هل المرأة القارئة هي امرأة خطيرة؟

هل المرأة القارئة هي امرأة خطيرة؟

عام 2006م أصدرت دار فلاماريون الباريسية ألبومًا نفيسًا يضمّ 79 لوحة فنية تتناول مسألة القراءة عند المرأة ابتداءً من القرن الرابع عشر حتى أيامنا هذه، بدءًا بلوحة سيمون مارتيني (1280-1344م) عن بشارة الملاك جبرائيل لمريم العذراء التي كانت تقرأ عندما وافاها النبأ الإلهي (اللوحة لعام 1333م). وأراد ستيفان بولمان ولور أدلر، صاحبا الألبوم، أن يقولا: إن المسيحية كالإسلام دين «اقرأ». ولا تنطبق هذه المقولة على الرجال فحسب بل على النساء؛ لأن القراءة في العُرف الشعبي تطرد الشيطان وتقرّب من الله. وتظهر هذه المداناة في التمثال المأتمي للملكة أليونور الأكيتانية (1204م) التي كانت في هجعة الموت تحمل بين يديها كتابًا مفتوحًا قد يفتح لها مباهج الفردوس، ظنًّا من الفنان أن القراءة تؤنس صمت القبور.

ولأن قراءة المرأة كانت خطيرة في نظر رجال القرون الوسطى، جعلوها وقفًا على الكتب المقدسة. ولكن الإحصاءات تشير إلى أن الكتب الدينية التي كتبت عام 1770م تشكّل 25% من مجموع الكتب الفرنسية المنشورة، وصلت نسبتها قبيل الثورة الفرنسية إلى 13.5% فقط. ويذكر المؤرخون أن النساء في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا استبدلن بالكتاب المقدس آنذاك موسوعة ديدرو وروايات ريشاردسون، وازداد اهتمامهن بالسياسة والاختراعات العلمية. وخير دليل على هذا التحول لوحة الفنان فرانسوا بوشيه (1703-1770م) التي صور فيها مدام دو بومبادور، خليلة الملك لويس الخامس عشر، وبكامل أناقتها وبهائها، وهي تقرأ في صالونها الأدبي (اللوحة لعام 1756م). وشجّع الكتاب النساءَ على التحرر والانفتاح على الجنس الآخر؛ لأن الكتاب جذب المرأة إلى خارج البيت وإلى التعرّف أكثر إلى المجتمع والانخراط فيه. ويتابع الروائي غوستاف فلوبير هذا التحول من خلال بطلته «مدام بوفاري» (1857م) التي بالقراءة دخلت عالم الرجال وانتهكت بذلك الأعراف السائدة القائلة: خُلِقَت المرأة للمطبخ وللمنزل والإنجاب. وأصيبت نساء كثيرات بعدوى القراءة. فظنّ الناس أن إيما بوفاري أصيبت بمسّ من الهستيريا وبالانقطاع عن الواقع وبالغوص في الأوهام والأحلام. فانبرى فلوبير ليقول: إن هذه الأمراض تصيب الرجال والنساء على حد سواء.

وراح عدد من الفنانين يرسمون النساء القارئات بوضعيات متباينة. لقد صوّر الفنان الألماني غوستاف أدولف هينينغ (1797-1869م) في لوحته «فتاة تقرأ» (1828م) فتاة محتشمة الملابس تحمل بيديها المتعامدتين كتابًا قريبًا من وجهها، وينصبّ اهتمامها كله على كلماته، كما لو أنها كانت تقرأ كتابًا مقدسًا. وتنمّ وضعية جسمها على الانخراط الكامل في القراءة، والقراءة فقط. أما جيمس أبوت وايستلر (1834-1903م) -الذي أعجب به كثيرًا مارسيل بروست- فيرسم فتاة مستغرقة في قراءتها وتدني الكتاب من عينيها بحيث يخيل للمشاهد أن حروف النص تجذبهما إليها كالمغناطيس. ويصوّر لنا فان غوغ (1853-1890م) في لوحته «السيدة الأرليزية» (1883م) امرأة من مدينة آرل التي عاش فيها الفنان، شغفت بالكتاب الذي تقرؤه، فأبعدته عنها كي تستنشق الهواء وتستطلع الأفق الرحب الذي انقطعت عنه في أثناء القراءة. وفي لوحة للفنان الفرنسي جان سيمون شاردان (1699-1779م)، وعنوانها: «أُلْهِيات الحياة الخاصة» (1746م)، نشاهد امرأة جالسة تُبعد الكتاب من عينيها كي تفكّر فيما قرأت، وكي تترك نفسها تسرح في النص الذي قرأته. أما المصورة الفوتوغرافية الأميركية، إيفا أرنولد (1912-2012م) التي اختصت بالتقاط صور عدة لمارلين مونرو وتابعت مسيرتها لمدة عشر سنوات، فالتقطت لها صورًا عدة وهي تقرأ، ومنها صورة تظهر فيها مونرو بثياب خفيفة وقصيرة وهي تقرأ رواية «أوليس» لجيمس جويس؛ واللافت أنها في الصورة تظهر مفاتنها في حين أنها منكبّة على قراءة الرواية بجميع أحاسيسها.

ويُذكَر أن بعض المراهقات كنّ يقرأن كتبًا فاضحةً، ويخفينها تحت الوسادة عندما يسمعن أحدهم يقترب. وهذا ما حصل للكاتبة الفرنسية كوليت (1873-1954م) التي كانت تتوجس شرًّا من أبيها المحافظ الذي كان يصادر هذه الكتب. وتعلّقت كوليت بغرفة نومها وبسريرها خاصة، لأنهما كانا ينجّيانها من مداهمات أبيها؛ لذا صارت لاحقًا -كردّ فعل- تستقبل زوّارها فيها في أثناء شيخوختها. وكان السرير بالنسبة لها، «زورق خلاصها»، كما قالت.

قراء بوضعيات متباينة

أصدر المصور الفوتوغرافي الهنغاري ألبومًا عنوانه: «حول القراءة» (1971م)، صوّر فيه قرّاء بوضعيات متباينة، وبينها صورة لثلاثة فتيان متسولين يقرؤون قرب إحدى الحاويات. وهذا يذكّر بالصورة التي انتشرت عام 2022م لفتى سوري يقرأ داخل حاوية في بيروت، وهو ما خفف من سعير العنصرية على المهاجرين السوريين في لبنان. أما الفنان الذي رسم خمسًا وثلاثين لوحة عن مشاغل النساء الهولنديات اليومية فهو دون منازع جان فيرمر (1632-1675م)، إذ سمّيت لوحته الشهيرة «الفتاة ذات القرط اللؤلئي» (1665م) بجوكندا الشمال. وله أيضًا لوحة متميزة عنوانها «المرأة المتشحة بالأزرق» (1662-1665م)، صور فيها امرأة في الشهر التاسع من حملها وهي مستغرقة في قراءة رسالة تلقتها من أحد أصدقائها.

والملحوظ أن الفنانين الهولنديين في القرن السابع عشر، أعاروا قراءة المرأة اهتمامًا خاصًّا. ولفيرمر نفسه أربع لوحات رسم فيها نساءً يقرأن كتبًا أو رسائل داخل بيوتهن. أما رامبرانت (1606-1669م) فقد أولى الشيخوخة اهتمامًا خاصًّا في لوحاته؛ إذ رسم أمه في لوحة «العجوز وهي تقرأ» (1631م): فركّز على يديها المُتغضّنتيْن اللتين تحدّدان سطر القراءة، وعلى ظهرها المنحني فوق الكتاب كي لا تفوّت حرفًا من حروفه. ونقل لنا الفنانون الهولنديون في القرن السابع عشر أن القراءة كانت منتشرة بين الناس، حتى بين الفلاحين؛ كأنهم أرادوا أن يقولوا: إن الاستنارة تنبثق من أعماق الكتب.

وللقراءة طقوسها ومباهجها. يذكر الفلاسفة أن الفيلسوف ليسينغ (1729-1781م) قد اقتبس من اللغة الإنجليزية كلمة empfindsam ليعبّر عن فيض المشاعر التي تراود المرء عندما يستعرض نصًّا مدوّنًا على ورقة كتبه شخص آخر، فيخلق لديه أحاسيس جديدة لم يختبرها من قبل. وصوّر لنا الهولندي فرانز إيبل (1806-1880م) مثلًا فتاة صغيرة مأخوذة بقراءة كتابها الذي أنساها أن رداءها في أثناء القراءة قد انحسر قليلًا عن كتفها، ولكنها تابعت قراءتها دون أي توقف لفرط انشداهها بموضوع كتابها؛ ذلك أن القراءة بالنسبة لها صارت جزءًا لافتًا من الحياة. وبرع الفنانون في تصوير الأدوار التي تمثلها القراءة. فنرى مثلًا في لوحة رسمها الفنان الفرنسي التعبيري أدوار مانيه (1832-1883م) وأطلق عليها عنوان: «القراءة» (1868م) صورة لزوجته الجالسة على كنبة وثيرة وابنها الصغير يقرأ لها، وهي تصغي لقراءته بجميع أحاسيسها. وفي لوحة أخرى للفنان جيمس جاك تيسو (1836-1902م) نرى أُمًّا في حديقة غناء تقرأ لابنها المأخوذ بما يسمعه.

