الوظيفية وأزمة السوسيولوجيا

الوظيفية وأزمة السوسيولوجيا

منذ أن شهد الفكر الاجتماعي بدايته المنهجية في القرن التاسع عشر تنامت النظريات الاجتماعية وتشعبت. لقد أنجبت المادية التاريخية الصراعية المحدثة، وكان ماكس فيبر مع كارل ماركس وضده في الآن نفسه. كان معه في تاريخيته وضده في محتواها المادي، مانحًا أهمية متزايدة للثقافة والقيم. أما وضعية أوغست كونت وأفكار دوركايم فقد أنجبتا البنيوية الوظيفية التي تُعَدُّ من أبرز النظريات السوسيولوجية المعاصرة.

تعود جذور البنيوية الوظيفية إلى نهايات القرن التاسع عشر، وقد كانت البنيوية الأنثروبولوجية مع كلود ليفي ستراوس رافدًا أساسيًّا في تكوين الأساس الإبيستمولوجي للنظرية؛ إذ يفهم المجتمع بصفته كيانًا مستقلًّا عن أفراده. لا تفهم الأجزاء إلا في إطار الكل. غير أن البنيوية لا تتسم بالكلية فحسب، بل هي ترتكز على مفهوم أكثر أهمية هو انحسار الذات، لصالح العلاقة والبناء المتصف بطابعه المتعالي، وما الذات إلا حصيلة عمليات تتجاوزها وتعلو عليها. البنية في ماهيتها نظام يتألف من عناصر مترابطة تتسم بالثبات النسبي، وبما أن للعلاقة بين العناصر أسبقية منطقية على العناصر ذاتها، فسيكون التحليل التزامني أكثر أهمية من التحليل التتابعي، وسيكون هو الأصل في كل عملية تحليلية.

على أن البنيوية الوظيفية لا تعالج البنى وحسب، بل تقرنها بالوظيفة، مقتفية خطى سبنسر ودوركايم؛ إذ «لا بناء من دون وظائف اجتماعية، ولا وظائف اجتماعية من دون بناء»، كما يقول رائد الوظيفية بارسونز. وهي إذ تفعل ذلك فإنها تقيم تناظرًا استعاريًّا بين الجسد والمجتمع، تمامًا كما فعل سبنسر ودوركايم. فالمجتمع جسد يتألف من مكونات مترابطة بنيويًّا ومتساندة وظيفيًّا، على أن يكون هذا النسق متعاليًا فوق إرادة أفراده وتأثيرهم.

صياغة نظرية شاملة

شاعت البنيوية الوظيفية بعد الحرب العالمية الثانية، في سياق تاريخي يسوده الصراع بين العالم الرأسمالي والعالم الاشتراكي؛ إذ ينظر إليها بصفتها النظرية السوسيولوجية التي بإمكانها أن تحل محل الماركسية، بوصفها نظرية نقدية تستهدف تفكيك المجتمع الرأسمالي ونقده، في حين شكلت الوظيفية محاولة لفهم هذا المجتمع وتحليل بناه وعملياته وآلياته. وقد بلغت الوظيفية أوجها في منتصف القرن العشرين، وبخاصة مع رائدها الشهير تالكوب بارسونز (1902- 1979م) إذ زوّد الوظيفية ببناء نظري متناسق، وشكل مدرسة شاعت في أوساط علم الاجتماع.

يعد بارسونز الذي جمع بين الفعل والبنية، محتذيًا دوركايم وماكس فيبر، واحدًا من أصحاب النظريات الكبرى. وصف ذاته بأنه «المريض بداء التنظير»، فلا غرابة أن يكون طموحه المعرفي صياغة نظرية شاملة تستوعب كلية الحياة الاجتماعية، وما علم الاجتماع في تصوره إلا ذلك «العلم الذي يسعى لتطوير نظرية تحليلية لأنساق الفعل الاجتماعي بالاستناد إلى سمة التكامل والإجماع القيمي المشترك».

ماكس فيبر

إن الفكرة المركزية التي تنتظم حولها البنيوية الوظيفية هي فكرة الاستقرار والنظام، وهي تشكل إجابة شاملة عن سؤال أولي مفاده الكيفية التي يكون بها النظام الاجتماعي ممكنًا: «لماذا يعيش الناس معًا دون أن يحطموا بعضهم؟». هذا السؤال يعيد الذاكرة إلى فكر الفيلسوف البريطاني «هوبز» الذي أقام عليه مفهومه للعقد الاجتماعي، وصاغه بارسونز على نحو تندمج فيه معايير المجتمع مع المعايير ذاتها داخل الفرد، حيث هناك توافق دائم بين قيم الفرد وقيم المجتمع، وهذه الصياغة هي اللبنة الأساسية في سوسيولوجيا بارسونز.

يتكون المجتمع عند بارسونز من وحدات الفعل الصغرى. ومن مجموع هذه الوحدات يتشكل النسق؛ إذ يرتقي التركيب السوسيولوجي من تحليل وحدات الفعل الصغرى نحو تكوين النسق. والفعل الاجتماعي بنية تتشكل من عناصر الفاعل ذاته والموقف الاجتماعي والقيم الثقافية الموجهة لفعله. لهذا فإن الفعل نسق يضم أنساقًا فرعية تبدأ من العضوي «الحاجات»، ثم الشخصي فالاجتماعي فالثقافي. ويتصاعد التحليل وصولًا للأنساق الرئيسة الماثلة في النسق السياسي والنسق الاقتصادي والنسق الثقافي والنسق الاجتماعي.

