أوديب، هل هو قاتلُ أبيه فعلًا؟ من عقدة أوديب إلى عقدة جوكاست

أوديب، هل هو قاتلُ أبيه فعلًا؟

من عقدة أوديب إلى عقدة جوكاست

صدر للمحلِّل النفسي والناقد الأدبي المعاصر بيير بيار كتابٌ جديدٌ في نوفمبر 2021م، بعنوان: «أوديب لم يكن مُجرِمًا» (Pierre Bayard : 0edipe n’est pas coupable, Les éditions de Minuit, Paris, 2021). ويتصدَّر الكتاب تنبيهٌ: هذا الكتاب روايةٌ بوليسيةٌ، ولا ننصح بتصفّح الصفحات الأخيرة التي تحتوي على حلٍّ للغز… وبهذا التنبيه ينتمي هذا الكتاب إلى سلسلة الكتب التي أصدرها بيير بيار في السنوات الأخيرة، وهي كلها حول الروايات والمحكيات البوليسية، وتتميّز بما يأتي: أولًا، يأتي الكتابٌ النقديُّ بوصفه شيئًا وسطًا بين التخييل والتنظير، فالمتكلم داخل الكتاب النقدي هو ساردٌ لا يمثِّل الكاتبَ بالضرورة. ثانيًا، يؤدي السارد دور محقِّقٍ جديدٍ يعيد التحقيق من جديد في قضيةٍ أسالت كثيرًا من المداد، ويثير السؤال من جديد: هل المجرم في ذلك المحكي هو فعلًا هذا الذي سلَّمنا به منذ سنين أو منذ قرون؟ وهو بهذا السؤال، يعيد كتابة المحكي من جديد، وكأنه يكتب محكيًّا جديدًا (رواية جديدة كما في تنبيه هذا الكتاب). ثالثًا، وهو بهذا كلّه يؤسِّس نقدًا جديدًا يسمّيه: نقدًا تدخّليًّا: نقدٌ لا يبحث عن منح النصِّ معنًى، بل إنّه يتدخّل من أجل تصحيح معلومةٍ بحثًا عن الحقيقة.

في استهلال الكتاب، يسجّل بيير بيار أن مقتل لايوس على يد ابنه أوديب في مكان يتقاطع فيه طريقان لم يكن مجرد حلقةٍ من حلقات الأدب الإغريقي، ولن نبالغ إذا اعتبرناه أساسًا من أسس الثقافة الغربية. وفوق ذلك، فإن مقتل لايوس لم يكن وراء ميلاد أشهر عقدةٍ في التحليل النفسي على يد سيغموند فرويد فحسب، بل كان وراء ظهور أحد أكبر المفاتيح القادرة على تفسير السلوكات النفسية والإنتاجات الثقافية. لكننا إذا أعدنا قراءة نصّ سوفوكل -يقول بيار- بالقليل من الانتباه، وفي ضوء العلوم الحديثة والنظريات النقدية المعاصرة، فإننا سنخلص إلى شيئين: الشكّ في قدرة أوديب على ارتكاب هذه الجريمة، وضرورة فتح تحقيقٍ جديد.

ما قبل الحكاية: الجريمة والعقاب

من أجل تحقيقٍ جديدٍ، لا بدّ –في نظر هذا المحقِّق الجديد- من العودة إلى ما قبل الحكاية التي يحكيها سوفوكل، أي لا بدّ من استحضار حكاية آباء أوديب وأجداده. وأهمّ شيءٍ في تلك الحكاية هذا الجزء الذي أهمله النقاد والمفسّرون والمهتمّون: كان لايوس شابًّا عندما اختفى أبوه لابداكوس، وعُهِد بالوصاية إلى جدّه، لكنّ المتمرّدين استولوا على مملكة طيبة، فكان لزامًا على لايوس أن يفرَّ هاربًا، طالبًا اللجوء من بيلوبس، ملك بيزا، هذا الذي استضافه وكرَّمه، بل كلَّفه بمَهمَّة خاصّة: تربية أحد أبنائه: كريسيب.. وما ننتظره من لايوس الهارب طالب اللجوء، الذي استضافه بيلوبس وكرَّمه، هو أن يردَّ الجميل، وأن يؤدي مَهمَّة التربية على أحسن وجه؛ إلا أنّ ما وقع لم يكن في الحسبان: اغتصب لايوس الفتى ابن الملك بعد أن وقع في حبّه، فانتحر الفتى شنقًا، خوفًا من العار!… وكان بيلوبس يلعن لايوس، ولأنه قريبٌ من الآلهة، فقد طلب من أبولون أن ينتقم له من لايوس، فكان العقاب هو ما يأتي: إذا أنجبَ لايوس ابنًا في يومٍ من الأيام، فإن هذا الابن هو الذي سيقتله وسيتزوج أمَّه: وهكذا، فمأساةُ أوديب كانت قد بدأت قبل حتى أن يولَد! والسؤال هو: كيف اختفت جريمةُ لايوس، ولم يعد يستحضرها أحد؟ ولماذا ترسّخ مقتل لايوس على يد ابنه أوديب في الذاكرة الجماعية؟ وهل يمكن أن نفهم تراجيدية أوديب دون استحضار هذا السياق العام؟

ما يصعُبُ تفسيره هو أن لايوس قد قرّر الزواج من جوكاست، ابنة مينوس، بل أنجب منها ابنًا، على الرغم من تنبيه- عقاب الآلهة الذين لا يمزحون! لكن أمام هذا التهديد، قرَّرَا، ربَّما، التخلُّص من هذا الوليد، تجنُّبًا للعقاب.

وهكذا، قاما بتقييد كاحليه، وطلبا من أحد الخدم، الراعي، أن يحمله بعيدًا، وأن يربطه بجذع شجرة حتى تفترسه الوحوش.. وعندما عاد الراعي من دون الابن الملعون، اعتقد لايوس وجوكاست أنهما قد تخلَّصا نهائيًّا من لعنة الآلهة؛ لكن الواقع أن الراعي قد صادف في الجبل راعيًا ينتمي إلى قصر كورنت، ففضّل أن يعطيه الطفل على أن يقتله.. وأوديب، من جهته، قد نشأ في قصر كورنت، ولم يكن هناك من داعٍ ليضعَ أصلَه ونسبَه موضع سؤال، فهو وريث المُلك في هذه المملكة، ولم يكن على علمٍ بلعنة الآلهة.. فنحن لا نعرف شيئًا عن طفولة أوديب، لكن حَدَثَ أن قال رجلٌ مخمورٌ للطفل، على مائدة الطعام: إنه ابن «أبٍ مجهول»، والتفت الطفل إلى أبويه اللذين تبنّياه، لكنهما لم يكذّباه، وإنْ كانا قد أظهرَا غضبهما.. وبعد ذلك، سينشغل أوديب بالسؤال عن أصوله، وسيسافر طلبًا للجواب عن أسئلته، وسيعرف أن الآلهة قد حكمتْ بأنْ يقتل أباه ويتزوج أمّه؛ ولأنه كان يعتقد أنّ مَنْ في قصر كورنت هما أبواه، فقد قرّر الابتعاد والتوجّه إلى مكانٍ آخر: وفي الطريق إلى طيبة، شاءت الأقدار أن يلتقي أوديب ولايوس في اليوم نفسه والطريق نفسه!

كان أوديب وحده، وكان لايوس محاطًا برجالٍ آخرين، وما صدّقناه على مدى قرون أن أوديب قد قضى عليهم جميعًا، وكأنَّ الجزء الأول من عقاب أبولون قد جرى تنفيذه! وعلى أبواب طيبة، وجد وحشًا كان يفترس كلَّ مَن عجز عن حلِّ ألغازه؛ ولأن أوديب قد نجح في حلِّ اللغز الذي طرحه عليه هذا الوحش، فقد حقّق بذلك أشياء عدّة: كان نجاحه في الجواب سببًا في موت الوحش، وفي تخلّص أهل طيبة من وحش يهدّد حياتهم منذ مدّة؛ ومن أجل مكافأته، وبخاصّة بعدما علموا بموت ملكهم لايوس، فقد جعلوه ملكًا عليهم وزوّجوه من الملكة جوكاست.. ويبدو الآن كأنّ عقاب أبولون قد تمَّ وتحقّق كاملًا!

يمكن أن نفترض أن أوديب قد عاش سنواتٍ سعيدةً في طيبة، وأنجبَ من جوكاست أربعة أبناء، لكن ذلك لم يدم طويلًا، فقد أصاب الوباء المدينة، وهناك مَن طلب من أوديب أن ينقذ المدينة مرّةً ثانية! فأرسل أوديب أخا جوكاست، كريون، ليسأل ممثِّل الآلهة ما العمل لإنقاذ المدينة.. وكانت إشارة أبولون إلى مقتل لايوس الذي لم يتوضّح بعد، فقرّر أوديب أن يفتحَ تحقيقًا جديدًا.. وأشار إليه أحدهم بأن يسأل العرّاف الأعمى، تيرسياس؛ هذا الذي واجه أوديب متَّهِمًا إيّاه بأنه هو المجرم، مع التلميح إلى علاقته المحرَّمة مع جوكاست.. وفي هذا الوقت، وصل شيخٌ من مملكة كورنت يحمل خبرًا أسعدَ أوديب: لقد مات الملك بوليب الذي كان يعتقد أوديب أنه أبوه الحقيقي، وتعود سعادته إلى أنه يعتقد الآن أنه لم يقتل أباه الذي مات موتة عادية.. لكن الشيخ الرسول أكّد له عدم وجود أيّ قرابة بينه وبين ملك كورنت، وأنه طفلٌ متبنًّى، وأنه هو نفسه ذلك الراعي من كورنت الذي تسلّم الطفل من راعي طيبة وحمله إلى الملك بوليب.. وهكذا، لم يكن أمام أوديب إلا أن يستدعي راعي/ خادم الملك لايوس الذي كان قد أعطى الطفل إلى راعي كورنت.. وقبل أن يستمع أوديب إلى هذا الراعي، جاء مَن يخبره بأن جوكاست قد انتحرت شنقًا، فقام أوديب بلوم الراعي الذي أنقذه من الموت، وقام بفقء عينيه، قبل أن يطلب من كريون، أخي جوكاست، أن يتولى الملك مؤقتًا، وأن يتولى العناية بأبنائه!

ملحوظات حول الجريمة الأصلية

يسجل بيير بيار أن شيئين أساسين لا يؤخذان بعين الاعتبار عندما يتعلق الأمر بمأساة أوديب: ما قبل أوديب كما وضحنا آنفًا، ثم ما بعد انتحار جوكاست وعمى أوديب، وما حصل لأبنائه بعد ذلك: لقد كرَّس سوفوكل مسرحياتٍ أخرى للمراحل اللاحقة لِمَا بعد ذهاب أوديب، وقد وصلتنا مسرحيتان مهمّتان: لقد ذهب أوديب رفقة ابنته أنتيغون إلى كولون، وأصبح شيخًا.. وابنته الأخرى، إسمين، لم تكن معه، لكنها ظلت في علاقةٍ معه، متورّطة في الصراع الدائر حول المُلك بين أخويها، إيتيوكل وبولينيس.. وإذا أخذنا بعين الاعتبار، هذا الاقتتال بين الأخوين حول العرش، وما حدث لأنتيغون، وما حدث للمدينة، فلا بد أن نستخلص أن لعنة الآلهة على مدينة طيبة وأهلها لا تزال قائمة، على الرغم من موت جوكاست وعمى أوديب وموت ثلاثة من أبنائه ووفاة زوجة كريون.. ويجري كلُّ شيءٍ كأنَّ الجريمة الأصلية، اغتصاب لايوس لِفتًى سينتحر بعد ذلك، لا تزال تمارس تأثيراتها الخطيرة في أهل طيبة..! وهنا لا بدّ من تحقيقٍ جديدٍ حول مقتل لايوس.

بيير بيار

ينطلق بيير بيار من أنّ النصَّ الإغريقيَّ يسمح بقراءاتٍ أخرى غير التأويل المهيمن؛ ومن أجل قراءةٍ مغايرةٍ، لا بدّ من تسجيل ملحوظاتٍ: تتعلق الملحوظة الأولى بالعقاب: هناك حكمٌ من الآلهة بأن يقتل أوديب أباه لايوس، لكن إذا كان الابن قد قتلَ أباه فعلًا، فلماذا تحكم الآلهة من جديد بالوباء على المدينة وأهلها، ألا يعني ذلك أن هناك حلقة مفقودة هي التي تفسّر هذا الحكم المزدوج الذي يبدو من دون معنًى؟ لماذا سيغضب أبولون على المدينة وأهلها وينشر فيهم وباءً قاتلًا إذا كان عقابه قد تحقّق: مقتل لايوس؟.. لكن لا بد أن نعود إلى قراءة العقاب جيّدًا وحرفيًّا: أنْ يَقتلَ الابن، أوديب، أباه، لايوس! وهذا الأخير هو مقتولٌ فعلًا، لكن يبقى السؤال: هل أوديب، الابن، هو مَن قَتلَ أباه فعلًا؟ أهناك مَن تولّى مَهمّة القتل ظانًّا أنّ مقتل لايوس كافٍ لإسكات غضب الآلهة؟ تكشف هذه الأسئلة السرَّ الخطير الذي تأسَّس عليه تاريخُ الحضارة الغربية.

وتتعلق الملحوظة الثانية بحدثٍ جرى حكيه بطريقةٍ مزدوجةٍ: اللقاء بين لايوس وأوديب: حكاه أوديب نفسه الذي ظنّ أنه عاش ذلك اللقاء؛ وحكته جوكاست كما سمعتْ عنه من خادمها. ويبدو في الظاهر أن المحكيين يقولان الشيء نفسه: رجلٌ بمفرده يلتقى رجلًا آخر راكبًا عربته ومحاطًا برجاله، وكان الطريق ضيقًا، ونشب صراعٌ حول أسبقية المرور استطاع من خلاله الرجل المفرد القضاء على السائق ومن معه.. لكن الملحوظ أن ساعة وقوع الحدث غير دقيقة والمكان غير مضبوط أيضًا؛ وفوق ذلك فإن عدد الأشخاص ليس متشابهًا في المحكيين؛ قال أوديب: إنه قتلهم جميعًا، في حين تقول جوكاست: إن هناك واحدًا فرَّ هاربًا هو الشاهد على ما وقع! كما يمكن أن نتساءل: أرجلٌ واحدٌ هو مَن قتلَ لايوس أم إن لصوصًا -كما تقول جوكاست- هم من هاجموا لايوس؟ أمن الممكن أن يقع حدثان متشابهان في اليوم نفسه، وهو ما جعل أوديب يعتقد أنه قاتل لايوس؟ لكن لماذا طلب الخادم من جوكاست أن تبتعد وأن تختفي؟

وتتعلق الملحوظة الثالثة بأوديب نفسه، باسمه خاصّة؛ اسمه مرتبطٌ بالعلامات التي يحملها على رجليه منذ قيّده الأبوان، وهو وليد، حتى لا يتمكّن من المقاومة.. وأوديب الشخصية المنتفخة الأرجل مذكورة في المسرحية ثلاث مرّات بطريقةٍ لا تطابق فيها بين نوعية الجرح.. لكن في الأحوال كلّها، يبقى السؤال مطروحًا: هل بإمكان رجلٍ معوقٍ يشكو من عيبٍ في رجليه أن يتمكّن من قتل ملكٍ ورجاله؟ والسؤال الأخطر: كيف يمكن أن نفسِّر أنّ جوكاست لم تتعرَّف إلى ابنها، الذي يحمل علامةً خاصّةً جدًّا، عندما حضر إلى قصر طيبة؟ هناك أكثر من دليلٍ على أنّ جوكاست كانت تعرف منذ البداية مَن هو هذا الغريبُ الذي تزوجها وصار يحكم طيبة. والسؤال الأساسُ هنا: لماذا التزمت جوكاست الصمتَ؟

أصابع الاتهام وحل العقدة

هناك شخصيات يمكن أن توضع موضع اتهام: الأولى هي تريسياس، العرّاف الذي اتّهم أوديب بقتل لايوس؛ لكن هل يملك تريسياس وسائل من أجل قتل لايوس؟ أليس قريبًا من الآلهة، ويملك وسائل فوق طبيعية؟ المشكلة أنه لا يكره لايوس، بل يحقد على أوديب الذي استطاع النجاح فيما فشل فيه هو: حلّ لغز الوحش على أبواب المدينة! وماذا عن كريون، ألم يتّهمه أوديب بتآمره مع العرّاف من أجل الاستيلاء على عرشه؟ أليس البحث عن السلطة هو سبب الجرائم كلها؟ لكن كريون جلس على العرش أكثر من مرّة (بعد موت لايوس، بعد مغادرة أوديب إلى منفاه، بعد اقتتال الأخوين..)، ولم يكن قط شديد التعلّق بالسلطة والحكم.