ولم يكتفِ الفنانون برسم قراء أو قارئات يقرؤون لآخرين، بل نجد بعضهم يقرأ وتصغي لهم بعض الحيوانات، كما نشاهد ذلك في لوحة الفنان الإنجليزي تشارلز بورتون باربر (1845-1894م) الذي رسم لوحة عنوانها: «فتاة تحتضن كلبًا صينيًّا وتقرأ» (1879م). أما المصوِّرة الفوتوغرافية الإنجليزية جوليا مارغريت كامرون (1815-1879م) فالتقطت صورة لفتاة تقرأ رسالة أمام قفص طيور. وركّز الفنان الدانماركي بيتر سيفرين كرويز (1851-1909م) على القراءة بصحبة كرسيين جنائنيين قابعين أمام شجرة وارفة الظلال.

ولكن الكتاب في القرن العشرين –على الرغم من نشر ملايين النسخ وعلى الرغم من تخزين المكتبات الكبرى أعدادًا هائلة من المطبوعات– انحسر قليلًا بسبب الصحافة والسينما والإذاعة والتلفزيون والحاسوب والجوال؛ إلا أن النساء ما زلن يقرأن لأنهن يبحثن عن إجابات لأسئلة جوهرية تراودهن، فينزوين في ركن معيّن ليقرأن، كأنهن في قراءتهن هذه يسرقن متعًا يفتقر إليها الرجال. لقد التقط المصور الفوتوغرافي الإنجليزي أوغست ساندر (1892-1952م) صورة لمدرّسة شابة تعتمر قبعة وتحمل كتابًا بين يديها وتبتسم للمشاهد، كأنها تريد أن تقول له مبتسمة: «المرأة تقرأ حقًّا».

الأنثوي في لحظة وقوف

وفي مدة احتدمت فيها الصراعات والحروب، نرى أن الرسام الدنماركي بيتر إيلستد (1861-1933م) يرسم لوحة «القارئة» (1908م) التي تصور غرفة يتهدل فيها نور الشمس أمام قارئة كأنها تقول: إن الاستنارة الحقيقية تنبثق من الكتاب. ويرسم لنا الفنان الفرنسي ألبير ماركيه (1873-1947م) -وكان من أصدقاء الفنان ماتيس- امرأة ممشوقة القد عارية وهي تقرأ مجلة بكامل حواسها من دون أن تبالي بوجود الفنان الذي اتخذها موديلًا، وسمى لوحته «الأنثوي في لحظة وقوف» (1947م)، كأنها في وقفتها هذه تتحدى العالم بقراءتها. وفي هذا الصدد، يقدم لنا هنري ماتيس (1869-1954م) لوحة بعنوان: «القراءة لدى الأخوات الثلاث» غير مؤرخة، تظهر فيها أختان جالستان تقرأ إحداهما في كتاب، بينما الأخت الثالثة تقف خلفهما وتصغي. وتذكّر هذه اللوحة بملهمات الفن الثلاث عند الإغريق، واللواتي أصبحن تسعًا مع مرور الزمن وتطور الفنون والآداب، كما تذكّر بالباركات الثلاث عند الرومان، وهن آلهات مسؤولات عن أقدار البشر وكنّ يُسمَّين بـ Tria Fata [المصاير الثلاثة] ويتصدرن الفوروم أو الساحة العامة الكبرى في روما، وربما أراد ماتيس أن يقول: إن الأخوات الثلاث بالقراءة يتحكمن في مصير البشر.

وسنتوقّف لحظة عند الزوجين دانكان غرانت (1885-1978م) وفانيسا بيل (1879-1961م) -أخت فيرجينيا وولف- اللذين أعارا القراءة اهتمامًا خاصًّا. يرسم لنا الزوج في لوحة «المدفأة، عطفة فيتزروي» (1936م)، ابنتهما أنجليكا وهي تقرأ إحدى المجلات، ويعكس وهج المدفأة الضوء على وجه القارئة وعلى مجلتها. أما الفنانة فانيسا بيل (1879ــــ1961م) فرسمت طفلتيها أماريليس وهنرييتا (1940م) وهما جالستان على صوفا تقرآن كتابها. وقيل: إن الطفلتين كانتا تقبضان من أمهما ستة بنسات على كل جلسة موديل تدوم ساعة. ونشاهد في وسط الصوفا بعض الألعاب المحيطة بالطفلتين، ظنًّا من الفنانة بأن القراءة جزء لا يتجزأ من حياة الأطفال.

أما المصور الفوتوغرافي الأميركي تيودور ميلر (1872-1971م)، الذي كان مولعًا بالتصوير الفني، فصور ابنته «لي» مع صديقتها «تانجا رام» وهما تقرآن الصحف في السرير وأمامهما فطورهما. ونشاهد الفتاتين مستغرقتين في القراءة من دون إعارة الطعام اهتمامًا يُذكر. وتطلّ من خلفهما جدارية لجان كوكتو تصوّر فتاة تتلصص على ما تقرأ الفتاتان من أخبار الحرب العالمية الثانية.

القراءة فسحة حياة

في عصرنا، أصبحت القراءة فسحة حياة، أو بحثًا عن الذات. ويتوسط الكتاب أو المجلة أو الجريدة معظم هذه اللوحات الني ذكرها كتاب لور آدلر وستيفان بولمان، فيحتل مكان الصدارة؛ لأنه القلب النابض للإنسان المستنير، ولأنه العنصر الرئيس في حياة البشر. وهذا ما استشرفه ميكيل أنجلو في مصلّى السكستينا عندما رسم السيبيلّا أو عرّافة توماي وهي تقرأ. يذكر الكاتبان جبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف في مستهل روايتهما المشتركة «عالم بلا خرائط» (1982م) أن الإله الجميل أبولون أعجب بالسيبيلا «فوعدها بأن يحقق لها أي مطلب تطلبه. فأخذت حفنة من الرمل في يدها، وقالت: أعطني سنينًا للحياة بقدر ما في راحتي من ذرات هذا الرمل. ولكنها نسيت أن تطلب مع طول العمر بقاء الشباب والعافية. فعاشت مئات السنين وشاخت وتقلصت عظامها». ويقال: إنها كتبت تسعة مجلدات تضم تنبوءاتها. ويظهر في لوحة ميكيل أنجلو أحد هذه المجلدات تفتحه بيديها القويتين، قبل أن يتهالك جسمها. إنها أرادت فيها أن تقرأ مستقبلنا. فهل كانت صفحات هذه المجلدات مملوءة بالكلمات أو بقيت بيضاء؟

أورد الشاعر الفرنسي السوريالي لويس أراغون، في ديوانه الجميل «مجنون إلسا» أبياتًا تَنَبُّئِية، قال فيها: «إن مستقبل الرجل هو المرأة. إنها لون روحه. هي همهمته وضجيجه. دونها لا يغدو سوى شتيمة. هو من دونها بذرة بلا ثمرة» (ترجمة سامي الجندي، ص 164). وبذلك كان يقصد المرأة المستنيرة التي فتح لها الكتاب آفاقًا إنسانية رحبة.

أمبرتو إيكو وتاريخ القبح

أمبرتو إيكو وتاريخ القبح

في عام 2004م نشر إيكو كتاب «تاريخ الجمال»، وألحقه في عام 2007م بـ«تاريخ القبح». ويتساءل في مقدمة الكتاب الأول عن ماهية الجمال والفن والذائقة والموضة. ويأخذ قراءه إلى دراسة مفصلة عن أهم الأعمال الفنية في الثقافة الغربية (فينوس ميلو، مسوخ جيروم بوش، سيدات بوتيشيلي، عاريات مانيه…)؛ وينقلنا من صور الجمال الإغريقي والروماني مرورًا بالعصر الوسيط وعصر النهضة، ووصولًا إلى العصور الحديثة التي زخرت بالتيارات الفنية المتباينة، ولا سيما في القرن العشرين.

