، 2003م، مؤسسة المرأة والذاكرة، القاهرة، 2006م، ص526.

6) المرجع السابق، ص527.

7) نفسه، ص529.

8) انظر: أصوات بديلة: المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث، تحرير وتقديم هدى الصدة، ترجمة: هالة كمال، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002م.

9) انظر: أولفير، كلي، النساء أسلحة حربية، العراق، الجنس والإعلام، ترجمة: شكري مجاهد، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 2003م، ص114.

10) ولدت غاياتري سبيفاك لعائلة من الطبقة الوسطى في البنغال الغربي عام 1942م، وهي تنتمي إلى الجيل الأول من مثقفي الهند بعد الاستقلال، التحقت بجامعة كلكتا عام 1957م، وتخرجت فيها بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى في الأدب الإنجليزي عام 1959م، ورحلت إلى الولايات المتحدة لدراسة الأدب المقارن فنالت الماجستير ثم الدكتوراه عام 1967م. لمع اسمها إثر ترجمتها لكتاب جاك دريدا «في علم الكتابة» الذي صدر عام 1967م، ونشرت ترجمته جامعة جونز هوبكينز، عام 1976م بمقدمة وافية كتبتها سبيفاك، وإلى تلك المقدمة يعود الفضل ليس لشهرتها فقط، بل لدخول النظرية التفكيكية في قلب الثقافة الأنغلو-سكسونية (…) تواصلت أعمالها التي اتخذت شهرة عالمية ومنها: «عوالم أخرى مقالات في السياسة الثقافية» 1978م، «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟» و«مختارات من دراسات التابع» بالمشاركة مع رانا جيت غوها عام 1988م. انظر: ن. شمناد، غاياتري سبيفاك، «منظِّرة هندية لخطاب ما بعد الاستعمار» في: ثقافة الهند، مرجع سابق، ص37-38.

11) راجع: جلولي، العيد، الأبعاد المفاهيمية لنظرية ما بعد الكولونيالية، شبكة رواد المعرفة، 17 آب (أغسطس) 2012م، على الرابط التالي:

http://rooad.net/news-493.html

12) انظر: ن. شمناد، غاياتري سبيفاك، منظِّرة هندية لخطاب ما بعد الاستعمار، مرجع سابق، ص39-40.

13) المرجع نفسه، ص42-43.

14) المرجع نفسه، ص44-45.

15) نشر البحث عام 1988م، وكانت قد قدمته في مؤتمر «الماركسية وتفسير الثقافة» الذي عقد في جامعة إلينوس الأميركية.

16) لقراءة البحث في الإنجليزية ?Can the Subaltern Speak راجع الرابط التالي:

http://jan.ucc.nau.edu/~sj6/Spivak%20CanTheSubalternSpeak.pdf

17) المرجع السابق، ص47.

18) نفسه، ص48.

19) لمراجعة النص الإنجليزي انظر:

Abu-Lughod, Lila, Do Muslim Women Really Need Saving? Anthropological Reflections on Cultural Relativism and Its Others, American Anthropologist Vol. 104, No. 3 (Sep. 2002), pp. 783-790.

طورت ليلى أبو لغد مقالها لاحقًا -كما أشرنا أعلاه- في كتاب حمل العنوان الرئيس نفسه، انظر:

Abu-Lughod, Lila, Do Muslim Women Need Saving? Harvard University Press; Reprint edition, 2015.

متوافر على الرابط التالي:

http://org.uib.no/smi/seminars/Pensum/Abu-Lughod.pdf

نَقل المقال إلى العربية جهاد الحاج سالم، ونُشر ضمن: أنثروبولوجيا: المجلة العربية للدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، إصدار مركز فاعلون، الجزائر، العدد الأول، آذار (مارس) 2015م، ص187-209.

20) أبو لغد، ليلى، هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ تأملات إناسية في النسبية الثقافية وحواشيها، ترجمة: جهاد الحاج سالم، المجلة العربية للدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، مرجع سابق.

21) المرجع نفسه.

