داريوش شايغان.. هوية بأربعين وجهًا

داريوش شايغان.. هوية بأربعين وجهًا

«مجمع البحرين» هو تعبير قرآني اختاره الأمير المغولي دارا شكوه (1615-1659م) من سورة الكهف (الآية 60) ليضعه عنوانًا لكتابه الذي كرّسه لاستكشاف الصلات والتشابهات العميقة القائمة بين التصوف الإسلامي والفيدانتية الهندوسية. ودارا شكوه هو الابن الأكبر وولي عهد الإمبراطور المغولي الشهير شاه جهان قبل أن يُزاحَ ثم يقتل لاحقًا على يد أخيه الإمبراطور أورنجزيب الذي عُرف، في التاريخ الهندي المغولي، بتعصبه الديني المتزمت كما تجلى في سياساته التي كانت تقع على النقيض تمامًا من إرث التسامح الديني الذي تجسّد في أسلافه المغوليين من جلال الدين محمد أكبر إلى جهانكير إلى شاه جهان إلى دارا شكوه.

نادر كاظم

لقد كان دارا شكوه موضع إعجاب واهتمام خاصين من المفكر الإيراني الراحل داريوش شايغان (1935- 2018م)؛ إذ وجد فيه تجسيدًا حقيقيًّا لـ«مجمع البحرين»، وحلقة الوصل الجامعة التي يلتقي فيها التصوفُ الهندوسيةَ، وذروة إسهام «توفيقي كبير بين ديانتي الهند: الهندوسية والإسلام»(1). ويعود اهتمام شايغان بدارا شكوه إلى الستينيات من القرن العشرين، وتجلى، بشكل خاص، في أطروحته للدكتوراه التي أعدها في عام 1968م تحت إشراف هنري كوربان، وكانت بعنوان «العلاقة بين الهندوسية والتصوف بحسب رواية «مجمع البحرين» لدارا شكوه؛ ليتحوّل شايغان نفسه، فيما بعد، إلى مثال حيّ آخر على غرار دارا شكوه، وذلك بعد توسيع نطاق «مجمع البحرين»، وتعظيم مجراه ليصبح تجمعًا روحيًّا واحدًا مشتركًا، يحتضن بداخله كل الديانات الشرقية الكبرى في حضارات الإسلام والهندوسية أو الصينية واليابانية حتى الإفريقية.

نحن، في الحقيقة، أمام برزخين كبيرين وبحاجة إلى جهد جبّار لتجاوزهما معًا: الأول برزخ ينتصب كحاجز بين الحضارات والديانات الشرقية الكبرى. والثاني برزخ أعظم ويقف كحاجز بين هذه الحضارات التقليدية التي صيّرها اصطدامها بالحداثة الغربية بمثابة «النفس المبتور» التي تعاني فصامًا ثقافيًّا ووجوديًّا واختلالات بنيوية عميقة و«تشوهات في الفكر والروح»(2) من جهة، وبين الحداثة الغربية الصاعدة منذ القرن الخامس عشر لتتوّج نفسها كحضارة عالمية غالبة ومتسيّدة في نهاية المطاف. وقد حدّد هذان البرزخان الطريق الذي سيكون على داريوش شايغان أن يسير عليه، والمهمة الملقاة على عاتقه ليكون جسرًا حضاريًّا، وحلقة وصل بين الحضارات التقليدية فيما بينها من جهة، وبينها وبين الحداثة الغربية من جهة أخرى.

وُلد داريوش شايغان في تبريز (شمال غرب إيران) في وسط ثقافي متنوع دينيًّا وإثنيًّا ولغويًّا، فأُسرته كانت تستخدم «اللغة الروسية، والفارسية، والقوقازية والجورجية، كما كانت تعتنق أشكالًا مختلفة من الاعتقادات: الإسلام والمسيحية والزرادشتية»(3). وقد طبع هذا التنوع اللغوي والديني والإثني شخصية شايغان واهتماماته بطابع لا يمحى. وهو ما جعل شخصيته متعددة كما لو كانت مسكونة بأربعين هوية، هكذا كما لو أن جماعة من الناس قرروا أن يقيموا داخل شخصيته(4). وهذا ما يجعل من شايغان واحدًا من أكثر المثقفين المعاصرين تأهيلًا للاضطلاع بهاتين المهمتين الكبيرتين: وصل الحضارات التقليدية فيما بينها من جهة، ووصلها بالحداثة من جهة أخرى.