ولاستكمال المشهد، لم يترك إيكو كتاب «تاريخ الجمال» يتيمًا، فألحقه بـ«تاريخ القبح». ولأن الكتابين يزخران باللوحات الملونة، لم يُقْدِم أي ناشر عربي حتى الآن على ترجمتهما ونشرهما؛ لأنهما كناية عن ألبومين مكلِفين ونفيسين يحللان مقولتي الجمال والقبح عبر العصور.

وفي عام 2007م صدر كتاب «تاريخ القبح» عن دار فلاماريون الباريسية بترجمة مريم بو زهر (التي ترجمت معظم كتب إيكو إلى الفرنسية) نقلًا من الطبعة الفنية التي أصدرتها دار بومبياني في ميلانو. فأتى الكتاب في453 صفحة تجمع بين التحليل والتعليق على اللوحات والمنمنمات والتماثيل. يقول إيكو في مقدمة كتابه: «قدم الفلاسفة والفنانون، في كل قرن، تعريفات خاصة بالجمال، ومكنت شهاداتهم من بناء تاريخ للأفكار الجمالية عبر العصور. ويختلف الأمر مع القبح؛ إذ عُرف القبح في غالب الأحيان على أنه يتعارض مع الجمال، ولكن دون أن تكرس له دراسات معمقة، فاقتصرت على بعض الشذرات الهامشية. فإذا استند تاريخ الجمال على شهادات نظرية (تُستشف منها ذائقة حقبة بعينها)، يجب على تاريخ القبح أن يجد وثائقه خصوصًا في التصورات البصرية أو الكلامية لأشياء أو لأشخاص اعتبرَت «قبيحة» أو اعتبروا «قُبَحاء» (ص 8).

وتقتصر مادة الكتاب، كما أكد إيكو، على الحضارة الغربية فقط، وهذا لا يشتمل الحضارات الإفريقية والهندية والصينية واليابانية والبابلية. ويصر إيكو منذ البداية على أن مفاهيم القبح والجمال تتغير عبر العصور، وهي بالتالي نسبية. ويستشهد بعبارة فولتير القائلة: «اسألوا العلجوم عن الجمال والجميل الأكبر يجيبكم أنهما يتمثلان في العلجومة ذات العينين المستديرتين والبارزتين، وذات الشدق العريض المسطح والبطن الأصفر والظهر البني» (كتاب «القاموس الفلسفي»). ورأى هيغل في كتابه «علم الجمال» أن قسطاس الجمال يختلف بين الصيني والزنجي والأوربي. ويرى نيتشه أن معيار القبح والجمال يخضع لنموذج نوعي في المحصلة، فيتناقض الجميل والقبيح. فهل يتعارض تاريخ الجمال فعلًا مع تاريخ القبح؟ لقد لاحظ داروين في كتابه «التعبير عن الانفعالات لدى الإنسان والحيوانات» أن ما يثير التقزز في حضارة ما، لا يثيره حكمًا في حضارة أخرى.

ويتوقف إيكو مليًّا عند القبح في الحضارة الكلاسيكية. فلو لم تكن هيلانة (زوجة مينيلاوس) باهرة الجمال، لما اختطفها باريس، ولما نشبت حرب طروادة. ويستشهد بنصوص كبرى مقتبسة من أعمال أفلاطون وأرسطو وماركوس أوريليوس، وطبعًا بهوميروس في الإلياذة والأوديسة. ثم ينتقل إيكو إلى صلة القبح بآلام المسيح وبالموت والاستشهاد، ويخوض في مسألة التشويه من الزاوية اللاهوتية، ويؤكد مسألةَ التعذيب والموت، من خلال منحوتات ولوحات فنية، ولا سيما لوحة «انتصار الموت» (1562) لبروغل.

قبح من عالم آخر

وينتقل من ثم إلى القبح المتمثل بالجحيم والشيطان والأخرويات كما تصورتها الكتب المقدسة، وبعض الأعمال الأدبية والفنية، ولا سيما «الكوميديا الإلهية» لدانتي (الجحيم) وكتب المعراج الإسلامية دون أن ينسى صورة جهنم المعاصرة، كما عبر عنها كتاب «الباب الموصد» لجان بول سارتر مثلًا. ويركز على صورة إبليس، كما تظهر في الكتب المقدسة وفي سير القديسين وفي اللوحات الفنية (سالفادور روزا، سالفادور دالي، جيروم بوش…).

ويكرس إيكو الفصل الرابع من كتابه للمسوخ والغيلان والأقزام والأعاجيب والغرائب. فيتوقف عند صورة اللوياثان كما وردت في سفر أيوب. وفيه يشدد على جماليات الشطط والشناعة وعلى فصائل الغيلان وتوصيفاتها المتخيلة وعلى الأقاليم العجيبة التي تقطنها وعلى الكتاب الذين تكلموا عنها (جوناثان سويفت: «رحلات غوليفر»، ماركو بولو: «كتاب الأعاجيب»،…)، وعلى الشخصيات العجيبة والغريبة (دراكولا، فرانكنشتاين)، وعلى الأعضاء الغريبة لهؤلاء الغيلان (فأحادي القرن مثلًا له جسم فرس وذيل أسد وقرن وحيد في وسط جبهته، والسيرينات في الأوديسة يجمعن بين أجسام النساء في الأعلى وأذناب الأسماك في الأسفل ويتمتعن بأصوات رخيمة ومص دماء البحارة، والساتيرات هي كائنات تشبه البشر والتيوس ولها آذان طويلة وقرون جبهية وأذناب طويلة وأعضاء جنسية متضخمة وتعيش في الغابات وتعزف على المزمار لتجذب المسافرين كي تنال منهم).

وانطلاقًا من المبالغة الشطحية يتوقف إيكو، في الفصل الخامس، عند روايتي رابليه «غرغنتوا» و«بانتاغرويل»، إذ ورد أن غارغانتوا العملاق حين وُلد طالب بالشراب، وكان على أبيه أن يُحضر سبعة عشر ألفًا وتسع مئة بقرة لإرضاعه يوميًّا، وكان يتبول على حذائه ويتبرز في قميصه ويحتاج إلى كميات هائلة من الطعام ليتغذى.

وينتقل إيكو من ثم إلى تحليل فن الكاريكاتير المعاصر القائم على المبالغة والتشويه؛ فيتوقف عند بعض فناني الكاريكاتير من أمثال كانتان ميتسيس (القرن السادس عشر) وجون هاميلتون، وأونوريه دومييه، وجورج غروس، وتوليو بيريكولي.

ويحلل من ثم قبح المرأة في العصور القديمة وفي فن الباروك. وتذهلنا هنا لوحة اختارها إيكو، وهي للفنان الألماني هانس بالدون غرين، وعنوانها «الأعمار الثلاثة للمرأة والموت» (1540م). وفيها يحمل الموت ساعة رملية تحدد نهاية عجوز مستهلكة. واختار أيضًا لوحة أخرى مشهورة للفنان البلجيكي كونيتين ماتسيس عنوانها «العجوز الفظة» (1535-1530م) وتُصور عجوزًا أرستقراطية دميمة تزين رأسها الأصلع بقبعة ذات قرنين زهريين فاخرين، وتتعارض مع بشاعة الوجه وتهالك الجذع والصدر وتشوهاتهما.

وينقلنا من ثم إلى صور الشيطان في العالم الحديث: في «الكوميديا الإلهية»، وفي «الفردوس المفقود» (1667م) لجون ميلتون، وفي مسرحية «فاوست» (الصيغة الأولى) لغوته، وفي «الإخوة كارامازوف» لدستويفسكي، وفي رواية «الدكتور فاوستوس» لتوماس مان. ويتوقف عند ظاهرة «أبلسة الآخر» ولا سيما العدو والخصم. وهنا تظهر الصور الكاريكاتيرية المنددة برجال الدين وبالشيوعية والنازية والرأسمالية والعنصرية.

وينتقل في الفصل الخامس إلى ظاهرة «السحر والأبلسة والسادية» التي يستهلها بلوحة مشهورة لفرانشيسكو غويا عنوانها «يوم سبت الساحرات» (8-1797م). ويعير إيكو اهتمامًا خاصًّا بشغف الضراوة المتمثلة في رهط الهراطقة وعبادة الشيطان وطقوس التعذيب والشنق [راجع قصيدة «توشيحة المشنوقين» للشاعر الفرنسي الانعتاقي فرانسوا فيون (1431-1463م)].

ويتوقف عند الماركيز دو ساد وظاهرة السادية في الأدب الحديث وفي التحليل النفسي. ويستشهد بنص من روايته «جزيرة اليوم السابق»، وبقصة «القط الأسود» لإدغار آلان بو، وبمقطع من رواية «في قلب الظلام» لجوزيف كونراد، وبفِلْم بازوليني عنوانه: «سالو أو 120 يومًا لسادوم» (1975م).