ويبقى أن القاتل هو آخر شخص رأى الضحية حيّةً قبل موتها: الراعي خادم قصر طيبة هو الوحيد الذي بقي حيًّا بعد أن مات لايوس ورجاله! والسؤال هو: لماذا لم يكن موضوع بحثٍ دقيقٍ والحالُ أنه الوحيد الذي بقي حيًّا؟ ولماذا لم تُوَجَّه إليه الأسئلة المُهمّة عندما حضر إلى القصر؟ والسؤال الأكثر أهميةً: هل يملك هذا الراعي الوسائل المادية من أجل قتل لايوس؟ يمكن أن نفترض أن الراعي قد استفاد من عنصر المفاجأة وهو ضروريٌّ في مثل هذه العمليات؛ فقد تعرّف إلى الأمكنة من قبل، واختار المكان المناسب، وقرّر أن يفاجئ الضحايا بطعنهم في ظهورهم؛ وفي إطار الاستعداد، كان من الممكن أن يستعين برجال آخرين حتى ينفذ المهمة على أحسن وجه.. لكن يبقى السؤال: ما الدافع الذي دفع الراعي إلى قتل ملكه؟ أيكون منفِّذًا لأوامر شخصٍ آخر؟

الملحوظُ أنّ جوكاست كانت لا تنفكّ تكذب طوال المسرحية، وبخاصّة في ثلاثة مواضع أساس: لقد كذبت حين زعمت أن لايوس هو من أمر بإبعاد الطفل أوديب وقتله، والواقع أنها وحدها من اتّخذت هذا القرار، وأعطت طفلها للجلاد من أجل قتله، على عكس ما اعتقدته القراءات اللاحقة للمسرحية! وكانت كذبتها الثانية بخصوص الجرح في رجلَيْ أوديب، فقد زعمت أنهما كانتا مربوطتين بطريقةٍ عادية، والواقع أنهما كانتا مصفّدتين بطريقةٍ سادية! والكذبة الثالثة أن جوكاست كانت تعرف دومًا أن الراعي الذي كُلِّفَ بإبعاد طفلها وقتله، وأن الشاهد على مقتل لايوس، ليسا في النهاية إلا شخصًا واحدًا! ولا بدَّ من إضافة كذبةٍ رابعة: كانت جوكاست تعرف أن هذا الذي صار ملكًا على طيبة بعد مقتل لايوس، هذا الذي تزوجها، لم يكن إلا ابنها! من الضروريّ أن نستحضر هذه العلاقات الخاصّة بين جوكاست وخادمها الراعي: فهو الذي كلَّفته بقتل طفلها، وهي الوحيدة التي تلقَّت شهادة الخادم بخصوص مقتل لايوس!

ولا بد من استحضار شيئين أساسين بخصوص جوكاست: أنها من سلالة كانت على العرش قبل أن يستولي آباء لايوس على طيبة وعرشها، وبلا شك، وربّما عن غير وعي، فهي تضمر، منذ صغرها، الكراهية لمن استولوا على عرش آبائها وأجدادها! والشيء الثاني أن هناك رغبة تستحوذ على شخصية جوكاست: تريد أن تحمي نفسها وأهلها وشعبها بأيّ ثمن؛ ولذلك كانت تتصرف وتتخذ القرارات التي تراها ضرورية: إبعاد طفلها الملعون وقتله من دون علم أبيه لايوس الذي تزوج وأنجب على الرغم من لعنة الآلهة وعقابها الذي ينتظره؛ وإنْ كنا لا نعرف متى علمت جوكاست بأن خادمها لم يقتل طفلها، لكن هذا الأمر نفسه هو الذي استغلّته ففرضت على هذا الخادم أن يقتل لايوس إذا ما أراد أن يكفّر عن ذنبه هو الذي كان قد عصى أوامر سيدته ولم يعمل على أن يموت الطفل.

وفي الحالتين، كانت جوكاست تبحث عن إسكات غضب الإلهة: في البداية، كانت تظن أن إبعاد الطفل الملعون وقتله كافٍ لإرضاء الآلهة؛ وفي النهاية، كانت تعتقد أن قتلَ لايوس هو الحلُّ من أجل أن تتخلَّص المدينة من لعنة الآلهة وعقابها؛ لكن الآلهة لم تتردد في إنزال عقابٍ جماعي على المدينة بأكملها، على الرغم من مقتل لايوس.. وعندما فتح أوديب التحقيق من جديد في مقتل لايوس، كانت جوكاست تعرف كل شيء، فهي من دبّر العملية وأمرَ بها، لكن لم يكن من الممكن أن تتدخّل وأن تعترف علانيةً: الاعتراف بمحاولة قتل طفلها الصغير؛ الاعتراف بأنها هي من أمرتْ بقتل زوجها؛ الاعتراف بأنها كانت على علمٍ بأنّ الملك الجديد الذي تزوّجها هو ابنها! وبدلَ الاعتراف، اختارت الانتحار! وبموتها، لم يعد لوباء الطاعون من وجود في المدينة: فبعد موت جوكاست، لم تعد المسرحية الأولى، ولا الثانية ولا الثالثة، تتحدث عن الوباء! جوكاست هي التي كان من الضروري أن تؤدي الثمن، لأنها تدخلت بطريقةٍ تمنع من تحقق عقاب الآلهة كما ينبغي له أن يكون!

الجريمة الحقيقية

الخلاصة الأساسُ التي لا بدّ من تسجيلها: ما يوجد في قلب مسرحية «أوديب الملك» ليس هو جريمة قتل الأب، بل جريمة قتل الابن؛ ذلك لأن مسرحية سوفوكل غارقةٌ في هذا الاستيهام الخاصّ بجريمة قتل الابن: لأن لايوس قد كان سببًا في موت طفل ملكٍ آخر، فلذلك جرَّ على نفسه، وعلى شعبه، لعنة الآلهة وعقابها. وفي قلب المسرحية، هناك هذا الأمر الذي أصدرته جوكاست -بعلم لايوس أو بغير علمه- بأن يموت طفلها الذي أنجبته! وبهذا، فإن مسألة قتل الابن هي الجريمة المركزية، وتبقى مسألة قتل الأب ثانوية في المسرحية: هناك تلك الفكرة التي تقول: إن الطفل يمكنه قتل أبيه، لكن الفكرة الأكثر عنفًا التي لا تقبلها الذوات ولا المجتمعات هي: أنْ تَقتلَ الأمُّ طفلَها، أو أن يَقتلَ الأبُ طفلَه!

في الواقع، إن جريمة قتل الطفل هي المهيمنة في الميثولوجيا الإغريقية! لقد استطاع فرويد من خلال عقدة أوديب أن يبتكر مفهومًا مهمًّا جدًّا: التناقض الوجداني (ambivalence): لقد وضّح فرويد أن بإمكانك أن تحمل مشاعر متناقضة تجاه الآخرين، وركَّز على مشاعر الأطفال تجاه الأبوين، وبخاصة مشاعر الابن تجاه أبيه. لكن السؤال هو: ألا نجد الآباء بمشاعر متناقضة تجاه أبنائهم؟ ألا يكره الآباء أبناءهم؟ وفي الواقع، أيستحيل الحديث عن عداء الأمهات للأبناء؟ لا بد من توسيع نظرية فرويد، إذا كان الأطفال يحملون مشاعر متناقضة تجاه آبائهم، فإن الآباء يحملون، هم أيضًا، مشاعر متناقضة تجاه أبنائهم؛ وإذا كانت عند أولئك رغبةٌ في قتل آبائهم، فإن عند هؤلاء رغبةٌ في قتل أبنائهم أيضًا.. ولا بدَّ من إغناء الجهاز المفهومي عند فرويد بأن نضيف إلى عقدة أوديب مفهومًا تكميليًّا: عقدة جوكاست للدلالة على عدوانية الآباء، الواعية أو اللاواعية، تجاه أبنائهم: أي للدلالة على أن جزءًا مهمًّا من حياتنا اللاواعية يمكن أن يُوَجَّهَ ضد أقاربنا، وأطفالنا على وجهٍ خاصٍّ..!

الرواية والحبّ.. حضور الجنس في روايات الكاتبات وقصصهن هو ما يصنع الحدث اليوم في آدابنا العربية

الرواية والحبّ.. حضور الجنس في روايات الكاتبات وقصصهن هو ما يصنع الحدث اليوم في آدابنا العربية

لا شك في أن روايات الحب قد تعرضت، منذ زمن غير قليل، للإبعاد أو الإهمال، وصارت روايات المتعة والجنس الأكثر حضورًا وهيمنة. والسؤال الذي يشغلنا هو: أين تكمن قوة الأدب: أفي كتابة الحب والعشق أم في كتابة الجنس والمتعة؟ ما الذي تصعب -أو تستحيل- كتابته: الحب أم الجنس؟ ربّما أن الحجج التي تسند هذا النزوع إلى إبعاد روايات الحبّ قد تكون مقنعة، وبخاصة لطبقات القرّاء الآتية:

الرجال الراشدون الذين خبروا الحياة، واكتسبوا من التجارب ما يسمح لهم بأن يطلبوا من الرواية أن تهتمّ بأشياء جدّية وصلبة، لا بمسائل ترتبط بالشعور والطيش والشباب وانعدام التجربة.

القراء الذين ملّوا حكايات الحبّ المتشابهة: في كل زمان ومكان، هناك رجل يجري وراء امرأة، وهناك دومًا هذا البحث السعيد أو الحزين عن النصف الآخر المفقود. وهذه اللعبة التي تعاد في كلّ مرة لا تشغّـل في العمق إلا عددًا محدودًا من التوليفات والتجارب التي استنفد الأدب الشعري والسردي صورها.

الرجال والنساء الذين يريدون من الحبّ أن يتحرر من رومانسيته، وأن يسترجع فعل الحب جوانبه الواقعية والطبيعية، وعناصره المادية والملموسة، بلغة تقول الجسد والجنس والمتعة واللذة، لا بلغة تضفي نوعًا من الأسطرة على فعل الحبّ، وتصوغه صوغًا مثاليًّا فوق إنساني، متعالية على وجوده المادي الملموس.

للردّ على هذه الحجج، يمكن أن نستحضر ردود الناقد المعاصر بيير لوباب في كتابه الذي صدر سنة 2011م حول تاريخ روايات الحب(1)، فنتساءل: ماذا لو كانت الرواية أصلًا جنسًا أدبيًّا غير جدّي، يرتبط بالطيش واللعب والشباب أكثر من ارتباطه بالرشد والجدية والنضج؟ ماذا لو كانت الرواية نوعًا أدبيًّا طائشًا مرتبطًا «أصلًا بانعدام التجربة وبانفعالية الشباب، وبخاصة عند البنات الشابات…»(2)؟ هل يمكن للبالغين الراشدين الذين يفهمون الحياة على أنها مصالح، أن يقتنعوا بما تعلمه روايات الحبّ للشباب؛ أن الحب هو الشيء الأكثر أهمية في الحياة؟

وللرد على من يفضلون كتابة الجنس والمتعة على كتابة الحب والعشق، يمكن أن نستحضر ما يقوله أحد أكبر مُنظِّري الحب في هذا العصر، المحلل النفسي جاك لاكان. ففي نظره، الحبّ علاقة؛ ولذلك فهو يقودنا في تجربة جوهرية إلى معرفة الاختلاف، إلى لقاء الآخر. أما في الجنس، فإنه «لا وجود لشيء اسمه العلاقة الجنسية»(3)؛ ذلك لأنه في الجنس يكون كل واحد من الطرفين منشغلًا بمتعته، صحيح أن هناك جسد الآخر، لكن المتعة هي دائمًا متعتك، فالجنس لا يجمع بل إنه يفرّق. فأن تكون عاريًا ملتصقًا بالآخر هو صورة أو تمثل خيالي، والواقع هو أن المتعة تحملك بعيدًا، بعيدًا جدًّا، عن هذا الآخر.

Claire Legendre

وعلى العكس من ذلك، فإنه داخل الحب تحاول الذات اقتحام «كينونة الآخر»، ففي الحب تذهب الذات أبعد من ذاتها، بعيدًا من نرجسيتها. في الحب، الآخر هو الغاية، فعلاقة الحب تفرض عليك أن تسير نحو الآخر، أن توجد معه، أن يشاركك وجودك. وبهذا المعنى، لن يكون الحب مجرد قناع متخيل لواقع الجنس والمتعة، بل هو تجربة فريدة من نوعها تقودنا إلى اكتشاف المجهول والمختلف: الآخر.

والحب، بهذا المعنى اللاكاني، لا يمكن أن يفسّر علميًّا كما كان يظن فرويد، ولا جدوى من التفاسير العلمية النظرية كما يذهب إلى ذلك بعض الباحثين المعاصرين(4)؛ ذلك لأن الحب لا يمكن أن نتحدث عنه، كما قال أفلاطون، إلا من خلال حكي الحكايات.

وإذا كان صحيحًا أن الروائيين قد حاولوا منذ قرون بناء وصف كامل للحب، فتناولوا شروط ميلاده، ومدته الشديدة التغيّر، وآثاره واضطراباته المتغيرة، وما يخلقه من سعادة أو تعاسة، وما يلقاه من رفض أو قبول من مؤسسات المجتمع… إلا أن الأصح، في نظر بيير لوباب، أن الرواية، وعلى عكس التراجيديات القديمة أو التحليلات النفسية الفرويدية، لا تعتقد أن الأحاسيس المتعلقة بالحب هي أحاسيس أزلية ثابتة، ومن هنا فهي لا تكفّ عن استثمار الوقائع الجديدة، مستخدمة تقنيات سردية غير مسبوقة قادرة على أن تأخذ في الحسبان الأشياء التي لا تزال مجهولة بخصوص شيء اسمه: الحبّ.

ومع كل ذلك، نفترض أن أفضل ردّ على من يستبعد روايات الحب لصالح روايات الجنس، هو أن نتأمل بعض النماذج الروائية المعاصرة: نموذج روائي نسائي مغربي ونموذج روائي نسائي فرنسي. ونحن نحرص على أن لا يشتمّ من كلامنا أيّ موقف أخلاقي ما من الجنس؛ لأن الموقف هنا ليس من الجنس في حدّ ذاته، بل من كتابة الجنس مقارنة بكتابة الحب، أو الأدق من نوع معيّن من كتابة الجنس، وبخاصة تلك الكتابات التي تكتب الجنس بوصفه حاجة بيولوجية، وتكتبه بلغة تقريرية مباشرة جافة: أي أن المسألة المطروحة هي مسألة الكتابة؛ ذلك لأن السؤال الذي يشغلنا هو: أيّ واحد من العنصرين، الحب أم الجنس، يفتح آفاقًا جديدة أمام إشكالية الكتابة؟ متى يكون التخييل قويًّا متدفقًا مدهشًا: أمع الحبّ أم مع الجنس؟ ما الذي تستحيل كتابته، أو نجد صعوبة في الحديث عنه: الحبّ أم الجنس؟

تشخيص مباشر للجنس

اللافت للنظر في السنوات الأخيرة نزوع الكتابة إلى تشخيص الجنس تشخيصًا مباشرًا ومكشوفًا، وهذا النوع من الكتابة يعرف اليوم تزايدًا ملحوظًا، في الغرب كما في الشرق، عند الكتّاب كما عند الكاتبات، مع الإشارة إلى أن حضور الجنس في روايات الكاتبات وقصصهن هو ما يصنع الحدث اليوم في آدابنا العربية كما في الآداب الأجنبية.

وسنكتفي في هذا المقام بمقاربة نموذج من الأدب الفرنسي المعاصر؛ لأنه الأكثر تعبيرًا عن استحضار الجنس بمعناه البيولوجي، وبخاصة في الروايات النسائية التي تنزع إلى تسجيل الجسد والجنس بشكل مكشوف ومفصّل وفاضح، مزيلة كل الطابوهات التي تتعلّق بـ«حياء» المرأة بخصوص الجسد والجنس. ويمكن أن نستحضر هنا كاتبات من مثل: Claire Legendre – Virginie Despentes – Catherine Millet – Raphaela Anderson – Chatherine Breillat – Christine Angot – Clotilde Escalle – Alina Reyes…

وفي هذا النوع من الروايات، نجد الجنس مكتوبًا بطريقة بورنوغرافية خالصة، وذلك بانتهاك كل الطابوهات التي تعلقت بالجسد داخل الأدب، وبخاصة جسد المرأة الذي كان أخرس في التراث الأدبي ولم يكن له الحقّ في الكلام. وفوق ذلك، فالأمر يتعلق بروايات لم تعد تقدم جسد المرأة بوصفه موضوعًا للرغبة الجنسية، بل بوصفه هو الآخر ذاتًا للرغبة، ومن هنا نجد هذه الروايات ترفض عدَّ جسدِ المرأةِ مجردَ حقل للحدث أو فراغ للملء أو لحم للأكل، مركّزة على كتابة شهوانية الجسد النسائي المكبوتة.

