كتاب السوريالية العربية في باريس .. سنوات الأحلام هذه حيث كانت الظلال تمر هامسة

كتاب السوريالية العربية في باريس .. سنوات الأحلام هذه حيث كانت الظلال تمر هامسة

« – ما هي الرغبة الإباحية؟

– هي سكة النور الجبلية!

– ما هي السوريالية؟

– هي الفجر يتسلل من نافذة الليل إلى الأرض»(1).

في بداية السبعينيات، أثرياء بالحماس، كنا قد وصلنا إلى باريس يغرينا همس الأفكار التحررية، كنا نريد أن نملأ خُرْجنا من كل المشروعات الثورية القادرة على تغيير مجتمعاتنا، مجازفين بحياتنا، رسمنا دروبنا عبر أفكار العصر الأكثر تقدمية، كل واحد منا كانت لديه أَطْلاله الخرافية، كل نسق تناوبي كان يُقدم لنا التروتستكية، والسوريالية، والبنيوية، أو أممية مبدعي الأوضاع التي لعبت دورًا كبيرًا في أحداث مايو، وطغى فكرها على اليسار الفرنسي في سبعينيات القرن الماضي، كنا نقرأ كل ما يقع بين أيدينا على مقاعد هذه الشوارع اللامتناهية؛ حيث «الأشجار تأخذ شكل زبائن دائمين يمدون مظلاتهم المفتوحة إلى الشمس»(2)، أو في هذه المقاهي الفريدة بالحي اللاتيني، التي كانت دائمًا أماكن للقاء لمنشقّي الأرض، في تلك الأوقات المذهولة ببريق الأممية، كان لدينا شغف وفضول العودة على بدء.

كمواطنين أمميين، سَرَّنا أن نهدهد اليومي من أجل استمالته جيدًا، لهذا كنا مزوَّدين بآلة المقاومة الأصيلة: الحلم الفعّال بعالم أفضل. اعتنينا جيّدًا بتزييت تروسها قبل النوم، تتنفس الكلمات الهواء القارس في دوار اجتماعي يسيل شعرًا ومعرفة، كنا نتناقش دون عُقَد مع الآخرين، منتبهين إلى الآخر، باحثين عن زادنا اليومي في التجارب المتعددة، بغرض أن نكون جاهزين حين تغنّي الأيام القادمة في الشرق، مستبقين لياليَ محاطة بفجر رشيق، مزقنا كل المراجع والهُويّات، كانت ثقافتنا حيوانًا جَموحًا، وما من مؤسسة تجازف بوضعها في قفص. ذات صباح داجٍ، عانقت ألسنةُ لهب الحرب الأهلية لبنانَ، غيّمت على بصرنا، الأمل، ذاك البوق السرمدي، باء بالفشل في ترويض الأفكار، من قبل كانت الخيبة أرضًا تنتظر مَن يحرثها، ورغم ذلك، حافظنا بيأس على الحبل بين «نداء اليوتوبيا الشارد، وصداقة الواقع المتأخرة»(3) ساعين ألّا ينقطع.

كانت أحلامنا تضيف مياه مرايا على انعكاساتنا الشفافة، كان كل منا يتشبث بصيغته التعبيرية كي لا تبتلعه الرمال المتحركة للأحداث التي ستجيء، في ارتفاع الأمواج والمجازات والآمال هذا، سعت الرغبة الإباحية لأن تُكمل الرسالة الهدامة التي خصصناها لها، كان لدينا ثلاثة أعداد، في هذه الأثناء لم نكن نرضى بما هو كائن، كنا في بحث دائم عن الجديد، حينذاك، كانت لحظة عظيمة حين أعطتني بولا حنين التي قابلتها نهاية عام 1974م عددًا من المنشورات باللغة العربية لمجموعة «الفن والحرية»، التي كانت مجهولة كليًّا في حوليات العصر الأدبية والفنية عربيًّا وعالميًّا آنذاك، استقبلناها ككنز خارج من مخزن للتذكارات، على الفور أعدنا طبع بعض النصوص في ملحق العدد 5، وفي كتاب «الوعي المُدنس» احتفالًا بجورج حنين، عطَشُنا إلى كتابةٍ رافضة للتوافق والتواطؤ، ساهم، للمرة الأولى منذ ما يزيد على ربع قرن، في بروز جيل جديد من الشعراء والكُتاب، استطاع في النهاية أن يستولي مرة أخرى على عالم من الإبداع مُلهب الحماس كما هو غير متوقَّع، وقد كان إلى ذاك الحين محجوبًا على نطاق واسع.

غرس السوريالية في أرض العرب

الجنابي وخلفه لوحة له، 19٧3 م

من أجل فرحتنا الكبيرة التذذنا باكتشاف كتابات جورج حنين، ورمسيس يونان، وأنور كامل، وفؤاد كامل، ولطف الله سليمان، وكامل التلمساني، الذين أسسوا في عام 1938م مجموعة «الفن والحرية»، كان جورج حنين دائمًا ما يكتب بالفرنسية، لم يجد ذكاؤه النقدي ولا دُعابته الباردة- وهما عنصران مكونان للغته المدمرة، يا للحسرة- مكانًا في اللغة العربية! رمسيس يونان، كان على العكس؛ يمتلك تأثيرًا دامغًا من الفن المصري المعاصر.

إن كانت معركتهم قد أخفقت في إعادة زرع السوريالية في البلاد العربية، فلن يمكث منها أقل من هذه الخبرة التي ستبقى مرجعًا دائمًا. المدى العام لهذه المعركة، في مركز الشرق – الغرب المريب، يضعها في قلب الحداثة المتحررة لـــ«العودة إلى الواقعية المُعتبَرة، ليس كشيء منجز أو متجمد، بل كشيء ديناميكي، طيّع، وقد يصل إلى الكمال»(4).