المجتمع أنساق، والنسق نمط ثابت من التفاعل؛ ذلك أن أساسه هو الفعل القصدي والنشيط والمبدع، والذي يهدف إلى إشباع حاجة ما؛ إذ يهدف كل فاعل إلى أقصى إشباع ممكن، وعندما يتحقق الإشباع يكون ذلك مدعاة لتكرار الفعل مدفوعًا بتوقع استجابات مماثلة، مؤطرة بمعايير وقواعد وقيم ثقافية تحظى بالإجماع. هذه القواعد الثقافية تشكل ضمانًا لاستمرار تلك الاستجابات، وتعزز توقعات الدور الاجتماعي، وهذا يؤدي إلى تنميط الأدوار الاجتماعية بصفتها حلقة الوصل بين الفاعل والمجتمع، لتشكل انتظامًا سلوكيًّا يدعى نسقًا، على هذا النحو تتطور شبكة من الأدوار المرتبطة بتوقعات سلوكية محددة فتنشأ المؤسسات الاجتماعية الأولية وتتكون منها الأنساق الفرعية والكبرى.

تدخل هذه الأنساق في علاقات ذات طابع وظيفي تساندي. وكل نسق محكوم بشروط وظيفية تتمثل في التكيف والتكامل وإدارة التوتر وتحقيق الأهداف. وسيقود كل تغير في نسق ما، بناءً على هذه العلاقة التساندية التكاملية، إلى تغير في الأنساق الأخرى. إن التغير واقعة تاريخية واجتماعية، لكنه يبدو في فكر بارسونز واقعة إشكالية، فبما أن المجتمع مكون من أنساق ثابتة محكومة بإجماع قيمي ثقافي ويتسم بالثبات والديمومة، فسيكون التغير واقعة استثنائية تعرف بصفتها «تكيفًا تطوريًّا مستمرًّا لمختلف الأنساق المكونة للمجتمع»، ليس التغير سوى تطور داخل البنية، وعليه ستستبعد احتمالات التغير الجذري والثوري الماثل في تغيير البنية ذاتها، وما ذلك إلا بغية التأمين النظري -حتى لا نقول الأيديولوجي- لوظيفة أساسية هي استقرار المجتمع ذاته.

الوظيفية الجديدة

من الواضح أن هناك، في المنظور الوظيفي، ميلًا دائمًا وحتميًّا نحو التوازن بين الأجزاء المكونة للنسق سعيًا نحو تثبيت حالة الاستقرار. وعندما يحدث تفكك اجتماعي ناجم عن أزمة ما، كالتضخم وارتفاع الأسعار مثلًا، فإن على مكونات المجتمع وعناصره التكيف على نحو يعيد الاستقرار والتوازن، من خلال إجراءات تقشفية مثلًا، أو خفض النفقات والأجور. على البنية أن تستقر. والاستقرار يجب أن يكون دائمًا وأبديًّا. ويعتمد تثبيت الاستقرار والتوازن على عمليات التنشئة الاجتماعية التي تؤدي وظيفة إعادة إنتاج الثقافة ونقلها بين الأجيال من جهة، ووسائل الضبط الاجتماعي من جهة أخرى كالقانون وأساليب النبذ العرفي وأجهزة القمع، وهو ما يصبغ الثقافة بطابع المحافظة والديمومة، ويعطل كل احتمالات المشاركة في إعادة بناء الثقافة أو تجديدها.

هكذا نلحظ كيف جعل بارسونز التكامل الوظيفي والإجماع القيمي في قلب نظريته، وهو ما جعلها قاصرة عن فهم وتفسير بعض الظواهر الاجتماعية كالتمرد والصراع، وهو الأمر الذي جعل الأبواب مشرعة أمام تلميذه «روبرت ميرتون» ليطور أفكار أستاذه.

تالكوب بارسونز

انتزع ميرتون وهو الذي يعرف بصفته مؤسس الوظيفية الجديدة، الطابع الإطلاقي من النظرية الوظيفية مضفيًا عليها طابعًا نسبيًّا. لقد كان الأستاذ مغاليًا ومتفائلًا وغامضًا، فكان على التلميذ الانخراط في مهمات نقدية، إبستمولوجية وسوسيولوجية. على النظرية أن تقترب من الواقع والحياة. لا بد لها أن تتسم بالواقعية والتواضع. يلزمها التخفف من أعبائها التجريدية بالدنو أكثر من تفاصيل الحياة الاجتماعية؛ لذلك راح ميرتون يستبدل بالنظريات الكبرى ما أسماه نظريات المدى المتوسط، تلك التي تقع بين الفرضيات الأمبيريقية الأقرب إلى الواقع، والنظريات الكبرى التجريدية.

إن ميرتون وظيفي، لكن الوظيفة لديه لم تعد أحادية الشكل وبسيطة شأنها عند أستاذه؛ إذ هناك وظيفة ظاهرة مقصودة من البناء الاجتماعي، ووظيفة كامنة غير مقصودة وغير معلنة. لكنه لم يكتفِ بذلك؛ بل نزع عنها صفة الإطلاقية عبر ما أسماه اختلالات وظيفية، حيث يمكن النظر إلى ما هو وظيفي في سياق ما على أنه إعاقة وظيفية في سياق آخر. وبذلك تبدو وظيفية بارسونز ساذجة وقاصرة عن بلوغ واقع الحياة الاجتماعية الأكثر تعقيدًا وتركيبًا وتناقضًا مما تخيل الأستاذ الحالم.