وقد أثارت كاثرين مايي Catherine Millet ضجة كبيرة سنة 2001م بروايتها: الحياة الجنسية لكاثرين م. (5)La vie sexuelle de Catherine M، ففي هذه الرواية تقصّ كاثرين حكايتها الجنسية. وبهذا وبغيره، عدَّ النقاد الفرنسيون الرواية الأكثر وضوحا بخصوص الجنس، لم تكتب امرأة مثلها من قبل.

فاتحة مرشيد

والواقع أن القارئ يجد نفسه في البداية أمام كتابة جديدة مغايرة لما ألفه في الآداب الرومانسية. ففي هذه الرواية، كما في مثيلاتها، يسترجع فعل الحبّ والجنس جوانبه الواقعية والطبيعية، المادية والملموسة. وهي بهذا تقدّم كتابة لا تخفي جنس موضوعها، وتعمل على انتهاك الصمت الذي تحيط به تجربة الجنس، وبجرأة غير مألوفة في تاريخ الأدب.

ومع ذلك كلّه، يشعر القارئ أن شيئًا ما ينقص هذه الرواية الجريئة، المحمودة جرأتها والمطلوبة في مجال كالأدب. ولا شك أن سبب هذا الشعور أن الرواية مكتوبة بتقنية باردة، يتحول معها الجنس إلى تجربة إكلينيكية مكتوبة بلغة فقيرة، أي إلى فعل ميكانيكي لا يتألف إلا من مجموعة من الحركات وردود الأفعال. وبعبارة أوضح، فالرواية توظف الجنس في معناه الغريزي البيولوجي بالشكل الذي يجرّده من ذلك العمق أو ذلك الغموض الذي نفترض أنه الأكثر فاعلية عندما يتعلق الأمر بالأدب والكتابة.

ومن أجل توضيح هذه الفكرة، نقدّم ملاحظتين مركزيتين، تتعلق الأولى بالجنس في هذه الرواية، وتتعلق الثانية بالذات الممارسة للجنس كما تتقدّم في الرواية نفسها:

أ ــ يبدو أنه من خلال إزالة الحجاب عن الأجساد في حميميتها، ومن خلال العرض المباشر للممارسات الجنسية، يفقد الجنس في رواية كاثرين مايي تعقيده وغموضه؛ أي أنه يفقد ما يجعل منه لعبًا وانخراطًا في الوقت ذاته، وما يجعل منه تعبيرًا عن الإثارة الغريزية وتمظهرًا للرغبة الإنسانية، وما يجعل منه خليطًا من الغريزة والاستيهام. وفي كلمة واحدة، يجد القارئ هذه الرواية كأنها تفتقر إلى ذلك الشيء الآخر الذي ينتمي إلى نظام الواقع وإلى نظام الغرابة في الوقت نفسه.

وبهذا المعنى، يمكن أن يستخلص القارئ أن هناك انفصالًا بين الجنس والرغبة في هذا النوع من الكتابة التشخيصية للجنس. فالكاتبة الفرنسية كاثرين مايي تتحدث عن حياتها الجنسية كأيّة ممارسة أخرى، كممارسة لم تعد لها أية علاقة بالرغبة. وهي تعلن أنها تعدّد من شركائها الجنسيين، على نحو يجعلها لا تتمكّن أبدًا من إشباع رغبتها ولذّتها.

ومن هنا تأتي ملاحظات النقاد النفسانيين الفرنسيين حول الرواية مناسبة، فعلاقة كاثرين بالجنس علاقة شراهة، أي أنها من النوع الذي يستهلك غذاءه بكمية كبيرة إلى الحدّ الذي يجعلها لا تدري ما تأكله. ويبدو كأن كاثرين «تتقيّأ» الرجال الذين استهلكتهم، فهي مصابة بالتخمة. وككلّ أكول فاقد شهوته إلى الطعام، نجد كاثرين بحاجة إلى حركة مزدوجة: الابتلاع والتقيّؤ، وذلك من أجل التحكّم في فراغها والإحساس بالحياة من خلال الغذاء المستهلك والمقيّأ، وهو ما يجعل كاثرين تبدو كأنها بحاجة إلى رجال باستمرار من أجل التحكّم في فراغها الداخلي. وفي جميع الأحوال، يواجه القارئ حركة مزدوجة متناقضة بشكل صارخ؛ ذلك لأنه إذا كان الاستهلاك يمنع الرغبة من الظهور، فإن هذه الرغبة تصير، من خلال التقيّؤ، مخنوقة بالتغذية الزائدة عن الحاجة.

وهكذا، فالجنس حاضر في هذه الرواية بوصفه حاجة لا بوصفه رغبة. وإذا كانت الحاجة تتميز بالاستيعاب والاستهلاك، فإن الرغبة بالعكس تبدأ من هنا حيث الإشباع ليس مباشرًا، من هنا حيث الذات تواجه الواقع والآخر والممنوع والاختلاف. فالحاجة تتطلب بالضرورة أن تكون مشبعة، ويأتي إشباعها من استهلاك موضوعها، أما الرغبة فهي لا توجد إلا بدءًا من اللحظة التي تتخلّى فيها عن اعتبار موضوعها شيئًا للاستهلاك. وموضوع الرغبة الجنسية بالأخص شيء غير قابل للاستهلاك، فهي رغبة لا تظهر إلا في اللحظة التي تدرك فيها الذات الراغبة أن الآخر يملك ما لا تملك، وأنّه مختلف عنها، فالآخر هو من لا يمكن أن تكونه الذات، ولهذا فالآخر هو من يحيل على نقصان الذات وفقدانها، وهو في الوقت ذاته من يمكنه أن يتقدّم على أنه يستطيع أن يملأ هذا النقصان. وبهذا المعنى، فالرغبة تتغذى من فعل أن الآخر لا يمكن أن يكون لي كلية، فهو موضوع الرغبة، لكنه ليس موضوعي.

والكتابة، في معناها الأصيل، لا يمكن أن ترتبط بالحاجة، بل إنها ترتبط بالرغبة. فالرغبة بوصفها فقدانًا متواصلًا هي، على حدّ تعبير ت. تودوروف، الموضوع الجوهري الخاصّ بالأدب، فبكلامه عن الرغبة التي تشكو فقدانًا يستمر في الحديث عن نفسه.

أشياء وأدوات بلا هوية

ب ــ بعد قراءة الرواية، يجد القارئ نفسه أمام مفارقة؛ حيث يلاحظ غياب البعد الذاتي في رواية كاثرين مايي، أي غياب الذاتية الملازمة لكلّ رغبة، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالشخوص الأخرى موضوع الجنس، فهي تتقدّم بوصفها مجرّد أشياء وأدوات من دون هوية، من دون أسماء، من دون وجوه. ومن ناحية أخرى، سيلاحظ أن الكاتبة في روايتها السير-ذاتية تريد أن تجعل من الكتابة فضاءً تعرض فيه الذات في كامل حميميتها، حيث إن هذا العصر هو عصر نشر الحميمي من دون خجل، وعصر الانكشاف وانتهاك الممنوعات، عصر ينظر إليه بعض النقاد النفسانيين على أنه زمن استيهام جديد: الذات الشفافة. والسؤال الذي يطرحونه هو: هل يمكن أن تكون هناك في الواقع ذات شفافة بالكامل؟ وهل يمكن للذات أن تقول كلّ شيء عن ذاتها؟

ومن هنا يمكن أن نفترض أن هذا الخطاب الروائي المعاصر، الذي يبدو أنه يتحدث عن الممنوع والحميمي، عن الجسد والجنس، لا يفتح فضاء للجنس داخل الكتابة والأدب، قدر ما يتعلق الأمر بقلق داخل الجنس، بقلق داخل المتعة واللذة. وبعبارة أخرى، يمكن القول: إن الفضل يعود إلى هذا الأدب في أنه يبوح بكل المتع واللذّات، لكن هناك شيء ما ينفلت من الكلام. فعندما نقرأ رواية كاثرين مايي، سنلاحظ أن هناك شيئًا ما يُحكَى، ويتعلق الأمر بنوع من الصمت: صمت القلق الذي يغلف المتعة نفسها.

روايات نجحت في كتابة الحب

أفترض أن بعض الروايات المغربية المكتوبة باللغة العربية، التي صدرت مؤخرًا، قد نجحت في أن تكتب الحب، بالمعنى الذي يفيد العلاقة بالآخر، ويدفع الكتابة في اتجاه لقاء بالآخر. وأقترح عليكم الوقوف قليلًا عند رواية: لحظات لا غير، الصادرة سنة 2007م، للشاعرة الروائية فاتحة مرشيد(٧). فهي، في افتراضي، رواية نجحت، إلى هذا الحدّ أو ذاك، في العبور من الأنا إلى الآخر. وبمعنى آخر، فمن خلال علاقة الحب، في هذه الرواية، تقود الكتابة الذات إلى لقاء آخرها، الآخر الموجود في الخارج والموجود في الداخل أيضًا.

ينبغي لنا أن نوضح أولا عبارة الآخر. في المعاجم اللغوية، تفيد عبارة «الآخر» أن شيئًا ما ليس مثيلًا، أي أنه مختلف أو غريب أو مميّز، فالآخر ليس هو الأنا، وليس هو الذات (Petit Robert). واصطلاحًا، يتحدد الآخر بأنه شخص مختلف عن الأنا، واختلافه يتحدد بالنظر إلى الذات، فالآخر لا يمكن أن يوجد إلا من خلال اللقاء أو الصدام بالأنا، والأكثر من ذلك، أن الآخر Autre,autre,، هو، في التحليل النفسي، وبصفة عامة، كل ما أو من يحدد الذات، من الداخل أو من الخارج(7).

وفي رواية : لحظات لا غير، نجد الآخر بهذا المعنى الخارجي، فالآخر هو ذلك الشخص الآخر الذي يختلف عن الذات، كما نجده بالمعنى الداخلي، فالآخر هو هذا الغريب في دواخلنا، أو هذه الأنا الأخرى التي نجهلها أو نتجاهلها، والتي توجد بداخل الذات نفسها. نسمي الأول الآخر الخارجي، وهو يستتبع الاشتغال بما معنى اللقاء بالآخر الخارجي. ونسمي الثاني الآخر الداخلي، ويستتبع الاشتغال بالمقصود بلقاء الآخر الداخلي.

3 ــ 1 ــ الكتابة واللقاء بالآخر الخارجي

تتأسس رواية: لحظات لا غير، على بنية ثنائية مزدوجة مؤسسة على لقاء بين فردين، شخصيتين، الطبيبة النفسانية أسماء، ووحيد، الأستاذ الجامعي والشاعر الذي حاول الانتحار. وهكذا، نكون في البداية أمام محللة نفسانية وأمام مريض هو موضوع التحليل يشاركان معًا في جلسات تحليلية ـ نفسانية. هما معا يتكلمان ويتحاوران، يتحدث المريض عن الشيء الذي أتى به إلى هذه الجلسات، أي عن ألمه، وتحاول الطبيبة تحليل شخصيته والنفاذ إلى أعماق لا وعيه من أجل الوصول إلى علاجه.

وهكذا، فالعنصر الأساس والضروري الذي لا بد منه للجلسات من هذا النوع، وللقاء بالآخر من هذا الشكل، هو الحوار: وهو يحتل جزءًا مهمًّا من الرواية، وبأشكال متعددة: هو حوار شفوي مباشر بين الطبيبة ومريضها، أو حوار رسائلي عبر البريد الإلكتروني، أو هو تبادل للرسائل والقصائد والقصص، أو هو مونولوج أو صمت..، إلى حدّ يمكن معه القول: إن الحوار عنصر بنائي أساسي في هذه الرواية، بل إن الكتابة تتقدم كأنها الوسيلة الوحيدة لمواصلة الحوار مع ذلك الآخر، الذي رحل ومات، ولم تستمتع معه الذات إلا بلحظات لا غير.

والحوار هو الذي سمح للطبيبة بأن تكتشف بأن مريضها ليس من ذلك النوع العادي الذي يرتاد عيادتها. إنه مختلف واستثنائي، وبخاصة في ردوده وأجوبته وحواراته. يتعلق الأمر بأستاذ جامعي، يساري، شاعر، درس بفرنسا، متزوج من أجنبية، ينتمي إلى جيل الأسئلة والقضايا الكبرى، ومحاولته الانتحار هي التي أتت به إلى لقاء الطبيبة، لكنه على حد تعبير الطبيبة نفسها: «لا يترك لي مجالًا لممارسة خبراتي المهنية. وكأنه يحاول إشعاري بقدراته على فهم النفس البشرية» (ص21).

ولأن شخصيته متميزة، وبخاصة في حواراته، وبفضل كتاباته وأشعاره، فقد تحول اللقاء الطبي بين الطبيبة ومريضها إلى لقاء حب وزواج، بشكل جعل الطبيبة تتمرد على تقاليد وأخلاقيات الطبّ النفسي التي تمنع أي علاقة حبّ بين الطبيب ومريضه، وكأن التحليل النفسي قام أصلًا ضد الحب!

من الأسئلة التي تدعو إلى التأمل باستمرار: ما معنى اللقاء بالآخر في الحب؟

نكتفي بإشارة واحدة تتعلق بهذا الذي يولده حبّ بين فردين: أن يشكلا معًا زوجًا، والزوج هو جمع بين فردين كل واحد منهما هو في لقاء بالآخر، وهو ما يستدعي أن نتأمل التفاعلات التي تستتبعها فكرة الزوج، أي فكرة اللقاء بالآخر داخل الحبّ.

ينبغي لنا أن نسجل أن صورة الزوج، بمعنى الثنائي، حاضرة بقوة، وبوجه سلبي، داخل الرواية: ففي الواقع، فشلت كل علاقات الزواج (الطبيبة وزوجها الطبيب الجراح، وحيد وزوجته الأجنبية)، والزوج، أي الثنائي، الوحيد الذي يبدو أنه الصورة المثالية لكل لقاء بالآخر داخل الحب، هو الزوج الذي يتألف من أسماء ووحيد، لكنه الزوج الذي لم يستمر إلا لحظات لا غير، بعد رحيل الحبيب بسبب مرض عضال، وتبدو الكتابة في النهاية كأنها نشيد شعري يتغنى بهذا الزوج، الثنائي، المثالي المفقود!

ولا شك في أن فكرة الزوج، بهذا المعنى، هي التي تفسر لماذا جاءت الكتابة مؤسسة في شكل بنيات مزدوجة: سرد/ شعر، قصة/ رواية، مونولوج داخلي/ رسالة، كلام/ صمت… بشكل يدفعنا إلى عدِّ الآخر هو النص الآخر، هو الجنس الآخر، ويدفعنا إلى إعادة النظر في مفهوم التناصّ، وإخراجه من معناه التقني المحدود الإشكالية، ومعالجته في بعده النفساني، بوصف التناص هو أولًا وأخيرًا لقاء بالآخر وتفاعل معه.

وفي ختام حديثنا عن هذا اللقاء بالآخر، في معناه الخارجي، ينبغي أن نسجل أن هذه الرواية: لحظات لا غير، هي من تأليف الطبيبة أسماء، هذا ما نكتشفه في نهاية الكتاب، حيث تنتهي الرواية من حيث بدأت، فلولا رحيل ذلك الآخر، ذلك الوحيد من نوعه، لَمَا خرجت هذه الرواية إلى الوجود، مع الإشارة إلى أن الرواية تصرح في أكثر من مكان أن وحيد هو الذي أعاد الطبيبة إلى الكتابة، أو الأصح، بفضل الآخر عادت الكتابة إلى الطبيبة.

3 ــ 2 ــ الكتابة واللقاء بالآخر داخل الذات

يستدعي اللقاء بالآخر، بمعناه الخارجي، لقاء بالذات. وفي هذه الحالة، يصبح الآخر هو تلك الأنا الأخرى التي توجد في داخل الذات. واللقاء بالآخر، بهذا المعنى، هو الذي يدفع الشخصية الروائية إلى السؤال عن هويتها، والبحث في/ عن ذاتيتها.