لم تعرف المجتمعات العربية قط مظاهرة منظمة للسوريالية بعد هذا الاستطراد اللامع، أصداء نادرة لأندريه بروتون وأصدقائه نُشرت في كل مكان في الصحافة الدورية العربية، كانت بعض الفرديات المؤقتة قد انبثقت، لكن لسوء الحظ، في غموض، كانت هذه، على سبيل المثال حالة الشاعر السوري أورخان ميسّر مؤلف ديوان عنوانه: «سوريال»، في مقدمته، لم يتردد، بغرابة شديدة، في جلد بروتون وسوبو اللذين، وفق ما يرى، لم يفهما أي شيء من السوريالية! بالمقابل، في مطلع الستينيات، استند اللبناني أنسي الحاج، بوضوح شديد، إلى إرث سوريالي مُترجمًا أندريه بروتون وأنطوان أرتو إلى العربية، في مجلة يوسف الخال اللبنانية: «شعر»، كانت ترجماته مصحوبة دائمًا بتعليقات نصية وتحليلية للمشروع السوريالي، وقد أدت مجموعته الشعرية الأولى «لن» 1960م إلى إطلاق اللغة العربية من عِقال التقليد الذي كان يخنقها، لقد جعلها ترتج كسباب في كتابة حرة ورشيقة، مما صارت قدوة للآخرين.

أدخلَ شعر أنسي الحاج، بل أيضًا شعر محمد الماغوط، وشوقي أبو شقرا، الصور والرسوم السوريالية إلى الشعر العربي الحديث.  مُشبَعًا بهذه الخبرات، ومُثَارًا بقراءة مقتطفات عريضة، مترجمة إلى الإنجليزية من «قيثارة ديدرو»، و«بيان السوريالية»، و«عار الشعراء»(5).

أسستُ في باريس في عام 1973م أول مجلة عربية ظهرت كلسان حال مركزي للحركة السوريالية العربية «الرغبة الإباحية، بغية انتهاك عُرف الأصوليات الدينية، والاجتماعية والفنية وإفساد ولائمها… كانت سوريالية في دفاعها عن الشعر، وفي مثابرتها في التجديف، وعدم «خلط الفعل الشعري والفعل السياسي… فالشاعر يناضل كي يبلغ معرفة نفسه ومعرفة الكون معرفة كمول، ولا يَنْجم عن ذلك أن الشاعر يرغب في جعل الشعر في خدمة عمل سياسي ولو كان ثوريًّا، بيد أن شاعريته تجعل منه ثوريًّا عليه أن يناضل في كل ميدان: في ميدان الشعر بالوسائل وبخاصة الشعر، وفي ميدان العمل الاجتماعي من دون أن يخلط أبدًا ميداني العمل، وإلا عاد الالتباس الذي ينبغي تبديده، ومن ثم يبطل أن يكون شاعرًا؛ أي: ثوريًّا»، كما كتب بيريه في كراسه «عار الشعراء».

النبرة التحريضية للمجموعة وَسَمتْ عددها الأول (ديسمبر 1973م) الذي ضم افتتاحية ملتهبة، وترجمة عربية لبيان 27 يناير 1925 السوريالي، والبيان الذي أصدرته المجموعات العربية لليسار المتطرف والمنظمة الإسرائيلية Matzen المناهضة للنظام الإسرائيلي، ضد حرب أكتوبر العربية الإسرائيلية، تحت عنوان أكثر صمودًا من مضمونه: «ضد الأوهام القومية: من أجل بديل أممي». وتضمن العدد- ليس فقط «النصيحة الأخيرة» لبول نوجيه- «رسالة إلى البابا» لأنطوان أرتو، ومقتطفات عريضة من «الحب والعزلة» لأوكتافيو باث، «نحو بيان سوريالي ثالث» لنيكولا كلاس، منشور روسي فوضوي «استيقظي أيتها الجماهير»، بل كذلك مقاطع من «مقاومي الإكليروس» لرينيه كريفل وبنجاما بيريه، ومن قصائد لـجورج حنين، وجويس منصور، وجان لويس بدوان، وبنجاما بيريه، كمذكرات إيضاحية متنوعة المرتدين: أراغون، ودالي، وإيلوار.

سنوات جمر حقيقية

كانت سنوات السبعينيات سنوات جمر حقيقية، وقد أخذنا منها، من دون تحفظ، نصيبنا من التمرد، علاوة على ذلك، تمرُّد العدد الأول هذا، أساء إليه الجزء الأكبر من الصحافة العربية (وحدهم بعض الصحافيين اللبنانيين بجريدة «النهار» كنزيه خاطر وعصام محفوظ، كانوا حينذاك أكثر دفاعًا عنا)، كانت الصحف تصفنا في أغلب الأحيان بصهيونيِّي وعملاء الـ CIA، جلدَنا طلال رحمة في مجلة الحوادث في مقال عنوانه: «السورياليون العرب عملاء مشبوهون!»، موقف هذه المنطقة الراكدة في كل قطاعات المجتمع والثقافة، كان (ولا يزال حتى اليوم) عدوَّنا المعلَن. «النقد، محاكاة لماركس، ليس مِشْرطًا أبدًا، بل هو سلاح، موضوعه هو عدوه، وليس لدحضه، بل لتدميره».

كي نستغل هذ الحقل الهدام، كان لا بد أن نجد وراء حدود الشرق الأدنى مجالات «ديمقراطية» ضرورية، أرض منفى لتيسير الانتشار سرًّا: أصبحت باريس لنا «العالم العربي على السين»، عبَرت الرغبة الإباحية مرحلتَينِ:

الأولى: بالعربية تمامًا، خمسة أعداد منشورة (300 نسخة من كل منها) بين ديسمبر 1973م وديسمبر 1975م، متبوعة بعشرات اللوحات والمنشورات المنشورة في ظل المجلة، في هذه السلسلة، طورنا وضْعنا فيها ضد الحرب، استندنا في الوقت نفسه إلى السوريالية والماركسية بتفاؤل ثوري لا يُنكَر حتى عام 1975م، كانت توزَّع في أكشاك شارع سانت – ميشيل، وسرًّا في البلاد العربية، وبخاصة في بيروت. عليّ أن أوضح، علاوة على ذلك، أنني كان يلزمني أن أدخر كتبًا بأسعار لا تُجارى حتى أبيعها مرة أخرى؛ كي أضمن كل يوم نفقات النشر (ستنسيل، وأوراق… إلخ)، وفي الوقت نفسه تكلفة بقائي على قيد الحياة (طعام وجعة على وجه الخصوص). مكتسب هذا، كنت أستطيع أن أدفع أجر غرفتي في فندق «العظماء»؛ حيث كان أندريه بروتون يعيش قبل ظهور السوريالية، لكن للأسف لم أكن أعلم بهذا حين أقمت فيه.