ليس المجتمع بهذه الصورة الحالمة وذلك التجانس كما تزعم سوسيولوجيا بارسونز. ثمة قدر تراجيدي يصيب فئات عديدة من المجتمع. يتوخى المجتمع من أفراده التكيف مع الأدوار التي يرسمها لهم، غير أنه لا يوفر لجميع الأفراد الوسائل ذاتها الكفيلة بتحقيق تلك الأدوار؛ لذلك نرى ميرتون يتوسع في تحليل أنماط التكيف والاستجابات مدخلًا إليها نمط التمرد إلى جانب أنماط الامتثال والانسحاب والطقوسية والابتداع. ونمط التمرد هذا يشكل مدخلًا إلى إعادة الاعتبار للمنظور الصراعي، في خطوة قد تُعَدّ تنازلًا من الوظيفية لصالح النظرية المنافسة. فالفئات المتمردة تشكل تعبيرًا عن تناقضات بنيوية وانكسارات في الإجماع القيمي المزعوم في التصور الوظيفي. المتمرد كائن ساخط لا يتبنى القيم السائدة وحسب؛ بل يسعى إلى تغييرها وقلبها. إنه الثوري الذي يشكل إحراجًا للنظرية. كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة دون مساءلة الوظيفية برمتها؟ كيف يمكن فهم ظواهر الصراع والتغير وبالتالي التاريخ دون تحفيز المجهودات النظرية لفتح أبواب السوسيولوجيا على فضاءات جديدة؟

من التجريد النظري إلى الواقع العملي

لقد تعرض بارسونز لهجوم شديد من أتباعه قبل خصومه. ليس من ميرتون وحسب، ولكن أيضًا من لدن أسماء بارزة في علم الاجتماع الغربي كألفن غولدنار ورايت ميلز. لحظ ألفن غولدنار أن السوسيولوجيا الغربية تواجه أزمة. رسم ملامحها في كتاب نشره عام 1970م بعنوان: «الأزمة المقبلة لعلم الاجتماع». يفصح الكتاب عن أن هناك اختلاطًا وتداخلًا مربكًا بين النظريات. صار كل شيء مشوهًا بنقيضه. تأثرت وظيفية بارسونز بصراعية كارل ماركس. وفتحت السوسيولوجيا الماركسية في الاتحاد السوفييتي أبوابها على الوظيفية. صارت السوسيولوجيا سديمًا مدوخًا. لم تعد النظرية نقية خالصة.

غير أنّ «رايت ميلز»، وهو عالم اجتماع وصف من بعض دارسيه بأنه «تروتسكي تكساس»، يعيد الأزمة إلى اعتبارات إبيستمولوجية، تمامًا كما فعل ميرتون. الولع بالنظرية جعلها لغوًا، تجريدًا متعاليًا على الواقع، ثرثرة لا تضيف شيئًا. لا بد من ملء البناء النظري بالمضامين الأمبيريقية، لتكون النظرية مفصلة على مقاس الواقع دون أن تشطح بعيدًا في سماء التجريد، كما فعل بارسونز. نقرأ في كتابه «النسق الاجتماعي» نصًّا مُعَبَّأً بكل ما هو غامض وحشو وبديهيات بأسلوب عسير يخفي التحيز الأيديولوجي لصالح الرأسمالية الظافرة في المجتمع الغربي.

توماس هوبز

يخبرنا «رايت ميلز» أن الرعب من الماركسية أصاب الوظيفية بالوهن التفسيري وضمور الحس التاريخي. بيد أن إنضاج النظرية مشروط باستحضار ماركس وتاريخية ماركس. التاريخ يمثل مدخلًا منهجيًّا مركزيًّا في كل سوسيولوجيا ممكنة. بتغييب الماركسية يغيب عمق وجوهر السوسيولوجيا ويهمل بعد أساسي في البناء الاجتماعي هو التاريخ والتغير. ليس ثمة سوسيولوجيا ممكنة إلا وهي «ماركسية بالضرورة». لا بد من الإصغاء لماركس لكي نتمكن من بناء مخيلة سوسيولوجية قادرة على الفهم والاقتراب من الواقع. هذا الواقع محك النظرية وفيه تمتحن. الواقع الاجتماعي المعاصر متخم بالمشكلات. ترد الوظيفية المشكلات إلى قيم الأفراد؛ إذ هي ناجمة إما عن عجز في التكيف أو انحراف عن القيم وانتهاك الإجماع القيمي المتخيل. يُفَسَّر الفقر مثلًا بعوامل شخصية؛ الفقراء مسؤولون عن فقرهم. ترد المشكلات دائمًا إلى السيكولوجيا، في حين تردها الماركسية إلى تناقضات بنيوية. فبنى المجتمع هي المسؤولة عن مشكلاته وليس الأفراد، إنها مشكلات بنائية اجتماعية لا نفسية أو شخصية، وعليه فالتغيير مقولة حتمية تقع في صلب الواقع والنظرية، وإهمالها يكشف عن قصور نظري أو انحياز أيديولوجي مسبق ومتعمد.

هل هو انحياز أيديولوجي لرؤية محافظة؟ هي كذلك في نظر نقادها. فالوظيفية رديف لتشكيل نظري مكون من التوازن والديمومة الأبدية للبنى الاجتماعية والإجماع القيمي والتناغم الرومانسي بين مكونات المجتمع، وبما هي كذلك فهي عضو جديد يضاف إلى جسد السوسيولوجيا المحافظة، منذ أوغست كونت ودوركايم، وهي كذلك رغم هيمنتها ردحًا من الزمن على الخطاب السوسيولوجي في المركز كما في الأطراف، عند المهيمن الرأسمالي كما عند التابع. هيمنة طالت العالم العربي كما يرى السوسيولوجي المصري عبدالباسط عبدالمعطي؛ إذ «العدد الأكبر من المشتغلين بعلم الاجتماع في الوطن العربي ينتمي إلى الاتجاهات المحافظة»، ومن بينها الوظيفية التقليدية التي فقدت هيمنتها ووجاهتها المعرفية، وصارت جسدًا بلا ظلال.