في رواية لحظات لا غير، وبفضل خصائص هذا الآخر الخارجي الوحيد من نوعه، ستنقلب الأدوار، وستتحول الطبيبة إلى مريضة/ موضوع التحليل النفسي، ويتحول المريض/ المحلَّل (بفتح اللام المضعَّفة) إلى طبيب نفسي/ محلِّل (بكسر اللام المضعَّفة)، إلى حدّ جعل الطبيبة النفسانية تتساءل: «كيف أعادتني حصص علاجه إلى نفسي؟ أتراني أحلّله أم أنه يحللني؟» (ص 35).

الطبيبة أسماء إنسانة في نهاية الأمر، امرأة عرفت عدة انكسارات (فشل في الزواج، المرض،…)، وهذا اللقاء بآخر مختلف، أي وحيد، وبالرغم من أنها الطبيبة وهو المريض، فإنه اللقاء الذي دفعها إلى أن تواجه في داخلها أناها الأخرى، المقموعة والمكبوتة والمستورة، ولهذه الأنا الأخرى أوجه عدة: الأنا الكاتبة المستورة التي لولا وحيد لَمَا عادت إلى الظهور، المرأة العاشقة التي لا تزال، على حد قولها، ورغم انكساراتها، تحلم «كما الصبايا برجل يختزل كل رجال العالم» (ص 40)، المرأة المثقفة الإنسانة التي تتمرد من أجل أن تعيد للحياة المهنية وللحياة عامة بُعْدَها الإنساني في أَجْلَى صُوَرِهِ: الحُبّ!

وبهذا المعنى، فالآخر الداخلي هو الوجه الخفي من هويتنا، ونحتاج إلى ذلك الآخر لكي نتعرّف إلى أنفسنا، أي إلى هويتنا الأصلية. والآخر، بهذا المعنى، هو المرآة التي من خلالها نتعرف إلى صورتنا الأخرى، من خلالها نمارس التفكير في ذواتنا، ونحدد هويتنا، بشكل أفضل وأعمق. وهذا المعنى الثاني للآخر في هذه الرواية هو ما التفت إليه مؤسس التحليل النفسي س. فرويد في مقالته عن «الغرابة المقلقة»، وهو ما كرست له جوليا كرستيفا كتابًا كاملًا تحت عنوان: (Etrangers à nous-mêmes 1988). وسواء استحضرنا مقالة فرويد أو كتاب كرستيفا، فإن رواية فاتحة مرشيد تكشف أن لقاء الآخر، في معناه الثاني، لقاء يضع الأنا أمام الوجه الخفي، المقموع والمكبوت، من هويتها. ولا شك أن ظهور ذلك الآخر فينا يساعدنا على اكتشاف الغرابة الموجودة في دواخلنا، وهي بلا شك غرابة مقلقة، قد تقلق الذات نفسها، وتدفعها إلى طرح أسئلة مزعجة: «هل الطبيب يمرض؟» (ص 81)، «هل كان اختياري لمهنتي حبًّا في تخليص النفس البشرية من معاناتها أم إنه رغبة دفينة للتعرف على خبايا لا وعيي؟» (ص 82).

ومعنى هذا أن فكرة الغرابة تجعل الشخصية بين هويتين: بالنسبة لأسماء، هي طبيبة/ عاشقة، وبالنسبة لوحيد هو متزوج/ عاشق. كل شخصية نجدها موزعة بين هويتين: هويتها الأصلية والهوية التي اكتشفتها بعد لقائها بالآخر. واكتشاف الغرابة بالداخل يؤدي لا محالة إلى غرابة خارجية: أضحت الطبيبة غريبة في محيطها الطبي المهني الذي لن يقبل أبدًا بعلاقة عاطفية جنسية بين الطبيبة ومريضها، والمريض أصبح غريبًا في محيطه العائلي، ويكفي أن نستحضر ردّة فعل زوجته الفرنسية. ومن المهم جدًّا أن نشير إلى انتصار الأنا الأخرى في النهاية، وهي رمز الحياة والحب والإبداع. فعلى الرغم من رحيل الآخر، بمعناه الخارجي، أي الحبيب وحيد، فإن الأنا الأخرى، الإنسانة العاشقة الكاتبة، قد بقيت حية، ومن هنا لا غرابة أن تنتهي الرواية بقولة دالة: «تريّث قليلًا أيها الموت… إنّي أكتب» (ص 174).

4 ــ وأخيرًا، يبقى أن نشير إلى أن رواية الحب، على العكس من رواية الجنس -على الأقل، انطلاقًا من النموذجين أعلاه- هي رواية تحتفي باللغة، بالشعر، تتخللها مقاطع وقصائد شعرية، وهي تكتب الجنس أيضًا، لكن بلغة استعارية رمزية، أي أنها لا تكتبه بوصفه حاجة بيولوجية، بل بوصفه رغبة فيها من الغرابة والغموض، وهو ما يجعل الكتابة تستعين بالرمز والتصوير والشعر.

واللافت للنظر في رواية الحب، التي تناولناها أعلاه، ليس هو هذا الجمع بين الشعري والعاطفي والجنسي فحسب، بل نجد حضورًا للعنصر السياسي أيضًا، حيث الحكاية هي حكاية شخوص اكتوت بنار العشق والشعر والنضال، تقاسي المرض والنسيان والفقدان، ولم تفز من الحياة إلا بلحظات لا غير، ولم تجد وسيلة أفضل لتقاوم قوى الموت، لتقول ألمها وروحها غير الحبّ والشعر والحكي والكتابة. فأساس الكتابة هنا أساس نفساني، بحيث لا يمكن الفصل بين الحرف والفقد، بين الكتابة والألم، وأساسًا بين الكتابة والآخر.

وفي افتراضنا، فالدرس الأساس في هذه الرواية هو أن الحب هو أساسًا لقاء بالآخر، فالحب يُحْيِي الحوار والتواصل، وأنْ تُحِبَّ معناه أن تُحْسِنَ الإصغاءَ للآخر، إلى محكيه. وفي لقاء الآخر، تفقد الأنا توازنها، وتعمل من أجل إعادة اكتشاف هويتها. والكتابة تساعدنا على العبور من ذواتنا إلى الآخر، إنها باب مفتوح في وجه الآخر، ذلك الآخر المكبوت المقموع في دواخلنا.


هوامش:

1‭)‬ Pierre Lepape‮ ‬‭: ‬une histoire des romans d’amour‭, ‬ed‭. ‬Seuil‭, ‬2011‭.‬

2‭)‬ ibid‭, ‬p 12‭.‬

3‭)‬ Alain Badiou‭, ‬Nicolas Truong‮ ‬‭: ‬Eloge de l’amour‭, ‬ed‭. ‬Flammarion‭, ‬Paris‭, ‬2009‭.‬

4‭)‬ Annie Le Brun‮ ‬‭: ‬Anthologie amoureuse du surréalisme‭, ‬ed‭. ‬Syllepse‭, ‬Paris‭, ‬2002‭.‬

5‭)‬ Catherine Millet‮ ‬‭: ‬La vie sexuelle de Catherine M‭., ‬ed‭. ‬Seuil‭, ‬Paris‭, ‬2001‭.‬

٦) فاتحة‭ ‬مرشيد‭: ‬لحظات‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي،‭ ‬البيضاء،‭ ‬بيروت،‭ ‬2007م‭.‬

7‭)‬ R.Chemama‭, ‬Dictionnaire de la psychanalyse‭, ‬Larousse‭, ‬1993‭, ‬p28‭.‬

رولان بارت والتحليل النفسي الكتابة بيدين

رولان بارت والتحليل النفسي الكتابة بيدين

نفترض أن هناك علاقةً وثيقةً بين أعمال رولان بارت والتحليل النفسي، وهي علاقةٌ طالَــها الإهمالُ، ولم تنلْ بعدُ ما تستحق من البحث والدرس. قد يعود هذا الإهمالُ إلى أن صاحبَ هذه الأعمال كان معروفًا بموقفه السجاليِّ من أيديولوجية التحليل النفسي التي يرى أنها تقوم على أساسِ خِــطابيةٍ خاصةٍ ذات شكلٍ شموليٍّ وكليانيٍّ totalitaire. ومع ذلك، فإن هذه المسافة النقدية التي اتخذها بارت من أيديولوجية التحليل النفسي لم تمنعه من أن يستخدم مفهومات التحليل النفسي وموضوعاته ومرجعياته النظرية والتطبيقية، انطلاقا من مؤلَّــفِهِ النقدي «عــن راسين» (1960م)، وصولا إلى مؤلَّــفِهِ «لذة النص» (1973م)، لكن وبالأساس مع مؤلَّـفه «ص/ ز» (1970م)؛ وفوق ذلك كله، يمكن أن نزعم أن كتابات بارت الإبداعية التي صدرت في وقت لاحق «رولان بارت بقلم رولان بارت» (1975م)، «شذراتٌ من خطابٍ عاشقٍ» (1977م)، هي كتاباتٌ تمارسُ التحليل النفسي بشكلٍ من الأشكال، وبخاصة ما يُـسمَّـى بالتحليل الذاتي.

قد تبدو هذه العلاقة بالتحليل النفسي مزدوجة ومتناقضة، فبالنظر إلى أعمال بارت النقدية والإبداعية، سنلاحظ أن هناك علاقة وثيقة، لكن بارت يُـعبِّـر في الوقت نفسه عن مواقف ضد أيديولوجية التحليل النفسي؛ واللافت للنظر أن العلاقة نفسها يمكن أن نلاحظها في علاقته بالماركسية التي يُدمجها في نسقه الفكري والنقدي، مثل التحليل النفسي، لكنه في الوقت نفسه يرفض أيديولوجيتها الكليانية الشمولية. وفي الواقع، لا يمكن أن نفسِّــر هذا النوع من العلاقة المزدوجة المتناقضة، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الكتابة عند رولان بارت هي هذه التي تنفتح على خطاب التحليل النفسي (أو على خطاب الماركسية) من دون أن تلتزم بكل إكراهاته والتزاماته، كأنها تريد أن تكون «كتابةً بيدين: تثيرُ هنا ما ترفضه هناك، وهي لا ترفض إلا من أجل أن تكون الإثارة على الوجه الأفضل»، أو كأنها تريد أن تكون كتابة بيدين: تنتقد هذه اليدُ ما ترغبُ فيه تلك اليدَ الأخرى؛ وهي بكل ذلك، لا ترى نفسها إلا في صورة ذلك الذي خصَّــه بارت بدروسه سنة 1978م: المحايد: والحياد هنا ليس بمعنى الضعف أو العجز أو البحث عن تسوية، بل بمعنى الانفلات من ذلك اللوغوس الضاغط للتحليل النفسي، سعيًا إلى تحقيق تلك القوة القادرة على خلخلة خطاب التحليل النفسي في مفهوماته وبنياته وقيمه؛ والحياد ليس بمعنى الوسطية والاعتدال، فأن تتذوق معنى المحايد، عند بارت، هو أن تنفر من التوسط والاعتدال، وأن تجعل من الحياد مقولتك الأخلاقية الضرورية من أجل أن تزيل عن المعنى تلك الخاصية التي لا تقبل بالتسامح، تلك الخاصية الاستبدادية التي لا تُحتمَــل. وبإيجازٍ شديدٍ، فإن رولان بارت، في علاقته بالتحليل النفسي، يبدو مثل ذلك البطلِ الإغريقيِّ الأسطوريِّ أورفيوس، فهو يعود إلى ما يحبُّ، لكنه يغادرُ من دون أن ترافــقَــه حَـبيبَـتُـــه؛ أو لنقل إن بارت يعود إلى التحليل النفسيِّ، لكنه قد يغادره عائدًا بخطابٍ تحليليٍّ آخرَ غير الذي رجع إليه.

سنحاول أن نرى كيف يعود بارت، وبخاصة في كتابه «عن راسين» (1960م)، إلى المعلِّــم الأول، مؤسِّــس التحليل النفسي، سيغموند فرويد (ويمكن أن نتساءل: كيف يعود بارت، وبخاصة في مؤلَّــفـه «ص / ز» إلى المعلِّــم الثاني أيضًا، إلى مجدِّد التحليل النفسي، جاك لاكان؟)، وما ينبغي له أن يشدَّ أنظارنا هو: ما معنى أن يمارسَ بارت التحليلَ النفسيَّ بيدين في كتاباته النقدية؟ ما معنى أنه يرغبُ في ممارسة التحليل النفسي لكنه في الوقت نفسه يرفضه؟ وإذا كان بارت يعود إلى فرويد، فهل يعود منه بخطابٍ تحليليِّ مختلف؟

بارت وفرويد

يبدو أن مؤلَّــفًا «عن راسين» هو الذي يُـعبِّــر، بشكلٍ أفضل، عن هذه العلاقة الوثيقة والمزدوجة بمؤسِّـس التحليل النفسيِّ سيغموند فرويد، وبخاصة في الدراسة الأولى من هذا المؤلَّــف التي تحمل عنوان: الإنسانُ الراسيني. ففي هذه الدراسة الأولى، تأتي اللغة -يقول بارت نفسه- نفسانيةً، لكن المعالجةَ قـلَّــمـا كانت كذلك»؛ ونفهم من ذلك أن رولان بارت يستخدم مفهوماتِ التحليل النفسي وموضوعاتِـــه، لكنه يرفض أن يقوم بالمعالجة النفسانية، منبِّهــًا إلى أن هناك معالجةً نفسانيةً ممتازةً لراسين أنجزها شارل مورون الذي يدين له بالشيء الكثير؛ لكن السببَ الحقيقيَّ الذي لا يخفيه بارت، هو أن التحليلَ الذي يقدمه في هذه الدراسة الأولى لا يهمُّ راسين مطلقًا، بل إنه تحليلٌ منشغلٌ بالبطل الراسيني؛ فالأمر يتعلق بدراسة تتفادى أن تكون استنتاجاتُـها وليدةَ ذلك الذهابِ من العمل الأدبيِّ إلى المؤلِّــف، ومن المؤلِّــف إلى العمل الأدبي»، ويعني ذلك أن بارت يرفضُ أن يمارسَ ذلك النقدَ النفسيَّ البيوغرافيَّ الذي يفسِّـــر العملَ الأدبيَّ بالصراعات اللاواعية للكاتب أو الشاعر كما يكشفها تاريخُ طفولته؛ ولا يريد لمعالجته في هذه الدراسةِ أن تكون استنساخًا لمفهوم معينٍ للمعالجة النفسانيةِ التي تهدف إلى اكتشاف عناصرِ صدمةٍ مكبوتةٍ وإلى إبراز الصراعات الغرائزية، وإلى البحث في العمل الأدبيِّ عن العناصر المسببةِ للأمراض التي تكشفها بعضُ المعطيات البيوغرافية، وإلى إقامة علاقةٍ بين المظاهر الباثولوجية (المَـرَضية) لشخصية المبدع ومحتوى الأثر الأدبي.

جان راسين

هذا النوعُ من المعالجة النفسانيةِ الذي يرفضه بارت كان قد أسسه فرويد نفسه في عددٍ من الدراسات، وكان هو الأكثرُ ازدهارًا في النقد الأدبيِّ عند أتباع فرويد من الثلاثينيات إلى الستينيات؛ وهو نقدٌ نفسيٌّ بيوغرافيٌّ ينطلق من أن الأعمالَ الأدبيةَ ليست مستقلةً عن الحياة الشخصية للمبدع، ولا تجد تفسيرَها إلا بالعودة إلى طفولته، فَــمَــهَــمَّــةُ الناقد النفسي، من هذا المنظور، هي دراسةُ ذلك الرباط بين العمل الأدبيِّ وحياة الأديب، من خلال التركيز على الموضوعات اللاواعية: وبهذا، فإن أعمالَ الشاعر ووثائقَــه لا تصلح، عند ناقدٍ نفسيٍّ من مثل رونيه لافورج، إلا لإجراء وصفٍ كلينيكيٍّ لِــعُــصــاب الفشل عند بودلير صاحب «أزهار الشر» .