مأزق حقيقي

لقد كان شايغان يكافح، منذ الستينيات ومنذ إعداد أطروحته عن الهندوسية والتصوف وتعيينه أستاذًا لدراسات الهند والفلسفة المقارنة في جامعة طهران (1962- 1980م)، لإقامة «حلقة الوصل» لتجاوز البرزخ الأول المنتصب بين الديانات الشرقية الكبرى، بين التصوف الإسلامي والتصوف الهندوسي والصيني والياباني. وذلك قبل أن يشرع في مهمته الثانية مكافحًا، منذ الثمانينيات وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979م ومغادرته طهران إلى باريس ونشر كتابه الأشهر «ما الثورة الدينية؟» (1982م)، لإقامة «حلقة الوصل» الثانية لتجاوز البرزخ الثاني والأكبر القائم بين الحداثة الغربية والحضارات التقليدية الكبرى. شدّد شايغان، في كتاب «ما الثورة الدينية؟» و«هوية بأربعين وجهًا» على فكرة أن الغرب والشرق يمران بمأزق حقيقي، حيث يفتقر الغرب إلى الثراء الروحي في الحضارات التقليدية الشرقية، ويعاني «الفراغ الهائل في المعنى»(5)، كما أن عقله التنويري الذي «نزع السحر عن العالم» تحول إلى «عقل أداتي» تقني تتحكم فيه المصالح الرأسمالية بالدرجة الأولى، ومقياس قيمته الوحيد «هو قيمته الإجرائية ودوره في السيطرة على البشر وعلى الطبيعة»(6) كما ينقل عن ماكس هوركهايمر ومدرسة فرانكفورت.

وفي المقابل لا يمكن للشرق بحضاراته التقليدية أن يفلت من مجال الجذب الهائل الذي خلقه الغرب كحضارة عالمية. وما يطمح إليه شايغان هو أن يكون «مجمع» هذين البحرين والعالمين المتواجهين. وفي هذا السياق أسس شايغان «المركز الإيراني لدراسة الحضارات» في عام 1976م، وإليه يرجع الفضل في صياغة مصطلح «حوار الحضارات» في مؤتمر دولي نظمه المركز في عام 1977م، كما استحق في عام 2009م الفوز بجائزة «الحوار العالمي» الدولية تقديرًا لإسهاماته في مجال حوار الحضارات والثقافات. وتقف محاولة شايغان على النقيض من تلك الاستجابات الاختزالية التي فرضت نفسها في العصر الحديث، ويسميها شايغان بـ«الأدلجة». وتستوي في ذلك أدلجة الغرب والتراث معًا، فالأولى قادت إلى التغرّب (التفرنج)، فيما انتهت الثانية إلى التأسلم. تمثل الأدلجة حالة من «التغرّب اللاواعي» الذي يتحول إلى «وعي زائف» يسعى إلى «وصل عالمين متباعدين لدمجهما»(7) على نحو ترقيعي ومجزّأ واختزالي.

لا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن أن أفكار داريوش شايغان كانت منسجمة ومترابطة بهذا الشكل. أقول هذا حتى لا يلتبس الأمر على بعض قراء شايغان الذي امتاز فكره بالحيوية والتجديد إلى درجة الانتقال من النقيض إلى النقيض؛ من كتاب إلى آخر. فمن قرأ، على سبيل المثال، كتابيه «الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية» (1976م) و«آسيا مقابل الغرب» (1977م) سيفاجأ بالتأكيد حين يقرأ نقيضهما في كتابيه الآخرين: «ما الثورة الدينية؟» (1982م) و«النفس المبتورة» (1991م)، ثم لن تستقرّ الحال مع هذا القارئ حتى يفاجأ، مرة أخرى، بطرح مغاير في آخر كتب شايغان وهو «هوية بأربعين وجهًا». والحقيقة أنه يمكن فهم هذا التحول في أفكار شايغان المتغايرة من خلال قراءتها في ضوء مسيرته الفكرية بأكملها. وهي مسيرة تتوزّع على ثلاث مراحل أساسية(8)، حيث تمتد المرحلة الأولى على كامل الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وفي هذه المرحلة كان شايغان يدافع عن فكرة محورية لديه وهي وجود تباين أنطولوجي بين المجتمعات الشرقية والغرب، وكان، في هذه المرحلة، أكثر ميلًا لتبجيل الحضارات الشرقية وميراثها الروحي كما في كتابيه «الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية» و«آسيا مقابل الغرب». وفي المرحلة الثانية يكتشف شايغان أن «الذاكرة الأزلية» للحضارات الشرقية لم تكن إلا انعكاسًا لحالة الجمود والعجز عن التجديد والتجدد وانطفاء الحيوية في هذه الحضارات منذ القرن السابع عشر. وهو القرن الذي شهد تربع الغرب وحداثته العقلانية على قمة الحضارات الإنسانية.