ويكرس إيكو فصلًا كاملًا عن ظاهرة الإمساخ والتشويه التي غذت مخيلة الفنانين والكتاب، ويستشهد مثلًا بلوحة «درس في التشريح» (1632م) لرامبرانت، ولوحة «جائزة التوحش» (1750م) لويليام هوغارت، و«الطاعون» (آخر القرن 17) للفنان غوتانو زومبو. ويتوقف عند ظاهرة القبح لدى الرومانسيين مع تمثال «عقاب لاووكون» (القرن الأول ق.م.) الذي حلله الفيلسوف الألماني ليسينغ رابطًا بين الألم والدمامة. واهتمت الرومانسية خاصة بظاهرة الحزين والمخيف والمريع، وربطتها بتيار «الرواية القوطية» التي ركزت على القلاع والأديار المهدمة المهجورة، وعلى الدهاليز المرعبة، والجرائم الدموية، وظهورات الشياطين والأشباح والأرواح، وعلى الجثث المتفسخة.

وراح الرومانسيون يَنشدون البطل الوبيل والمتخفي والدميم الذي يثير القلق والرعب حوله، والمتمثل بفِلْم «شبح الأوبرا» (1925م) للمخرج روبيرت جوليان عن رواية غاستون لورو، ورواية «الحالة الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد» (1885م) لروبرت ستيفنسون، إضافة إلى سلسلة روايات وأفلام فانتوماس. وظهرت كذلك مجموعة من الأعمال التي تركز على الدمامة والبؤس مثل «صورة دوريان غراي» (1891م) لأوسكار وايلد، وشخصية كازيمودو في رواية «أحدب نوتردام» (1831م) لفيكتور هوغو التي اهتمت بعالم القاع، وطبعًا شخصية فرانكنشتاين التي ما زالت تُغْرم مخرجي السينما. ويذكر جان بول سارتر في كتابه الجميل «الكلمات» (1964م) معاناته الشخصية في طفولته ومراهقته من حَوَل عينيه وشناعة شكله الذي كان يسخر منه التلاميذ، ولكنه تأقلم مع حالته ومتن شخصيته.

جماليات القبح

وترتبط الدمامة أحيانًا بالغرابة والعجائبية، كما في قصة «بينوكيو» (1883م) لكارلو كولودي، و«حكايات بيرو» (1697م)، و«حكايات غريم» (1812-1822م)، وقصص مصاصي الدماء في القصور المهجورة، وقصص القرينات وقصص الإمساخات كما في «التحول» لكافكا. وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين انتشرت النصوص التي تتكلم عن السكارى والعاهرات والمتسكعين ودُور البغاء وعالم الليل. وفي الفصل الثالث عشر يتكلم إيكو عن الطليعية وانتصار القبح، فوضع الفنان مارسيل دوشان شاربين للجوكندا، وانتشرت بيانات الدادائية والمستقبلية والسوريالية وشاعت شتى أنواع المستهجنات والغرابات، وانتشرت مقولات التقزز والقرف، وشاعت جمالياتها مع فنانين كبار من وزن بيكاسو ودالي وبول كلي وفرنسيس بيكابيا وألبِرتو مارتيني. وراح بعضهم يتكلم عن جماليات المخلفات والقاذورات والفوضى، وصار القبح ظاهرة اجتماعية تبلورت في فن الكيتش والقص واللصق، والانبهار بالذائقة المنحطة والمبتذلة والقذرة والناشزة وبالالتباس الجنسي.

كما حصلت قفزة في الموسيقا الحديثة (الجاز خاصة) والفن التشكيلي، حصل تحول كبير في الذائقة الجمالية إبّان القرن العشرين. فظهر شغف بالمستهجن وبموضة البونك punk، بالحلي البلاستيكية الرخيصة وبالدبابيس والمشابك. وتأثرًا بفِلْم «كلب أندلسي» للمخرج السوريالي لويس بونويل راح سينمائيو الموجة الجديدة يبحثون عن الغرائبي والصادم والمبتذل الذي يعبر عن تمزق الإنسان وتشتته في القرن العشرين.

أراد أمبرتو إيكو، بأسلوب ساخر ومماحك، أن يقول في هذا الكتاب النفيس: إن معايير الجمال والقبح ليست ثابتة، شأنها شأن الموضة، وتتغير حسب المجتمعات والثقافات. لقد لعب الإغريق دورًا في التعبير عن الـ«كالوس» [الجميل] والـ«كاكوس» [الدميم]، وهزل في العصر الوسيط، ثم عاد ونشط في عصر النهضة الذي، مع ذلك، راح يطرح مقاييس أخرى لهما، تأثرت بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي حركها عصر التنوير والثورة الفرنسية التي انفتحت آفاقها على المدارس والتيارات المنعتقة من القيود الكهنوتية والأكاديمية. فأطل القرن التاسع عشر بشكوكه وتوجساته وراح يبحث عن منابع جديدة مثلها لوتريامون ورامبو والدادائيون والسورياليون والتكعيبيون فتخلخلت معايير الجمال الكلاسيكي وهيمنت الثورات المعرفية الأربع الكبرى (الألسنية والتحليلية النفسية والمعلوماتية والاتصالات)، فقلبت المعطيات الثابتة، وفتحت آفاقًا جديدة على مقولتي الجمال والقبح، كما نظر إليهما أمبرتو إيكو.

ريمون كينو: «تمارين في الأسلوب»

ريمون كينو: «تمارين في الأسلوب»

بُعيد الحرب العالمية الثانية، انشغلت الساحة الأدبية الفرنسية بكتابات ريمون كينو (1903- 1976م) الذي مثّل الانعتاق من التقاليد اللغوية، وفتح باب اللغة على اللهو واللعب، وأنزل الأدب من علياء الأولمب إلى الشارع والقاع، ومن حيز الإلهام والنبوة إلى حيز الاشتغال باللغة، كما سنرى في تأسيس جماعة «مشغل الأدب الاحتمالي». ومن بين الكتب الكثيرة التي أصدرها، لا بدّ من ذكر الرواية الشعبية «زازي في المترو» (1959م) التي تروي قصة فتاة ريفية تزور باريس للمرة الأولى، وتريد أن تكتشف المترو وعالم الباريسيين.

وتعجّ الرواية بالسخرية اللاذعة من باريس والباريسيين والريفيين أيضًا؟ وتزعّمَ كينو الفريق السريالي الذي أطلق حركة Oulipo أو «مشغل الأدب الاحتمالي»، الذي سعى إلى اكتشاف إمكانيات لغوية جديدة، عن طريق الكتابة التي تخضع لضوابط وقيود محددة كفرض استخدام حرف أبجدي في كل الكلمات، أو منع استخدامه في النص بكامله، كما أجرى تقاربًا بين الرياضيات واللغة. وكان من بين أعضائه إيتالو كالفينو وجورج بيريك وجاك روبو، إضافة طبعًا إلى ريمون كينو. ونشرت المجموعة عددًا من الكتب مثل «الأدب الاحتمالي» (1973م)، و«أطلس الأدب الاحتمالي» (1981م)، و«نشأة الأوليبو 1960-1963م» (2005م)، و«مختارات الأوليبو» (2009م)، و«الأوليبو في كل مكان» (2012م)…

وعرفت الأوليبو ظاهرة الـ lipogramme أي استبعاد بعض حروف من النص، وهذا ما فعله جورج بيريك في رواية «الاختفاء» التي استبعد فيها حرف e من الكتاب كله، وهو من أكثر الحروف استخدامًا في اللغة الفرنسية، وخصص موضوع الرواية للحديث عن اختفاء هذا الحرف الذي لا يمكنه ذكره. وفي كتاب Oulipo la littérature potentielle الذي أصدرته دار غاليمار عام 1973م، ثمة بيانان يعطيان فكرة عن الأوليبية، أسوة ببيانات الدادائية والسوريالية. واللافت أن الأوليبو لجأت كثيرًا إلى الإمكانيات الرياضية الهائلة العدد وطبّقتها على إمكانيات اللغة، واهتمت بالترجمة الآلية التي كانت جنينية في ستينيات القرن العشرين.

وطبّق كينو نظريات الأوليبو التي انتظمت لاحقًا في كتابه «مئة ألف مليار قصيدة» (1961م) قائلًا في مقدمته: «يستطيع كل شخص أن يؤلّف على هواه مئة ألف مليار سوناتا، وكلها سوناتات منتظمة؛ أي يكون عندنا في المحصلة آلة تنتج القصائد». ولكن التطبيق الأكبر تمّ على كتابه «تمارين في الأسلوب» (1947م) الذي أثار ضجة أدبية كبرى وترجم إلى 35 لغة (لم يترجم بعد إلى العربية)، وانتقل إلى المسرح على يد إيف روبير وعُرض في Rose rouge في شارع سان جيرمان وفي مهرجان أفينيون، وانتقل من ثمّ إلى الموسيقا على يد «الإخوة جاك».