وأن يرفضَ رولان بارت أن يقوم بهذا النوع من المعالجة النفسية ليس معناه أنه يرفض هذا النوعَ من النقد النفسيِّ الذي كان سائدًا في عصره فقط، بل إنه يعني أنه يرفض فرويدَ نفسَـه عندما يطبِّـق هذا النوعَ من المعالجة النفسانية على الإبداع والمبدعين؛ لكن ذلك لا يعني أنه يرفض فرويد كلَّــه، بل إنه، في افتراضنا، سينطلق من فرويد آخرَ يستجيب أكثرَ للأسئلة الجديدة التي بدأت تفرض نفسَها منذ بداية الستينيات من القرن الماضي، وبخاصة بعد أن بدأ الدرسُ اللسانيُّ البنيويُّ يحتل الصدارةَ في العديد من المجالات المعرفية. ويمكن أن نذهب بعيدًا، فنقول: إن الحوارَ الذي لم يقع بين كبيرين من كبار ذلك العصر، فرويد ودوسوسير، هو ربما بالضبط ما يريد أن يحققه بارت في هذه الدراسة المكرَّسة للتراجيدي الحديث جان راسين، بالطريقة التي تسمح بمعالجةٍ هي الوقت نفسه نفسانيةٌ وبنيويةٌ؛ لنقرأ هذا التصريح الذي يحدد نوعيةَ التحليل الذي يطمح إليه بارت، رابطًا بين فرويد ودوسوسير، بين التحليل النفسي والتحليل البنيوي: «إنه تحليلٌ مغلقٌ بطريقةٍ إراديةٍ: أخذتُ مكاني داخل عالَــم راسين التراجيدي، وحاولت أن أصفَ ما فيه من ساكنةٍ (يمكننا أن نجعلها ببساطةٍ مجرَّدةً بواسطة مفهوم الإنسان الراسيني)، من دون أيِّ إحالةٍ على مصدرٍ من هذا العالَــم (على مَـصدرٍ مُـتَـحدِّر من التاريخ أو البيوغرافيا مثلًا). وما حاولتُ إعادة بنائه هو نوعٌ من الأنثروبولوجية الراسينية التي تأتي بنيويةً وتحليليةً: هي بنيوية في العمق؛ لأن التراجيديا تُــعَــالَـــج هنا بوصفها نسقـــًا من الوحدات «الصور» والوظائف؛ وهي تحليليةٌ في شكلها؛ لأني أظن أنَّ اللغةَ الوحيدةَ القادرةَ على التقاط ما في هذا العالَــم من خوفٍ هي التحليلُ النفسيُّ، هذا الذي يبدو لي ملائمًا لمقابلة هذا الإنسان المسجون».

لن نقولَ الكثيرَ عن دوسوسير؛ لأن ما يشغلنا هنا هو هذا الـــفرويد» الجديدُ الذي بدأ يظهر من أجل أن يحلَّ محلَّ ذلك الــ«فرويد» الذي وظفه النقادُ النفسانيون البيوغرافيون السابقون. وهذا الوجهُ الفرويديُّ الجديدُ يتقدم من خلال صورتين متراكبتين متعالقتين: صورة فرويد الذي قدَّم أعمالًا تحليليةً دَرَسَ فيها العملَ اللغويَّ أو العملَ الأدبيَّ في حدِّ ذاته من دون الرجوع إلى مصدرٍ خارجيٍّ، بطريقةٍ تجعلُ تحليلاتِه أقربَ من التحليل البنيوي؛ وصورة فرويد الذي قدَّم دراساتٍ لا تربط بين الإبداع وذاتٍ مبدعةٍ معينةٍ (ذات المبدع)، بل تريد أن تربطَ بين الإبداع والذات الإنسانية من منظور نفسانيٍّ أنثروبولوجيٍّ: ففرويد هو هذا الذي استطاع أن يستخلصَ من النصِّ التراجيديِّ الإغريقيِّ: أوديب ملكًا، المفهومَ المركزيَّ الذي يفسِّــرُ البنيةَ النفسيةَ الأساسَ للإنسان؛ ومؤسس التحليل النفسي هو هذا الذي عَدَّ الأساطير، في مؤلَّفه «مقالات في التحليل النفسي التطبيقي» عبارةً عن بقايا مشوَّهةٍ من استيهامات الرغبة عند الأمم كاملةً، وعبارةً عن أحلام عريقةٍ عند هذه الإنسانية الفَـتِــية؛ وهو هذا الذي أثارَ عددًا من الأسئلة حول المواد التي وفرها الإثنوغرافيون في عصره، وبخاصة في مؤلَّــفـه: الطوطم والتابو (1912م)؛ وهو مَـن شجَّـعَ بعضَ تلامذته الأوائلِ على متابعة الأبحاث في هذا الاتجاه.

إعادة النظر في مهمة المحلل النفساني

وبصفةٍ عامةٍ، نفترض أن رولان بارت قد أعاد الاعتبارَ لأعمالٍ عند فرويد طالها الإهمالُ، وأعاد النظرَ في مَـهَـمَّــة المحلِّـل النفساني، مفضِّـلًا ذلك الذي يمارس التحليلَ البنيويَّ في تحليل النصوص، ويمارس التحليلَ الأنثروبولوجيَّ، لا التحليلَ البيوغرافيَّ، في تحليل العلاقة بين الأدب والإنسان. وفي هذا الإطار، لا بد أن نعودَ إلى موقف بارت المزدوج من شارل مورون: فهو لا يريد أن يكرر عملًا سبق إليه هذا الناقدُ النفسي، لكنه في الوقت نفسه يصرِّح بأنه مدينٌ له بالشيء الكثير؛ ولا يمكن أن نفهم هذا الموقفَ المتناقضَ إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن شارل مورون قد كان سباقًا إلى معالجة النصوص الأدبية من الداخل، وهذا شيء يستحسنه بنيويٌّ مثل بارت، فقد كان شارل مورون يلتقطُ الاستعاراتِ الملحاحةِ داخل عملٍ أدبيٍّ بوسائلَ جديدةٍ، ليس من أجل إعطائها ترجمةً رمزيةً بالضبط قدر ما هو من أجل إبراز الشبكة التي تتكون من العلاقات اللاواعيةِ التي توجد بين هذه الاستعاراتِ الملحاحة، التي تجعلنا نَـعبُــر إلى أنساقٍ من الصور الدرامية الواسعة جدًّا والمعقدة جدَّا تؤلِّــف ما يسميه مورون بالأسطورة الشخصية»؛ لكن شارل مورون هو في الوقت نفسه هذا الناقدُ النفسيُّ الذي يَعمِد في النهاية إلى الاستعانة بحياة المبدع وبيوغرافيته على طريقة النقد النفسي البيوغرافي، وهو ما يرفضه رولان بارت بالطبع. وبعبارةٍ واحدةٍ، نفترض أن بارت كان من الأوائل الذين دشنوا نوعًا جديدًا من النقد النفسي يتقدم بديلًا عن ذلك النقد النفسي البيوغرافي التقليدي، وهذا النوع الجديد من النقد قد ازداد تطورًا في العقود اللاحقة، فأنتج قراءاتٍ تتصف بالنوعية والجِدَّة في التصورات النظرية والمنهجية؛ لأنها قراءاتٌ تَـعمل من أجل تحرير النقدِ النفسيِّ من تلك القيود التي كانت ترى النصَّ مجردَ وسيلةٍ لتحليل لاوعي المؤلِّـف والكشف عن عقده ومكبوتاته وصدماته وهواجسه، بطريقةٍ تُـحوِّل النصَّ الأدبيَّ إلى ذاتٍ مطابقةٍ لذات المؤلِّــف مطابَــقــةً تؤدي إلى إلغاء خصوصية النص الأدبي واستقلاليته الذاتية.

والخلاصة أنه مع كتاب: عن راسين بدأ يتضح أن مستقبلَ الأبحاث والدراسات في التحليل النفسيِّ للأدب لا بد أن يكون بعيدًا من المؤلِّــف، فمؤلِّــف النص الأدبي ينبغي له أن يوضَـعَ خارج اللعبة.

لاشك في أن رولان بارت قد استعان، في هذه الدراسة الأولى من الكتاب، بمجموعةٍ من الموضوعات والمفهومات النفسانية (الإيروس، والاضطراب، والمشهد الإيروسي، والعلاقة، والعدوانية، والانقسام، والأب، والخوف)؛ بقصد إنجاز تحليلٍ للشخصية التراجيدية عند راسين، حتى إنه يبدو أحيانًا كأنه يقوم بتلك المعالجة النفسانية التي سبق أن رفضها، والفرق أنه هنا لا يطبقها على راسين بل على شخصياته: فالشخصية التراجيدية عند راسين هي، في نظر بارت، شخصيةٌ مصابة بمرضٍ عصبيٍّ névropathe، يسكنها الخوف من العلامات، ويطاردها هذا الخوف من الأب… والعلاقة الأساسُ بين الشخصيات تتأسس على علاقة السلطة والعنف، بحيث لا يمكن الحديث إلا عن الجلاد والضحية.

لكن إذا أردنا البحث عن مفهوم يحيل بالأساس على تلك الأنثروبولوجية الراسينية التي صرَّح بارت في تصديره لكتابه بأنه سيعيد بناءَها، فإن المفهومَ الأكثرَ ترجمةً لهذا الطموح هو، في افتراضنا، مفهومُ العصبة البدائية La horde primitive الذي لم يكرِّس له بارت إلا بعض الصفحات القليلة من دراسته (ص20 22).

وهكذا، يوضح رولان بارت أن فرويد قد استعار مفهومًا أساسًا من داروين وأتكينسون هو مفهوم: العصبة البدائية؛ وهما يذهبان إلى أن الناسَ قد كانوا، في أزمنةٍ بعيدةٍ جدًّا، يعيشون داخل عُـصباتٍ متوحشة؛ وكانت كلُّ عُـصبةٍ خاضعةً للذَّكَــر الأكثر قوةً وشدةً الذي يملك كلَّ شيءٍ من دون تمييز، يملك النساءَ والأطفالَ والممتلكات؛ وكان الأبناءُ مجرَّدين من كلِّ شيءٍ، فقوَّة الأب تمنعهم من الحصول على ما يشتهونه من النساء، الأخوات أو الأمهات؛ وإذا حَدَثَ أن أثاروا غيرةَ الأب، فإنهم يُقتَلون أو يُعذَّبون أو يُطردون من دون رحمة. وهكذا، انتهى الأمر بهؤلاء الأبناء إلى الاتحاد من أجل قتل الأب والحلول محله؛ لكن ما إن مات الأب، حتى شَبَّ الخلاف بين الأبناء، ليتنازعوا حول إرثه ووراثته؛ وإنه بعد وقتٍ طويلٍ من الصراعات، سينتهي الإخوةُ الأعداءُ إلى أن يتعاهدوا على عهدٍ معقول: أن يتنازلَ كلُّ واحدٍ عن اشتهاء الأمِّ أو الأخوات، ومن هنا تأسس تابو المحارم.

وينطلق بارت من أن «هذه الحكاية، ولو أنها ليست إلا روايةً، هي مسرحُ راسين كلُّه»، فسواء جعلنا من كل تراجيديات راسين، الإحدى عشرة، تراجيديةً واحدةً أساسية، أم جمعنا بين هذه الشخصيات الخمسين التي تسكن تراجيدياته، فإننا لن نجد إلا وجوهَ هذه العُـصبة البدائية وأفعالَـها: الأبُ، ذلك المالكُ المطلقُ لحياة الأبناء؛ والنساءُ، وهنَّ في الوقت نفسه أمهاتٌ وأخواتٌ وعشيقاتٌ، ومُشتهَياتٌ دومًا، والحصولُ عليهن نادرٌ؛ والإخوةُ، وهم أعداءٌ يتصارعون دومًا حول إرثِ أبٍ ليس ميتًا تمامًا، وهو يعود من أجل إنزال العقاب بهم؛ وأخيرًا، الابنُ المتمزِّق حدَّ الموت بين إرهابِ الأب وضرورةِ أن يعمل على التخلص من هذا الأب، وفي كلمةٍ واحدةٍ، فإن زنا المحارم، وتنافسَ الإخوة، ومقتلَ الأب، وفسادَ الأبناء، هذه هي الأحداثُ الأساسُ في مسرح راسين».

اللافتُ للنظر أن بارت لم يذهب بعيدًا في هذا التحليل النفسيِّ الأنثروبولوجيِّ، بل إنه سيصرح بأنه لا يعرف بالضبط بِمَ يتعلق الأمر في هذا الإطار، متسائلًا ما إذا كان الأمرُ متعلقًا بفرضية داروين التي تتحدث عن أساسٍ فُلْكلوريٍّ قديم جدًّا، وعن حالةٍ للإنسانية ما قبل الاجتماعية؛ أم أنه متعلقٌ بفرضية فرويد التي تذهب إلى أن حكايةَ العصبة البدائية هي الحكاية الأولى للحياة النفسية، وأن كلَّ واحدٍ منا يُعيد إنتاجها في طفولته. وكلُّ ما يدركه بارت جيدًا هو أنَّ المسرحَ الراسينيَّ لا يجد انسجامَـه إلا على مستوى هذه الحكاية القديمة التي تعود إلى هذا الجزء الخلفيِّ البعيد من التاريخ ومن النفسية الإنسانية». وباستثناء بعض الملاحظات التي لا تخلو من أهمية (ومنها أن الأمر لم يعد يتعلق بشخصيات personnages؛ لأن هذه الأخيرة قد تحولت عند راسين، بفضل استلهام تلك الحكاية القديمة، إلى ممثِّلين acteurs، أي إلى وجوهٍ وأقنعةٍ، والاختلاف بين هؤلاء الممثلين لا يعود إلى الحالة المدنية، بل إلى موقعها داخل ذلك الترتيب العام الراسخ في تلك الحكاية القديمة)، فإن بارت لم يذهب بعيدًا في تحليله النفسي الأنثروبولوجي، بالطريقة التي تضيء ما يريد أن يقوله راسين، لا عن نفسه، ولا عن شخصيةٍ من شخصياته التراجيدية، بل عن الإنسان، أي بالطريقة التي تكشف عن الإنسان كما يتصوره راسين في تراجيدياته، وبخاصة أن بارت قد أعلن أن ما يهمُّه هو هذا الإنسان الراسيني». ونزعم أن بارت لم يستطع التخلص من تأثير فرويد في هذا الإطار: ففي هذه الحكاية القديمة، نجد فرويد لا يهتم إلا بمقتل الأب، وبالصراع المرير بين الابن والأب؛ وبارت نفسه سيعود في هذه الدراسة إلى موضوعة الأب، وسيشير في أكثر من مكان إلى هذا الصراع بين الابن وأبيه. لكن هل ذلك وحده ما كان يَـهُـمُّ راسين ويَـشغَـله؟

صراع الأب والابن

الملاحظ أن فرويد -وبارت من بعده- لم يلتفت في هذه الحكاية القديمة إلا إلى هذا الصراع بين الأب والابن (الأبناء)، وذلك أمرٌ مفهومٌ ومقبولٌ من مؤسِّـس التحليل النفسي الذي ينطلق من أن عقدةَ أوديب هي العقدةُ الأصليةُ التي يتأسس عليها الجهازُ النفسيُّ للإنسان؛ لكن هذه الحكايةَ القديمةَ لا تتحدث عن هذا الصراع فقط، بل ربما تركز أكثرَ على ذلك الصراع اللاحق بين الأبناء الذين قتلوا أباهم، وهو الصراع بين الإخوة الأعداء الذي لم يمنحه فرويد ولا بارت اهتمامًا ملائمًا، ربما لأن الافتراضَ الأساسَ في التحليل النفسيِّ الفرويديِّ هو أن جريمةَ قتل الأب هي الجريمة الأصلية، سواء في تراجيدية سوفوكل: أوديب الملك أو في هذه الحكاية القديمة التي تُـحدِّثنا عن تلك العصبة البدائية المتوحشة.

سيغموند فرويد

ومع ذلك، يمكننا أن نتساءل: ماذا لو التفتنا إلى هذا الصراع بين الإخوة الأعداء، ليس لأن هذه الحكاية القديمة تركز عليه أيضًا، بل لأن أولَ مسرحيةٍ تراجيديةٍ سيؤلفها راسين نفسه سنة 1664م، هي: مأساة طيبة أو الشقيقان، وكانت بالضبط عن الإخوة الأعداء: فهو سيعيد كتابةَ التراجيدية الإغريقية، وبالضبط تراجيدية سوفوكل التي سيستند إليها فرويد مؤسِّس التحليل النفسي في زمنٍ لاحقٍ، لكن إعادة الكتابة هنا ليست من أجل الحديث عن أوديب وأبيه، أي عن الابن وأبيه، بل من أجل التركيز على أبناء أوديب، أي على العلاقة بين الإخوة، وكيف اقتتل الأخوانِ على المُــلك، وكيف قتل إيتيوكليس أخاه بولينيس؛ وكأن راسينَ كان يعيد الاعتبارَ للمسرحية الثالثة عند سوفوكل: أنتيغون التي لن يوليها فرويدُ عنايةً كبيرة، مركِّزًا على المسرحية الأولى التي تدور حول قتل الابن لأبيه.