مواجهة محتومة

وهو الأمر الذي سيفرض على شايغان تركيز الدراسة على المواجهة المحتومة بين هذه الحداثة التي أصبحت هي موضع التبجيل، وبين الحضارات التقليدية التي تركز عليها نقد شايغان الجذري. وأبرز كتاب يعبّر عن فكر شايغان، في هذه المرحلة، هو كتاب «ما الثورة الدينية؟» الذي صدر بعد الثورة الإسلامية في إيران، وكأنه رد مباشر عليها وعلى توجهاتها الإسلاموية. وفي المرحلة الثالثة يتمكن شايغان من تجاوز مرجعياته القديمة جنبًا إلى جنب مع تجاوز النقد الأحادي للغرب وللحضارات التقليدية سواء بسواء. وينتصب كتابه «هوية بأربعين وجهًا» كأوضح مثال على هذا التحول الأخير في مسيرة شايغان الفكرية. ففي هذه المرحلة يشدد شايغان على ضرورة «توجيه الفكر نحو وظيفة نقدية مزدوجة» بالكشف عن الأدلجة المزدوجة التي طالت الحضارات التقليدية والحداثة معًا. كما أنه ينتهي إلى أن الهوية الأحادية النقية والخالصة، سواء للغرب أو للشرق، ليست سوى وهم كبير. وهو وهم يتأسس على اختزال عقيم للتنوعات البشرية الهائلة في ثنائية زائفة: (نحن والآخرون).

وفي هذه المرحلة الأخيرة يلتقي داريوش شايغان الأخير بداريوش شايغان الأول الذي بدأ كباحث مشدود إلى «مجمع البحرين»، إلى تلك النقطة التي تلتقي فيها الحكمتان العظيمتان: حكمة التصوف الشرقية والتسامح السخي والإيمان بالتنوع وبأن هناك طـرائـق بـعـدد أنـفــاس الخـلائـق وهويات بأربعين وجهًا، وحكمة الحداثة الغربية التي أرسى دعائمها عصر التنوير وقيمه الكونية العظيمة (التسامح، والكونية الإنسانية، وحقوق الإنسان الطبيعية…). ويبدو أن مستقبلنا سيتوقف على مدى قدرتنا على الجمع بين هاتين الحكمتين، وعلى التكامل الإنساني، والتواصل الحقيقي عبر الحضارات، والحوار بين الثقافات، والتسامح الذي يعني، كما قال شايغان، «قبول الآخر وترويض ذواتنا»(9) المتضخمة، وأخيرًا ربما يتوقف مستقبلنا على الحب حيث «إن أحد الشروط الأساسية في كل حوار ربما يكون الحب»(10). هذا إذا أردنا أن نكون على موعدنا مع التاريخ بدل أن نستفيق، يومًا، لنجد أنفسنا «خارج التاريخ»، وأثرًا من آثار الماضي.