22) حديدي، صبحي، الحجاب والغرب، بين شهوة المستشرق ورعب الغازي، مجلة الروزنة، مرجع سابق، ص10.

23) أبو لغد، ليلى، هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ مرجع سابق.

24) نفسه.

25) نفسه.

26) المرجع نفسه. تبين أبو لغد أن أكثر وثائق تلك الحقبة المفضلة لديها كتاب يحمل عنوان: «أخواتنا المسلمات» ينقل وقائع مؤتمر للمبشرات عقد سنة 1906م في القاهرة. وقد حمل الكتاب العنوان الفرعي التالي: «صرخة يأس من أراضي الظلمات نقلها من سمعها»، وهو يتحدث عن الجهل والعزلة وتعدد الزوجات والتحجب الذي أتعب حياة المسلمات. وناقشت المبشرات واجب إسماع أصوات هؤلاء النساء اللواتي أوردت المقدمة أنهن «لن يتمكن أبدًا من الدفاع عن أنفسهن نظرًا لوقوعهن تحت وطأة قرون الاضطهاد». بل إن الكتاب يبدأ بالكلمات الآتية: «هذا الكتاب بما يرويه من قصة مكررة وحزينة، هو اتهام ونداء. هو نداء للأنوثة المسيحية يدعوها إلى تصحيح هذه الأخطاء، وإنارة هذه الظلمات عبر التضحية والخدمة».

27) المرجع نفسه.

28) قباني، رنا: أساطير أوربا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ، ترجمة: صباح قباني، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الثالثة، 1993م، (231 صفحة). نشر الكتاب في الإنجليزية عام 1986م عن دار (ماكميلان) البريطانية وعن دار (إنديانا يونفرستي برس)، الأميركية، وحمل عنوان:

Europe’s myths Of Devise and Rule.

29) قباني، رنا: أساطير أوربا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ، مرجع سابق، ص19-20.

30) الحجري، هلال: أدب الرحلات والاستشراق.. البحث عن منهج، مجلة نزوى العمانية، 1 تموز (يوليو) 2008م، متوافر على الرابط المختصر التالي:

http://cutt.us/nWLQe

31) قباني، رنا: أساطير أوربا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ، مرجع سابق، ص22-23.

32) نفسه، ص26.

33) نفسه، ص37.

34) نفسه، ص37-38.

35) نفسه، ص51.

36) نفسه، ص52.

37) نفسه، ص108.

38) نفسه، ص110.

39) انظر:

Dixon, john Spencer, Representations of the East in English and French Travel Writing 1798–1882 with particular reference to Egypt (unpublished doctoral thesis, The University of Warwick, 1991.

نقلًا عن: الحجري، هلال: أدب الرحلات والاستشراق.. البحث عن منهج، مرجع سابق.

40) الحجري، هلال: أدب الرحلات والاستشراق.. البحث عن منهج، مرجع سابق.

41) Minoui, Delphine, Coverdale, Linda, I Am Nujood, Age 10 and Divorced, Broadway Books; First Edition (2010).

42) تجدر الإشارة إلى أن الفتاة والناشطة الباكستانية ملالا يوسفزي تعرضت لعنف مرعب من قبل طالبان، التي منعت الفتيات من الحق في التعلم، ودافعت ملالا عن حقهن هذا ووصل صوتها إلى الإعلام الغربي الذي تبنى قضيتها، وتعرضت إلى حادث مؤلم بعد محاولة اغتيالها من قبل أحد عناصر طالبان، غير أن قضيتها لم تتوقف؛ فبعد تماثلها للشفاء أضحت رمزًا للفتاة المناضلة ضد الجماعات الدينية المتطرفة، وحصلت على جائزة نوبل للسلام عام 2014م.

