عبدالله آل عياف: تجارب السعوديين السينمائية تَعِدُ بالكثير وتعكس تنوع المجتمع

عبدالله آل عياف: تجارب السعوديين السينمائية تَعِدُ بالكثير وتعكس تنوع المجتمع

يتطرق المخرج السعودي عبدالله آل عياف رئيس هيئة الأفلام إلى آليات ووسائل تطوير صناعة السينما في السعودية داخليًّا، وصقلها بالمشاركات الخارجية والتعاون مع المهرجانات العالمية؛ وذلك بعرض الأفلام السعودية وتعريف الجمهور العربي والعالمي بالسينما السعودية، وبخاصة في ظل النقلة الكبيرة في بيئة صناعة الأفلام في المملكة.

كما يتحدث آل عياف لـ«الفيصل» عن مشاركة السينما السعودية ضيف شرف في مهرجان مالمو للسينما العربية، وعن الاستعدادات السعودية الجارية للمشاركة في أيام قرطاج السينمائية ضيف شرف أيضًا، وعن مستوى الأفلام المشاركة في هذه المهرجانات والتظاهرات العالمية التي تعكس تنوع المجتمع السعودي. ويؤكد آل عياف الطموح السعودي الكبير لتحقيق المزيد من المنجزات السينمائية، مشيرًا إلى الأثر الإيجابي الناتج عن احتكاك السينمائيين السعوديين بنظرائهم العالميين. ويتوقف عند الاحتفاء العربي والعالمي بالسينما السعودية الذي يعكس ثقل المملكة السياسي والاقتصادي والثقافي.

حراك داخلي وحضور خارجي

  تشهد السينما السعودية حراكًا متواصلًا، لكن ما يهمنا هنا هو الحراك الخارجي، فأصبح في كل مهرجان عالمي حضور نوعي للسينما السعودية، هل يمكن أن تحدثنا عن هذا الحضور وكيف يجري التنسيق له؟

  الفن السينمائي هو خلاصة العمل الجمعي صناعةً وتلقًا، والوصول إلى العالم يبدأ -من دون شك- من خطوة ترتيب البيت السينمائي المحلي داخليًّا. وحرصًا على التلاقح الثقافي وتبادل الخبرات، نعتبر المشاركات الخارجية ضرورة لها الثقل نفسه؛ لتمكين فرص التعاون الدولي لمجتمع الأفلام السعودي، كجزء يعكس الحراك الداخلي في القطاع، ويمده بالقيمة المعرفية والفنية والتقنية التي تعود على الصناعة الشابة للسينما السعودية، وذلك عبر عرض الأفلام السعودية لجمهور منوع، وبحث فرص الظهور للمواهب الوطنية، وجذب مشروعات الإنتاج للمملكة؛ كل ذلك يعكس صورة مشرقة للحياة والحراك الثقافي والتوجهات التنموية المنبثقة من رؤية المملكة 2030. وفي المدة الماضية كان للسينما السعودية حضورٌ تمثيلي في مهرجانات دولية عدة لإبراز المواهب السعودية، واستقطاب الكفاءات العالمية في مجال صناعة الأفلام تدريبًا وإنتاجًا، وبخاصة بعد النقلة الكبيرة في بيئة صناعة الأفلام في المملكة عبر منظومة حكومية داعمة وحافزة للصناعة، مثل: مهرجان كان السينمائي الدولي (٢٠٢١- ٢٠٢٢م)، ومهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (٢٠٢١- ٢٠٢٢م).

  حضرت السينما السعودية ضيف شرف في مهرجان مالمو، وقريبًا ستكون أيضًا السينما السعودية ضيف شرف على أيام قرطاج السينمائية، حدثنا عن ردود الأفعال على مشاركة مالمو، وعن استعداداتكم لأيام قرطاج السينمائية؟

  مشاركة السينما السعودية في مهرجان مالمو للسينما العربية كانت فاعلةً وسعدنا بأصدائها، حيث حفل برنامج «ضيف الشرف للمهرجان» بعروض لأفلام سعودية منوعة (خمسة أفلام روائية سعودية طويلة، وسبعة أفلام قصيرة)، وأقيمت ندوات متخصصة حول صناعة الأفلام في المملكة، وحظيت هذه العروض بحضور جماهيري متنوع من المقيمين العرب في السويد والجمهور السويدي والأوربي بشكل عام من زوار المدينة، والجميل أن برنامج ضيف الشرف ختم فعالياته بإقامة ليلة فنية متكاملة، وحضرها ضيوف المهرجان من صناع السينما في العالم العربي ودول الشمال الأوربي. وأود أن أشير إلى أن هيئة الأفلام رحبت بهذه المشاركة منذ البداية حيث يعد مهرجان مالمو أحد أكبر المهرجانات المخصصة للسينما العربية خارج العالم العربي، وحضورنا فيه هو مواصلة لحضور السينما السعودية على المنصات العالمية؛ سعيًا لبناء شراكات تسهم في رحلة بناء القطاع السينمائي في المملكة العربية السعودية.

أما بالنسبة لمشاركتنا في أيام قرطاج السينمائية فالاستعدادات جارية لبناء مشاركة تليق باسم المملكة والسينما الناهضة فيها؛ وبما يتناسب أيضًا مع هذا المهرجان العريق، ونتطلع لمشاركة مثرية من صناع الأفلام السعوديين ولجمهور وحضور المهرجان.