ماذا لو ركزنا على هذا الصراع بين الإخوة الأعداء؟ ماذا لو افترضنا أن قتلَ الأخ جريمةٌ تستحق الانتباه؟ ماذا لو قمنا باستخلاص عقدةٍ أخرى، وسميناها عقدةَ الأُخُوَّةِ وقارنَّـا بينها وبين عقدة أوديب؟؛ ألم يكن ذلك ليسمحَ بتحليلٍ نفسيٍّ أنثروبولوجيٍّ أكثرَ تحررًا من مسلمات فرويد؟ ماذا لو استحضرنا أن أولَ جريمةٍ، وأولَ حكايةٍ، في تاريخ الإنسان، تبعــًا للكتب الدينية والتاريخية، هي جريمةُ قتلِ الأخ: قتل قابيل لأخيه هابيل؟ ماذا لو استحضرنا الصراع بين النبي يعقوب –عليه السلام- وأخيه عيص، والصراع بين يوسف –عليه السلام- وإخوته؟ ماذا لو انتبهنا إلى أن حكايةَ الإخوة الأعداء قد كانت حاضرة، قبل عصر راسين، في العديد من المحكيات الأسطورية والدينية والأدبية؛ وأنها بقيت حاضرة، بعد زمن راسين، في الآداب الحديثة: فمن القرن التاسع عشر، يمكن أن نستحضرَ روايةَ الكاتب الروسي دوستويفسكي: الإخوة كارامازوف (على الرغم من أن الدراسات النفسانية منذ فرويد تركز على جريمة قتل الأب في هذه الرواية، فإن الصراع بين الإخوة بشخصياتهم المتعارضة على مستويات عديدة شيءٌ لا يمكن إغفاله)؛ وهناك روايةُ الكاتب الفرنسي كي دو موباسان: بيير وجان التي تجسِّد صراع الأخوين، بيير وجان، حول الإرث والنسب؛ وهناك روايةُ الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما: السيدة الشاحبة التي تروي حكاية أخوين يتصارعان على حبِّ امرأة؛ أما من القرن العشرين، فمن الممكن أن نذكرَ روايةَ الروائي اليوناني كازانتزاكي: الإخوة الأعداء؛ ورواية الكاتب الجزائري محمد ديب الذي يكتب باللغة الفرنسية، وهي بعنوان: هابيل؛ ومن القرن الحادي والعشرين، وبعد رحيل بارت، يمكن أن نستحضرَ روايةَ الروائي البرتغالي ساراماغو: قايين (2009م)، وروايةَ ماكس جالو: قايين وهابيل، الجريمة الأولى (2011م)؛ وروايةَ الروائي السوري فواز حداد: السوريون الأعداء (2014م).

ونحن نفترض أن عقدةَ الأُخُوَّة تسمح لنا بأن نتجاوزَ التصورَ الفرويديَّ، الذي يركز على النمو النفسيِّ – الجنسيِّ القائم على ديناميةٍ نفسيةٍ داخليةٍ، إلى تصورٍ نفسيٍّ يحاول أن يؤسسَ تحليلًا نفسيًّا قادرًا على وصف هذا الفضاءِ العِـلاقِـــيِّ التفاعليِّ بين الذوات في فضائها العائليِّ الاجتماعيِّ المشترك:

أولًا- لأن وظيفةَ الأُخُوَّة أخطرُ من وظيفة الأمِّ أو وظيفة الأب، فإذا كانت وظيفةُ الأمومة هي الرعاية وبخاصة في مراحل النمو الأولى، وإذا كانت وظيفةُ الأُبُوَّة هي فصلك عن الأمِّ والدفع بك إلى العالم، فإن وظيفةَ الأُخُوَّة هي أن تتعلمَ التواصلَ مع الآخرين، وبناء روابط عائليةٍ واجتماعية، ومعالجة العناصر السلبية المدمرة (المنافسة، والغيرة، والكراهية، والعنف)، أي أن تتعلمَ تدبيرَ العلاقة بين الذات والغير، داخل نسقٍ من الروابط الاجتماعية والثقافية والرمزية، لما فيه خير الجماعة وصلاحها.

ثانيًا- يبدو واضحـًا أنه في الأُخُوَّة تستقر تجاربُ التواصل مع الآخر، ويجري اختبارُ القَــبول بالآخر، وامتحانُ الأنا في قدرتها على قَبول التقاسُم والتبادل والتضامن والتعاون بعيدًا من الغيرة والحسد والكراهية؛ والأخطر من ذلك أنه بروابط الأُخُوَّة تتأسس الروابطُ الاجتماعيةُ وتنتظم، فالجماعةُ الإنسانيةُ ليست ممكنةً إلا بتجاوز أنانيتنا وغيرتنا إلى التماهي مع الآخر، ذلك الأخ الشبيه، وباعتبار أن القوةَ لا يمكن أن تتحقق إلا في وجودنا بطريقةٍ جماعيةٍ، يطبعها التواصلُ والتماسكُ والتعاون، وتحتفي بقيم الحب والخير والحياة.

وإجمالًا، فنحن نفترض أن مسرح راسين قادرٌ على أن يساعدَ المحلِّــلَ النفسيَّ الأنثروبولوجيَّ على بناء تصوُّرٍ مغايرٍ للذي كرَّسته الأعمالُ الفرويدية، وأن بارت لم يتخلص تمامًا من التصور الأنثروبولوجي الفرويدي؛ وذلك لأن الإنسان الراسيني» لا يجد تفسيره في عُقدة أوديب فحسب، بل إن عُقدةَ الأُخُوَّة، في افتراضنا، هي التفسيرُ النفسيُّ الأنثروبولوجيُّ الجديدُ الذي يقدمه مسرحُ راسين.

ومع ذلك، يبقى أن بارت قد استطاع أن يتخلص، نسبيًّا، من ذلك النقد التقليديِّ الذي يجعل من العنصر البيوغرافيِّ مفتاحـــًا لقراءة الأعمال الأدبية، وأنه إذا كان يرفض فرويد الذي يربط بين الإبداع وحياة المبدع، فإنه قد جعَلَنَا ننفتح على هذا التفسير النفسيِّ الأنثروبولوجيِّ الذي ينطلق من داخل النصوص الأدبية من أجل أن يربطَ بين الأدب والإنسان، ولو أنه -أي بارت- لم ينجح، في افتراضنا، في العودة من الأنثروبولوجية الفرويدية بتحليلٍ نفسيٍّ أنثروبولوجيٍّ مختلفٍ عن الذي وضعه مؤسِّـسُ التحليل النفسي.

«الحي اللاتيني» و«ساق البامبو» .. من الرواية العائلية إلـى محكي الانتساب العائلي

«الحي اللاتيني» و«ساق البامبو» .. من الرواية العائلية إلـى محكي الانتساب العائلي

أليس السردُ بهذا البحثِ الدائمِ عن الأصل؟ ألا يبدو كأنَّ الرواياتِ لا يكون ميلادُها إلا من داخلِ متخيَّــلٍ عائليٍّ؟ ألا يبدو كأن السردَ الروائيَّ لا يعيد في كل مرةٍ إلا بناءَ محكيِّ انتسابٍ عائليٍّ أو ابتكارَه؟ أليست الرغبةُ في الانتسابِ العائليِّ بهذا الشيء الذي يُـحَــرِّك فعلَ السردِ ومحكــيَّــه؟ هل الوجودُ ممكنٌ من دون نَسَبٍ عائليٍّ، أو من دون انتسابٍ إلى عائلةٍ ما؟ هل الوجودُ ممكنٌ من دونِ «روايةٍ عائليةٍ» تَسنِـدُ هذا الوجودَ نفسَـه؟ كيف يمكنُ أن نتحملَ الوجودَ من دون نَسَبٍ، من دون تخييلٍ عائليٍّ، من دون هُـوية؟

تلك هي بعضُ الأسئلةِ الأساسِ التي تطرحها هذه المحاولةُ التقريبيةُ، بطريقةٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرة، وهي بذلك تريدُ أن تساهمَ في هذا التحولِ الذي يعرفُــه النقدُ المعاصرُ الذي عاد لينشغلَ بمسألةِ مَـنـبـع المحكيِّ ومصدرِه، وليركزَ اهتمامَـه على خطاباتٍ سرديةٍ تستعيدُ الذاتَ، وتسائلُ وضعَـها وهُــويتَـها، وتسائلُ مرجعياتِــها وأصولَـها، وعيــــًا منها بأن الذاتَ ليست كائنـًا مستقلًّا، وليست كائنًا من دون محدداتٍ، وأنَّ دورَ المحكيِّ هو أن يسائلَ هذه الذاتَ من خلال العنصرِ العائليِّ الذي يؤسِّـسها، ومن خلال الأصولِ التي تكوِّنها، وأن يكشفَ كيف تقولُ هذه الذاتُ هذه الحكايةَ العائلية، وكيف تحلمُ وتكسِّـرُ أو تعيدُ بناءَ ما يربطها بهذه الحكاية/ التاريخ histoire / Histoire. ولكن ذلك، لم يكن ممكنًا ألّا يعودَ هذا النقدُ إلى نصوصٍ أساسٍ في التحليلِ النفسي، وبخاصة عند فرويد في نصه المشهورِ عن «الرواية العائلية»، وألّا يأخذَ بعين الاعتبارِ دراساتِ مارت روبير التي كشفت إلى أيِّ حدٍّ يخترقُ العنصرُ العائليُّ الكتابةَ السرديةَ في العمق. لكنه النقدُ الذي يُـعتبَـر الأكثرَ أهميةً في السنواتِ الأخيرةِ من القرنِ السابقِ وبدايةِ الألفيةِ الجديدة، بفضل هذا الورشِ الطموحِ الذي دشنه جيلٌ جديدٌ من النقاد (دومينيك فيار، ولوران دومانز…) الذي لفتَ الأنظارَ بنوعيةِ القراءاتِ المقترحة، وبتلك الجدةِ في التصورِ النظريِّ والمنهجيِّ الذي كان يصاحب دومــًا تلك القراءات، في حوارٍ متواصلٍ مع نظرياتِ السرد، ومع نظرياتِ التحليلِ النفسي.

محطتان رئيستان في الرواية العربية:

سهيل إدريس 

نفترضُ أن الروايةَ العربيةَ قد شهدت، من أواخر القرن التاسع عشر إلى بداية الألفية الثالثة، محطتين رئيستين، وسنمثل لكل محطةٍ بنموذجٍ روائيٍّ لم يسبقْ أن مَــثَّــلْـــنَــا به في دراساتِــنا السابقة: اخترنا للمحطة الأولى روايةَ: الحي اللاتيني (1953م) للكاتب اللبناني سهيل إدريس؛ واخترنا للمحطة الثانيةِ روايةَ: ساق البامبو (2012م) للكاتب الكويتيِّ سعود السنعوسي.

المحطة الأولى: محكيّ «الروايةِ العائلية»: قبل أن نتعرفَ إلى خصائص هذه المحطةِ من خلال النموذج الروائي الذي اخترناه، لا بد من تحديد المقصودِ بـــ «الروايةِ العائلية».

لا شك في أن سيغموند فرويد قد كان أولَ مَــن انشغلَ بالمحكياتِ العائلية، ففي رسائله إلى فليس(1)، كان يتحدث عن هؤلاءِ المرضى النفسانيين الذين يبتكرون من خلال هذيانِ العظمةِ نَسَبًا ساميًا إلى آباءٍ استثنائيين؛ ثم بعد ذلك، نشر نصًّا قصيرًا من أربع صفحاتٍ تحت عنوان: «الرواية العائلية عند العصابيين»(2)، وذلك في كتاب أوتو رانك الصادر سنة 1909م تحت عنوان: أسطورة ميلاد البطل(3). وبعد ذلك، سيعمل على أن يمتدَّ هذا المفهومُ إلى المحكيِّ الديني، وذلك في كتابه: موسى والتوحيد(4) الصادر سنة 1939م، ففيه يتناول بالتحليل «الروايةَ العائلية» في المحكي الديني، مستخدمًا التحليلَ نفسَه الذي خصَّ به «الروايةَ العائليةَ» عند الأطفال والعصابيين، متسائلًا: ماذا لو كان موسى مصريًّا؟

وإجمالًا، فإن «الروايةَ العائليةَ» مفهومٌ نفسانيٌّ استمده فرويد في البداية من حكايات الأطفالِ والعصابيين، ثم لاحظ بعد ذلك أن بإمكان المفهوم أن يعرفَ امتدادَه إلى محكياتٍ أخرى أكثرَ قيمةً وأهمية، وبخاصة المحكيات الأسطورية والدينية. وفي كل ذلك، فالروايةُ العائلية تعني أن هناك حكايةً عائليةً تتأسس في الطفولة على مرحلتين، وتَــنتُــج عن ذلك حكايتان مختلفتان: حكاية ما قبل إدراك الطفل للاختلاف الجنسي بين الأبوين، وحكاية ما بعد إدراك هذا الاختلاف؛ ويتعلق الأمر، في هذه الحكاية كما في تلك، بمحكي يركز على حكاية عائلية (واقعية أو خيالية) تُـعيدُ الذاتُ بناءَها انطلاقًا من تمثلاتها واستيهاماتها وتخيلاتها(5)؛ أن هناك بنيةً تخييليةً تتأسس في مرحلة الطفولة، وتتحول إلى بنيةٍ لا واعية في العديدِ من محكياتِ الكبارِ والراشدين، وفي العديدِ من المحكيات الأسطوريةِ والدينيةِ والأدبية؛ أن هناك حكايةً لا ترتبط بجنس الروايةِ الأدبيِّ فحسب، بل إنها الحكايةُ التي على أساسها تتأسس الأجناسُ السرديةُ الأخرى؛ حتى في الأجناس السرديةِ التي تقوم على ميثاقِ الصدقِ وقولِ الحقيقة، من مثل الأوتوبيوغرافيا، يمكن أن نجد «ذلك الإحياءَ النشيطَ للذكرياتِ الحالمة»(6)، ويكاد الجميع يقتنع اليوم باستحالة الأوتوبيوغرافيا؛ لأن للحقيقةِ بنيةَ التخييل كما قال المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، ولذلك كان لا بد من ابتكار تسمية أو تسميات أخرى غير الأوتوبيوغرافيا، تأخذ بعين الاعتبار وجود عنصر التخييل حتى داخل أكبر المحكيات التي تدعي نقل الواقع وقول الحقيقة، ومن هنا ظهرت مصطلحات جديدة من مثل: الرواية الأوتوبيوغرافية، والسيرة الروائية، والتخييل الذاتي.. وبعبارة واحدة، يمكن أن نفترض أن محكياتنا الأدبية، الروائية والأوتوبيوغرافية…، لها بلا شك علاقات بالحياة الواقعية، لكنها في الوقت نفسه تتقدم كأنها شيء أقرب من الأحلام والاستيهامات والتخيلات، ولها فوق ذلك مسكوتاتها ورغائبها وإضافاتها وزياداتها وتحويلاتها التي تجعل من تلك الإحالة على الحياة الواقعية أمرًا غير ذي أهمية؛ لأن ما عرفته تلك الحياة الواقعية من تحويلٍ، وآثار هذا التحويل، هو ما يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة أمام التفكير في طبيعة المحكي الأدبي وخصائصه ووظائفه الجوهرية، ومن هنا أهمية مفهوم «الرواية العائلية»(7).

وسيعرف هذا المفهومُ طريقَــه إلى النقدِ الأدبيِّ بفضل الناقدةِ الفرنسيةِ مارت روبير في كتابها الشهيرِ الصادر سنة 1972م تحت عنوان: رواية الأصول وأصول الرواية(8)؛ ففي هذا الكتاب تنطلق الناقدة المتخصصة في الأدب الألماني من أن «الرواية العائلية» عند فرويد هي نقطة انطلاق كل رواية، وأن رواية الأصول هي أصلٌ في كلِّ رواية. وقد تبنت مارت روبير «لَـحظتَـيِ» الرواية العائلية كما حددها فرويد، وذلك في تصنيفها الروايات إلى صنفين: نصوص «الطفل المعثور عليه» حيث نجد الشكَّ يطولُ الأبوين معًا، ونصوص «الطفل اللقيط» حيث لا تُـقطَع الصلة إلا بالأب. وهكذا، ففي الصنف الأول، يمرُّ الأبَــوان من وضع «المثل الأعلى» إلى وضع «الغريب»، ويجري تعويضهما بعائلة أخرى، ملكية أو نبيلة أو قوية بشكل من الأشكال(9)؛ وفي الصنف الثاني، يؤدي الاختلاف الجنسي دورًا كبيرًا، وهو ما يسمح للطفل بألّا يشك إلا في أبيه الذي يعوضه بأبٍ آخر هو الذي يعتبره حقيقيًّا وملكيًّا ومجهولًا(10). أما الناقدة الأدبية مارت روبير، فلا بد أن ينخرط كلُّ كاتبٍ في واحدٍ من هذين الصنفين، بشكل يسمح بالحديث عن أدبين: أدب العالم الآخر «المعثور عليه»، وخير من يمثل هذا النوع من الأدب الروائي هو سرفانتس، وذلك من خلال بطله «دون كيشوط»، ذلك العجيب الحالم العنيد؛ وأدب مواجهة العالم الأصلي، والعودة للانخراط فيه، وخير من يمثله هو بلزاك.