كانت المرحلة الثانية: موسومةً بثلاثة أعداد طُبِعت طباعة جيدة (ألف نسخة من كل عدد، نُشرت بين ديسمبر 1980م وديسمبر 1981م)، كانت أغلبية النصوص بالفرنسية مصحوبة ببعض النصوص بالعربية، كانت هذه السلسلة الجديدة مفتوحة على كتّاب من مختلف الأطياف السوريالية واليسارية وعدد من المائلين إلى تحاليل مدرسة فرانكفورت، في نهاية عام 1975م، عقب نشر كتيبنا الجماعي الأخير: «الوعي المدنس» تعهدت الحياة بتفريقنا، فراح كل منا يواصل طريقه: استقر ديب في ساليزبورغ، وعمل فيما بعد كمصور، ويونس قرر أن يصبح ممثلًا ورسام كاريكاتير، وانغمر العريبي في الغيبوبة التشكيلية للكلمات المرسومة.

أما ما يتعلق بي، فقد أقمت بعض الوقت في ساليزبورغ وفي فيينا؛ حيث اشتغلت على ديواني الأول: «في هواء اللغة الطلق»، ومن جانبي رحت أحصّل يوميًّا الاستقلال الفردي الذي كان مبرمًا بقرار الاستمرار دون سمةٍ، في خدمة العقل السوريالي، وعلى غير توقع، اتصل بي بيتر وود مطلع عام 1979م، لأجد نفسي أبحر مرة أخرى في مغامرة سوريالية جماعية هي «اللحظة» من أجل تحقيق حلم مستحيل: إيقاظ السوريالية في بريطانيا العظمى. بالعربية، أو بالإنجليزية، أو بالفرنسية، كانت المجلات عديدة، وكانت الكتيبات المنشورة استمرارًا للرغبة الإباحية.

في كلٍّ من، اللحظة، Grid, Homnisies، النقطة أو فراديس، كنت أبذل كل ما في وسعي لأُظهر أن السوريالية لم تكن أنطولوجيا صور غريبة، ولا هي انبثاق صوفي، كطريقة أكيدة لدمغ الغرائبية وتريد أن تجعلها تؤمن بها. السوريالية، هي طريقة لأن تكون، وحالة فكرية، لم تكن قط لي أيديولوجيا، بل على العكس، إنها تظل معركة من أجل الحياة الحاضرة، من أجل «الحرية لون الإنسان». لم يكن هذا يعني إطلاقًا: أن الشعر كان في خدمة ثورة أو أخرى، الشعر، حين يتحقق، هو كل الثورة، يظل الشعر لي حدثًا لغويًّا «ليس لديه الحقيقة هدفًا»، كما يقول بودلير: «ليس لدى الشعر سواه».

هكذا أدت السوريالية بي إلى اندماجي في غربٍ ليس كموقع جغرافي، أو كنقيض للشرق… بل كمحور ارتكاز لكل تمردات الروح الإنسانية من أجل الحرية والشعر وحقوق الإنسان… السوريالية كانت، ودائمًا ستكون سلاحي في مواجهة غرب مصانع الأسلحة، وفي مواجهة شرق كل الطغيانات.

مايو 2017م

القطارات كلها اسمُها رغبة (عبدالقادر الجنابي)

القطارات كلها اسمُها رغبة (عبدالقادر الجنابي)

عبد-القادر الجنابي

عبد-القادر الجنابي

كم أتوق إلى الأيام التي وصلتُ فيها إلى لندن (مطلع عام 1970م) واكتشفت ما لم يكن لدينا في بغداد: الأندرغراوند (Underground) بأنفاقه العميقة تحت الأرض، وعربات قطاراته العتيقة. فأدركت فورًا كم كانت تفتقر الحداثة الشعرية العربية آنذاك إلى ما كان يمكن أنْ يجعلها حديثة: السرعة ومعمعان الخيال. محطة «هولبورن» ربما هي المحطة الأعمق في لندن… حين كنت أنزل سلالمها المؤدية إلى رصيف القطار، كنت أشعر أني أنزل في إحدى ردهات كوميديا دانتي الإلهية. ففي هذا العالم السفلي ترى سكان لندن بمظلاتهم، وجرائدهم وقبعاتهم يتزاحمون بانتظار القطار الأفعى… وإذا بأبوابه تنفتح فتجد نفسك في العربة واقفًا وسط الزحام أو جالسًا قبالة امرأة أو رجل أو مقعد فارغ.