مراجع‭:‬

1- ‬داريوش‭ ‬شايغان،‭ ‬النفس‭ ‬المبتورة‭: ‬هاجس‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا،‭ (‬لندن‭: ‬دار‭ ‬الساقي،‭ ‬ط‭:‬1،‭ ‬1991م‭)‬،‭ ‬ص56‭.‬
2- ‬النفس‭ ‬المبتورة،‭ ‬ص7‭.‬
3- Ehsan Shakeri Khoei1 & Zohreh Arabshah ,Tradition in Seyyed Hossein Nasr and Dariush Shayegan’s Thought, (International Research Journal of Applied and Basic Sciences, Vol. 7 (7), 2013), p.400
4- ‬استعار‭ ‬شايغان‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬الإيطالي‭ ‬آري‭ ‬دي‭ ‬لوكا‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬االطابق‭ ‬الأرضيب‭. ‬انظر‭: ‬داريوش‭ ‬شايغان،‭ ‬هوية‭ ‬بأربعين‭ ‬وجهًا،‭ ‬ترجمة‭: ‬حيدر‭ ‬نجف،‭ (‬بغداد‭: ‬مركز‭ ‬دراسات‭ ‬فلسفة‭ ‬الدين،‭ ‬ط‭:‬1،‭ ‬2016م‭)‬،‭ ‬ص107‭.‬
5- ‬المرجع‭ ‬نفسه،‭ ‬ص46‭.‬
6 – ‬داريوش‭ ‬شايغان،‭ ‬ما‭ ‬الثورة‭ ‬الدينية؟‭ ‬الحضارات‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الحداثة،‭ ‬ترجمة‭: ‬محمد‭ ‬الرحموني،‭ (‬بيروت‭: ‬دار‭ ‬الساقي،‭ ‬2004م‭)‬،‭ ‬ص233‭.‬
7-  ‬النفس‭ ‬المبتورة،‭ ‬ص94‭.‬
8- ‬يرجع‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬التنبيه‭ ‬إلى‭ ‬توزع‭ ‬مسيرة‭ ‬شايغان‭ ‬الفكرية‭ ‬على‭ ‬ثلاث‭ ‬مراحل‭ ‬أساسية‭ ‬إلى‭ ‬عبدالجبار‭ ‬الرفاعي‭. ‬انظر‭ ‬مقدمته‭ ‬الغنية‭ ‬لكتاب‭: ‬هوية‭ ‬بأربعين‭ ‬وجهاً،‭ ‬ص12‭.‬
9- ‬من‭ ‬حوار‭ ‬أجرته‭ ‬شهرزاد‭ ‬دنشخو‭ ‬مع‭ ‬داريوش‭ ‬شايغان،‭ ‬ونشر‭ ‬في‭ ‬الفايننشال‭ ‬تايمز‭:‬
Scheherazade Daneshkhu, Iranian intellectual Daryush Shayegan on what east and west share, (Financial Times, October 2, 2015).
10- ‬داريوش‭ ‬شايغان،‭ ‬أوهام‭ ‬الهوية،‭ ‬ترجمة‭: ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬مقلد،‭ (‬بيروت‭: ‬دار‭ ‬الساقي،‭ ‬ط‭:‬1،‭ ‬1993م‭)‬،‭ ‬ص32‭.‬

تزفيتان تودوروف: الذاكرة تكسب في نضالها ضد العدم

تزفيتان تودوروف: الذاكرة تكسب في نضالها ضد العدم

تزفيتان-تودوروفلطالما كنت أشعر أن مسار حياتي، مهنيًّا وفكريًّا، كان يتشابه مع مسار حياة تزفيتان تودوروف (1939- 2017م) المُنظِّر الأدبي البارع والمفكر الإنساني الكبير. كنت معجبًا به، بل مشدودًا إلى كل ما يكتب منذ أن قرأت له. والمفارقة أني تعرفت إلى تودوروف، أول مرة، من خلال كتابه «فتح أميركا: مسألة الآخر»، الذي نقله إلى العربية بشير السباعي بترجمة بديعة ومتمكنة (صدرت الترجمة عن دار سينا في عام 1992م). كنت وقتها أدرس الأدب والنقد في كلية الآداب بجامعة البحرين، ومولعًا أشد الولع بالتحليل الأدبي ونظريات النقد الحديثة من بنيوية وشعرية وسيميوطيقا أسلوبية وتفكيكية ونظرية القراءة والتلقي وغيرها.

لا أتذكر الآن حجم التأثير الذي تركه فيّ هذا الكتاب، لكني حين أسترجع مسار الأحداث أراني كنت مأخوذًا بتودوروف وكتابه الذي غيّر مجرى اهتمامي إلى حد أني قررت أن أوسّع دائرة تخصصي لما هو أبعد من الأدب ونصوصه ونظرياته، وتحديدًا إلى قراءة لحظة الاشتباك بين ثقافتين: الأولى تحتلّ موقع الهيمنة بحيث تصيّر الثانية مهيمَنًا عليها ومغلوبة ومهمَّشة. كان كتابي «تمثيلات الآخر: صور السود في المتخيل العربي الوسيط» الذي كان أطروحة الدكتوراه، مشبوكًا بـ«فتح أميركا» ومسألة الآخر ولحظة الاشتباك بين حضارة متقدمة وآخذة في التوسع، وثقافات أخرى وبشر آخرين جرى اختزال وجودهم إلى وضعية أدنى من الإنسان، بل وضعية الشيء كموضوع (وليس ذاتًا) قابلة للاستعمار والاستعباد والبيع والشراء وحتى الإبادة.