  كيف ترى مستوى الأفلام المشاركة في مثل هذه التظاهرات، من زاوية المخرج والمسؤول أيضًا؟

  مستوى الأفلام المشاركة هو مستوى واعد وحافز لصناعة حضور مميز وممثل للفِلم السعودي، ونطمح إلى وصول الإنتاجات السينمائية السعودية إلى مستويات أعلى. أستطيع القول: إنها تجارب تَعِدُ بالكثير، وتعكس تنوع المجتمع السعودي؛ وهذا في حد ذاته يحقق قيمة إضافية معرفية للعالم عنّا؛ حيث ستنمو هذه القيمة مع تسارع الإنتاجات في المستقبل، كما أنّ تلقّي الجمهور الخارجي لها مرحب ونهم للمشاهدة والنقد.

أؤكد أن الطموح كبير وأنا على ثقة كبيرة بالسينمائيين السعوديين لتحقيق المزيد من المنجزات السينمائية التي ستضع اسم المملكة في مكانة بارزة داخل خارطة السينما على المستويين العربي والدولي. ومن زاويتي كمخرج، فإني لطالما سعدت بمشاركة رأيي الفني الخاص لمن يطلبه من الزملاء، وهو بكل تأكيد رأي قد يحتمل خطأ الانطباع، أو صواب النقد.

اللحاق بالركب العالمي

  كيف ترى انعكاس هذه المشاركات على السينمائيين أنفسهم، عندما يكونون في مواجهة سينمائيين آخرين، لهم خبرة أكثر، وأعمال متميزة، وشُوهِدَت على نطاق واسع؟

  أعتقد جازمًا أنه انعكاس إيجابي وحافز على بذل المزيد؛ ناهيك عن عامل تبادل الخبرات والأفكار والرؤى مع نظرائهم السينمائيين الذين يلتقونهم في هذه المشاركات. إن المشاركات في المحافل الدولية تسهم في توسيع فكر السينمائي، وتخلق داخله تحديًا وإصرارًا للوصول إلى مستويات عليا؛ هذا الإحساس عند السينمائيين السعوديين أُومِنُ به عن قناعة؛ لأني أعرف أبناء وبنات بلادي، وأعرف مدى إصرارهم على تحقيق أكبر المنجزات.

  هل تحرصون على إشراك سينمائيين من مختلف التخصصات في هذه المشاركات للإفادة، أم إن المشاركات نفسها لا تسمح؟

  نعم بكل تأكيد؛ هذا توجه أصيل وثابت لدى هيئة الأفلام، وأُشرِكَ في المشاركات السابقة متخصصون من مختلف المجالات في القطاع من مخرجين ومنتجين وإعلاميين ونقاد وممثلين وكتّاب وغيرهم، وسيستمر هذا التوجه في المشاركات المقبلة، فالسينما صناعة تتكاتف فيها جهود متنوعة لكي ترتقي وتتطور.

  يوجد احتفاء كبير بالسينما السعودية من السعوديين والعرب، مثل هذا الاحتفاء الإيجابي والصادق ألا ترى أنه قد يؤثر في تطوير التجربة، سواء الفردية أو الجماعية، ما تعليقك على هذه المسألة؟

  نعم يوجد احتفاء مميز بالسينما السعودية، وهو في رأيي دافع للمواهب الصاعدة (على المستوى الفردي) في أن تلحق بالركب العالمي، وتتجه لتشكيل بصمتها الخاصة، ولثقل المملكة السياسي والاقتصادي والثقافي فإن الأنظار تتجه في مجال السينما لما يصنعه السينمائيون. كما أرى في الوقت نفسه أن هذا الاحتفاء يُعلِي من سقف البذل والتجويد (على المستوى الجماعي)، وأشير إلى عبارة مهمة وردت في سؤالك؛ وهي أن يكون الاحتفاء إيجابيًّا وصادقًا. الإيجابية تعني التعامل مع المنتج بإخلاص وعزم؛ حفزًا على الاجتهاد وتجنبًا للأخطاء.

  يرى متابعون أن بعض صناع السينما السعوديين، وخصوصًا من ليس لديهم حتى الآن تجربة واضحة، يطرحون أنفسهم كما لو أنهم قد صاروا نجومًا، وبخاصة عند السير على السجادة الحمراء والتقاط الصور، وأيضًا الحضور في المهرجانات. في رأي المتابعين أنه من الضروري تنبيه هؤلاء إلى أن المشوار لا يزال طويلًا على النجومية، بالنسبة لهم؟

  الظهور على السجاد الأحمر والتقاط الصور لا يرمز إلى النجومية، بل هو جزء من التجربة الفنية وحضور منصات العرض، والعبرة بالتجربة الفنية والنجاح الجماهيري والنقدي، فمن حق الموهوب الاحتفاء بمنجزه، وللجمهور المحلي ميزانه للحكم، ونحن نتعامل مع جمهور فائق الذكاء والوعي الفني والذوقي. طريق النجاح طويل ووعر، والمبدع الواعي يدرك ذلك.

  ما التحدي الأكبر الذي يواجهكم كهيئة وكسينمائيين عند تلقي دعوة المشاركة كضيف شرف في مهرجان من مهرجانات السينما العالمية؟

  نحن نسعد بمد جسور العلاقات السينمائية مع العالم تعارفًا وإنتاجًا، وبخاصة الدعم غير المحدود الذي يصلنا من قيادتنا الرشيدة، وسمو وزير الثقافة، ومعالي نائبه، ونحرص في كل مشاركة على بناء برامج مدروسة تمثل المملكة ومواهبها بأفضل صورة، يساندنا تمكن الزملاء والزميلات في الهيئة بعملهم الدؤوب تحضيرًا وحضورًا. ندرك أن سقف التوقعات عالٍ، وطموحنا أعلى، وبدعم الجميع سنتجاوز جميع التحديات.