أحبُّ‭ ‬كثيرًا‭ ‬نافذة‭ ‬القطار‭ ‬لأنّها‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬كلّ‭ ‬نوافذ‭ ‬المواصلات‭ ‬الأخرى‭… ‬لربّما‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬تخلقه‭ ‬السرعة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمّى‭ ‬السرعة‭ ‬في‭ ‬السكون،‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬تتعاقب‭ ‬كشريط‭ ‬سينمائي‭… ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬مجرّد‭ ‬زجاج،‭ ‬إنما‭ ‬مرآة‭ ‬نابضة‭ ‬يمتزج‭ ‬فيها‭ ‬عالم‭ ‬القطار‭ ‬الخارجي‭ ‬الفسيح‭ ‬بعالمك‭ ‬الداخلي‭ ‬الصغير‭… ‬المناظر‭ ‬التي‭ ‬يمر‭ ‬بها‭…‬،‭ ‬بأخيلة‭ ‬اليقظة‭ ‬التي‭ ‬تتقوْقَع‭ ‬فيها‭… ‬نافذة‭ ‬القطار‭ ‬‮«‬منظر‭ ‬ذهنيّ‮»‬‭ ‬بامتياز؛‭ ‬تومض‭ ‬فيها‭ ‬صورةٌ‭ ‬دفينة؛‭ ‬رغبتك‭ ‬المقموعة‭ ‬التي‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تتراءى‭ ‬حلمًا‭… ‬حين‭ ‬أتراءى‭ ‬في‭ ‬زجاج‭ ‬النافذة‭ ‬بصفتها‭ ‬سطحًا‭ ‬عاكسًا،‭ ‬لا‭ ‬أبحث‭ ‬عما‭ ‬يحدثه‭ ‬الشعاع‭ ‬الساقط‭ ‬عليه،‭ ‬ولا‭ ‬أريد‭ ‬أنْ‭ ‬أشعر‭ ‬بنرجسيتي‭… ‬إنّما‭ ‬أبحث‭ ‬عمّا‭ ‬تحدثه‭ ‬سرعةُ‭ ‬القطار‭ ‬من‭ ‬امتزاج‭ ‬خيميائي‭ ‬بينهما‭… ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنّ‭ ‬شريطَ‭ ‬فلم‭ ‬ينفلت،‭ ‬فتُعيد‭ ‬لفَّه‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬ذاتك‭… ‬الزجاج‭ ‬الذي‭ ‬يفصل‭ ‬بينك‭ ‬وبين‭ ‬خارجه،‭ ‬هو‭ ‬عينُ‭ ‬الحاجز‭ ‬الذي‭ ‬يفصل‭ ‬بين‭ ‬وعيِك‭ ‬وما‭ ‬تحت‭ ‬وعيِك‭. ‬اسند‭ ‬ظهرك‭ ‬إلى‭ ‬خلفية‭ ‬المقعد‭… ‬وأَلْقِ‭ ‬بكلّ‭ ‬نظرك‭ ‬على‭ ‬زجاج‭ ‬النافذة،‭ ‬حيث‭ ‬يتدفق‭ ‬كم‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬المناظر‭ ‬الخارجية‭… ‬ابقَ‭ ‬مستسلمًا‭ ‬حتّى‭ ‬الانخطاف،‭ ‬حتّى‭ ‬تستيقظ‭ ‬ذاكرتك،‭ ‬يسقط‭ ‬شعاعها‭ ‬على‭ ‬الزجاج،‭ ‬فيرتدّ‭ ‬باتجاه‭ ‬عينك‭: ‬وها‭ ‬أنت‭ ‬تسبح‭ ‬في‭ ‬سيلِ‭ ‬أناكَ‭ ‬البصريّ‭ ‬الذي‭ ‬تدفعه‭ ‬تدفّقات‭ ‬داخلية،‭ ‬لا‭ ‬عِلمَ‭ ‬لك‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬قبلُ،‭ ‬وإنْ‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬أعماقك‭ ‬تجري‭… ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬مسارك‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬ملموس‭ ‬حتّى‭ ‬لا‭ ‬يفقد‭ ‬الانعكاس‭ ‬خطَّ‭ ‬سيره،‭ ‬فتجد‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬مدار‭ ‬الهلوسة‭! ‬المسألة‭ ‬هي‭ ‬أنْ‭ ‬تعرف،‭ ‬حقًّا،‭ ‬كيف‭ ‬تنظر،‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬ما،‭ ‬إلى‭ ‬نافذة‭ ‬القطار‭ ‬حتّى‭ ‬تتراءى‭ ‬لك‭ ‬أعماقُك‭ ‬واقعًا‭ ‬وحقيقةً‭… (‬انظر‭ ‬روايتي‭ ‬القصيرة‭ ‬‮«‬المرآة‭ ‬والقطار‮»‬‭ ‬الصادرة‭ ‬عام‭ ‬2017م‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬التنوير‮»‬،‭ ‬بيروت‭).‬

آه،‭ ‬كم‭ ‬كنت‭ ‬آخذ‭ ‬القطار‭ ‬ليس‭ ‬بهدف‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬محطة‭ ‬معينة،‭ ‬إنما‭ ‬لأغتني‭ ‬بأفكار‭ ‬جديدة‭… ‬

‭***‬

مهما‭ ‬كانت‭ ‬محطةُ‭ ‬القطار‭ ‬بعيدةً،‭ ‬فإنها‭ ‬تبقى‭ ‬دائمًا‭ ‬أقرب‭ ‬من‭ ‬مطار‭! ‬لا‭ ‬تاكسي‭ ‬ولا‭ ‬يحزنون‭… ‬مجرد‭ ‬سلالم،‭ ‬سلالم،‭ ‬سلالم‭… ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬رحلة،‭ ‬يرتسم‭ ‬العالم‭ ‬كما‭ ‬هو‭: ‬قطار‭!‬

‭***‬

القطار‭ ‬جَدّد‭ ‬المخيّلة‭ ‬الكتابية‭! ‬فكلّ‭ ‬تطوّر‭ ‬حصل‭ ‬له،‭ ‬حصل‭ ‬للسرد‭ ‬في‭ ‬الجوهر‭… ‬الصفحات‭ ‬هي‭ ‬سكك‭ ‬الكتّاب‭!‬

‭***‬

حين‭ ‬ينطلق‭ ‬بك‭ ‬القطار،‭ ‬يُغلِق‭ ‬ماضيك‭ ‬أبوابَه‭… ‬وتُستأصَل‭ ‬جذورك‭… ‬فلا‭ ‬يعود‭ ‬لك‭ ‬هُوية‭ ‬سوى‭ ‬ذكرياتك‭!‬