يدور نص التمارين حول الحادثة البسيطة الآتية: «في إحدى ساعات الذروة، على خط الحافلات S، يلتقي الراوي بشاب زرافي العنق يعتمر برنيطة لدنة لها حبل مجدول يزيّنها. ويتحدث هذا الشاب بنزق مع راكب آخر متهمًا إياه بأنه داس على رجله لدى صعود الركاب أو نزولهم من الحافلة. وعندما يخلو أحد المقاعد ينقضّ هذا الشاب على المكان الفارغ. ويصادف الراوي الشاب ذاتَه بعد ذلك بساعتين في ساحة روما [في باريس]، وأمام محطة سان لازار للقطارات، وكان الشاب يتناقش مع صديق يقول له: «عليك أن تضع زرًّا إضافيًّا لأعلى معطفك»». (ص 7 من النص في طبعة فوليو [غاليمار].

ويتكرر سرد هذه القصة البسيطة 99 مرة، وبتنويعات مختلفة. وقام الروائي والسيميائي إمبرتو إيكو بترجمة هذا الكتاب إلى الإيطالية عام 1983م وقدّم تعليقات ذكية عليه. وطُبّقت هذه التمارين اللغوية على نصوص لبلزاك، وفلوبير، وجول فيرن، وبروست، وكامو، وإيتالو كالفينو، ومارغريت دوراس، وعلى بعض اللوحات الفنية، ولا سيما لوحة الجوكوندا. ورأى بعضهم أن كل تنويع من تنويعات القصة يدلّ على إمكانية بلاغية وبيانية معيّنة: نفي الضد، مجاز، جناس تصحيفي، ترخيم، إسقاط، محاورة ذاتية، تورية، إبدال، استعارة، تضاد، تجانس صوتي، كناية… ورأى آخرون أن نبرات النصوص الـ 99 تُراوِحُ بين التعجب والتساؤل والابتذال واللهو والفلسفة والطيش والنزق والشم والتذوق واللمس والإبصار والاستماع، وأنها تلجأ أحيانًا إلى أسلوب البرقيات الاختزالي أو الشعر الحر أو الشتائم أو التحذلق… ولا شك أن كينو، كقارئ فرنسي يقظ، أذهله كتاب بيير فونتانييه «صور الخطاب» الذي نُشر ما بين 1821 و1830م، والذي يستعرض الإمكانيات البلاغية الفرنسية بأستذة لافتة، وما زال مرجعًا أساسيًّا حتى الآن.

وللتدليل على طبيعة هذا النص الساحر، سأترجم عددًا من تنويعاته.

ارتجاع

يجب أن تضيف زرًّا إلى معطفك، قال له صديقه. التقيتُه وسط ساحة روما، بعد أن غادرتُه وبعد أن انقضّ بتوق شديد على مقعد جلس عليه. وكان قد احتجّ على دفْع أحد الركّاب له وكان، كما قال، يدفعه كلما نزل واحد من الركّاب. هذا الشاب النحيل كان يعتمر قبّعة مضحكة. حدث هذا داخل حافلة مكتظّة تابعة للخط S.

ريمون كينو

توضيحات

في تمام الساعة 12 و17 دقيقة، وداخل حافلة تابعة للخط S، طولها 10 أمتار وعرضها 2.1م وارتفاعها 3.5م، وتبعد 3,600 كلم من مركز انطلاقها، وتحمل 48 راكبًا، كان شخص من جنس الذكور، وعمره 27 سنة و3 أشهر و8 أيام، وطوله 1,72 م ووزنه 65 كلغ، ويعتمر قبعة عالية ترتفع 17 سم وتحيط بها شريطة طويلة تصل إلى 35 سم، كان ينتهر رجلًا عمره 48 سنة و4 أشهر و3 أيام، وطوله 1.68 م ووزنه 77 كلغ؛ واستخدم 14 كلمة قذفه بها خلال 5 ثوانٍ وتشير إلى تنقلات لا إرادية تُراوِحُ بين 15 و20 ملم. ثم ذهب ليجلس على بعد 10.2م.

بعد 118 دقيقة، وُجِدَ على مسافة 10 أمتار من محطة سان لازار، أمام مدخل الضواحي، وكان يذرع المكان جيئة وذهابًا على مسافة 30 مترًا ومعه رفيقٌ عمرُه 38 سنة وطوله 1.70 م ووزنه 71 كلغ ونصحه هذا بـ 15 كلمة أن يرفع بـ 5 سم زرًّا يجب تركيبه على قطر يبلغ 3 سم. (ص 22-23)

الجانب الذاتي

لستُ اليوم مستاءً مما أرتديه. كنت أعتمر قبّعة جديدة، ماكرة إلى حدّ ما، وألبس معطفًا يروق لي كثيرًا. قابلتُ فلانًا أمام محطة سان لازار سعى إلى إفساد متعتي؛ إذ حاول أن يُثبت لي أن هذا المعطف مقوّر جدًّا، وأنه يجب أن أضيف إليه زرًّا آخر. ولكنه لم يتجرّأ على مهاجمة قبّعتي. قبل ذلك تحرّش بي أحد الأوغاد الذي عنّفني عمدًا كلما كان أحدهم يصعد أو ينزل. حدث هذا في حافلة شنيعة امتلأت بالحثالة وقتما كان عليَّ أن أستقلّها. (ص 24)

ذاتية أخرى

في الحافلة كان اليوم بقربي في الممرّ علج لا مثيل له، وكاد ينتهي بي الأمر إلى أن أقتل شخصًا. كان هذا غلامًا ناهز السادسة والعشرين أو الثلاثين فاغتظت منه خاصة، لا لطول عنقه الذي يشابه عنق ديك حبشي منتوف، وإنما لنوع شريطة قبّعته، وهي شريطة تماثل حبلًا ذا لون باذنجاني. آه من هذا الوغد، كم كان يقزّزني! ولأن حافلتنا كانت تعجّ بالناس في تلك الساعة، استفدت من التدافع في أثناء الصعود والنزول كي أغرس مرفقي بين أضلاعه. وانتهى به الأمر إلى أن فرّ بجُبن قبل أن أقرّر دوس قدميه بحذائي. وكان عليَّ أن أقول له –لإغاظته– إن معطفه مقوّر جدًّا ويحتاج إلى زرٍّ سقط منه. (ص 25-26)

سلبيّات

لم يكن باخرة ولا طائرة، بل وسيلة نقل أرضية. لم يكن لا الصباح ولا المساء ولا الظهر. لم يكن لا طفلًا ولا عجوزًا بل كان شابًّا. لم تكن شريطة ولا حبلًا، بل شارة مجدولة. لم يكن لا لطيفًا ولا خبيثًا بل حانقًا. لم تكن لا حقيقةً ولا كذبًا بل ذريعة. لم يكن لا واقفًا ولا منطرحًا، بل باحثًا عن مقعد للجلوس. لم يكن عشية البارحة ولا اليوم التالي، بل اليوم نفسه. لم تكن لا محطة الشمال في باريس ولا محطة ليون، بل محطة سان لازار. لم يكن قريبًا ولا إمّعة، بل صديقًا. لم تكن إهانة ولا سخرية، بل نصيحة ملبسيّة. (ص 29).

إدوارد سعيد: رواية فكرية

إدوارد سعيد: رواية فكرية

كان يطيب لإدوارد سعيد ودومينيك إدّه أن يتجولا كعاشقين في حدائق بعض المدن الأوربية والأميركية، وكانا يتناقشان في كثير من الأمور السياسية والأدبية والموسيقية. وبعد 14 سنة من وفاة سعيد بسرطان الدم (2003م) استعادت الناقدة والروائية اللبنانية الفرانكوفونية دومينيك إدّه ربع قرن من تعرّفها على سعيد. ودوّنت في كتاب «إدوارد سعيد: رواية فكره» Edward Saïd: Le roman de sa pensée (دار نشر لافابريك، 2017م، 227 صفحة) ذكريات مداولاتها مع سعيد وانطباعاتها عنه.