منذ هذا اللقاء بتودوروف وأنا ألاحق كل جديد يصدره أو حوار يجريه وكأني أقرأ مستقبلي وانعطافاتي، إلا أني في كل مرة أقرأ لتودوروف أشعر بفرادته كمفكر تأسرك قدرته على قراءة مجريات العصر بعيون مفتوحة على آخرها، وبروح كبيرة تتسع لكل الاختلافات بين البشر، وتنتصر للإنساني فينا دائمًا. ولقد كان عالمنا العربي وثقافتنا وإسلامنا ومشكلاتنا ومعضلة علاقتنا بالغرب والعالم من بين المشاغل الأساسية التي اهتم بها تودوروف. وربما هذا ما جعله حاضرًا بقوة في الثقافة العربية المعاصرة، ويشهد على ذلك عدد كُتبه التي تُرجمت إلى العربية.

بيت مزدحم بالكتب

بدأ تودوروف حياته وسط الكتب والمكتبة، ويحكي عن طفولته أنه وُلد في بيت مزدحم بالكتب، وكان وهو طفل يحبو وسط أكداس من الكتب التي كان والداه يقتنيانها، ويضعان باستمرار رفوفًا جديدة لاستيعابها. نشأ تودوروف في أحضان هذه الكتب؛ مما جعله شغوفًا بها، فما إن تعلَّم القراءة حتى راح يلتهم القصص الكلاسيكية مثل ألف ليلة وليلة، وتوم سوير، وأوليفر تويست، والبؤساء. يَذكر أنه، ذات مرة وهو في سن الثامنة، قرأ رواية كاملة من 223 صفحة في ساعة ونصف وهو مستلقٍ على «ركبة جده». واستمر معه هذا الشغف بالكتب إلى مرحلة التلمذة في المدرسة الإعدادية والثانوية؛ إذ أخذت قراءاته تتسع شيئًا فشيئًا لتشمل كُتّابًا كلاسيكيين ومعاصرين، بلغاريين وأجانب. لم يكن هذا النوع من الشغف المتصل بالقراءة وعالم الكتب ليترك صاحبه يقرر مصيره بنفسه في حياته وفي تخصصه الجامعي. يذكر تودوروف أنه حاول أن يكتب الشعر ومسرحية في ثلاثة فصول، بل شرع في كتابة رواية، لكنه أحس سريعًا أنه لم يولد ليكون شاعرًا أو مسرحيًّا أو روائيًّا، بل ناقدًا لكل ذلك ومُنظّرًا أدبيًّا، وحتى هذا الاستنتاج لم يكن صحيحًا تمامًا؛ لأن تودوروف سيغادر، منذ الثمانينيات من القرن العشرين، هذه الأرضية بعد أن يكتشف، مع اشتغاله على كتاب «فتح أميركا» أنه لم يولد ليكون مُنظّرًا أدبيًّا. لكن ذلك الاستنتاج كان صحيحًا بالنسبة لطالب في السابعة عشرة من عمره في بلد محكوم بالدكتاتورية الشيوعية وجزء من الكتلة الشيوعية آنذاك.

الاصطدام بأيديولوجيا الدولة

ابتدأ اهتمام تودوروف بالشعرية البنيوية بحيلة لجأ إليها مضطرًّا في بحث التخرج من أجل تجنب الاصطدام بأيديولوجيا الدولة المهيمِنة؛ إلا أن هذه الحيلة قد رسمت مساره على مدى عقدين كاملين بقي خلالهما وفيًّا للتحليل البنيوي والشكلاني حتى بعد أن غادر بلغاريا بظروفها المشلّة والمحبطة ليحط رحاله في فرنسا، حيث كل الظروف مهيأة للكتابة بحُرّية لا من أجل الاحتيال تجنبًا لنظام قمعي. أنجز تودوروف بحثه حول التحليل اللغوي، ولكن فاته أن يدرك أن المسلك الذي سار عليه لم يكن أسهل المسالك لتجنب الرقابة وتحاشي المواجهة مع الأيديولوجيا المهيمنة فحسب، بل هو، كذلك، أسهل الطرق للتنصّل من المسؤولية السياسية والأخلاقية، وأسهل الطرق لاعتزال العالم وقضاياه وصراعاته.