فيصل السمرة: عملي الفني ليس منفصلًا عن فعلي الحياتي تشكيلي سعودي ميزت الجرأة والبعد الفلسفي أعماله

فيصل السمرة: عملي الفني ليس منفصلًا عن فعلي الحياتي

تشكيلي سعودي ميزت الجرأة والبعد الفلسفي أعماله

 

لا يتوقف التشكيلي السعودي فيصل السمرة عن التجديد الفني بتجارب ذات عمق فلسفي، مبتعدًا من التقليدية في العرض والتصور، ما يغير من النظرة الفنية إلى العمل، فهو يهدف إلى التعامل مع التصورات الحداثية لإنتاج التشكيل. فهناك تداخل مستمر في فن السمرة بين التصوير والنحت، للوصول به إلى صناعة تشكيلية تقلب موازين العمل وتصنيفاته التقليدية المتوارثة، وهو نمط من التجريب ما بعد الحداثي، الذي يعرض للناظر أعمالا، أو أجسامًا فنية، لا يمكن نسبتها إلى شيء خارجها.

عرض فيصل السمرة أعماله في عدد من المعارض الفنية، منها: معرض أقامته له جمعية الثقافة والفنون في الرياض عام 1974م ومعرضه في قاعة روشان الذي نظمته مؤسسة المنصورية عام 2000م. تدرب السمرة في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة والمعمار بباريس وتخرج منها عام 1980م بمرتبة الشرف، وعمل مصممًا للديكور في التلفزيون السعودي عامي 1980م و1981م ثم عاد إلى باريس للعمل مستشارًا للفنون الجميلة في متحف معهد العالم العربي ما بين الأعوام 1987م و1994م، كما أن له حضورًا كبيرًا في مجال المعارض الشخصية منذ عام 1974م وحتى اليوم، في العديد من الدول الغربية والعربية. «الفيصل» حاورته حول تجربته ومواضيع أخرى. 

● يبدو الطرح الفلسفي عنصرًا أساسيًّا في أعمالك الفنية. في رأيك إلى أي حد يمكن أن تخدم الفلسفة الفن؟

■ الفلسفة هي وسيلتنا في فهم الحياة بعمق وبالتالي نستثمر حياتنا المؤقتة في إفراز رؤية متصلة ومتجددة في كل زمن ومكان على حسب من يتناولها، والفن هو عيش تلك الحياة بكثافة من خلال رؤيتنا الفلسفية لها. وبما أني أرى أن العمل الفني هو امتداد طبيعي ومكثف لفعلي الحياتي فهو بالضرورة مرتبط برؤيتي الفلسفية. 

● تجمع بين المكونات المتناقضة من واقعية وافتراضية عند اشتغالك فنيًّا، فيشعر المتلقي لأعمالك بديناميكية مدهشة ينتمي معها إلى مكوناتك الفنية، فما هدفك من ذلك المزيج؟

■ في البدء كان المزج، الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من طين ثم نفخ فيه الروح ليصبح لدينا ما سمي إنسانًا، مزيج بين الروح ونقيضها، الجسد في حيّز معلوم ومحدد، لذلك الإنسان بعينه لا يشاركه فيه أحد، وله بما يسمى هالته اللونية الخاصة به، حتى عندما ينفصل النقيضان بالموت، ليعودا ويتساكنا مرة أخرى عند البعث.

كل الأشياء لا يتحقق وجودها إلا بوجود نقيضها، والأمثلة موجودة من الإنسان إلى كل الكون، الحياة والموت، الليل والنهار، السالب والموجب، الخير والشر، الحب والكره إلخ. وهكذا أيضًا، بطبيعة الحال، في عملي الذي، كما قلت، هو امتداد لفعلي الحياتي وبالتالي فهو لا بد أن يكون مزيجًا بين نقيضين لكي يتحقق. الكتلة وهي التجسيد المادي للفعل ونقيضها الفراغ وهو العدم أو اللافعل، ثم الضوء، بشطريه، الطبيعي والاصطناعي ونقيضه الظل بشطريه، ظل (سواد) الضوء وظل (سواد) الظل (اللون) فقط. وهناك الزمن بشطريه، زمن العمل الفني الداخلي وهو زمن مطلق، والزمن الخارجي المؤقت والمتغير في الوقت نفسه، يولد ويموت في اللحظة نفسها. في آخر اليوم، ليس للوجود وجود من دون وجود متناقضاته.

مواضيع تستفزني

● يلاحظ على أعمالك جرأتها الفنية والفكرية التي ربما دعت إلى السخرية منها ثم الإعجاب بها فيما بعد. ترى كيف يمكن للتشكيلي أن يتمسك بالجرأة الفنية الإبداعية التي يؤمن بها في مقابل محاولة جعله مألوفًا؟

■ الموضوع ليس له علاقة بالجرأة بقدر ما هو متصل بشكل عضوي بالصدق في القول والفعل. وكما ذكرت سابقًا، عملي الفني ليس منفصلًا عن فعلي الحياتي، فأنا لا أخطط لموضوع عملي وأعد مسبقًا ماذا سوف أطرح للنقاش في الأعمال والمشاريع المقبلة مثل إعداد نشرات الأخبار أو برامج الطبخ. المواضيع التي تستحوذ على مشاريعي الفنية هي امتداد لتلك التي تلمسني أو تجرحني أو تستفزني أو تثيرني في الواقع المحيط بي في لحظتها الحقيقية، وعليه فهي تفرض نفسها وتسكنني إلى أن تخرج في شكلها الفني الذي يمليه صميم حقيقة تلك المواضيع، وهذا انسحب على عملي حتى منذ طفولتي وأنا أرسم على الجدران، فما كان يتفاعل ويختمر بداخلي يطفح، بعد أن يصل للنضوج، على عملي «الفني». وإذا رجعت إلى جميع أعمالي ومشاريعي ستجدين أن ما ذكرته صحيح ومتطابق مع أقوالي وأفعالي وردّات فعلي، حول ما عايشته فنيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا، إلخ.