طه عبدالرحمن أو الفلسفة المستقيلة

طه عبدالرحمن أو الفلسفة المستقيلة

يطيب لدولوز، الفيلسوف الفرنسي المعاصر، أن يضع تعريفًا للفلسفة لا يخون البدايات الماثلة في الدلالة اللغوية للكلمة ذاتها. فالفلسفة عشق وصداقة للمفهوم، والفيلسوف هو صديق المفهوم الذي دأبه الانخراط الدائم في «مفهمة» العالم. بهذا المعنى يتسع البيت ليضم الفيلسوف الكلاسيكي وناقده المزعج، وبهذا المعنى أيضًا تبدو الفلسفة مساحة رحبة للتفكير والتأمل الأرستقراطي. الفلسفة إذن عشق، هكذا تبدو لدولوز، كما تبدو لمواطنه «ليوتار» لا بصفتها رغبة وإنما تبرير وفهم، كإشباع لحاجة سيكولوجية تضفي على الرغبة مشروعية. لقد سأل ليوتار في مجموعة من المحاضرات ألقاها في الستينيات، ترجمة يوسف السهيلي: «لماذا نتعاطى الفلسفة؟». لأننا نرغب، ولأن أصل الفلسفة افتقاد الوحدة والمعنى. والفلسفة بالتعريف اكتشاف الأصل أو المبادئ القصوى التي تمنح العالم وحدته ومعناه.

غاية الفلسفة

إن فلسفة ليوتار فلسفة عالم مسكون بالنقص والتناقضات، لا مكان للنضال من أجل عالم مكتمل في أي جهد فلسفي عند ليوتار، كأن الفلسفة تأكيد للنقص وليست إنكارًا له: «تنشأ الفلسفة داخل مأتم الوحدة وداخل الفصل والتنافر»، يرفع المفهوم التناقض وشتى التنافرات لتولد من رحم المفهوم تنافرات جديدة مستنفرة الجهد الفلسفي لرفعها في مسار لا يتوقف أبدًا، سعيًا نحو وحدة نائية، فالوحدة التي تبتغيها الفلسفة مثل الكلمة في العقيدة المسيحية سوى أنها توجد هنا كمآل، كوعد، كشيء أخير. غير أن هذه الوحدة المنشودة ليست شيئًا مفارقًا بل هي محايثة.. ليست الوحدة خارج العالم بل داخله.

ولكن ثمة غاية أهم: فالفلسفة تعني تغيير العالم، أجل، فليوتار الذي كان ماركسيًّا قبل أن يدشن مفهوم ما بعد الحداثة، هو ناقد للحداثة والماركسية وكل السرديات الكبرى. يبين ليوتار أن التغيير لا يأتي من فراغ، لكي نغير شيئًا لا بد من فهمه، التأمل قبل البراكسس، التأمل خطوة أساسية -بخلاف ما تقوله الماركسية- في كل عملية تغييرية، نتفلسف لكي نغير العالم بتأويله. في كل عقل تأملي ثمة فعالية وعمل وممارسة، فالفيلسوف لا يؤول العالم إلا ليساعد على تغييره، يمنح الوعاء الأيديولوجي الحاضن للطموحات، للمثل التي نسعى إلى تحقيقها هنا والآن، المثل التي -ربما- لن تتحقق لكنها تقوم بتنشيط وشدّ كل طموح تغييري.

من الواضح أن ليوتار في دفاعه عن الفلسفة لا يتلفت إلى الوراء. يقيم ليوتار فاصلًا منهجيًّا بين الفلسفة والوعي المسيحي، الفلسفة فكر طليق، الفلسفة تزعج الجميع، هي فكر إنساني محض، دون جذر أو تبرير أو تأصيل ديني.. يقتبس ليوتار عن الشاعر هولدرلين، مبينًا أن التفلسف الحق لا يبدأ إلا بصمت ما، في لحظات عصيبة تثير البكم؛ إذ لا تتكلم الفلسفة إلا عندما تصمت كل الأصوات الميثولوجية.

يقدم ليوتار نموذجًا مغريًا للمقارنة مع نماذج فلسفية تقدم ذاتها كخطابات كاسرة للمركزية الأوربية؛ إذ ينتمي مفكرنا لمجموعة من المثقفين المؤسسين لما بات يعرف بما بعد الحداثة كفوكو ودولوز ودريدا.. الحداثة الغربية احتفت بالعقل الإنساني الكوني، لكنها سقطت في انحيازاتها الإثنية مكرسة مركزياتها الإثنية ليتحول العقل الكوني إلى منظومة من الانحيازات والخصوصيات في مسلسل تصاعدي مرعب يصل في ذروته إلى أهوال الهولوكوست وجرائم الاستعمار والإمبريالية. لقد تشظى العقل الكوني، عقل الأنوار في فضاء واسع من التعددية. القوميات والثقافات وكل ما هو خاص وجزئي صار مدعوًّا إلى تأسيس مرجعياته العقلية الخاصة والمستقلة. حق الاختلاف الفلسفي مشروع لكل ثقافة، ومن بينها بالطبع الثقافة والقومية العربية، من هنا نفهم المشروع الفكري للمفكر المغربي طه عبدالرحمن.

نقد الفلسفة الكونية

طه عبدالرحمن مثقف كبير ولغوي لامع. كتب كتبًا كثيرة، وناقش التراث ودعا إلى وحدته وتأطيره بالوحي، وساجل الحداثة وفلسفتها والفكر العربي الخاضع لأطروحاتها. ولد في البيضاء عام 1944م وتلقى تعليمه في وطنه المغرب قبل أن يلتحق بجامعة السوربون ليحصل منها على إجازة الفلسفة.