النسوية الإسلامية والمساواة

النسوية الإسلامية والمساواة

تطورت حركة التأويل النسوي لموقع المرأة في الإسلام في العقود الأخيرة تطورًا ملحوظًا؛ مما أكسبها حضورًا لافتًا على مستوى الوعي والمناهج والاتجاهات والانتماءات الأكاديمية. أصدرت النسويات في العالمين العربي والإسلامي أدبيات جادة في الحقول المعنية بـــــ«الإسلام والمرأة» و«الإسلام والجندر» و«النساء والمعرفة الدينية»، وبخاصة في مضمار ما يمكن أن نطلق عليه «فقه تحرير القرآن من الموروث الأبوي». وقد اضطلعت «النسوية الإسلامية» شرقًا وغربًا بأدوار بارزة، واختلفت مقارباتها للنصوص الدينية التأسيسية، مع التركيز الشديد على نقد القراءة الفقهية التقليدية الإسلامية للقضايا المتعلقة بالنساء، بحثًا عن المساواة الجندرية في القرآن ومناقشة الفقهيات البطريركية.

الوعي النسوي وإرهاصات النسوية الإسلامية

ظهرت «النسوية الإسلامية» أوائل التسعينيات من القرن العشرين المنصرم في إفريقيا الجنوبية، كواحدة من الرافعات الفلسفية والسياسية لحركة «الإسلام التقدمي» العاملة ضد نظام الفصل العنصري. وفي العالم الإسلامي برزت في بداية التسعينيات أيضًا، في تركيا، مع كتاب نوليفير غول «الحداثة الممنوعة» (1991م) حيث التقطت مقولات نسوية وسط الإسلاميات التركيات. ثم في إيران، عام 1992م مع مجلة «زنان» التي عبرت عن خيبة النسويات الإيرانيات من الثورة الإسلامية الإيرانية ( البزري، دلال، «النسوية الإسلامية أو الجهاد النوعي»، صحيفة الحياة، 22 يناير (كانون الثاني) 2007م، العدد: (15998).

إن تطور الوعي النسوي العربي المرتبط بحقوق النساء في الدين والمجتمع والثقافة ليس حديث النشأة، إذ وُجدت إرهاصاته التاريخية، لجهة حركة التفكير النسوي، مع العديد من المثقفات والكاتبات العربيات والمسلمات، منذ أواخر القرن التاسع عشر، من بينهن: عائشة تيمور (1840-1902م)، وزينب فواز (1845-1914م)، وملك حفني ناصف (1886-1918م)، وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) (1913-1998م)، وهدى شعراوي (1879-1947م)، ونظيرة زين الدين –داعية أحقية المرأة في الاجتهاد الديني- (1908-1976م) التي تعد أول امرأة عربية، تقدم أطروحة في نقد القراءة الفقهية للقرآن ضمن كتابها الشهير «السفور والحجاب»، خصوصًا أن النساء العربيات قبلها ركزن في خطابهن وكتاباتهن على قضايا تعليم المرأة ووعيها لذاتها وحقوقها السياسية، وذلك عبر السيَر الذاتية أو المقالات أو الأعمال الأدبية.

تلحظ أستاذة الأدب الإنجليزي المقارن في جامعة القاهرة أميمة أبو بكر «أن السعي إلى التمكين في الحقوق على خلفية ثقافية إسلامية عامة، كان من البديهيات [بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر] وإن غاب عن ذلك السعي، التنظير المباشر والمناهج التحليلية المتعمقة للمصادر الرئيسة والمسميات من أجل طرح رؤية تجديدية شاملة حول قضايا المرأة في منظومة الفكر والعلوم الدينية». وتشير أبو بكر إلى أن مفهوم النسوية من منظور إسلامي تطورت فكرته «في العشرين عامًا الأخيرة في العالم الإسلامي من خلال تطبيق الوعي النسوي لفهم معضلة التفاوت بين رسالة الإسلام التوحيدية، وترجمة قيم تلك الرسالة السامية إلى عدالة وتكافؤ الفرص، وشراكة على أرض الواقع بين الجنسين، وإلى الأخذ في الاعتبار الكرامة الإنسانية المتساوية للمسلمين والمسلمات، ثم الاتجاه كذلك إلى استخدام المناهج النسوية التحليلية –ليس فقط- لغربلة الكثير من فكر العلوم الإسلامية من وجهة نظر المرأة المسلمة وواقع حياتها، لكن –أيضًا- لفتح باب الاجتهاد لها، حتى يتسنى بناء معرفة إسلامية، تحيي معاني العدل والمساواة والشراكة وتؤكدها؛ معرفة بديلة عن منطق الاستبعاد والتمييز والأفضلية الذي شاب خطابات التراث وطرائق استنباط العلماء للأحكام، الذين رغم براعتهم العلمية وجهدهم في تحري الشريعة، ما كانوا إلا نتاج عصورهم، وكان من الطبيعي أن يتأثروا بثقافات هذه العصور، ومن الطبيعي –أيضًا- ألا يهتموا بتأسيس المكانة الواحدة المتساوية للرجال والنساء». (انظر: النسوية الإسلامية والمنظور الإسلامي، آفاق جديدة للمعرفة والإصلاح، مجموعة من الباحثين، تحرير أميمة أبو بكر، مؤسسة المرأة والذاكرة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2013م، ص 7).