● حصلت على عدد من الجوائز عربيًّا وعالميًّا. ما أهمية تلك الجوائز التقديرية للفنان بشكل عام؟

■ قد تكون الجوائز حافزة، ولكن هذا لا يعني أنه، أي الفنان، لن يعمل إذا لم يأخذ جوائز، الأهم أنها تشعره بأن هناك من يقدر ما يفعل حتى إن كان ذلك لن يؤثر في عملية الإفراز الفني المعقدة لديه. 

● تعد من الفنانين السعوديين المجددين في أساليبهم وأعمالهم الفنية وفي تسميات لوحاتهم وطرق عرضهم ومعارضهم أيضًا. كفنان ماذا يمنحك هذا التجديد والابتكار بشكل مستمر؟

■ التحول أو ما تسمينه التجديد في الشكل الخارجي لعملي الفني، هو بالنسبة لي، عملية حتمية وطبيعية في الحين ذاته، لأنها تتناسب مع شخصيتي، ونفسيتي ومزاجي العام حسب المكان والزمان، تناسبًا طرديًّا، وكما نعلم دوام الحال من المحال. والأساس في عملي الفني، منذ أن بدأت كطفل «بالشخبطات» بالفحم على الجدران، لا شعوريًّا، حتى الآن، الشكل الخارجي متحول والحس الداخلي ثابت، على أساس نظرية الثابت والمتحول.

● تؤمن بمفهوم «الصناعة» التشكيلية في الفن لتأسيس علاقة مغايرة مضادة للطرق التقليدية في الصناعة الانطباعية المباشرة للوحة مثلًا. من وجهة نظرك ما قيمة الصناعة في الفن وما عوائده الإبداعية؟

■ ما تسمينه بـ«الصناعة» أسميه بـ«الفعل» وما أقصده هو تجسيد الفعل كشكل ومضمون، في الحين عينه، للعمل الفني وهو ما أظهرته بوضوح في مشروع «الطية» الذي عرضته في معرض شخصي في معهد العالم العربي/ باريس ١٩٩١م. الطية هي الأثر أو المنتج المادي لفعل الطي والزمن الذي استغرقه ذلك الفعل، ومجموع تلك الأفعال الصغيرة شكلت في النهاية العمل الفني. وهذا المشروع له قصة تتقاطع مع الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز وكتابه Le Pli. في واقع الحال أن الفعل، كان وما زال، له حضور قوي في عملي، سواء كان ماديًّا أو افتراضيًّا، وذلك، كما قلت في البداية، إن عملي الفني هو امتداد لفعلي الحياتي.

● تتخذ لدى عرض أعمالك الفنية أشكالًا وطرائق عرض مختلفة وغير مألوفة لعين المتلقي ومفاجئة لما اعتاده وعيه من طرق عرض تقليدية ذات قوائم وقوالب هندسية. ماذا تريد أن توحي للمتلقي؟ 

■ الإناء بما فيه ينضح، أنا لا أخترع طرقًا جديدة للعرض وما إلى ذلك بحثًا عن غير المألوف أو بما يسمى عندنا (جهلًا) التغريب، كل ما في الأمر أني أستمع بإحساس لما يطلبه العمل الفني بعد انتهائي من إنجازه وهذا لا يعني بالضرورة أنه وصل إلى الكمال أو الانتهاء فهو، عندي، لا يكتمل أو ينتهي أبدًا وإنما قد يكتفي، العمل نفسه يطلب وبالتالي يفرض طريقة تظاهره «عرضه» وكيف يريد أن يقدم نفسه وأنا أصبح مجرد منفذ لطلباته، فهو، أي العمل الفني، بعد خروجه من يدي يصبح كائنًا منفصلًا يعيش حياته بنجاحها وفشلها. وهذا الرد يرد، في الوقت نفسه، على موضوع التلقي والمتلقي، بمعنى أنه موضوع يخص العمل الفني ولا يخصني، فعندما نتلقى أو نشاهد عملًا فنيًّا، أيًّا كان، فإنه، أي العمل الفني، يستيقظ لنا ثم يعود إلى النوم بعد أن نغادره، وفي هذا الزمن ينجح أو يفشل في التأثير فينا، حسب المتلقي في الزمان والمكان.