‭***‬

كم‭ ‬عمل‭ ‬السينمائيون‭ ‬على‭ ‬استغلال‭ ‬القطار‭ ‬كملجأ‭ ‬للصوص‭ ‬والمجرمين،‭ ‬ومخدعٍ‭ ‬للعُشّاق‭ ‬الفارّين‭. ‬ما‭ ‬أجملَها‭ ‬نهايةَ‭ ‬فلم‭ ‬هتشكوك‭ ‬‮«‬شمالًا،‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭ ‬الغربي‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬نرى‭ ‬بطل‭ ‬الفلم‭ ‬‮«‬كاري‭ ‬غرانت‮»‬‭ ‬يمد‭ ‬يده‭ ‬لمساعدة‭ ‬بطلة‭ ‬الفلم‭ ‬‮«‬إيفا‭ ‬ماري‭ ‬سانت‮»‬‭ ‬المتشبثة‭ ‬بصخرة‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬أن‭ ‬تسقط‭ ‬في‭ ‬الهاوية،‭ ‬ثم‭ ‬يسحبها‭ (‬وإذا‭ ‬بالمشهد‭ ‬يتغير‭) ‬فنراه‭ ‬يرفعها‭ ‬إلى‭ ‬فراش‭ ‬المقصورة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالعشاق‭! ‬لقد‭ ‬قال‭ ‬هتشكوك‭: ‬‮«‬إنه‭ ‬المشهد‭ ‬الأكثر‭ ‬وقاحة‭ ‬بين‭ ‬المشاهد‭ ‬التي‭ ‬صورتها‭ ‬في‭ ‬حياتي‮»‬‭!‬

‭***‬

القطار‭ ‬يعلِّمنا‭ ‬الصبر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬واسطة‭ ‬نقل‭ ‬أخرى‭..‬

‭***‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬تنظيف‭ ‬نص‭ ‬من‭ ‬الشوائب‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬قطار‭ ‬المترو‭… ‬فقراءة‭ ‬قصيدة‭ ‬هنا‭ ‬لها‭ ‬تأثير‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬قراءتها‭ ‬خارج‭ ‬المترو‭… ‬فسرعة‭ ‬القطار‭ ‬وهمهمات‭ ‬الركّاب‭ ‬تُريك‭ ‬أين‭ ‬يكمن‭ ‬الخلل‭ ‬الإيقاعي‭… ‬فتضطر‭ ‬إلى‭ ‬شطب‭ ‬أبيات‭ ‬وتنقل‭ ‬البيت‭ ‬الثالث،‭ ‬مثلًا،‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬القصيدة‭! ‬لا‭ ‬يمكنك‭ ‬أنْ‭ ‬تكون‭ ‬عضوًا‭ ‬في‭ ‬ثريا‭ ‬الشعراء‭… ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬أدركتَ‭ ‬الفرق‭ ‬الجوهري‭ ‬بين‭ ‬النسخة‭ ‬قبل‭ ‬أخذ‭ ‬القطار،‭ ‬والنسخة‭ ‬بعد‭ ‬خروجك‭ ‬منه‭! ‬

‭***‬

كافكا

كافكا

إنّ‭ ‬أنفاق‭ ‬مترو‭ ‬باريس‭ ‬المتشعبة‭ ‬تشعُّبَ‭ ‬الأوردة‭ ‬في‭ ‬جسم‭ ‬الإنسان،‭ ‬لهي‭ ‬شرايين‭ ‬باريس‭. ‬أيّ‭ ‬انعطاف‭ ‬في‭ ‬المترو‭ ‬داخل‭ ‬النفق‭ ‬هو‭ ‬الانعطاف‭ ‬عينه‭ ‬الذي‭ ‬تصادفه‭ ‬وأنت‭ ‬تمشي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬باريسي‭. ‬قرأت‭ ‬لكافكا،‭ ‬تشخيصًا‭ ‬جميلًا،‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭: ‬‮«‬إن‭ ‬المترو‭ ‬يتيح‭ ‬للغريب‭ ‬أجود‭ ‬فرصة‭ ‬لكي‭ ‬يتصور‭ ‬أنه‭ ‬أدرك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬سريع‭ ‬ودقيق،‭ ‬جوهر‭ ‬باريس‮»‬‭. ‬

‭***‬

المترو‭ ‬يعلمك‭ ‬كيف‭ ‬تدرك‭ ‬أنّ‭ ‬الكتابة‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬الخطوط‭… ‬وأيَّ‭ ‬خطٍّ‭ ‬من‭ ‬خطوط‭ ‬الخيال‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تأخذ‭. ‬

‭***‬

المترو‭ ‬هو‭ ‬‮«‬لا‭ ‬وعي‮»‬‭ ‬باريس‭ ‬الذي‭ ‬تغرف‭ ‬المخيّلةُ‭ ‬الشعريةُ‭ ‬من‭ ‬تيارِه‭ ‬أعمالَها‭!‬

‭***‬

في‭ ‬المترو‭ ‬يجد‭ ‬الروائي‭ ‬شخصيات‭ ‬روائية‭ ‬حقيقية‭: ‬شحّاذين،‭ ‬لصوصًا،‭ ‬عاهرات،‭ ‬تجارَ‭ ‬مخدرات،‭ ‬بسطاء‭ ‬معروضين‭ ‬طوال‭ ‬الرصيف‭ ‬للإيجار‭… ‬القرار‭ ‬يعود‭ ‬لمخيلتك‭: ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬صالح‭ ‬لرواية‭ ‬جديدة‭! ‬أما‭ ‬الشاعر‭ ‬فحصته‭ ‬قليلة‭: ‬بيت‭ ‬أو‭ ‬بيتان‭!‬

‭***‬

لا‭ ‬خوف‭ ‬في‭ ‬القطار‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬جاء‭ ‬شخص‭ ‬لا‭ ‬تعرفه،‭ ‬وجلس‭ ‬إلى‭ ‬جانبك‭ ‬والعربة‭ ‬كلُّها‭ ‬فارغة‭… ‬

‭***‬

القطار‭ ‬حياة‭… ‬لذلك‭ ‬تبقى‭ ‬واعيًا‭ ‬بفكرة‭ ‬الموت‭ ‬طوال‭ ‬الرحلة‭. ‬من‭ ‬يدري،‭ ‬ربما‭ ‬انحراف‭ ‬واحد‭ ‬عن‭ ‬السكة،‭ ‬ويُصبح‭ ‬اسمك‭ ‬مدونًا‭ ‬في‭ ‬لائحة‭ ‬المختفين‭.‬