رأى طه عبدالرحمن أن الفكر العربي الحديث مسكون بالآخر الغربي، واتهم الفلسفة العربية بالتبعية. المثقف العربي عارض أزياء كما قال يومًا «زكي نجيب محمود». لهذا وجب أن يتسم بقليل من الأصالة والإبداع. أن نبدع فلسفة خاصة بنا؛ إذ يحق لنا الاختلاف والمغايرة، حق الاختلاف في الفلسفة.. تلك هي الغاية التي يتوخاها طه عبدالرحمن، ولإنجاز هذه الغاية كان من الضروري أن يبدأ بإجراء منهجي مضاد لكونية الفلسفة؛ إذ لا تفهم الأخيرة إلا في سياق الهويات والتاريخ، فلكي نصل إلى إبداع فلسفتنا الخاصة بنا لا بد من الاشتغال أولًا على إبطال كونية الفلسفة ثم الشروع في وضع فلسفة مصبوغة بطابع قومي لا يتحدد باللغة بقدر ما يتحدد بالوحي والعقيدة.

ألا تكون الفلسفة كونية، تلك جناية ضد الفلسفة في نظر ناصيف نصار وهو الفيلسوف العقلاني الذي يرى في الفلسفة خطابًا من الإنسان إلى الإنسان في الإنسان في محاولة تمييزية عن خطاب الوحي الذي هو خطاب المتعالي إلى الإنسان. يفند ناصيف نصار اعتراضات طه عبدالرحمن على كونية الفلسفة. يخبرنا أن مؤلف «الحق العربي في الاختلاف الفلسفي» يبرهن على بطلان كونية الفلسفة بارتباطها بالسياق التاريخي الاجتماعي، غير أن هذا الاعتراض «ينبني على مغالطة تقوم على وضع التاريخية في مقابل الكونية بحيث إنه إذا صحت التاريخية بطلت الكونية.. والحق أن الكونية تقابل الخصوصية والتاريخية تقابل الدوامية والثباتية». غير أن الفلسفة في نظر طه عبدالرحمن خطاب، أي أنها لغة وأدب، مما يحول دون كونيتها.

يؤكد الأخير «أن لكل لسان أمة فلسفته»، ويرد ناصيف نصار: «مهما بالغنا في الربط بين الفكر واللسان فإننا لا نستطيع عزل الناس بعضهم عن بعضهم الآخر والحجر عليهم داخل أسوار ألسنتهم، ولا سيما فيما يخص التعبير عن أسئلة الحياة والموت والطبيعة والزمان والوجود والعدم، فاللسان لا ينطوي على نظرة فلسفية معينة في حد ذاته وإلا لما كان داخل الجماعة الناطقة بلسان معين سوى فلسفة واحدة وإنما ينطوي على إمكانات للإدراك والتعبير يستخدمها التفكير الفلسفي بكل احترام وتقدير».

بوسع طه عبدالرحمن أن يقدم حججًا إضافية لبيان زيف الكونية، فبما أن الفلسفة فلسفات والفلاسفة مختلفون بعضهم مع بعضٍ، فإن التعددية والخصوصية هي المآل الطبيعي للفلسفة، فكما يحق لكل فيلسوف أن تكون له فلسفته الخاصة، يحق أيضًا لكل أمة بناء فلسفتها الخاصة. ثم إن مؤرخي الفلسفة أنفسهم يَعمِدون في عرض مادتهم إلى التصنيف القومي. يخبرنا ناصيف نصار أن ذلك اختزال خطير لأعمال المؤرخين: «ثمة تصنيفات عدة ممكنة للأعمال الفلسفية في العالم، وما التصنيف على أساس اللسان سوى واحد منها (…) وعندما يتحدثون عن المثالية الألمانية، هل يقصدون أن الأمة الألمانية لها فلسفة واحدة بعينها هي بالتحديد المثالية الألمانية»، متجاوزين الفوارق الهائلة بين زعمائها، ومتناسين جميع الفلاسفة الألمان الذين لا يمكن وضعهم تحت مظلة المثالية من أمثال شوبنهاور ونيتشه وهايدغر وياسبرز.

الفلسفة المستقيلة

لم يكن هذا الاختزال والتبسيط للتأريخ الفلسفي الذي لاحظه ناصيف نصار وفنده بقوة هو الاختزال الوحيد في قراءة طه عبدالرحمن للفلسفة الحديثة، فهي قراءة تعجّ بالاختزالات، تبدأ بقومنة الفلسفة وتنتهي بتديينها. يقولون: إن الفلسفة كونية، لكنها لسوء الحظ أوربية مفروضة بقوة الهيمنة السياسية الإمبريالية على بقية العالم، وهكذا تنمو حركة الاختزال من الكوني إلى الخاص، فالفلسفة الأوربية ما هي في حقيقة الأمر إلا فلسفة ألمانية، وهذه الأخيرة ما هي إلا بروتستانتية مسكونة ضمنيًّا بالفكر اليهودي تسودها الاستعارات والرمزية الدينية. إن كل شيء يجري لكي تكون الأرض ممهدة لا لِتَواصُلٍ فلسفيٍّ يتوسل الحقيقة البرهانية، بل لحرب لاهوتية تتخذ من الفلسفة ذريعة لها. صحيح أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، كما يلحظ ناصيف نصار، وأن الفلسفة والفكر الحديث قد أحرزا قطيعتهما مع الفكر الديني، وأن الحداثة بالتعريف ما هي إلا وعي هذه القطيعة كما يقول عبدالله العروي، إلا أن طه عبدالرحمن يتجاهل كل ذلك مختزلًا الفلسفة في نواة دينية تمنحه الحجة لتديين الفلسفة.