المجاز في زمن الصحوة

● حدثنا عنك مع عملك الفني، وهل سبق وقررت تغيير فكرتك الفنية فجأة وأنت تعمل على إنجازها؟

■ عندما عدت إلى الوطن بعد إنهاء دراستي عام ١٩٨٠م كان قد بدأت لدينا، ما سمي فيما بعد، الصحوة كرد فعل لتطرف الثورة الإيرانية الخمينية التوسعية، وقد انتشرت الصحوة في غالبية الدول العربية والإسلامية السنية، ولكنها تركزت لدينا في السعودية، وذلك ما أدى إلى تشدد الرقابة الدينية والاجتماعية والسياسية على المنتج الثقافي والفني… مأزقي كان، في ذلك الوقت، هو كيف أنتج عملًا فنيًّا يتحاشى تلك الرقابة الصارمة وفي الحين نفسه، يحافظ على رؤيتي وشخصيتي الفنية التي جهدت وقاسيت الكثير من التعب والإهانة والسخرية من أجلها؛ للوصول إلى الإعجاب والتقدير، لكي يحصل مشروع تخرجي، «دراسات ميتافيزيقية – حبر على الورق»، على درجة الامتياز من أعرق مدرسة فنون جميلة في أوربا، وأساس ما تعلمناه هو ليس هناك رقابة وتابو في الفن، المهم أن ما يطرح يكون في صميم وخدمة الضرورة الداخلية للعمل الفني. كيف أقفز على موضوع التشخيص الذي كان العمود الفقري في عملي، فكنت أمزج بين التشخيص الواقعي المعتمد على الموديل والتحوير الفانتازي للوصول إلى الميتافيزيقا البصرية، كما أستعين لذلك في المزج بين الضوء الطبيعي والاصطناعي، وكان الحل الذي وصلت إليه «المجاز»، زرع تقنيتي، السابق ذكرها، ضمن رؤية مجازية واضحة ومستترة في الوقت عينه، «اللبيب بالإشارة يفهم». وقدمت أول معرض شخصي، بعد عودتي، بتلك الرؤية، في صالة روشان للفنون في جدة ١٩٨٥م، وعرضت فيه أعمالًا صريحة وصادقة ومفاهيمية في الوقت نفسه وصادمة كما نعتتها الصحافة في ذلك الوقت. وهي كذلك حتى مع مساحة الحرية التي لدينا اليوم فما بالك في تلك الأيام الشديدة، ومع ذلك فقد مرت من لجنة الرقابة التي تفحص الأعمال الفنية قبل أي معرض، والسبب أنه لا يوجد في العمل أي مخالفة لمصنفات الرقابة ولكنه كان يقول ماذا يريد بكل تحضر ودون وقاحة. 

أعتقد جازمًا، أن باب المجاز في الفن الذي فتحته في بداية الثمانينيات، وما زلت أنتهجه في عملي الفني، دخل منه الكثير من الفنانين الشباب الموجودين الآن، في المنطقة والوطن على وجه الخصوص. فبعد أن كنت فردًا واحدًا في عام ١٩٨٠م يدعو للتجديد والانتقال إلى ما بعد الحداثة في مقابل فناني التيار التقليدي المحافظ الذي كان يشكل كل المشهد الفني، أصبحنا نحن اليوم مع غالبية جيل الفنانين الشباب السعودي نشكل المشهد الفني والثقافي، وذلك يبهجني ولكن بتحفظ فما زال الطريق طويلًا وصعبًا أمامنا لكي نصل لما نستحق. وتحفظي لأني أخشى من التسرع والغرور. وهما الإحساسان اللذان أتجنبهما، أيضًا، عند تنفيذ عملي الفني. فخلال الحوار الجدلي المعقد مع فضاء ووسيلة العمل الفني، أيًّا كانت، ورقة، قماش لوحة، تركيبًا فراغيًّا ماديًّا أو صوتيًّا أو سمعيًّا، مادة نحتية، مشهدًا فوتوغرافيًّا ثابتًا أو متحركًا (فيديو)، تحدث أشياء و«مصادفات» كثيرة بعضها مفيد وحقيقي لتنفيذ العمل على أفضل نتيجة وبعضها الآخر ثرثرة زائدة ووهمية تثقل العمل وقد تأخذه إلى الفشل في النهاية، ولكنها جذابة في لحظة حدوثها فقط، وهنا تأتي مقاومة وتجنب التسرع، والاستغناء عن تلك المصادفات لصالح العمل، ولكنها تصبح تجارب يحتفظ بها لاستخدامها في عمل آخر تكون في مكانها المناسب. عادة يكون هناك إطار عام لمشروع العمل الفني الذي أعمل عليه، وفي داخل هذا الإطار هناك هامش كبير للارتجال والتجريب.

● ما رسالتك التي تريد توجيهها إلى مؤسسات الثقافة والفن الوطنية؟ 

■ أود أن أسجل استغرابي، فبعد أكثر من أربعين سنة في العمل الفني، وبعد مشاركتي في محافل فنية عربية وعالمية باسم الوطن منذ السبعينيات، التي حتى الوطن لم يكن يعلم بها، وما زلت أواصل عملي وحضوري على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، وذلك ما صنع، وما زال يصنع، جسدًا ضخمًا من العمل الفني الذي بحوزتي، ذلك عدا الأعمال المبيعة والمقتناة محليًّا وعالميًّا، إضافة إلى النصوص الفنية والنقدية الصحفية والوثائق والصور التاريخية، أستغرب أن كل ذلك لم يدفع إلى الآن أي جهة أو مؤسسة في الوطن لأن تهتم به وتقدر هذه الثروة الفنية الثقافية الوطنية. وأتساءل: لو كنت تابعًا لإحدى الدول الغربية، وهو الأمر الذي رفضته منذ شبابي هناك، ماذا كانوا سيفعلون لهذا المخزون الفني الثقافي؟ أريد أن أطرح هذا السؤال على من يهمه الأمر في الوطن، وما أنتم فاعلون وأنا في الستين من العمر، أم ننتظر، كالعادة، بعد الذهاب نكرم، هذا تأبين وليس تكريمًا. إن تحضُّر ورُقيّ أي أمة يقاس بمدى تقديرهم واحترامهم لمبدعيهم في أي مجال، ومحافظتهم على إرث هؤلاء المبدعين؛ لأنها الثروة الوطنية الحقيقية.