‭***‬

ينام‭ ‬الأثرياء‭ ‬في‭ ‬مقصورات‭ ‬مخصصة‭ ‬للنوم؛‭ ‬مدفأة‭ ‬ومجهزة‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬يوحي‭ ‬بالثراء‭ ‬والترف،‭ ‬وبأضواء‭ ‬صغيرة‭ ‬زاهية‭ ‬الألوان‭…‬،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬أعماقهم‭ ‬ثمّة‭ ‬خوف‭ ‬سحيق‭: ‬ألّا‭ ‬يصيبهم‭ ‬البرد‭… ‬يسدلون‭ ‬الستار،‭ ‬فيحرمون‭ ‬أنفسَهم‭ ‬من‭ ‬التمتع‭ ‬برؤية‭ ‬المناظر‭ ‬الوهمية‭ ‬الرائعة‭ ‬التي‭ ‬تتجلى‭ ‬على‭ ‬زجاج‭ ‬النافذة‭! ‬أما‭ ‬الشحّاذون،‭ ‬الصعاليك،‭ ‬الفقراء‭ ‬المحشورون‭ ‬في‭ ‬عربات‭ ‬الدرجة‭ ‬الثانية،‭ ‬فإنهم‭ -‬والنوافذ‭ ‬شبه‭ ‬مفتوحة،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬يقيهم‭ ‬سوى‭ ‬أسمالهم‭- ‬ينامون‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ينغزهم‭ ‬شعاع‭ ‬من‭ ‬الشمس‭ ‬فيستيقظون،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يطلُّون‭ ‬برؤوسهم‭… ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬ديدني،‭ ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬آخذ‭ ‬القطار،‭ ‬ليلًا،‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬إلى‭ ‬سالزبورغ‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭… ‬أتقلَّبُ‭ ‬في‭ ‬مقعدي،‭ ‬بين‭ ‬برودة‭ ‬الهواء‭ ‬ونعاس‭ ‬دافئ‭ ‬أحفز‭ ‬نفسي‭ ‬على‭ ‬الاستسلام‭ ‬له،‭ ‬فأنام‭ ‬وأحلم‭ ‬بكل‭ ‬مجامر‭ ‬العالم‭ ‬وحرارة‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانية،‭ ‬لكي‭ ‬أستيقظ‭ ‬الشاب‭ ‬نفسه‭… ‬فأطلّ‭ ‬برأسي،‭ ‬أوان‭ ‬ترسل‭ ‬الشمس‭ ‬أشعتها،‭ ‬وأنظر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬بصري‭ ‬عليه‭: ‬مروج‭ ‬وحقول،‭ ‬نهر‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬اسمه‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭… ‬وجبال‭ ‬الألب‭ ‬الممتدة‭ ‬في‭ ‬البعيد‭… ‬أستنشق‭ ‬هواء‭ ‬طازجًا،‭ ‬فأشعر‭ ‬بنشاط‭ ‬محموم‭… ‬حتى‭ ‬يتوقّف‭ ‬القطار‭… ‬وما‭ ‬أن‭ ‬أضع‭ ‬قدمي‭ ‬على‭ ‬الرصيف،‭ ‬حتّى‭ ‬يتملكني‭ ‬شعور‭ ‬بأني‭ ‬على‭ ‬أُهبة‭ ‬الاستعداد‭ ‬لمعاشقة،‭ ‬النهارَ‭ ‬كلَّه،‭ ‬خليلتي‭ ‬التي‭ ‬تنتظرني‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬سالزبورغ‭… ‬لو‭ ‬كان‭ ‬بوسعي‭ ‬أن‭ ‬آخذ‭ ‬واسطة‭ ‬نقل‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬إلى‭ ‬سالزبورغ،‭ ‬أسرع‭ ‬من‭ ‬القطار،‭ ‬لَما‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬أجنحة‭ ‬تساعدني‭ ‬على‭ ‬التحليق‭! ‬القطار‭ ‬مِشحَذُ‭ ‬الخيال‭…‬

‭***‬

في‭ ‬القطار،‭ ‬يزداد‭ ‬شعور‭ ‬المسافرين‭ ‬بالجنس،‭ ‬ينام‭ ‬في‭ ‬أجسادهم‭ ‬محصورًا،‭ ‬لا‭ ‬منفذَ‭ ‬له،‭ ‬فيذوب‭ ‬في‭ ‬حنايا‭ ‬أعماقهم‭ ‬النفسية‭… ‬فتصبح‭ ‬نظراتهم‭ ‬حادة،‭ ‬ثم‭ ‬تغفو‭ ‬في‭ ‬تخيلات،‭ ‬فيخيم‭ ‬سكون‭ ‬لا‭ ‬تسمع‭ ‬فيه‭ ‬سوى‭ ‬هدير‭ ‬العجلات‭ ‬وأنين‭ ‬الأبواب‭… ‬آه،‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬حب‭ ‬كانت‭ ‬تتمّ‭ ‬في‭ ‬القطار‭ ‬خلال‭ ‬رحلة‭ ‬واحدة‭…‬

‭***‬

القطارات-كلها-اسمُها-رغبة-٢في‭ ‬قطار‭ ‬الـعُزلةِ‭ ‬يأكلُني‭ ‬ظلّي

  ‬‮«‬وَمضةً،

وَمضهْ‮»‬‭.‬

بَعدها‭ ‬يَتقيَّؤُني

لقطةً‭ ‬

لقطهْ

في‭ ‬فَسيــحِ‭ ‬الْمَحطّة‭!‬

‭***‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬اليوم‭ ‬القطار‭ ‬كما‭ ‬كان‭: ‬رمز‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬الحلم‭ ‬النائية‭… ‬فالبخار‭ ‬بات‭ ‬زرًّا‭ ‬كهربائيًّا،‭ ‬والمحطة‭ ‬باتت‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬رقمي‭ ‬آخر‭… ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬تلاشى‭ ‬وتغير‭: ‬فلم‭ ‬نعد‭ ‬نسمع‭ ‬ذاك‭ ‬الصفير‭ ‬الجنائزي،‭ ‬يعلو‭ ‬وهو‭ ‬يقترب،‭ ‬الذي‭ ‬تميزت‭ ‬به‭ ‬قطارات‭ ‬الماضي،‭ ‬ولا‭ ‬ذاك‭ ‬الدخان‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬السفر‭ ‬تستيقظ‭ ‬فينا‭ ‬بمجرد‭ ‬أنْ‭ ‬نراه‭…‬