وإجمالًا، يبقى أن مارت روبير هي أولُ ناقدةٍ حاولتِ الربطَ بين الروايةِ، بمعناها النقديِّ الأدبيِّ، والروايةِ العائليةِ، بمعناها النفسيِّ؛ ولم يكن مثلُ هذا العملِ ليمرَّ من دون أن يثير نقاشـًا. فقد قَـدَّم المحللُ النفسي ديديه أنزيو(11) ملاحظاتٍ حول افتراضات مارت روبير، وانتهى إلى خلاصات من أهمها: 

أولًا- لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار أن «الرواية العائلية»، بالمعنى النفساني، مجرد شكلٍ ابتدائيٍّ، عفويٍّ وتلقائيٍّ، في حين أن الرواية، بالمعنى الأدبي، تشييدٌ ثانويٌّ، وإن كان يتأسس على أساس ذلك الشكل الابتدائي، فإنَّ له مقتضيات وشروطًا وخصائص، ويعرف هذا التشييدُ الثانويُّ هو نفسه تحولاتٍ وتطوراتٍ في الشكل والمضمون.

ثانيًا- ليست الرواية العائلية خاصة بمرحلة الطفولة، فالإنسان لا يَـكُـفُّ، من طفولته إلى وفاته، عن إنتاج متغيراتٍ وتنويعاتٍ على روايته العائلية، فابتكار الرواية العائلية يرافق مجرى وجودنا بأكمله، ومع التقدم في السن لن تعود الرواية العائلية منحصرة في العائلة الأصلية، بل إنها ستشمل الأقارب والآخرين، فالحياة الإنسانية لن تكون مقبولة إلا إذا كان ممكنـًا أن تتصور حياتك الخاصة، وأن تتخيل حيواتٍ لم تفز بها، وأن تتصور حيواتٍ حصل عليها الآخرون أو بإمكانهم الحصول عليها(12).

ثالثًا- يبدو التمييز بين نموذجين روائيين (سرفانتس – بلزاك) كأنه لن يكون إلا شيئًا مصطنعـًا؛ ذلك لأن الأمر لا يتعلق إلا بمتغيراتِ مسألةٍ جوهريةٍ هي الغيرية Altérité، ولا ينحصر الأمر في الأبوين وما يميزهما داخل رواية عائلية، بل يتعداه إلى السؤال عن ذلك المجهول في دواخل الذات الذي سماه فرويد: اللاوعي.

وبصفةٍ عامةٍ، لا شك في أن «العائلةَ» قد كانت دومًا موضوعةً مركزيةً في النصوصِ الأسطوريةِ والدينيةِ والأدبية، لكننا إذا استحضرنا بعضَ التصوراتِ النفسانيةِ والمقارباتِ النقدية، فإن حضورَ عنصرِ «العائليِّ» قد يتعدى كونَـه مجردَ موضوعةٍ من موضوعاتِ المحكي، ليتحولَ إلى بنيةٍ على أساسها يتأسس المحكي، فأصلُ المحكي وأساسُه في التحليلِ النفسي ليس بالعائلة، بل إنَّ الأمرَ يتعلق بالحكايةِ العائليةِ التي تؤلفها الذاتُ الكاتبة، ويكون موضوعُها علاقَـــتَـــها بعالمها العائلي، وقد تكون حكايةً «واقعيةً» كما قد تكون متخيلةً. وهذه الحكايةُ العائليةُ التي تؤدي دورًا تأسيسيًّا، وتتقدم كأنها بنيةٌ لا شعوريةٌ في مختلفِ محكياتِـــنا ونصوصِــنا السرديةِ هي ما يسميه سيغموند فرويد بــ«الرواية العائلية».

نفترض أن محطة «الروايةِ العائليةِ» متعلقةٌ أكثر بالمراحلِ الأولى للإبداع السرديِّ العربيِّ الحديث، وهي مراحلُ عرفَ فيها العربُ بالطبع تجاربَ تاريخيةً غيرَ مسبوقة (حملة نابليون بونابرت- الاستعمار- مشاريع النهضة والتحرر والاستقلال- محاولات التفاعل الثقافي والحضاري مع الحضارة الغربية الجديدة…)؛ والنصوصُ التي تجسد هذه اللحظةَ تتميز بهذا الصراع بين عالمين: هناك عالمٌ عائليٌّ أصليٌّ، وهناك عالمٌ عائليٌّ جديد؛ هي نصوصٌ تتميز بهذه الذاتِ الساردةِ / الكاتبةِ التي تبقى منقسمةً في الغالبِ بين عوالمِها العائليةِ الأصلية (في القرية أو المدينة العربية) وبين العوالمِ العائليةِ الجديدة (في المدن الأوربية الكبرى من مثل باريس ولندن…).

سعود السنعوسي

ويكفي في هذا المقام أن نستحضرَ روايةً واحدة: الحي اللاتيني الصادرة سنة 1953م من متنٍ روائيٍّ واسع يجسد هذه المحطةَ الأولى (من مثل: قنديل أم هاشم للكاتب المصري يحيى حقي، وموسم الهجرة إلى الشمال للكاتب السوداني الطيب صالح، وفي الطفولة للكاتب المغربي عبدالمجيد بن جلون…) كي نتصورَ المجهودَ الذي تبذله الذاتُ الساردةُ / الكاتبةُ من أجل أن تجعلَ قارئَها يستوعبُ الصعوباتِ التي يطرحها الانفصالُ عن العوالم العائليةِ الأصليةِ والانتماءُ إلى هذه العوالم العائليةِ الجديدة، الغريبةِ والمجهولة، العجيبةِ والمدهشة. ولأن المقامَ لا يسمح بالتوسع والتفصيل، فإننا سنكتفي هنا بتسجيل مجموعةٍ من الملاحظاتِ والافتراضاتِ حول محكي «الروايةِ العائلية» برواية سهيل إدريس، في شكلها ومضمونها:

الحكايةُ الإطارُ في هذه الروايةِ هي حكايةُ فتى لبنانيٍّ غادر وطنَه لبنانَ في اتجاه فرنسا من أجل استكمالِ دراساتِــه العليا والحصولِ على درجة الدكتوراه. ومع ذلك، فنحن لسنا أمام نصٍّ من نصوص أدبِ الرحلةِ التقليدية؛ لأن ما يهمُّ في الحيِّ اللاتيني ليس بالعالم الخارجيِّ الجديد (باريس، الحي اللاتيني…)، بل إن الأكثرَ أهميةً هو علاقةُ هذا العالم الجديد بداخلية الشخصيةِ المحوريةِ وبِــنفسيتِــها. ولذلك، فحكايةُ الداخل في هذه الرواية أهمُّ من حكايةِ الخارج.
نفترض أن الصراعَ الأساسَ في الروايةِ لم يكن بين الفتى اللبنانيِّ وحبيبتِه الفرنسيةِ جانين، بل كان بين أناه التي استطاعت أن تعثرَ على عالم عائليٍّ جديدٍ أكثرَ حبًّا وحريةً وحياةً (الحيّ اللاتيني- الأم تيريزا- جانين الحبيبة…)، وأناه التي ظلت متعلقةً بعالمها العائليِّ الأصليِّ (أمه الأصلية- أخته وأخواه- ناهدة: الفتاة التي تنتظر عودته- الوطن…). وبهذا المعنى، يمكن أن نقولَ: إن الصراعَ بين الشرق والغرب هو الصراعُ المركزيُّ في الرواية، بشرطِ أن ننطلقَ من أنه صراعٌ يَـحدثُ بشكلٍ قويٍّ وعنيفٍ في العالم الداخلي للشخصية. فالقارئُ يجد نفسَــه، على طول الروايةِ منذ صفحاتِها الأولى، داخل صراع داخليٍّ مريرٍ بين أنا تبحث عن عالم جديدٍ رَسمَــتْــه في خيالها، وصار حقيقةً وواقعًا بعد الاستقرار في الحيّ اللاتيني، وهي تريد هذا العالمَ الجديدَ بديلًا عن عالمِها العائليِّ الأصلي، وبين أنا لا تريد أن تهربَ من عالمِها الأصليِّ الأولِ، وتحسُّ اتجاهَـه بالمسؤولية، وتريد أن تواجهَه وأن تعملَ على تغييرِ ما تراه فيه غيرَ مناسب.

نفترض أن قوةَ الحي اللاتيني تعود إلى كونها من الروايات الأولى التي مارست التحليلَ النفسيَّ للشخصية بكثير من العمق والفاعلية، وهو ما دفعها إلى مساءلة العلاقةِ بين السارد والشخصية، والبحثِ عن أشكالٍ سرديةٍ تكون قادرةً على جعل حضور الآخر ملموسًا، قادرةً على أن تمنحَ الشخصياتِ المحوريةَ وجودًا مستقلًّا، ليس من خلال رسائلِـها ومذكراتِها فقط، بل أساسًا من خلال المحكياتِ النفسيةِ والمونولوجاتِ الداخليةِ التي تغطي الجزءَ الأكبرَ من الرواية، ويصعبُ في أغلبها التمييزُ بين صوت الشخصية وصوتِ السارد والفصلُ بينهما.

وبفضل هذه الأشكالِ السرديةِ التي تَــنفذُ إلى الحياة الداخليةِ النفسية، يتقدم وعيُ الشخصية مقسّمًا ومنقسمًا إلى أصواتٍ متعددة، ففي داخل الشخصيةِ لا يتكلم صوتٌ واحدٌ، بل أكثرُ من صوت، كما في هذا النموذج: 

«ولكن لماذا قدِم إلى باريسَ في الحق؟ أَفِرارًا مِنْ… الخطيئةِ نفسِها. أخرسْ هذا الفضولَ! إنك الآن في باريس، حَـسبُك هذا. أتيتَ فلا تسلْ لِــمَ أتيتَ. عِش قليلًا دون ما تفكيرٍ وتدبير. عش بوهيميًّا. لعلّك تدرك فيما بعدُ السببَ العميقَ لمجيئك، ربما تدركُ ذلك إذ تعود إلى بلادك. ولكنّ ذلك يُعجزني. إنني لا أستطيع. إنّ أغلالًا ثقيلةً تربطني به، ذلك الماضي، وتلك الأجواء. أعرف ذلك. وستتعذّب لتُـلقي دونَها حجابًا يستُـرُها. ينبغي أن تتعذّب، أن تَصهرك المحنُ إذا شئتَ أن يكون لحياتِــك هذه الجديدةِ معنًى… وإلا فَــلِمَ لَـمْ تبقَ هناك؟…» (ص 10). 

نفترض أن بوليفونيةَ المونولوج الداخلي هي الشكلُ السرديُّ الأكثرُ تمييزًا لمحكيِّ «الروايةِ العائلية» في رواية: الحي اللاتيني؛ لأنها الأكثرُ تجسيدًا لذلك الصراعِ بين الأصواتِ في داخليةِ الشخصيةِ المركزية، وذلك التمزقِ بين الصوتِ الذي يشدُّه إلى عالمِه الأصليِّ والصوتِ الذي يريده أن ينتميَ إلى ذلك العالم الجديد.. وقد بلغ الاحتكاكُ بين الأصواتِ أوجَه خلال العطلةِ الصيفيةِ التي قضاها «بطلُــنا» في وطنه، فجاءَتْهُ رسالةٌ من حبيبته جانين تُخبره أنها ستصبحُ أمًّـا، وأن الجنينَ ثمرةُ حبِّهِما، وهي تسأله ماذا سيفعل وما رأيُه وموقفُه. لكن الرسالةَ قرأتْها أمُّهُ وحمَّـلَـتْـه مسؤوليةَ المأزقِ الذي وضع فيه نفسَه وعائلتَـه، وسألته ماذا هو فاعلٌ أمام هذا العار الذي جلبَه على نفسِه وأهله. كانت اللحظاتُ لحظاتِ ذعرٍ واضطرابٍ وجنونٍ جعلته «يرى في داخل نفسِه شيئًا آخر.. شفتان تتكلمان. ولم يَـدْرِ أهُـمَا شفتاه بالذات أم شفتا مخلوقٍ آخر.. إنه صوتٌ ينبع من أعماق نفسه»، إنه صوتٌ قويٌّ متسلّطٌ أشبهُ بصوتِ أمه، يوبّخه ويدعوه إلى الاقتناع بالتخلي عن جانين والتنكرِ لجنينها:

«إن جانينَ حاملٌ إذن. حسنًا. ماذا أنت فاعل؟ ألم تقرر بعد؟ ولكن لِمَ هذا الترددُ؟ إنك لن تفكّرَ أبدًا بالزواج منها… ماذا سيقول الناسُ؟ لقد عاد من باريسَ وفي ذراعه فتاةٌ، لم تكن بكرًا لأنها كانت مخطوبةً، فتاة طردها أهلُها، فتاة التقطها من الطريق، فتاة تشتغل في مخزن. فتاة مسيحية، من غيرِ دينِه.. فتاة.. أيةُ فضيحةٍ، وأيُّ عار سينصبُّ على بيتنا!…» (ص215). وبعد أن أنهى هذا الصوتُ الملتبسُ المجهولُ كلامَه، لا يدري الفتى اللبنانيُّ كيف قام إلى غرفته، وأخذ يكتب رسالةً قاسيةً إلى جانين، في ضوء تعليماتِ ذلك الصوتِ العميقِ الغريب. طوى الرسالةَ، ووضع على غلافها عنوانَ جانين، واستلقى على سريره، و«أغمض عينيه وهو يرسل زفرةً طويلة»، وحينئذ استيقظ صوتٌ داخليٌّ آخرُ يُـعارض ما قام به الفتى، ويتهمه بالنذالة والجبن: «أجل، الآن تَــنَــفَّــسِ الصعداءَ أيها النذل! الآن نَـمْ قريرَ العين أيها الجبان!» ( ص 217).

وسيبقى هذا الصوتُ الداخليُّ الأخيرُ حاضرًا، يعارض الموقفَ الذي أملاه ذلك الصوتُ الأولُ على الشخصية، وينتقدُ تسرعَــها في اتخاذ موقفٍ يحتاج أصلًا إلى كثير من التريّث، وعجزَها عن اتخاذ موقفٍ شخصيٍّ بعيدًا من تأثيراتِ أمّـه: «أمَا كان بوسعه، على الأقلِّ، أن يتريّثَ، ويَقلبَ الأمرَ على وجهه؟ صحيحٌ أنّ ما وقع فيه مأزقٌ خانقٌ لا يدري كيف يخرج منه، ولكن أيكونُ المخرجُ الوحيدُ أن ينكرَ علاقتَه بجانين، ليدفعَـها هي نفسَها إلى تقريرِ مصيرِ هذا الجنينِ الذي أثمره حبُّـهُما؟ أما كان يستطيع أن يبرقَ إليها بأن تعمدَ إلى.. الإجهاض؟… لو مَـلَــكْــتَ أن تواجهَ قضيتَــك بشخصِك، لا بشخصِ أمّـك!» (ص 221).

هل يمكننا أن نخلصَ إلى أن محكيَّ «الروايةِ العائلية» في الروايةِ العربيةِ، وروايةِ: الحي اللاتيني على الأخصِّ، وإنْ عرفَ تحولًا على مستوى الشكلِ الفني، أو ربما بفضلِ ذلك، فقد بقيَ يتأرجح، على مستوى المضمون، بين حكايتين عائليتين: حكايةِ مواجهةِ العالم العائليِّ الواقعيِّ المعيشِ وحكايةِ البحثِ عن عالم عائليٍّ آخرَ، فلا هو عرف كيف يتحرر من الأول، ولا هو عرف كيف يؤسس الثاني؟ أليست هذه هي حكايتنا جميعًا في العصر الراهن؟

الـمحطةُ الثانية: «محكيّ الانتسابِ العائلي»:

تبدأ هذه المحطة الثانية، في افتراضنا، انطلاقًا من ثمانينياتِ القرنِ السابقِ إلى بداياتِ الألفيةِ الجديدة، وهي لحظةٌ تتميز بهذا الانتقالِ إلى أشكالٍ جديدةٍ في كتابة الحكايةِ العائلية: لم تعدِ الذاتُ الساردةُ / الكاتبةُ تبحث عن استبدالِ عالمًا عائليًّا جديدًا بعالمِها العائليِّ الأصليِّ، ولم يعدِ الأمرُ يتعلق بذاتٍ تسعى إلى مواجهةِ عنصرٍ من عناصر هذا العالم العائلي، ولا بذاتٍ تبقى منقسمةً بين هذين العالمين، بل نحن أمام ذاتٍ ساردةٍ / كاتبةٍ تتأسس بطريقةٍ مغايرةٍ في محكيات الانتسابِ العائلي، فهي تطرح مسائلَ جديدةً: مسألةَ العودة إلى الأصول، والحفرَ عميقًا في الماضي العائلي، ومساءلةَ الذاتِ لإرثِـها العائليِّ الإشكالي، وإعادةَ بناءِ معناها للهُــوية، والبحثَ عن الجماعاتِ العائليةِ الأكثرَ حميميةً، والسؤالَ عما إذا كان ممكنًا أن يوجدَ الفردُ الواحدُ، وأن يحيا المجتمعُ الإنسانيُّ، وأن تنجح مشروعاتُــه في التقدم والتطور من دون محكياتٍ عائلية، ومن دون إعادةِ بناءِ محكياتِــه العائلية، الفرديةِ والجماعية. وبالتأكيدِ، لا يمكن لهذا التحولِ في أشكالِ «الروايةِ العائلية» أن يجد تفسيرَه إلا إذا استحضرنا التحولاتِ التي يعرفها العالمُ العربيُّ، بدءًا من أواخر القرن العشرين إلى بدايات الألفية الثالثة. 