الصحافة السعودية: الحاجة إلى عقلية استثمارية مختلفة  وتعزيز مواقعها الإلكترونية

الصحافة السعودية: الحاجة إلى عقلية استثمارية مختلفة وتعزيز مواقعها الإلكترونية

مازن السديري

الجميع ليس متفائلًا على الإطلاق: كُتاب، ورؤساء تحرير، ومحررون، وأعضاء مجلس إدارة. غالبيتهم تُكرر الجملة الآتية: المستقبل مظلم جدًّا، والآثار الأكثر إيلامًا لم تأتِ بعد. ليس غريبًا أن تكون الصحف الورقية محليًّا وعالميًّا على حافة الفناء، لكن الأكثر غرابةً هو أن تلك الأرباح الكبيرة التي كانت تجنيها بعض الصحف، وقد تصل أحيانًا إلى نصف مليار ريال سعودي في العام لصحيفة واحدة، أصبحت هذه الأرباح مثل اللبن المسكوب الذي لم يستفد منه؛ لقد كان من الأجدر لهذه الصحف الثرية أن تُخضع بعض تلك الأموال الضخمة للاستثمار؛ كي تبني مستقبلًا صحفيًّا أكثر اطمئنانًا وأمانًا، عوضًا عن مواجهة مصير مأساوي مثل الذي تواجهه اليوم، لكن ما الذي منع الصحف الثرية من الاستثمار؟

المحلل الاقتصادي وابن أحد أكبر رؤساء التحرير في المملكة مازن السديري، ليس متفائلًا أمام واقع الصحف ومستقبلها محليًّا، وأكد في حديث لـ«الــفيصل» على أنه لا أحد يمكنه إنكار أن الصحف الورقية حاليًّا في أزمة على المستوى الماليّ؛ «إلا أن ما يميز بعضها مثل «الرياض» مثلًا، هو توافر السيولة المادية لديها التي تستطيع أن تستخدمها في أي وقت، وهذا غير متاح لكثير من الصحف الورقية»، مشيرًا إلى أن الأزمة التي تعانيها الصحف في الوقت الراهن ليست فقط أزمة غياب المُعلِن، «إنما أزمة على مستوى تنويع مصادر الدخل لتلك المؤسسة الصحفية، وإن كان هذا التنويع على مستوى مصادر الدخل كان حاضرًا في بعض المؤسسات الصحفية إلا أنه أيضًا لم يجد نفعًا كما حدث مع صحيفة «اليوم»، لقد كان أعضاء مجلس إدارتها هم في الأساس من رجال الأعمال وأصحاب تفكير استثماري؛ ففي الماضي القريب كان هناك حقائب اقتصادية استثمارية لها خارج إطار الإعلان، إلا أنها حاليًّا تعاني ما تعانيه الصحف المتبقية لكن بألم أقل».

السديري الابن لفت أيضًا إلى أن بعض الصحف «فكّرت في الاستثمار على مستوى شراء مطابع جديدة مثلما فعلت مثلًا «صحيفة الجزيرة» إلا أن هذا الاستثمار يعد هدرًا ماليًّا، ويعبر عن غياب عقلية تقرأ مستقبل الإعلام الورقي بشكل حقيقي!». ويقول: إن هناك بعض الصحف حاليًّا تحتاج إلى الإنقاذ المبكر؛ نظرًا لقرب موتها كصحيفة «الوطن» تليها «الشرق»، مؤكدًا أن الصحف «تحتاج فعلًا إلى عقلية استثمارية مختلفة؛ وأن ما يعنيه ليس الاستثمار على مواقع التواصل الاجتماعي أو الحسابات التويترية، إنما استثمار مختلف بمعنى إبداعي وحقيقي يخلق أُفقًا جديدًا».

تفكير ذو أفق قصير

عبدالله الكعيد

من جهته، يقول الكاتب الصحافي عبدالله الكعيد الذي كان يكتب في صحيفة الرياض، وخرج منها غاضبًا بعد سلسلة من التغريدات كتبها على حسابه الخاص: إن الإشكالية الحقيقية تكمن في مجالس إدارات هذه الصحف، «إنها لم تكن تفكر أصلًا على المدى البعيد؛ بل إن الجميع كان تفكيره ذا أفق قصير ولم يتجاوز كيفية تسويق الصحيفة على مستوى الإعلانات لدى المعلن». ويضيف الكــــــعيد لـ«الفيصل» أن مجالس الإدارة «لم تكن تأبه بمصير الصحف التي تقوم بإدارتها، لقد كان من الأجدى استثمار الأموال من الاحتياطيات التي تمتلكها هذه الصحف والموضوعة للتطوير وللأزمات، عوضًا عن أن يكون بعض من هذه الصحف ليس لديه الآن أرباح ولا استثمار»، موضحًا أن غالبية أعضاء مجالس إدارات تلك الصحف، جلّ ما يستطيعون فعله هو انتظار الأرباح «لإيداعها في حساباتهم الخاصة، ومن ثم يذهبون إلى بيوتهم آمنين مطمئنين. مجلس الإدارة ورئيس مجلس الإدارة المنتخب من الجمعية العمومية؛ من النادر أن يكون رجلًا اقتصاديًّا إنما هو مجرد إداري يدير مؤسسة فقط كغيره من المديرين في القطاعات الحكومية المختلفة! لا يوجد هناك أحد يفكر في الاستثمار في المعرفة الإعلامية رغم أهميتها، وهي بحاجةٍ إلى أُناسٍ متخصصين يفهمون كيف يستثمرون ويطوّرون تلك الصحف؛ كي لا تواجه أزمة مخيفة كما يحدث اليوم. كان رئيس التحرير في السابق هو من يدير المؤسسة وهو في الغالب يفتقر لعقلية صناعة المال!!».