تقول عنه: إنه كان خطيبًا مفوّهًا يمسرح أقواله، ويتمتع بقوة هائلة على الإقناع. وكان يقدّر عاليًا أوقات الصمت: صمت أمام القمع الذي لا بدّ من كسره، صمت حافز على التفكير. وكان عنده مشروع عملاق: غربلة قرون من الأفكار الجاهزة والاستيهامات والتنميطات التي طرحها الغرب حول الشرق. وهذا المشروع هو الذي طوّره سعيد مع مجموعة من مثقفي العالم الثالث، وبخاصة: إيميه سيزير، بول نيسان، فرانز فانون، هومي بابا، غاياتري سبيفاك… وأُطلق عليه في النقد الأدبي والفكري تسمية «النقد ما بعد الكولونيالي» الذي استرشد كثيرًا بنظريات ميشيل فوكو وجاك لاكان وجاك ديريدا وأنطونيو غرامشي.

وبدأ سعيد هذا المشروع بكتابه الصاعق «الاستشراق» (1978م، ترجمة كمال أبو ديب)، ثم ألحقه بمجموعة من الدراسات الأدبية: «الثقافة والإمبريالية» (1993م، ترجمة كمال أبو ديب)، وعلى الأخص كتابه «خارج المكان» (1999م) (ترجمة فواز طرابيشي). ولا تعود قيمة إدوارد سعيد إلى عدد كتبه، بل إلى فصاحته وكارزميته، كما تقول د. إدّه التي توقفت عند عبارة بيّن فيها سعيد طريقة تدريسه، قال: «لم أرغب قط في أن يكون لي طلاب مريدون، ما أفضّله، كأستاذ جامعي، هو أن أحرّض طلابي على انتقادي –لا أقول على مهاجمتي، مع أن كثيرين فعلوها– بل على إعلان عدم تبعيّتهم لي». (ص 18).

كيف الدخول إلى أعمال إدوارد سعيد؟ تقول إدّه، مستندة إلى كتابه «بدايات – القصد والنهج» (1975م): «يندرج مشروعه الفكري كله في الذهاب والإياب من مستقبل مصنوع بعين الماضي المتحرك هو أيضًا» (ص 23)؛ وتضيف أن كتابة سعيد مبنية على غرار قالب الفوغا الموسيقيّ fugue، أي إدخال الحاضر وأبعاده السياسية في مسار التوزيع الموسيقيّ ونسج خطوط لحنية متباينة وإنما متساوية. والمعروف عن سعيد أنه كان محلّلًا موسيقيًّا وذوّاقًا متعمقًا في الموسيقا الكلاسيكية، ومؤسس فرقة «الديوان الشرقي الغربي» الموسيقية مع قائد الأوركسترا العالمي دانييل بارينبويم، كما سنرى لاحقًا. والمعروف عنه أيضًا أنه كان يتمتع بثقافتين: غربية وشرقية، وأنه كتب أطروحته عن جوزيف كونراد؛ وقد يكون لسفر كونراد في 21 سبتمبر 1881م إلى آسيا على متن سفينة اسمها «فلسطين» دور في هذا الاختيار.

كان سعيد يساريًّا غير دوغمائي، أُعجب بأنطونيو غرامشي وبجورج لوكاتش، وانتقد تحليلات ماركس وإنغلز، ولا سيما مقولتهما عن الاستبداد الشرقي. وكان بروتستانتيًّا طهرانيًّا صارمًا وإرادويًّا، وعينه على ساعة يده؛ وكان يرفض كل المقولات التي تنتهي بـ isme. وكانت ثقافته فرويدية تحليلية، فيرى أن الفهم هو النأي بالنفس، وهو القبول بالآخر كالقبول بالذات. وكان يطرح كثيرًا من الأسئلة، من دون الإجابة عنها بالضرورة. وبرع في استخدام الـ contrepoint (الطباق) والاستهلال والتناغم والبيمول والتبدلات وأوقات الصمت والـ tempo والـ crescendo واللازمة (ص 140).

تقول زوجته مريم سعيد عنه: كان سعيد يطبق هذه المقولات الموسيقية على الأدب، ولا سيما في كتابه الثقافة والإمبريالية. وكان مهووسًا بالتفاصيل والدقة، كما قال صديقه دانييل بارينبويم. وتصدّى للعنصرية والكولونيالية والتفوق الذي يدعيه شعب ما أو طبقة ما على الآخرين. فاستشهد بقصيدة لفرانز فانون عنوانها: «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»: «لا يحق لي أنا الإنسان الملوّن أن أبحث عما يجعل عِرقي يتفوّق على عرق آخر، لا يحق لي أنا الإنسان الملوّن أن أرسّخ عند الإنسان الأبيض إثمية حول ماضي عرقي، لا يحق لي أنا الإنسان الملوّن أن أهتم بالوسائل التي تمكّنني من دوس كبرياء المعلم السابق بقدميّ، لا يحق لي ولا ينبغي أن أطالب بالتعويض عما فعله المستبدون بأجدادي المستبعَدين، لا يحق لي أن آتي وأن أعلن على الملأ حقدي على الرجل الأبيض، ولا ينبغي عليَّ أن أهمس امتناني للرجل الأبيض؛ يحق لي أن أكتشف الإنسان أينما وُجد، أكان أسود أم أبيض، أتوسل أخيرًا قائلًا لجسدي: اجعل مني رجلًا يطرح الأسئلة». (ص 142)

صداقته مع دانييل بارينبويم

كتب إدوارد سعيد مع بارينبويم كتاب «المتشابهات والمتناقضات: استكشافات في الموسيقا والمجتمع» (2002م)، وكتب وحده «متتاليات موسيقية» (1991م)، و«النموذج الأخير: الموسيقا والأدب ضد التيار» (2006م)، وبعد وفاته نشرت له جامعة كولومبيا عام 2007م «حدود الموسيقا». وعام 1993م أسس سعيد، بالتعاون مع جامعة بيرزيت معهد «إدوارد سعيد الوطني للموسيقا». وكان سعيد معجبًا بالأوبرا الإيطالية «Cosi fan tutte» التي لحّنها موزارت وعرضها عام 1790م، وتعالج مسألة الحب المموّه، لاختبار الإخلاص في الحب. وتنادي الأغنية الأخيرة من الأوبرا بالحبّ والسلام. وأعجب أيضًا بأوبرا «فيديليو» لبيتهوفن، وهي الأوبرا الوحيدة التي ألّفها بيتهوفن واستوحاها من وقائع الثورة الفرنسية. واهتم سعيد بالموسيقيّ الكنديّ المعاصر غلين غولد، المعروف بأدائه مجموعة من الأعمال الموسيقية الباروكية. وكان التناقض بين سعيد 1 (قبل العزف) وسعيد 2 (بعد العزف) يدفعه إلى القول: إن «الموسيقا هي عبارة عن صمت متهلّل» (ص 175)، وإن هناك لقاءً بين غسقين: غسق موزارت في أوبرا Cosi fan tutte التي لحّنها قبل وفاته المبكرة بسنة، وغسق إدوارد سعيد الذي كتب نصًّا جميلًا عن هذه الأوبرا قبيل وفاته.

حل الدولة أو الدولتين

التقى سعيد بارينبويم في لندن (يونيو 1993م). وقال: «إن هذه الصداقة قد غيّرت حياتي»، وحوّلته على الصعيد الموسيقي والسياسي والفكري. لقد ناديا بدولة واحدة تضمّ الإسرائيليين والفلسطينيين، على غرار نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا بعد الأبارتهايد. والتقيا في هذا المجال مع طروحات حنّة آرندت، ومارتان بوبر، وإريك هازان، وإيال سيغان، وشلومو ساند الذين نادوا بمواطَنة إسرائيلية فلسطينية غير مرتبطة بالدين (ص 187). وكان بارينبويم وسعيد على الموجة نفسها: لم يقولا الشيء ذاته دائمًا، ولكنهما كانا يتكلمان اللغة ذاتها. كانا يريدان المساواة بين الشعبين. وبعد وفاة سعيد، كتب بارينبويم (الذي كان يحمل الجنسيات الأرجنتينية والألمانية والإسرائيلية والفلسطينية): «إن الحكومات الإسرائيلية، خلافًا لكل تاريخ اليهودية، وخلافًا لكل الأخلاق التي نادت بها اليهودية، ما زالت تضطهد أقلية، نحن الذين كنا أقلية طيلة ألفَيْ عام، نضطهد اليوم شعبًا ونقهر أقلية أخرى. حان الوقت أن نعي». (ص 196).