إن طه عبدالرحمن هو النموذج المكتمل للفيلسوف النستولوجي يسير وهو يلتفت إلى الوراء. فالحداثة عقلانية متطرفة؛ لذا يتوجب تخفيف حدتها بالإيمان، وإذا كانت الفلسفة هي العقلانية بالتعريف، والعقلانية على حد تعبير ميشيل فوكو قرار ضد اللامعقول، إذ تقوم على ضرورة رفع الوصايات من أي سلطة خارجية أسطورية أو سياسية؛ إذ على العقل أن يكون مستقلًّا بإزاء الخرافة والشعر والسلطة، فإن طه عبدالرحمن عبر تمييزه بين «العقل المجرد» و«العقل المسدد» يحدّ الفلسفة بغيرها. وفي هذا يكمن نفي الفلسفة بشكل تام؛ لأن الفلسفة مكتفية بذاتها في حين أن عبدالرحمن يقيدها بسياج العقيدة لتصبح الفلسفة فقه فلسفة أو عقيدة أو لاهوتًا أو كلامًا أشعريًّا! باختصار إن مشروع طه عبدالرحمن يمكن تلخيصه في كلمة واحدة: أَسْلَمة الفلسفة.

لا يمكن فهم فكر طه عبدالرحمن إلا بوضعه في صلب الإشكالية العربية للفكر العربي كما تكوّن منذ أكثر من قرن، وبخاصة فكر النهضة المنغمس في منطق الهويات، ففي قلب العلاقة الجدلية بين الذات والآخر يُعبَثُ بالفلسفة والتاريخ، فالآخر هو الغرب، لقد تقدم وتأخرنا نحن. لماذا تأخرنا؟ لأننا تجاهلنا التراث، لم نعبأ بقيمنا الدينية، لقد شوهنا التراث ومزقنا وحدته المستمدة من الوحي والمنقول الديني. لكن من يحدد الذات ويحدد الآخر؟ وكيف يكون ذلك؟ ألا يكون التراث بالنسبة إلينا نحن، أبناء الأزمنة الحديثة، آخرًا كما هو الحال مع الغرب؟ ثم هل يمكن تحديد الغرب كما هو حال التراث أيضًا ككتلة متجانسة ثابتة يمكن تحديدها في قالب هوية لنقول مثلًا: الغرب العقلاني، العلماني، أو الغرب الصليبي… إلخ. ما أعرفه حقًّا هو أن طه عبدالرحمن متعب بوعيه الشقي وانشطارات الذات وتمزقاتها؛ لأن بوصلته الثقافية تشده حينًا إلى الفلسفة بصفتها فكرًا طليقًا من دون شروط، وحينًا آخر إلى الوعظ العقدي كداعية مدافع عن الأيديولوجيا الدينية. إن طه عبدالرحمن هو حقًّا الفقيه طه عبدالرحمن.

ولكن مع ذلك كله من يستطيع لوم طه عبدالرحمن؟ إن دعوته المحتفية بالخصوصية والقومية التي يريد إعلاءها إلى رتبة الفلسفة وهمومها، وبالتالي إلى كونية الفلسفة، إن كل ذلك ما هو إلا عرض من أعراض كل سياق حضاري واجتماعي متأخر.. ألم تكن ألمانيا موطن هردر الأب الروحي لكل القوميات والخصوصيات، ألم تكن ألمانيا هذه المتأخرة عن فرنسا هي من رفع لواء التأويل والخصوصية والرومانسية القومية ونسبية الثقافة؟

أسلمة العقل والفلسفة

أتاح حق الاختلاف الفلسفي لطه عبدالرحمن أن يضع العقل تحت النقل، فبما أن النص الديني في الثقافة العربية التي تريد الجهر بفلسفتها الخاصة هو نص مؤسس ومركزي فإن العقلانية لن تكون شيئًا آخر سوى تلك العقلانية الإسلامية التي يتوخاها طه عبدالرحمن، الذي يؤكد في نسقه الفلسفي تبعية العقلانية المعرفية والقيمية للدين الإسلامي.. هو نسق تراتبي إذن! تراتبي بالضرورة، يبدو فيه العقل أسفل الشرع؛ فالشرع مستمد من النص، والنص لا يعلى عليه فسيكون إذن العقل دائمًا وأبدًا مؤيدًا به. إن العقل ينبغي دائمًا أن يتحرك في فضاء الشرع، وإلا كان عقلًا مجردًا وهو الأمر الذي يدينه مفكرنا، فالعقل المشروع مشروط بشَرْعَنة العقل وأَسْلَمَته. الأَسْلَمة تلك هي الكلمة المفتاح، الكلمة المركزية في كل نتاج طه عبدالرحمن الذي يسميه فلسفة أو فقه الفلسفة وهو أحد عناوين كتبه. لكن الأسلمة لا تختلف عن تهويد الفلسفة في شيء حيث يتلاقى هنا طه عبدالرحمن الشيخ والداعية الغيور مع خصمه الذي يدينه متوهمًا أنه هو نفسه العقل الغربي.

لكن أسلمة العقل لا تنتج عقلًا «فلسفة» وإنما عقيدة جديدة، أسلمة العقل تَعْنِي تَدْيِينَ العقلِ وصولًا لإلغائه، فما دامت الاعتبارات الدينية هي المحك فسيكون كل شيء في الفكر العربي مشروطًا بالمطلق الذي اكتمل في زمن خارج الزمن، كل شيء ينبغي إخضاعه لهيمنة التأصيل، وسيعود العقل الذي هو اليوم فعالية لا جوهرًا، إلى ما كان عليه من قبل، عقلًا مساندًا سلبيًّا مكرسًا لمهمة وحيدة: فهم النص وشرح الوحي، وسيكون التواصل الفلسفي صراعًا لاهوتيًّا صاخبًا مشحونًا بالحماسة الدينية، وسيُجَسِّد الفيلسوف والفقيه والكلاميُّ طه عبدالرحمن الدورَ المعاصر لأبي حامد الغزالي، فهو الأب الرُّوحي الذي علَّمه كيف يمكن إلجام العقل الجموح. ألا يمكننا القول: إن كتابات طه عبدالرحمن ما هي إلا ترجمة معاصرة لعمل الغزالي الخالد: «تهافت الفلاسفة»، بصفته تفنيدًا لفلسفة تَتوهَّمُ كونيتها لا لصالح العِلم، كما هو الشأن مع النقد الحديث للفلسفة، بل لصالح العقيدة الدينية كما يفهمها اتجاه كلاميّ ينتمي إليه الغزالي؟