حلول لا إنسانية

عبدالوهاب الفايز

رئيس التحرير السابق عبدالوهاب الفايز كان تعليقه مقتضبًا على ما يحدث من أزمة للصحافة الورقية؛ إذ قال لـ«الفيصل»: «من يديرون المؤسسات الصحفية الورقية لم يكونوا يستثمرون الأرباح السابقة، وهذا هو الذي دمّر الصحف. إنهم يأخذون الأموال ويضعونها في جيبوهم، وهو ما جعل مستقبل الصحف مخيفًا وخطرًا، وما سيترتب على ذلك يحتاج إلى حديث طويل، وتفنيد واستقراء يصعب اختصاره».

في حين أوضح نائب رئيس تحرير صحيفة عكاظ هاشم الجحدلي أن المشكلة التي تحدث الآن في الصحف «ليست من المُلَّاك وحدهم. يجب أن نعرف أن العقلية التجارية نفسها ما كانت عقلية استثمارية حقيقية، ومن ثم كان رئيس التحرير يريد مزيدًا من المكاتب لمحرريه، وتوزيع مكافآت للكُتاب مبالغ فيها، إلى جانب استكتاب كُتاب مجاملَةً، إضافة إلى تشييد مبانٍ هائلة كأن الصحف وزارات أو إمبراطوريات، كل ذلك أسهم في تفاقم المشكلة؛ من ناحية زيادة المصاريف؛ ففي عكاظ مثلًا كانت أرباح إحدى السنوات نحو 500 مليون ريال، وخُصم نحو 400 مليون ريال مصاريف على المنشآت التي قامت ببنائها والمكاتب التي أسستها».

وأشار إلى أن القائمين على الصحافة الورقية «كانوا يضعون في تفكيرهم أن خصمهم الوحيد والأوحد هو الصحف الإلكترونية؛ لذلك أخذوا بجهد وتكاليف قليلة استقطاب عقليات تقنية لإنشاء مواقع متطورة؛ كي يدخلوا في منافسة مع المواقع الإلكترونية، والذي حدث هو عكس ذلك تمامًا»، مؤكدًا أن الصحف الإلكترونية «هي نفسها أصبحت في المأزق نفسه؛ لأن الضربة أتت من مواقع التواصل الاجتماعي وليس من بدائل الصحف الورقية مثل المواقع الإلكترونية المتخصصة في الجانب الإعلامي». ويقول الجحدلي لـ«الفيصل»: إن خصم الصحافة الورقية الآن «هو خصم متجدِّد ومتغيرٌ، والصحف الورقية بكوادرها القيادية يجب أن تواجه المشكلة، وأن تعيد تكييف المصاريف، وأن تكون الحلول المقدمة حلولًا متّزنة وواقعية وليست حلولًا لا إنسانية، مثل فصل المحررين الذين أتت بهم الصحيفة وقدمت لهم عروضًا ماليةً مغرية وهم في السابق كانوا في وظائف أخرى».

وذكر أن إعادة تكييف المصاريف والروافد الأخرى يمثل أحد الحلول المهمة، علمًا بأن الإعلان لا يزال وسيزال قائمًا، وهو ركيزة أساسية من ركائز التجارة.

الحل الآن وفق رأي نائب رئيس تحرير صحيفة عكاظ، يجب أن يكون حلًّا بالشراكة، بمعنى أن يكون الإعلان الحكومي حاضرًا ومدعومًا، وأن تكون هناك مطابع تقام بالشراكة عوضًا عن أن تقوم كل صحيفة بإنشاء مطبعتها الخاصة التي تكلف الكثير من الأموال.

قينان‭ ‬الغامدي‭:  تواضع‭ ‬المضمون‭ ‬وراء‭ ‬انصراف‭ ‬القراء

قينان الغامدي

أفضل ما يمكن أن تفعله الصحافة الورقية في هذه الظروف أن تعزز مواقعها الإلكترونية، وتسلك في ذلك سبيل الصحافة العالمية النابهة التي تنمو بصورة سريعة إلكترونيًّا في مقابل استمرار هبوط توزيعها الورقي. هذا جانب والجانب الآخر هو ضرورة الاعتناء بالمضمون؛ إذ هو البطل بغض النظر عن وسيلة الإعلام سواء كانت ورقية أو إلكترونية.

تستطيع الورقية أن تواكب الحدث محليًّا وعالميًّا من خلال موقعها الإلكتروني، وتركز على الرأي والتحقيقات الاستقصائية وما وراء الأحداث في نسختها الورقية، حتى إذا حان موعد إيقاف الورق تنتقل الصحيفة بكاملها إلى وسيلة النشر الإلكتروني، وهي بكامل قوتها ولياقتها وحضورها.

الصحافة الورقية أضاعت حتى الآن زمنًا طويلًا من دون عناية بمواقعها الإلكترونية، ولا ننس تواضع المضمون الذي دفع القارئ إلى الإشاحة عنها والتحول إلى وسائل أقوى مضمونًا وأسرع توصيلًا. ولا أظن أن هناك اختلافات جوهرية كبيرة بين الصحف العربية والخليجية والسعودية، فهي في المستوى نفسه تقريبًا من حيث الرتابة وعدم الالتفات للقفزات التي تحدث من حولها في مجالات وسائل التواصل والصحف الإلكترونية.