في 22 يونيو 1992م زار سعيد فلسطين للمرة الأولى بعد أن عرفها حتى الثانية عشرة من عمره. وزار هو وزوجته مريم وابنه وديع وبنته نجلاء، حيّ «الطالبية»، فوجد أن بيت العائلة تحتله مجموعة من المسيحيين المتشددين الأميركيين المتصهينين. وبعد هذه الزيارة المؤلمة بدأت حملة تخرّصات واسعة قادها جوستوس فينر الذي اتهم سعيدًا بأنه كذّاب ومزوّر للتاريخ، فهو ليس فلسطينيًّا، ولم تسكن عائلته قط في فلسطين (ص 190). وزار سعيد القدس والناصرة وتل أبيب وحيفا وغزة، ولاحظ الفرق الهائل بين الأحياء العربية البائسة المهملة والأحياء اليهودية التي فيها ماء وفير ومسابح وحدائق. وقبيل وفاته زار هو وابنه وديع فلسطين ولاحظ أن شعار «الإسلام هو الحل» مرفوع في أماكن كثيرة، ولاحظ فساد السلطة الفلسطينية والتعصب الديني المتنامي. وانتقد سعيد اتفاقيات أوسلو؛ لأنها لم تنظر في مسألة المستوطنات وإخلائها من المحتلّين. ورأى أن هذه الاتفاقيات ولدت ميتة.

عودة إلى الموسيقا

في أغسطس 1999م اتفق مع بارينبويم على تأسيس أوركسترا مختارة تجمع 78 موسيقيًّا عربيًّا وإسرائيليًّا وأجنبيًّا، في مدينة فيمار الألمانية، تُراوِحُ أعمارهم بين 18 و25 عامًا، كما ذكرت إدّه. ودربهم كلٌّ من بارينبويم ويويوما وموسيقيون آخرون قدموا من شيكاغو وبرلين. وكانت مدة التدريب تصل إلى سبع ساعات يوميًّا، وفي المساء كانت تعقد جلسات مناقشة يديرها سعيد وبارينبويم. وبعد ذلك بأسبوع صار كونشيرتو الفيولونسيل لشومان والسيمفونية السابعة لبيتهوفن جاهزَيْنِ. وأدى عازفا بيانو إسرائيلي وفلسطيني اثنين كونشيرتو للبيانو من تلحين موزارت، في قاعة الهول الكبرى في فيمار.

وقامت الفرقة بعد هذا النجاح بجولات عدة في العالم، بعد أن خلق الرجلان جوًّا من الوُدّ والحوار عن طريق الموسيقا. وفي عام 2016م أنشئت أكاديمية بارينبويم– سعيد وأعطت منحًا لتسعين طالبًا من الشرق الأوسط. وسبق لسعيد أن التقى قبل وفاته الزعيم نيلسون مانديلا الذي قال له «حرّكوا المخيّلات». واتُّبعت النصيحة. وعندما اشتدّ المرض على إدوارد سعيد، وكانوا يقولون له: صديقك دانييل على الهاتف، كان يتهلّل وجهه وينسى آلامه. «كانا قد استمع أحدهما للآخر قبل أن يتفاهما»، كما قالت دومينيك إده (ص 194). وغالبًا ما كان سعيد يكرر عبارة إيميه سيزير: «لا يوجد عرق بشري يحتكر الجمال والذكاء والقوة. هناك مكان رحب للجميع في إحراز النصر» (ص 196). وتقع أجمل الصفحات التي كتبتها إده عن هذين الرجلين في العشرين صفحة الأخيرة من الكتاب. كان بارينبويم يرى وجهين زمنيين في الأعمال الفنية: وجهًا ينطلق من الزمن الذي كُتبت فيه، ووجهًا يتطلّع نحو الأبدية.

ذكريات ثقافية عن باريس

ذكريات ثقافية عن باريس

قبل وصولي إلى باريس في سبتمر 1970م، كنت أعمل أمينًا لمكتبة في وزارة المواصلات في دمشق، فادّخرت مبلغًا من المال يكفيني لمدة سنة كطالب يتابع دراسته بعد الإجازة في الأدب الفرنسي. أتيت إلى العاصمة الفرنسية مزوّدًا بهذا المبلغ وبلغة فرنسية مولييرية، كانت تثير ابتسامة الفرنسيين عندما أكلّمهم؛ فكان عليّ أن أطعّمها باللغة الشعبية، لغة الشارع. ولكنني في البداية شعرت بالحنين العاتي إلى دمشق وإلى المدينة القديمة حيث كنت أسكن، وأوشكت أن أحزم حقيبتي وأن أعود إلى سوريا. فهدّأني بعض الأصدقاء والمستشرقين الذين علّمتهم في المعهد الفرنسي للدراسات العربية في الشام. وبقيت ونعم البقاء.

سجّلت في جامعة السوربون الجديدة دبلومًا يعادل الماجستير في أيامنا لمدّة سنة وفي المدرسة العليا لشؤون المكتبات، ظنًّا مني أنني لن أبقى أكثر من سنة في باريس. ولكن سرعان ما تحسّن وضعي الاقتصادي بسبب بعض التسجيلات الإذاعية والدروس الخاصة التي كنت أعطيها للمستشرقين الذين عرفتهم من قبل ووسّعوا دائرة معارفي. كان عنوان البحث الذي ترتّب عليّ إعداده في الجامعة يدور حول مقولة الاشتراكية في أعمال نجيب محفوظ الأولى، بإشراف الأستاذ أندريه ميكيل. وأذكر أنني في المِترو، أثناء ذهابي إلى المدرسة العليا لشؤون المكتبات، كنت أقرأ بعض أعمال نجيب محفوظ وأخط بالقلم على بعض العبارات والمقاطع، ممّا كان يثير فضول بعض الركّاب، المتعجبين ربما من وجود عربي يقرأ حتى في المِترو.

كانت الجامعات الفرنسية وقتئذ شديدة التسييس، بعد الثورة الطلابية التي اندلعت عام 1968م، وأجبرت الجنرال ديغول على التنحّي. وكانت السوربون الجديدة من الجامعات اليسارية التي تعجّ بالتروتسكيين والماويين والشيوعيين والاشتراكيين الذين كانوا يوزّعون منشوراتهم عند مدخل الجامعة. وتعرّضتْ جامعتنا لعدد من غزوات اليمين المتطرّف الذي كان يأتينا من كلية الحقوق في جامعة «أسّاس». فيدبّ الصوت في طوابق الجامعة الخمسة، فنقطع الدروس ونهرع بشعورنا الطويلة والمشعّثة إلى مدخل الجامعة، ونشتبك مع المهاجمين المزوّدين بالعصي الذين كانوا أحيانًا يحرقون المنشورات اليسارية، ثم يأتي البوليس الفرنسي متحنجلًا ليفضّ الاشتباك. ويصل بعد مغادرة المهاجمين وانصرافهم بنصف ساعة.

الحياة كلها مسيسة

وكان الحي اللاتيني، مهد الثورة الطلابية، حيًّا يساريًّا يعجّ بالمكتبات التي تبيع الكتب السياسية والأيديولوجية خاصة، ولا سيّما مكتبة فرانسوا ماسبيرو الواقعة في عطفة «لا هوشيت» قرب نهر السين. وكانت حياة الناس كلها مسيّسة، تحفزها مجموعة كبرى من المثقفين من أمثال جان بول سارتر، سيمون دو بوفوار، لويس ألتوسير، أندريه غلوكسمان… وعدد من الصحف والمجلات مثل: «ليبيراسيون»، و«قضية الشعب»، و«الأزمنة الحديثة»، و«الأنصار»، و«شارلي إبدو»، و«صباح باريس».

وأسهم في الحَفْز أيضًا عدد من المغنين مثل: جورج براسانس، وجان فيرا، وليو فيريه، وكلود نوغارو… والسينمائيين مثل: جان لوك غودار، ولويس مال، وبرناردو برتولوتشي. وأسهمت الأحزاب اليسارية الجديدة في إشعال الثورة، ومنها الرابطة الشيوعية والحزب الشيوعي الماركسي اللينيني الفرنسي (الماوي) واليسار البروليتاري والنضال العمالي… ولعب السياسيون دورًا في خلق وعي ثوري، ومنهم: بيير ماندس فرانس، وفرانسوا ميتيران.

وخلقت هذه الثورة جوًّا تنويريًّا في التدريس الجامعي؛ وكُسر احتكار السوربون العريقة، فقُسِّمت إلى ثلاث عشرة جامعة، ومنها السوربون الجديدة أو باريس الثالثة التي درستُ فيها. وجدّدت الجامعة برامجها وعقليتها، فكنا نخاطب أساتذتنا بضمير المخاطب المفرد الذي يلغي المسافة والعلاقة الرسمية. واستمرت آثار 1968م سنوات عديدة غطّت السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين.