‭***‬

في‭ ‬ضواحي‭ ‬بعض‭ ‬المدن،‭ ‬ثمة‭ ‬خرائب‭ – ‬مقابر‭ ‬ترتكن‭ ‬فيها‭ ‬بقايا‭ ‬قطارات‭ ‬الأزمنة‭ ‬القديمة؛‭ ‬عجلات‭ ‬الحلم‭ ‬وسرد‭ ‬المغامرة‭ ‬الفردانية؛‭ ‬قطارات‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬شققًا‭ ‬مؤثَّثة‭ ‬تبتلع‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭… ‬ها‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬ركّاب‭ ‬اليوم‭ ‬مجرد‭ ‬هياكلَ‭ ‬حديديةٍ‭ ‬محطَّمةٍ‭ ‬لا‭ ‬عجلة‭ ‬ولا‭ ‬باب‭… ‬مشرّعة‭ ‬للذباب‭ ‬والطير،‭ ‬للقطط‭ ‬والكلاب‭ ‬السائبة‭… ‬لا‭ ‬يعبأ‭ ‬بذِكْرها‭ ‬حتى‭ ‬الشاعر‭ ‬الرديء‭… ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬إلهام‭ ‬عظماء‭ ‬الشعراء‭… ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬‮«‬قطارات‮»‬‭ ‬اليوم‭ ‬مجرد‭ ‬أنابيب‭ ‬بلا‭ ‬روح‭ ‬أو‭ ‬اتجاه‭…‬

‭***‬

القطارات‭ ‬هي‭ ‬أيضًا‭ ‬مصيرها‭ ‬الموت‭… ‬دموع‭ ‬ذكرياتها‭ ‬تبلل‭ ‬الأرصفة‭!‬

شقائق نثرية في مسائل شعرية

شقائق نثرية في مسائل شعرية

كان الشاعر الفرنسي بيير ريفيردي يأمل أن يكتب «أجمل قصيدة في العالم». لم يدر أنه كتبها، ولم يدر أنه من المستحيل كتابتها! جميلةٌ في نظرِ مَنْ؟ نظرِه، نظرِ قرّائه، أصدقائه، الشعراءِ، النقّادِ..؟ إذا كان هذا هو الأمر، فإن أجمل قصيدة في العالم قد كُتِبَت آلاف المرّات!

***

نبدأ دومًا من صفر ثابت؛ من تجربة أولى. كلٌّ حسب الإيقاع الموروث مداره. هذا ينظم، ذاك ينثر، وهناك من يصل، بموئل رغبة المراهقة في التمرد على قوانين مرسومة، الضفّةَ الثالثة من نهر الكتابة؛ فيكتب وفق إيقاعه الخاص شعرًا غير موزون على البحور المألوفة.

***

آه! كم كاتب لدينا لا يزال، مهووسًا بجمهورٍ أكبر، يجرّ كلّ ما يولد مبتورًا، بشتى أدوات الربط، لكي يحيا (أي أن يموت حتمًا) في كلٍّ مفتعَلٍ؛ مُمَنتَج، مشدودًا بما سبقه وما يليه. بينما القطيعة أقصر طريق للارتباط!

***

أيها الراقدون في الكتاب

دعوا أشعارَكم تكون صديقةً لذاكرة القارئ.

***

النافذة عين الشاعر.

***

ثمة شاعر ينام في قصيدته فيغفو معه القراء.

ثمة قصيدة تعيش ألف عام، بلا نوم، يقضي فيها القراء لياليَ بيضاء.

***

الشعر، آتٍ من تلقاء نفسه، يبدأ دومًا.. من أي مكان؛ من اللامكان. وبصفته شهقةَ الإنسان المرصودة، فهو لا يلبث إلا في قواه الأولية: الكلمات.. «في الأثر وليسَ في الدليل»، محاكاة لرينيه شار. لكن احذروا، الشعر ليس تجربة إلهام غبيّ إنما هو إشراقة تندلع وفق طبيعة ومكان الشاعر الذي تُنار فيه.

***

هناك شعراء، الشعرُ لهم وسيلةُ تعبير لا غير. وبما أن الموضوع الذي يستخدمون الشعرَ وسيلةً للتعبير عنه سيئ، فإن أيَّ قصيدةٍ مهما كانت براعتُها الوزنية، اللفظية والإيقاعية، تبقى سيئةً عاجزةً عن الذهاب أبعدَ من مضمونها الذي جاءت لخدمته. وهكذا تعود القصيدة، في أزمنة المعنى الخوالي، مجرّد رمز لبَطالة الكلمات. فالقصيدةُ هذه يأسرها الذوق العام، إكراه الحقبة التي ترتعد من كل شعر ترى فيه نهايتها المحتومة. ذلك أن اللغة العربية، شعرًا، ميدان لهذا الشعر المُختزَل وسيلة تعبير لا غير، حيث مقدارُ ضيق أفق شاعرٍ ما، يكون على مقدارِ ما في القراء، الذين يتغنّى بهم، من آفاق ضيّقة. بعض هذا الشعر، ربما، ناريٌّ، لكنه لا يضرم نار الرؤية، إنما يحترق فيه الشاعر نهائيًّا. فما هو ميتٌ، ما من إيقاعٍ يُحييه. آه، كم نشعر أحيانًا، لحظة كتابة قصيدة، بأننا منفيّون داخل لغتنا قبل أن نكون منفيين في هذا العالم. ومع هذا، يمتدّ الشعر بنا خارج الإسار. لقد تغيّرت سحنة العربية وطبيعة تركيبة جُمَلها، ونحن اليوم في سياق لغة مفتوحة لكل التراكيب التي كانت تبدو غريبة في نظر فقهاء اللغة السابقين.. وهذا الفضل يعود إلى هؤلاء الذين لم يتوقفوا عن ممارسة الشعر وفق وزن طبيعتهم.