صحافي وكاتب سعودي

محمد‭ ‬التونسي‭: ‬ليست‭ ‬الحال‭ ‬سيئة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد

محمد التونسي

ثمة فرص، وليست فرصة واحدة، لتحافظ الصحافة الورقية على علاقتها بالقارئ والمعلن معًا. المحتوى سيد الموقف، به تنهض الوسيلة أو تقع، ليست الحال سيئة إلى هذا الحد بالنسبة للصحف الورقية، فالمعلن لا يزال يثق بها، والقارئ يبحث عنها. الفارق الآن هو هامش المنافسة الذي خلقته وسائل التواصل والمنصات الإلكترونية التي تتفوق بالسبق الخبري، لكن الأشكال الصحفية الأخرى لا تزال حية وقادرة على إيجاد مكان لدى القارئ. وإن كان من فكرة غير المحتوى لتجويد المنتج، فهي بلا شك الحافزات البصرية في الإخراج، والصورة، والإنفوغرافيكس، إلى جانب ربط الورق بالمنتجات الإلكترونية الأخرى للوسيلة.

‎لم تنتهِ الصحافة الورقية بعد لنتحدث عنها بصيغة الراحلة، وإن كانت بعض الصحف تمادت في اعتقادها بعدم وجود منافس، وهو ما أثر في أرقام التوزيع، لكنها حتى اللحظة لا تزال لاعبًا أساسًا في الإعلام. ‎القارئ الواعي موجود في كل بقعة من العالم، وهو ما تراهن عليه الوسيلة الإعلامية، تتشابه الوسائل ويتقاطع بعضها مع بعض، لكنها تختلف وفقًا لشكل المحتوى جغرافيًّا. النسخة الورقية من الصحف صارت متاحة للقارئ في أقاصي الأرض، وهو ما يحفز على البحث عن فرص في أسواق مختلفة. تبقى الصحافة السعودية المساحة الأوسع نظرًا للتنوع المجتمعي والجغرافي قياسًا بنظيراتها في الخليج، التي بذاتها أكثر استقرارًا من الصحافة العربية التي تخضع للمزاج السياسي، في حين يشترك جميعها في إشكالية التمويل، وإيجاد منافذ جديدة للاستثمار والربح.

رئيس تحرير صحيفة الرؤية الإماراتية

خالد‭ ‬الفرم‭: ‬الصحافة‭ ‬السعودية‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬الفردية‭ ‬في‭ ‬الإدارة

خالد الفرم

أولًا لا بد من الإشارة إلى أن المقياس الرئيس في تقييم أي وسيلة إعلامية هو معدل التوزيع، ولا شك أن متغيرات المشهد الإعلامي والتقني أثرت بشكل كبير  في  توزيع الصحف السعودية التي تراجع  توزيعها إلى أكثر من ٥٠٪  كما فقدت أكثر من ٦٠٪ من  مداخيلها الإعلانية، والأهم من ذلك هو حاجة المجتمع إلى نظام إعلامي فاعل، يحقق وظائفه الرئيسة، نحو توفير المعلومات وربط المجتمع بعضه ببعض وتعزيز الثقة، فنقص المعلومات في النظام الإعلامي يسهم في انتشار الشائعات والقلق الاجتماعي وحالة عدم اليقين، ومغادرة الجمهور نحو الإعلام البديل بعيدًا من الإعلام الوطني. الصحافة  الورقية تواجه تحديات عدة، ليست بسبب سطوة التقنية وهيمنة شبكات التواصل الاجتماعي، بل بسبب هشاشة البنى الصحفية، وتغير اقتصاديات الإعلام، وضعف إدارة المؤسسات الإعلامية، وبخاصة مع غياب الصحافة الاستقصائية، وهيمنة الأداء التقليدي في السياسات التحريرية للصحف الورقية التي تنتظرها تحديات الإفلاس وشبح الإغلاق خلال سنوات معدودة. والتوجهات الحديثة في صناعة الصحافة المعاصرة هي التركيز على الصحافة الاستقصائية، والتحول نحو التخصص بالمعنى الجغرافي والموضوعي، وكذلك الاستثمار في الإعلام الجديد من خلال دمج المنصات وغرف الأخبار.

الصحافة السعودية أضاعت على نفسها فرصة تأسيس صناعة صحافية وإعلامية راسخة، فسقطت في فخ الجمود والفردية في إدارة المؤسسات الصحفية، وهو ما أحدث  تشوهات حادة في أداء المؤسسات الصحفية التي انعكست سلبًا على الصحفيين الذين هم العنصر الرئيس في العملية الإعلامية، وكذلك انعكست على الأداء والمنتج الصحفي.

هناك تشابه بين الصحف السعودية والخليجية والعربية في التحديات، واختلاف في المعالجات، فالكثير من المؤسسات الصحفية الخليجية أو العربية مؤسسات إعلامية شاملة، تمتلك قنوات وصحفًا وإذاعات ومواقع إلكترونية ومطبوعات متعددة، ومن ثم فهي سلَّة من الاستثمارات الإعلامية، وهو ما يتيح لها هامشًا كبيرًا من الحركة بالمعنى الإعلامي والاقتصادي، بعكس الصحف السعودية أحادية الاستثمار والمنتج.

أكاديمي وإعلامي سعودي