لا ينتمي طه عبدالرحمن لزمن الغزالي. هو رجل معاصر. لديه اطلاع واسع على المنجز الفلسفي الحديث ومساراته وتاريخه المديد، وهو على علم بمسار النقد الموجه ضد العقلانية، يميل إلى دولوز ويقتفي خطى هايدغر، مفتتنًا بالتشقيق اللغوي كحال هايدغر، وهو يدرك أيضًا مأزق الفلسفة في الأزمنة الحديثة، ومأزق العقل في فلسفة «ما بعد الحداثة»، لكن على الرغم من ذلك كله نراه يتردد بين الحداثة أو ما بعد الحداثة والأصالة حاسمًا ذلك كله بالارتماء في حضن التراث الدافئ. لتبدو المسافة بينه وبين ليوتار «عراب ما بعد الحداثة» كالمسافة ذاتها بين العقل الطليق والمشروط بذاته والعقل المختزل في صورة ثيولوجيا سجالية!

تراثنا ليس لنا (نذير الماجد)

تراثنا ليس لنا (نذير الماجد)

نذير-الماجد

نذير الماجد

كم من الشعر مدفون تحت ركام اللغات؟ العطش قدر الكائن الجمالي، كأن عليه لكي يقبض على الجوهر الشعري أن يتقن لغات العالم. في كل لغة يختبئ جوهر شعري، والمهمة الأساسية تكمن في اكتشافه. اكتشف هيدغر جوهرًا شعريًّا في لغة غير لغته، فعمل على استدعاء الشعرية الإغريقية لتدشين فلسفة حديثة. الإغريق هم الأسلاف الطبيعيون للفلسفة المعاصرة. التراث الإغريقي هو تراث الغرب الذي كان وراء نهوضه من سباته الطويل. في كل تراث ثمة مادة لا تنفد ولا تشيخ، من يعمل على اكتشافها في تراثنا العربي؟ من يتجشم عناء هذه المهمة الشاقة التي تراوح مكانها مشكّلةً صداعًا ثقافيًّا مزمنًا؟ سؤال إشكالي له مذاق الهزيمة وتبجح الآخر، فتراثنا ليس لنا. لم نحسن القراءة. مهمة اكتشاف الذات لم تستكمل. تشوه التراث باختزال مزدوج: اختزال الذات واختزال المركزية الغربية. استبطنت الذات العربية الصورة الدونية التي رسمتها المركزية الغربية فصارت تمتهن ذاتها التراثية، ينبغي هنا استحضار إدوارد سعيد.. كل صيحة تحديثية موشومة بالغرب. أصبحت الدعوة إلى الموسيقا والشعر وحرية القول والفلسفة وفن الحياة دعوة تغريبية. قصائد النثر والسرد منتجات غربية، الغرب علمنا ذلك ولا بد من الاعتراف بتفوقه أو باغترابنا. الغرب! ذلك النعت الذي يجلب البركة أو اللعنة.

ثمة استعادة للتراث لكن على نحو أحادي وبنكهة دينية، أصبح التراث رديفًا للتراث الديني، ابتلع الجزء الكل. شُطِب مكونه الشعري الأعم من القصائد وأغراض المديح أو الهجاء أو المهاترات القبلية، اختفت هرطقات الفلسفة وضلالاتها، وسُحق وجه الثقافة الشعبي ليظل الوجه الرسمي المعتمد كجوهر أزلي أو شاهدة قبر. إنه تراث ممزق عانى كثيرًا من خطايا أبنائه، تراث لم يعد تراثًا بصيغة الجمع.

لولا هذا الاستشراق

مارسيل بروست

مارسيل بروست

غارسيا ماركيز

غارسيا ماركيز

أليس من السخرية أن تحقيق النصوص الأكثر نبوغًا قام به الاستشراق نفسه الذي أدانه محقًّا إدوارد سعيد؟ غيبوبة الذات من جهة والتثبيت الغربي لشرق رومانسي حالم حينًا، وديني أصولي حينًا آخر جعل من التراث الحي جثة هامدة. لم نكن نعرف -مع ذلك- التصوف و«ألف ليلة وليلة» وكل النصوص المهمشة لولا هذا الاستشراق. كان يحفر ويستخرج الكنوز فيما نحن غارقون في تفاهات الماضي وتمثلاته الثيولوجية، في سذاجات الحقيقة الأحادية ونرجسية الطائفة. هذا الانشغال أجهز على تعددية التراث. «ألف ليلة وليلة» الذي تشكل واستقر قرونًا هو نص محرم ومحكوم بالإدانة. تخدش الليالي نقاء الصورة المتخيلة للذات. الليالي محض هراء وتفاهة. تحاط الليالي بنظرة ازدرائية. كل نتاج ذاتي محتقر. لا تليق بنا الليالي، شغلتنا عنها مماحكات المِلَل والنِّحل. ليس بمقدورنا اكتشاف الشعرية في ألف ليلة وليلة. هي غريبة في بيتها، عليها انتظار عبقرية أجنبية لكي تعود. قرأ ماركيز «ألف ليلة وليلة» فكانت قراءة العمر. اكتشف حكايات شهرزاد فاكتشف ذاته. القراءة كانت لها «قوة الحدث». ما بعد الكتاب ليس كما قبله. يقال: إن الشيء نفسه حصل مع بروست صاحب «البحث عن الزمن المفقود». الليالي ألهمت كثيرين قبل عودتها. بالمناسبة هل ما زالت مدانة في محاكم مصر؟ كم ماركيز وكم بروست نحتاج لكي تكرم الليالي في بيتها ويعود السندباد البحري من سفره الطويل؟