***

الشاعر يهتمّ، على نحو ما، بكل الألسنة وبكل أشعار الأرض إن كانت غربية، صينية، عربية، أمازيغية، عبرية، إفريقية. إنها ثقافة الشعر التحتيّة. ففي نظره، إذا افتقد الشعر جانبه الإثني، أي لم يعد يتعرّف تجلّياته داخل لغات الآخر المطمور في اللغات المسجّلة، في وفيات الألسنية، ميتةً، فإن هذا الشعر يصبح جزئيًّا وغير قابل للنمو، ومن ثم غلطة لا يشفع لها أحد، بالأخص، في حقبة كحقبتنا هذه التي لا يمكن أن تحمي نفسها إلا عبر مواجهة هُويّاتها المتعدّدة وتعاريفها – تناقضاتها، وفي نهاية الأمر إشكالياتها. ناهيك من أن الشعر الحديث، حتى في تمرّداته المتطرّفة، لم يتوانَ عن التزوّد من الثقافات المسمّاة بدائية، مثلما كان شعراء النهضة يبحثون عن الإلهام في الثقافة اليونانية.

***

في كلّ قصيدة تكمن حيلةُ شاعرها اللغوية التي يُسرِّب من خلالها عواطفه المُبعدة من واجهة الكلمات.

***

القصيدة تكمن في الأبيات الأولى التي حذفناها.

***

أن تكتب قصيدة هو أن تقتل المرسوم؛ الأنموذج!

***

ما مِن قصيدة فاشلة. فكل قصيدة مصيرها الفشل إذا لم تجد قارئها الحقيقي الذي يجعلها تخلّف شاعرًا جديدًا!

***

صرْ أنت.. تنفّس كلماتك؛ اعجنْها حسب إيقاعك.. ولا تأبه للذين يريدونك أن تكون نسخة أخرى بين آلاف النسخ المكررة التي لا نفَسَ لها.

***

من خلال الصراع بين تدفق آلي لكلمات مطموسة في الوعي، وبين أخذ ورد، محو وتشديد، وبين وعي يريد أن يُحدد مسارَ شيء بشكل مفهوم إلى حد ما، تولد القصيدة.. كإسوارٍ يرنّ في العتمة! وكأن ثمة إلهامًا كان يعمل!

***

في الحمّى المتصاعدة صوب القصيدة، على الشاعر أن يعرف كيف يدخل التاريخ؛ كيف يخرج منه.

***

هناك شعراء موجودون في كل مكان: يكتبون كما يأكلون، يشربون كما يتغوطون، لا مهمة عصيّة تنتظرهم.. يموتون وهم نائمون.. الفرق الوحيد بيني وبينهم: أنهم في أمان وأنا في معمعان!

***

هناك دخلاء يظنون أنفسهم شعراء، لكنهم في حياتهم اليومية هم وشاة حد أنهم يكتبون أشعارًا باهتة لا تبوح بأي شيء. ناهيك عن أن الشعر شاهد وليس بَوْحًا.

***

تفصيلات عابرة، تُفشي، أحيانًا، إليك بكلِّ ما ثمّ عليك أنْ تعرف.

***

هناك أسلوب علماني يفصل بين مؤسسة اللغة الدينية وبين مدنية الكلام المعيش، يمارسه، من دون وعي، معظم الشعراء الشباب، بالأخص الشاعرات الشابات. فهؤلاء لا يدركون أنهم عندما يكتبون أشعارًا لا تخضع لأبسط قواعد الشعر المرسومة؛ وفيها ألف شك قواعدي، فإنهم، شاؤوا أم أبوا، يكتبون ضد الإدراك التراثي لمفهوم الكتابة التراثي، ومن ثم يوارون، تلقائيًّا، التركيبة العربية للجملة في تراب التاريخ. إن وعي هذا «الدفن» يحوّل التراب إلى أسفلت؛ القبَلي إلى فرد؛ الإنشاء إلى كتابة!

***

مشكلة الثقافة العربية السائدة تكمن في هذا الفارق الكبير بين تراث سلفي له تاريخ طويل استطاع أن يرسّخ مراجعَ صلدة لها نسق فكري منتظم، وبين محاولات نهضوية، ليبرالية، حداثوية.. دامت أكثر من قرن، من دون أن تستطيع ترسيخ أي مبدأ من مبادئها؛ لأنها اجتهادات انتقائية لا نظام لها قادر على أن يحفرها في تربة الذهنية العربية.

***

لم تولّد العربية خلاقين، وإنما خنّاقين!

***

الخوف الوحيد الذي ينتاب الشاعر هو الخوف من الشعور بالعقم؛ الشعور بعدم مواجهة المجتمع؛ بعدم المشاركة في بناء شيء إيجابي.. باختصار الخوف من الشعور بحياةٍ قد لا تبدأ بعد الموت.

***

لكل شيطانه؛ دمارُه الداخلي!

***

اليوم: حرب شبكية مع عدو بلا وجه: آلاف الضحايا يتكدسون مشهدًا غرضه إفراغ الأعين من قدرة النظر الاستشفافية، التطلّعية نحو مسافات حلمية أبعد، إنها حرب المستقبل الباردة حيث المكتوب ينتظم وفق قوانين الإنترنت، والعيش تحت بُؤر مُسيّري العالم نحو الهلاك. ومع هذا فإن الشعر لا يزال هو، أي ذلك المجهول البلاحدود؛ الفالت من كل رقابة ساكنًا مخيلة البشر، وكأن شيئًا لم يحصل. لكن، في الواقع، شيء قد حصل، لقد تعلّم الشعر، بفضل كل التجارب الطليعية التي اجتازها، كيف يؤسس نفسه كموضوع بذاته؛ أن «يعبّر عما لا تستطيع اللغة التعبير عنه؛ أن يكفّ عن التعبير عن حالات». هذا الانتقال التاريخي في تاريخ القصيدة الحديثة لم يحدث، للأسف، في وقائع الشعر العربي الحديث.

***

لا وقتَ للبكاء.. لقد ذهب الشعراء إلى أرض الكلمات. القصيدةُ اليوم لغةٌ لا التزام

***

كيف؟ لمْ تعرفِ العزلة في غرفة معتمة، لم تنزلْ جحيمَ نفسك، لم يساورْك شكٌّ.. وتريدُ أنْ تكتب!

***

الجُملة حياة!