خارج النسوية الإسلامية

ثمة العديد من الأكاديميات والباحثات درسن النص الديني (القرآن والحديث والفقه) من خارج الانتساب إلى النسوية الإسلامية، وسجلن أسبقية تاريخية عليها، من بينهن –على سبيل التمثيل لا الحصر-: الكاتبة المصرية نوال السعدواي، وفاطمة المرنيسي عالِمة الاجتماع المغربية والكاتبة النسوية (1940-2015م)، ورجاء بن سلامة أستاذة التعليم العالي والمحلِّلة النفسانية التونسية، وألفة يوسف الأكاديمية التونسية المتخصصة في اللغة العربية واللسانيات. قد تكون ألفة يوسف الأشد إثارة للجدل، وبخاصة بعد إصدار كتابها ذائع الصيت «حيرة مسلمة»؛ إذ طرحت مسائل حرجة ونقدية.

الإسلام النسوي وتحدي السلفيات الغالبة

يتفاوت تصادم تأويلات النسوية الإسلامية مع الموروث الفقهي بين العالم العربي والغرب، خصوصًا إذا ما قارنّا خلاصات النسويات المسلمات الأميركيات مع نظيراتهن العربيات، اللائي أنتجن نصوصًا أقل حدة. تعدّ آمنة ودود (الأفرو-أميركية) صاحبة «القرآن والمرأة: إعادة قراءة النص القرآني من منظور نسائي» من أكثر النسويات المسلمات شهرةً، وأكثرهن جرأةً في معالجة قضايا الإسلام والجندر؛ لسببين: الاعتماد على القرآن كمصدر أول وأخير؛ والولوج إلى مرحلة ما بعد النص. وإذا أردنا الحديث عن «إسلام نسوي» أو لاهوت إسلامي/ نسوي/ حداثوي يمكن القول: إن «ودود» وزميلاتها من النسويات المسلمات الأميركيات الأشد حداثة، وهن يشتركن في ثلاث خصائص أساسية: مناهضة الخطاب الفقهي الذكوري، تأكيد أحقية المرأة المسلمة في الاجتهاد، التأسيس لإسلام نسوي يمارس الإصلاح من الداخل على قاعدة تأويل القرآن بالقرآن، مع التركيز الكثيف على مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة (انظر: فرج، ريتا، امرأة الفقهاء وامرأة الحداثة، خطاب اللامساواة في المدونة الفقهية، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2015م).