في فرنسا، وبمعية جيرار جينيت ورولان بارت الذي أشرف على أطروحته للدكتوراه، انغمس تودوروف في التحليل الأدبي النصوصي والشكلاني والبنيوي. ثم لاحقًا تنبّه تودوروف إلى أن هذا الاهتمام الكلي بتحليل الأسلوب والتركيب والتقنيات السردية التي كان منغمسًا فيها، قد انتهى إلى حبس الأدب والنقد معًا في «غيتو شكلاني» أدى إلى عزل الأدب ونقده عن الحياة والعالم، وتحويلهما إلى «ألعاب شكلانية» عاطلة وعدمية وبلا جدوى وبمنأى عما يسميه تودوروف «السجال العريض للأفكار» والأحداث والتجارب التي تجري من حولنا. ولهذا كان مصممًا على الإفلات من مدار هذه العزلة والاعتزال والحبس. كان كتاب «فتح أميركا» هو نقطة التحول من تودوروف الناقد والمُنظّر الأدبي إلى تودوروف المفكر الإنساني والتنويري واسع الأفق الذي تترامى اهتماماته -إضافة إلى نصوص الأدب ونظرياته– على مساحة واسعة من العلوم والتخصصات والاتجاهات من التاريخ وتاريخ الأفكار إلى الفلسفة والسياسة والأنثروبولوجيا والأخلاق.

مفكر عصري

كانت هذه الانعطافة باديةً في تلك المقدمة التي وضعها تودوروف للترجمة الإنجليزية والعربية لأهم كتبه في حقبته الأولى وهو كتاب «الشعرية»، حيث كان يتساءل عن موقعه وسط الاهتمامات والاتجاهات الأدبية الكبرى؟ ليجيب بصرامة بأن «الكتاب الذي أُعطيه الأهمية أكبر من بين إنتاجاتي المتأخرة يتعلق باكتشاف أميركا وغزوها». والمعنى أن تودوروف كان، منذ عام 1982م أي العام الذي صدر فيه كتابه «فتح أميركا»، يضرب في كل اتجاه، ويلقي ببصره واهتمامه وشغفه على عالم لا يخلو من الأدب بالتأكيد، لكنه لم يعد حكرًا عليه ولا حبيس نصوصه ومشاغله وتقنياته، عالم منفتح على مشاغل واهتمامات هي، في الصميم، مشاغل واهتمامات مفكر «عصري» ونقدي وإنساني وتنويري قرَّر أن يعيش عصره بكل إنجازاته وويلاته، ويكتب لأنه يريد أن يتحدث، كما يقول، مع معاصريه عن المشكلات التي تهمنا جميعًا كمسائل: التسامح، وكراهية الأجانب، وصراع الهويات، والاستعمار، وتعدد الثقافات، وتقبل الآخر، والخوف من البرابرة الذي يحولنا إلى برابرة، والشمولية، والديمقراطية وأعدائها، والعولمة والنظام أو الفوضى العالمية الجديدة، والحياة المشتركة مع الآخرين، وروح الأنوار، والأمل في أن يكون المستقبل أفضل من الخلاصة المتوترة والصراعية والدموية التي تركها لنا القرن العشرون.

عام 2000

يذكر تودوروف أنه تساءل، وهو صبي في الحادية عشرة من عمره، عما إذا كان سيبلغ اليوم نفسه من عام 2000م. كان ذلك هو اليوم الأول من ديسمبر 1950م الذي يتباعد عن عام 2000م بنصف قرن كامل. كان تودوروف يتصور أن هذا العام لن يأتي إلا وهو في عداد الأموات، لكن الأقدار تشاء أن يدرك تودوروف هذا العام، ويمتد به العمر إلى فجر الثلاثاء 7 فبراير 2017م، حين توقف قلبه، وسكنت روحه إلى الأبد من دون أن تموت تلك القضايا التي شغلته وانخرط في النضال من أجلها.

إنه لمن الجدير أن نتذكر في هذه اللحظة أن تودوروف هو الذي قال بأن «الحياة لا تستطيع أن تصمد في وجه الموت، لكن الذاكرة تكسب في نضالها ضد العدم». لترقد روحك في سلامها الأبدي، وليبقَ اسمك وذكرك وفكرك ونضالك وإنسانيتك الكبيرة، ليبق كل ذلك حيًّا في ذاكرة تقاوم الموت والنسيان، وتنتصر لواحد من مبادئك الخالدة: «إن الإنسان يجب أن يبقى غايةً للإنسان مهما كلّف الأمر».