وكان جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار نشيطين جدًّا في أوساط الطلاب. وأذكر أنني كنت أراهما كثيرًا في شارع سان ميشيل وسان جيرمان، وكانا يحملان نسخًا من جريدة «قضية الشعب» الماوية، وتحيط بهما مجموعة من الشباب الذين كانوا يُصعدون سارتر على برميل قرب مقهى «الدوم»، فينبري منددًا بالإمبريالية والرأسمالية والرجعية ومناديًا بحرية الشعب وبوحدة الحركة اليسارية العالمية. فنصفّق له، ثم يبيعنا نسخ «قضية الشعب». وقبل سقوط الجنرال ديغول، اقترح عليه بعض مستشاريه أن يعتقل سارتر، فأجابهم: «لا أحد يوقف فولتير». مثْبتًا بذلك أنه ابن الجمهورية التي أنشأتها الثورة الفرنسية.

وبعد أن أنهيتُ دبلوم شؤون المكتبات والماجستير، سجّلتُ موضوع دكتوراه في الأدب المقارن مع الأستاذ رينيه إيتيامبل ومع أندريه ميكيل كأستاذ مشارك، وكان عنوانها متأثرًا بالجو الفكري السائد آنذاك: «الوعي التاريخي في روايات إميل زولا ونجيب محفوظ»، ونشرت في دار ميزونوف. وماحكني ذات مرة الأستاذ جمال الدين بن شيخ قائلًا: إن محفوظًا كاتب بورجوازي. فقلت له: إن الفيلسوف جيل دولوز اعتبر مارسيل بروست أقرب إلى الطبقة الشعبية ممّا كان يُظنّ. وكان ابن شيخ في لجنة مناقشة أطروحتي فتوجستُ شرًّا، ولكنه -وهو عنيف في العادة- كان دمثًا جدًّا أثناء الجلسة التي استمرت ثلاث ساعات.

الجو الثقافي الكثيف

وتحسّنت أوضاعي المالية بسبب الدروس العربية التي كنت أعطيها، فاستفدت كثيرًا من الجو الثقافي الكثيف الذي عرفتْه وتعرفه باريس في شتى المجالات. كنت في الصباح أحضّر الأطروحة، وبعد الظهر أعطي دروسي في اللغة العربية؛ وفي المساء كنت أتفرّغ لسدّ الفجوة في ثقافتي. كنت من عشاق السينما. والمعروف أن صالات السينما في باريس كانت تعرض نحو مئتي فِلْم أسبوعيًّا. فإذا رغبتُ في مشاهدة فلم من الفترة الصامتة ومن كلاسيك السينما، كان عليّ ترصّده أسبوعين أو ثلاثة فيُعرض في السينيماتيك أو في أحد نوادي السينما أو في قاعة من القاعات. وعندما ترجمتُ كتاب دولوز عن السينما [السينما الحركة، السينما الصورة] لصالح المنظمة العربية للترجمة في بيروت، سهّلت لي مشاهدتي في باريس عددًا كبيرًا من الأفلام التي حلّلها دولوز عمليةَ الترجمة.

وتولّعتُ بعدد من المخرجين الإيطاليين من أمثال: فيليني، وأنطونيوني، وبازوليني، وبرتولوتشي، وفيسكونتي مع ممثلين وممثلات مشهورين (صوفيا لورين، وكلوديا كاردينالي، وجينا لولوبريجيدا، ومارشيلو ماستروياني، لينو فانتورا…). وشاهدت كثيرًا من أفلام «الموجة الجديدة» الفرنسية لمخرجين كبار من أمثال: فرانسوا تروفو، وكلود شابرول، وآلان رينيه، وكلود لولوش، وجان لوك غودار، وإيريك روهمر، وجاك ريفيت مع ممثلين معروفين: (جان بول بلموندو، وجان مورو، وأنوك إيميه، وجان لويس ترنتينيان، وبريجيت باردو، وكاترين دونوف…).

وحضرت آنذاك عددًا من المسرحيات في المسارح الباريسية الكبرى (كمسرح الكوميدي فرانسيز، ومسرح الأوديون، ومسرح الشاتليه، ومسرح الكارتوشري في فانسين…) والمسارح الصغرى (كمسرح شارع موفتار، ومسرح المدينة الجامعية في بولفار جوردان، ومسرح الهوشيت…). حضرت مسرحيات كلاسيكية ومسرحيات من القرن العشرين: فيدر لراسين وكاليغولا لألبير كامو، ولن تقع حرب طروادة، ومجنونة قصر شايو لجان جيرودو وأنتيغونا لجان إنوي ورينوسيروس، والمغنية الصلعاء لأوجين يونيسكو، والخادمات والزنوج والشرفة لجان جينيه، وفي انتظار غودو لسامويل بيكيت، وثورة 1789م لأريان منوشكين التي عرضتها في مسرح الشمس في فانسين ودمجت الجمهور بالممثلين دمجًا ناجحًا ومؤثّرًا جدًّا… وشاهدت بعض عروض الماجيك سيركوس وعددًا من عروض الميوزك هول كـ«المسيح سوبر ستار». وأذكر أني بكيت في آخر مشهد من فِلْم موليير لأريان منوشكين الذي شاهدته في سينما الكندي في دمشق التي كانت تعرض أفلامًا حديثة ومهمة آنذاك، ولا سيما في الحفلات التي كان ينظّمها النادي السينمائي الدمشقي الذي كنت عضوًا من أعضائه.

ولأن مقاعد الأوبرا غالية، بالنسبة لطالب مثلي، فلم أحضر إلا عرضين أو ثلاثة. وأذكر أني حضرت حفلة موسيقية لميكيس ثيوذوراكيس في صالة المتواليتيه، بأغانيه الثورية البهيجة والطافحة بالتفاؤل التي ترجمتُ بعضَها لاحقًا إلى العربية. ولكن شغفي الأساس كان المكتبات، ولا سيما تلك الموجودة في الحي اللاتيني PUF, Payot, Seuil, Gallimard, Gibert Jeune, Larousse, Hachette, Nathan, Maspéro، أو القريبة من الحي كـ Hatier و Fayard وLaffont و Stock و Grasset و Flammarion… إضافة إلى مجمّع الـ FNAC الذي أنشئ لاحقًا والذي يجمع قدرًا هائلًا من الكتب والمجلات والصحف والأسطوانات. وكان أستاذي إيتيامبل مسؤولًا عن المقالات الأدبية في موسوعة يونيفرساليس التي بدأت تصدر تباعًا في بداية السبعينيات من القرن العشرين التي تُعَدّ من أهم الموسوعات الجامعية في العالم. كنت لا أستطيع أن أمنع نفسي من تصفّح الكتب الجديدة وشراء بعضها إن لم يكن سعرها غاليًا، وكنت أتحيّن فرص التنزيلات التي برعت فيها مكتبة جيبير جون بفروعها الثلاثة في الحي اللاتيني.

هذا شأن مكتبات البيع، فما بالك بمكتبات القراءة: مكتبة جامعة السوربون الجديدة، ومكتبة المازارين، والمكتبة الوطنية التي أصبح أستاذي أندريه ميكيل مديرها العام، ومكتبة الأدب المقارن في السوربون القديمة.

باريس المقاهي والمطاعم

هذا لا يعني أنني قضيت سنواتي الباريسية الأربع مع الأفلام والكتب فحسب كراهب بنيدكتي من القرون الوسطى. عرفتُ أيضًا باريس المقاهي والبارات والمطاعم. كان يطيب لي أن أسهر مع الأصدقاء في البروكوب الذي اندلعت منه شرارة الثورة الفرنسية، وأصعد أحيانًا درج الساكريه كور الطويل لأشرب في Le Lapin agile، أو أشدّ الرحال إلى الشانزيليزيه، حي الأكابر، لأشرب فنجان قهوة في الـ Fouquet ثم أزور صديقًا صحافيًّا يعمل في مجلة باريس ماتش المصورة الذي كان يهديني كثيرًا من الأسطوانات.

الحق يقال: إن باريس قد غيّرتني كثيرًا. قَدِمتُ إليها طالبًا خجولًا ذا أفق ثقافي محدود، ففتحت أمامي ثقافات العالم المعاصر، وعلى الثقافة العالمية بشتى اتجاهاتها. في باريس، تختار اللون الثقافي والأيديولوجي والاجتماعي الذي يناسبك. ولأن لون بشرتي غير مستهجن في أوربا، لم يوقفني البوليس الفرنسي إطلاقًا، كان يطلب أوراق من معي من المغاربة والأميركيين اللاتينيين والأفارقة. عشت الديمقراطية الأوربية التي كانت سائدة آنذاك في مدينة الأنوار بأبعادها كافة؛ وعندما كنت أعود إلى باريس لاحقًا، كنت ألاحظ التغيرات الفكرية والسلوكية في الشارع الفرنسي. تحوّل المجتمع الباريسي إلى مجتمع عنصري لا يقبل الآخر بسهولة، مع أن الشاعر الفرنسي آرتور رامبو كان يردّد: «أنا هو الآخر».