تجاهر النسويات المسلمات الأميركيات (آمنة ودود، وليلى أحمد، وعزيزة الهبري، وأسماء برلاس) بتبنّي أكثرهنّ لمصطلح «الإسلام النسوي»، خلافًا لأغلبية المسلمات العربيات المقيمات في البلدان العربية والإسلاميّة: «إذ كثيرًا ما تجد الدارسة حرجًا في التصريح بأنّها تتبنى فكر حركة «الإسلام النسوي» دون تحفّظ أو دون حرص على تغييره، حتى يبدو أكثر ملاءمة مع البيئة الإسلاميّة؛ فالباحثة المصرية هبة رؤوف عزت تقترح استبدال «الحركة النسائية الإسلامية» بـــــــــ«النسوية الإسلامية». وتبدو ودود –داعية تحدي السلفيات الغالبة التي تحتكر تفسير النصوص- كما تلفت الأكاديمية والباحثة التونسية آمال قرامي في مقال لها تحت عنوان «الحركة النسوية الإسلامية في أميركا» أكثر النسويات اهتمامًا بقضيّة العدالة الاجتماعيّة في الإسلام، وهو أمر مفهوم بسبب السياق الاجتماعي التاريخي، الذي أُثيرت فيه قضايا السود في علاقتهم مع الثقافة المهيمنة، التي عادة ما كانت تعالج المشكلات الاجتماعية والسياسية من منظور المثقف المعبّر عن ثقافة البيض؛ لذا ألحّت على عالميّة الإسلام، وتوجّه الرسالة إلى جميع الناس. وتأتي أهمية النسويات المسلمات الأميركيات كما تشير قرامي من «تشبّعهن بالحرية الفكرية ومواكبتهن للتطوّر المعرفي في مختلف العلوم، ما شجعهن على طرق موضوعات جريئة مثل المطالبة بإلغاء عدّة المرأة المطلقة، وحق إمامة الصلاة». (انظر: قرامي، آمال: الحركة النسوية الإسلامية في أميركا، موقع الحوار المتمدن، www.alhewar.org).

النسوية الإسلامية: المقاربات والمناهج

تقترح النسوية الإسلامية ثلاث مقاربات في قراءتها النص القرآني: أولًا- استدعاء بعض آيات القرآن التي ارتبطت بتفسيرات مغلوطة، مثل تلك المتعلقة بالخلق أو أحداث الجنة وما فيها من سيادة النظرة الذكورية وعلوّها على وضع المرأة ومكانتها. ثانيًا- الاستشهاد بالآيات التي توضح بشكل لا لبس فيه المساواة بين الجنسين. ثالثًا- تفكيك الآيات التي تهتم بإبراز الاختلاف بين الرجل والمرأة على نحو يبرّر هيمنة الرجل وسيطرته (انظر: عبدالوهاب، نورهان، النسوية الإسلامية، إشكاليّات المفهوم ومتطلّبات الواقع، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، على الرابط المختصر التالي: http://cutt.us/fWVTy). تستند النسوية الإسلامية في أبحاثها إلى مناهج عدة؛ منها: فقه اللغة، والهيرمينوطيقا (علم التأويل)، والأنثروبولوجيا الدينية، وغيرها من المناهج الحديثة في تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والسياقات التاريخية، المتعلقة بالنساء.

رفعت حسن: إسلام ما بعد الأبوية

تُعد رفعت حسن -أستاذة الدراسات الدينية والعلوم الإنسانية في جامعة لويسفيل (University of Louisville) (الولايات المتحدة الأميركية)، المنضوية في اتجاه النسوية الإسلامية التأويلية كما يصنفها المفكر الأردني فهمي جدعان في كتابه «خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت»- من اللواتي اعتمدن على المنهج الهيرمينوطيقي، وتهدف من خلاله إلى محاولة تفسير القرآن من منظور اللاهوت النسوي، لاكتشاف أحكامه المتصلة بالمرأة، بغية تحرير النص من آثار الأحاديث المتناقضة مع روحية الكلية للمساواة القرآنية بين الجنسين. وتُشاطِر «حسن» قريناتها من النسويات المسلمات التأويليات، الاعتقاد المنهجي بأن العقلية البطريركية قد حكمت التقاليد الإسلامية منذ عصر مبكّر من تاريخ الإسلام إلى أيامنا هذه، وأن أصول الإسلام الماثلة في القرآن والحديث والسنة النبوية والفقه، قد وُجِّهت وفقًا لهذه العقلية؛ إذ فُهِمتْ هذه الأصول وفُسرت على أيدي الرجال المسلمين وحدهم، وأن هؤلاء الرجال قد احتكروا لأنفسهم مهمة تحديد الأحكام والأوضاع الأنطولوجية واللاهوتية والسوسيولوجية للنساء المسلمات. وتشدد «حسن» على أهمية عدّ القرآن في ضوء «المعيار الأخلاقي» أنه يلزم برفض أي استخدام للقرآن من أجل تعزيز الظلم؛ لأن إله الإسلام عادل. (انظر: جدعان، فهمي، خارج السرب). تجترح «حسن» مصطلح «إسلام ما بعد الأبوية» قاصدةً بذلك «الإسلام القرآني»، وهو إسلام يولي أهمية خاصة بتحرير البشر –النساء والرجال على حد سواء– من عبودية القيم التقليدية والسلطوية (الدينية والسياسية والاقتصادية وغيرها) والقبلية والعنصرية والتحيز الجنسي والرق، وأي قيم أخرى تمنع البشر أو تعوقهم عن تحقيق رؤية القرآن لمصير البشرية الذي نجده متمثلًا في ذلك الإعلان القياسي: ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ﴾ (سورة النجم، الآية 42) ( انظر: النسوية والدراسات الدينية، تحرير: أميمة أبو بكر، ترجمة: رندة أبو بكر، سلسلة ترجمات نسوية العدد (2)، مؤسسة المرأة والذاكرة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2012م، ص 233).