العودة تعني الاحتفاء مجددًا وإعادة الاكتشاف. العودة ليست نستولوجيا إنما خروج من وضعية الاغتراب. ليست المسألة حنينًا لهوية مفقودة. تكمن المسألة في وعي الذات بضرورة المشاركة في بناء الكوني، يبنى الكوني في الوقت الذي تتقوم فيه الخصوصيات. لا يتعلق الأمر بقطيعة مع الكوني أو الدخيل أو الآخر. على العكس، يتعلق الأمر بحوار داخل الكوني ومعه. ينبغي الحوار مع الآخر، لكن أيضًا مع الذات نفسها. مع الذات في ماضيها عبر إعادة الاكتشاف الدائم لعبقريتها الماثلة في الشعر. تبيت الكينونة في الشعر. والشعر هو الكنز المنثور والمخبوء في التراث. ينبغي البحث عنه واكتشافه عبر إقامة الحوار ليس مع الثقافة الرسمية بل عبر المقموع فيها. الحوار مع المهمش في هذه الثقافة، مع الشعبي، الضاحك، الخرافي، مع المقامة التي احتقرها محمد عبده وشطبها وهو الإصلاحي الكبير. المطلوب إعادة استنتطاق هذا الموروث، استنتطاقًا أبديًّا ودائمًا ومستمرًّا. تتحول الذات ويتحول معها الموروث. تعريف الموروث هو نفسه عمل متحول ومفتوح. تهرب التعريفات وتنسحب، وليس النقد بصفته فنًّا ضد الفن أو معه إلا محاولة دائبة للإمساك بالتعريفات الهاربة كما قال يوما كونديرا.

في هذا السياق تُفهم أعمال عبدالفتاح كيليطو الناقد الأدبي والقارئ الحداثي للتراث، وهو المقتفي خُطا باختين وتودوروف، وبخاصة في قراءة النص المهمش، لا ننسى أن روسيا المنحدر منها باختين كانت مهجوسة هي الأخرى بهويتها السلافية، كانت مسكونة برعب الآخر الغربي. من الواضح أن عبدالفتاح كيليطو مشغول بردم الهوة، تسكنه هواجس التجسير، ضرورة الحوار ليس مع الآخر، بل مع الذات نفسها قبل ذلك، مع الذات الكلاسيكية والتراثية. يلح كيليطو على إعادة قراءة التراث والحوار معه وترجمته ليكون معاصرًا وحديثًا. المطلوب قراءة معاصرة للتراث لإنجاز وعد مصالحته مع الحداثة.. والحداثة هي هكذا: «مادة تقليدية مستعملة في منظور جديد». لكن جهده النقدي تركز حول فن المقامة. عد المقامة سلف الرواية العربية والأب الشرعي للسرد العربي المعاصر تمامًا مثلما عد أدونيس نصوص النفري قصائد نثر مبكرة.

المقامة وانتهاك القاعدة

محمد عبده

محمد عبده

إنها والله مقامة!.. المقامة خطاب في مجلس، ما يعني وفرة الأصوات وتشابكها وتداخلها وتقاطعها، المقامة خطاب روائي بالمعنى الذي عناه باختين، هناك إذن تعددية في الأصوات: صوت العقل إلى جانب صوت الجنون.. لكن في المقامة ومن ناحية الشكل تحديدًا تحتشد وفرة من الأنواع أيضًا، الشعر إلى جانب النثر المسجوع غالبًا، المديح إلى جانب الهجاء. هي مثل الرواية شكل هجين بلا أب، كتابة حديثة تائهة في القرن الرابع الهجري. غير أنها شكل يقبل المحتوى ونقيضه. ففي المقامة يوجد الرسمي والشعبي، المعتمد والمهمش، الهزلي والجاد، القاعدة وانتهاكها. الجهد الشكلاني والبنيوي الثقافي الذي بذله كيليطو بحاجة إلى من يستكمله بترجمة معاصرة لمنطوق المقامة وجملتها التأويلية التي لا تختزل بحسب تعبير «بول ريكور». المقامة كالتراث متعددة، يمكن القول: إن المقامات تختصر التراث، وإن الأخير كله مقامة. تتنازع الكلمة استعمالات متشابكة، المقامة شكل أدبي لبنية سردية، لكننا نلحظ أيضًا أن مفردات كالقيامة والمقام تستمد أيضًا من الجذر نفسه، المقام عند المتصوفة رتبة وجودية في حين أن المقامة فسحة وجودية أو كرنفال، أما القيامة بمفهومها الخلاصي فتمثل أمامنا بمعنى العودة لكن في حلة جديدة. تعني قيامة المخلص عودته المكللة بالمجد. بهذا المعنى يمكننا استعادة التراث: أن يقرأ مجددًا، أن يخضع للنقد، والنقد تعليم فن القراءة كما يقول الإستطيقي الإيطالي كروشته.

كان أبو الفتح الإسكندراني يتنكر في كل مقامة تحت قناع، إلى أن يقوم الراوي «عيسى بن هشام» بفضحه بشيء من الدهشة والمرح. مع كل مقامة – وأنا هنا أخص مقامات الهمذاني- يتكرر هذا الاكتشاف المدهش في صورة لازمة: «إنه والله أبو الفتح الإسكندراني». الفضيحة تختتم المقامة، أما قراءة التراث فتبدأ بها. ثمة من ينتظر خلع أقنعته العديدة ليدهشنا نحن أيضًا بلازمة تتكرر: إنه والله تراث، إنها والله مقامة.