التفسيرات الأبوية والمجتمع البطريركي

ترى ليلى أحمد الباحثة المصرية في شؤون الدراسات النسائية، أن التفسيرات الأبوية للإسلام لا تعود إلى القرآن نفسه، بل إلى المجتمع البطريركي الذي فرض على الإسلام نمطًا ذكوريّا سلطويًّا جذّره النظام العباسي الذي عزز النزعة المعادية الكارهة للمرأة. تقول: «وفي إطار الإدراك وتشكيل المفهوم لموقع المرأة والجنوسة في العصر العباسي، ربما كان الفرق ذو الدلالة الذي يميّز المجتمع العباسي عن المجتمع الإسلامي الأول في الحجاز، يَمْثل في النظرة الخاصة من الرجال إلى النساء، وفي العلاقة التي تربطهم بهنّ. فبالنسبة لهؤلاء الخاصة من الرجال، فإن الأغلبية العظمى من النساء اللائي كانوا يتعاملون معهن، وعلى وجه الخصوص اللائي كان لهم بهن علاقة جنسية، كانت ملكًا لهم وكانت علاقتهم بهن علاقة السادة بالعبيد». وتعدّ «أحمد» سيطرة الإسلام على بعض المناطق المجاورة للبحر المتوسط، دفعته إلى استيعاب التراث الاجتماعي والعقدي للشعوب اليهودية والمسيحية المجاورة، وجاء المسلمون الجدد ممن تحولوا عن دياناتهم الأصلية، محمّلين بعاداتهم الاجتماعية وتراثهم الفكري. استخدمت النسويات المسلمات مصطلحات لها جذور غربية مثل: البطريركية، والمركزية الذكورية، والنظام الأبوي، واللاهوت النسوي، والجهاد من أجل الجندر، وإسلام ما بعد الأبوية…وغيرها. ألقت هذه المصطلحات بثقلها على الأدبيات النسوية العربية والإسلامية، إنتاجًا وتفسيرًا، وأغنتها بأفكار حداثوية انشغلت بالدرجة الأولى بتحرير النص المقدس من الموروث الفقهي، إيمانًا بروحية المساواة بين الجنسين التي كرسها القرآن، وهذا يدفعنا إلى القول: إننا أمام تشكل معرفي ثوري في حقل الدراسات النسوية، خصوصًا في مضمار الإسلام والجندر، على مختلف اتجاهاته ومدارسه وتأويلاته سواء اتفقت أم تباينت خلاصاته.

حملت النسويات على مختلف انتماءاتهن الفكرية والمنهجية همًّا معرفيًّا غايته تقديم قراءة مغايرة للتفسيرات الفقهية التقليدية. وبصرف النظر عن الرؤية السلبية التي تواجه بها النسويات المنشغلات في حقل المعرفة الدينية من جانب «حراس العقائد والحدود»، من المهم الاستماع إلى أصواتهن ومتابعة إنتاجهن، بغية النقاش، وتوسيع الدائرة الفكرية التي تسمح بفهم أفضل لموقع النساء في الإسلام.