وقبل أن نسجلَ بعضَ الملاحظاتِ والافتراضاتِ حول هذه المحطةِ انطلاقًا من الروايةِ التي اخترناها لتمثيلها، لا بد من تحديد المقصودِ بـــ«محكيِّ الانتسابِ العائلي». ابتكر دومينيك فيار(13) مصطلحًا جديدًا يرى أنه الأنسبُ الذي يمكن أن يعوضَ مصطلحاتٍ نقديةً شعريةً من مثل «التخييل الذاتي»، أو مصطلحاتٍ نقديةً نفسانيةً من مثل «الرواية العائلية». ففي نظره، ظهرت أعمالٌ أدبيةٌ عديدةٌ تدورُ حول مسائلِ الانتسابِ العائلي، وتبحثُ في أصول الذات، وفي ماضيها العائلي، وهو ما يجعل القارئَ أمام شكلٍ أدبيٍّ جديدٍ سماه بــ«محكي الانتساب العائلي» récit de filiation، له من الخصائصِ الجوهريةِ ما يجعله مغايرًا ومختلفًا، فالأمرُ يتعلق بمحكيٍّ هو علامةٌ على عصرٍ موسوم بالقلقِ والشك، علامةٌ على ذاكرةٍ مليئةٍ بالثقوبِ والبياضات؛ وبعبارةٍ أخرى، فهذا المحكيُّ تتجلى قيمتُــه بالأساسِ في أنه يُـحيي مسألةً جوهريةً وأصليةً في الأدب: أن تقولَ الذاتُ، في أقصى حدودِ الأسئلةِ الميتافيزيقية، شيئًا عن أصولها المجهولة، وأن تقودَ التخييلَ إلى هناك حيث لا يمكن لأيِّ بحثٍ أن يُـقدِّم معرفةً: من أين أتينا؟ وماذا ورثنا؟ وهل يمكن للذات، الفرديةِ والجماعية، أن توجدَ، وأن تستمرَّ في الوجود، من دون أن تتموضعَ داخل حكايةٍ فرديةٍ وجماعية؟ وكيف يمكن ابتكارُ هُــويتِــنا الفرديةِ والجماعية؟

ويكفي في هذا المقام أن نستحضرَ روايةً واحدةً: ساق البامبو الصادرة سنة 2012م من متنٍ روائيٍّ وأوتوبيوغرافيٍّ يتكاثر ويتجدد مجسِّــدًا هذه المحطةَ الثانية (من مثل: حفريات في الذاكرة من بعيد للكاتب المغربي محمد عابد الجابري. أشواق درعية: العودة إلى الحارة للكاتب المغربي محمد العمري. والد وما ولد للكاتب المغربي أحمد التوفيق. أطفال بورقيبة للكاتب التونسي حسن بن عثمان…). وسنكتفي هنا بتسجيل مجموعةٍ من الملاحظاتِ والافتراضاتِ: تقوم الروايةُ في: ساق البامبو على نصٍّ أوتوبيوغرافيٍّ مكتوبٍ أصلًا باللغةِ الفلبينيةِ تكفل بترجمتِه إلى اللغة العربية إبراهيم سلام (وهناك صفحات في بداية الرواية تعرِّف بالمترجم وتقدم كلمتَـه في الموضوع) بناءً على طلبٍ من كاتبه الأصلي الفلبيني/ الكويتي.

الشخصيةُ الرئيسةُ في هذه الروايةِ شابٌّ، هو ابنُ رجلٍ كويتيِّ الأصلِ وامرأةٍ فلبينيّةِ الأصل. وكانت هذه الأخيرةُ تعملُ خادمةً عند عائلة «راشد»، هذا الذي أحبها وتزوجها خفيةً عن عائلته التي تنتمي إلى طبقة الأغنياء. لكن العائلةَ ستكشف الأمرَ، ودرءًا للعار والفضيحة، فإنها فرضت على ابنها أن يتخلى عن زوجته الفلبينيةِ وطفلِها.. وهكذا، سينشأ هذا الطفلُ في موطنِ أمه بمانيلا- الفلبين، وسيكون له اسمان: «هوزيه»/ «عيسى». وكانت طفولتُـه وشبابُـه في وسطٍ فقيرٍ في انتظار أن يأتي أبوه يومًا لينتقلَ به إلى ذلك العالم العائليِّ الجديدِ الذي يتمناه الفلبينيون الفقراء، وليجدَ لأسئلته الكثيرةِ أجوبةً حاسمة، ومنها بالأساسِ: أهو كويتيٌّ أم فلبينيٌّ؟ أهو على دين أمه المسيحيةِ أم على دين أبيه المسلم؟ وما هو وطنُـه الأصليُّ: أهو الكويت أم الفلبين؟.. ومع الأيام، سيعرف هوزيه/ عيسى أن أباه قد فارق الحياةَ في أثناء حرب الخليج بين الكويت والعراق.. ولكنه سيتمكن من القدوم إلى الكويت عن طريق صديقِ والده «غسان» ليجدَ نفسَـه في عالم غريبٍ ومختلفٍ جدًّا عما يُحكى عنه في وطنه الآخر.. وفوق ذلك، فجدَّتُــه رفضت قدومَه إلى منزلها، لكنها كانت تخفي حبَّها له، فصوتُـه من صوت أبيه، وهو الآن الرجلُ الوحيدُ الذي يحمل اسمَ عائلة «الطاروف».. ولكن بسببِ خوفِها الدائم من العار والفضيحة، فقد عاملته على أنه شابٌّ فلبينيٌّ، ورتبتْ له غرفةً في ملحق البيت مثله مثل الخدم.. اكتشف هوزيه / عيسى أن له أختًا من أبيه اسمُها «خولة»، وسعدَا الاثنانِ بذلك.. ومع الأيام، بدأت الجدةُ تغير من سلوكها نحوه ومن شعورها اتجاهه.. لكن الاعترافَ لم يحصل بعد، وهوزيه / عيسى لا يشارك العائلةَ الأعيادَ والمناسبات، ولم يشعرْ بعدُ بأنه في عائلته ووطنه، ووجهُه الفلبينيُّ يفضحه.. وهكذا، كان القرارُ بأن يكشفَ السرَّ، من أجل أن ينتشرَ الخبرُ: لعائلة «الطاروف» الكويتيةِ ابنٌ من خادمةٍ فلبينية، وأن يرحلَ في النهايةِ عائدًا إلى وطن أمه..

وهكذا، يبدو أن السؤالَ الأساسَ في هذه الروايةِ هو سؤالُ الهُــوية: مَــنْ أنا؟ فنحن أمام شخصيةٍ رئيسةٍ تمارسُ البحثَ في إرثِـها العائليِّ الإشكاليِّ، وتبحثُ عن جوابٍ لهذا السؤال الأساس: ما هو انتسابي العائلي؟ إلى أيِّ عالم عائليٍّ أنتمي بالضبط؟ وكيف لمن ينتمي إلى أكثرَ من عالم عائليٍّ أن يحددَ نسبَه وهُـويتَـه: هل أنا فلبينيٌّ أو كويتيٌّ؛ أأنا عربيٌّ أم غيرُ عربيٍّ؛ هل أنا مسيحيٌّ أو مسلمٌ؛ أأنا ابنُ خادمةٍ من عائلةٍ فلبينيةٍ فقيرةٍ أم أنا حفيدُ عائلةٍ كويتيةٍ غنية؟.. ويبدو أن المشكلةَ الأساسَ هي في هذا الانقسام والازدواج بين وطنين وهُـويتين، فلا هو فلبينيٌّ خالصٌ مثل الفلبينيين، ولا هو عربيٌّ خالصٌ مثل العرب.. وهو ما عبَّر عنه بهذه الكلمات الدالة: «لو كنت فلبينيًّا هناك.. أو Arabo هنا!.. لو تنفع كلمة لو..» ( ص18).

وهكذا يبدو أن محكيَّ الانتسابِ العائليِّ في هذه الروايةِ يركز أساسًا على مساءلة الهُـوية، هُـوية هي مؤلفةٌ من أصولٍ مزدوجةٍ أو متعددة، لكنها في النهاية هُـويةٌ غائبةٌ، هي أشبهُ بهُـويةِ «البدون» في المجتمع الكويتي… وسؤالُ الهُـويةِ والانتسابِ يبدأ من الاسم الشخصيِّ، والشخصيةُ الرئيسةُ في روايةٍ تتأسسُ على نصٍّ أوتوبيوغرافيٍّ تخييليٍّ هي شخصيةٌ لا اسمَ لها محددًا، لها أكثرُ من اسم، اسمٌ باللغة الفلبينيةِ واسمٌ باللغة العربية: خوسيه / عيسى، ولها أكثرُ من لقب، وفي كلِّ لغةٍ يُنطَق اسمها بطريقةٍ مختلفة، وقد يكون لها اسمٌ من دون معنى، أو بمعنى يثير السخريةَ، لنسمع ما يقوله بلسانه: 

«اسميJose ،،

هكذا يُكتب. نَـنطقه في الفلبين، كما في الإنجليزية، هوزيه. وفي العربية يصبح، كما في الإسبانية، خوسيه. وفي البرتغالية بالحروف ذاتِـها يُكتب، ولكنه يُنطق جوزيه. أما هنا، في الكويت، فلا شأنَ لكل تلك الأسماءِ باسمي حيث هو… عيسى!

(…)، عيسى اسمٌ عربي، يُنطق هناك Isa، وهو ما يعني «واحدٌ» بالفلبينية، ومن دون شكٍّ أن الأمرَ سيبدو مضحكًا حين يناديني الناسُ برقمٍ بدلًا من اسم!

عندما كنتُ هناك (يقصد الفلبين)، كان الجيرانُ وأبناءُ الحي ممن يعرفون حكايتي… ينادونني Arabo، أي العربي، رغم أنني لا أشبهُ العربَ في شيءٍ إلا في نمو شاربي وشعرِ ذقني بشكلٍ سريع…

أما هنا (يقصد الكويت)، فإن أولَ ما افتقدته هو ذلك اللقب Arabo إلى جانب ألقابي وأسمائي الأخرى، لأكتسبَ لاحقًا لقبًا جديدًا ضَـمَّـتْه الظروفُ إلى جملة ألقابي، وكان ذلك اللقبُ هو… الفلبيني!» (ص 17 – 18).

هدفُ هذه الدراسةِ أن تثيرَ من الأسئلةِ ما يساعدنا على إعادة قراءةِ الروايةِ العربيةِ من خلال مفهومين نفسانيين لم يجدَا بعدُ طريقَـهما إلى النقد العربي: كيف نقول «رواياتِــنا العائليةَ»؟ كيف نبحثُ في الأصول والبدايات؟ كيف نمارسُ الحفرَ في النفس والذاكرة؟ كيف نقول آباءَنا وأجدادَنا؟ كيف نقول ذواتِــنا؟ كيف نقول آخرَنا؟ كيف نعيد بناءَ هُــويتِــنا وغيريتِــنا؟ ماذا عن محكيِّ الانتساب العائليِّ في مختلفِ الأجناسِ السردية، جنسِ الروايةِ وجنسِ الأوتوبيوغرافيا بالأخص؟ ماذا عن هذه الهُـويةِ الغائبةِ في محكياتِ الانتسابِ العائلي؟ ماذا عن هؤلاء الـ«بدون» هُــوية في مجتمعاتِــنا العائلية؟

الــهــوامـــش:

1) Freud, Sigmund / Fliess, Wilhelm : Lettres à Wilhelm Fliess, 1887-1904; édition complète établie par Jeffrey Moussaieff Masson ; édition allemande revue et augmentée par Michael Schröter; transcription de Gerard Fichtner; trad. de l’allemand par Françoise Kahn et François Robert. Paris, Presses universitaires de France, 2006.

2) في البداية، قدَّم فرويد هذا النص القصير الشهير «الرواية العائلية عند العصابيين» إلى أوتو رانك من أجل إدراجه في كتابه: أسطورة ميلاد

البطل، وهو كتاب صدر سنة 1909م، وظهر في طبعة منقحة سنة 1913م، ثم في طبعة موسعة بتقديم من إليوت كلاين سنة 1922م، ونشر بعد ذلك في كتاب فرويد:

S.Freud, «Le roman familial des névrosés (1909)», in : Névrose, psychose et perversion. Paris, Presses Universitaires de France ,1973, pp 157-160.

3) Otto Rank, 1909 «Der Mythus von der Geburt der Helden. Versuch einer psychologischen Mythendeutung», Schriften zur angewandten Seelenkunde. Leipzig & Wien. Trad, franc.: Le mythe de la naissance du héros. Paris, Payot, 1983.

4) آخر كتاب نشره فرويد سنة وفاته، 1939م، وصدرت الترجمة الإنجليزية في السنة نفسها من طرف كاترين جونس تحت عنوان: موسى والتوحيد، وظهرت أول ترجمة فرنسية من إنجاز آن برمان سنة 1948م؛ وفي سنة 1986م، ظهرت ترجمة أخرى إلى الفرنسية مراجعة ومنقحة تحت عنوان: L›homme Moïse et la religion monothéiste؛ ينظر: 

Moïse et le Monothéisme, 1939, dans L’homme Moïse et la religion monothéiste, Gallimard, ou dans Œuvres complètes-psychanalyse: vol. 20 : 1937-1939, (OCF), PUF, 2010. 

وقد نقل جورج طرابيشي كتاب: موسى والتوحيد إلى اللغة العربية (دار الطليعة للطباعة والنشر)، وصدرت منه طبعات عدة.

5) Catherine Dubeau, La lettre et la mère: roman familial et écriture de la passion chez Suzanne Necker et Germaine de Staël, Québec, Les Presses de l’Université Laval, 2013, p 51.

6) Jacques Lecarme: L’Autobiographie, Paris, Colin, 1997.

7) نشير مثلًا إلى دراسات المحلل النفسي أندري غرين:

André Green , Un œil en trop ; Le complexe d’Œdipe dans la tragédie, ed. Minuit, 1969. Narcissisme de vie et narcissisme de mort, Paris, Les Éditions de Minuit, 1983.

8) Marthe Robert, Roman des origines et origines du roman, Paris, Grasset, 1972, rééd. Gallimard, coll. Tel, 1977.

أما الترجمة العربية: مارت روبير: رواية الأصول وأصول الرواية، ترجمة: وجيه أسعد، منشورات اتحاد كتاب العرب، سوريا، ط1، 1987م.

9) مارت روبير، نفسه، ص47.

10) نفسه، ص51.

11) Didier Anzieu : Le corps de l’œuvre, essais psychanalytiques sur le travail créateur, Paris, Gallimard,‎ 1981.

12) Didier Anzieu, Le corps de l’œuvre, Gallimard, 1981, p 222.

13) محكي الانتساب العائلي مصطلح ابتكره دومينيك فيار سنة 1996م في مداخلة شارك بها في ملتقى حول: «وضعيات الرواية المعاصرة» (6 – 13 يوليو 1996م)، ونشرت هذه المداخلة في شكل نص تحت عنوان: «انتسابات أدبية» في كتاب جماعي:

Dominique Viart : Filiations littéraires, in : Jan Baetens et Dominique Viart(direction) : Etats du roman contemporain, Ecritures contemporaines2, Lettres modernes Minard, Paris, 1999, pp 115 – 139.

ومحكي الانتساب العائلي شكل أدبي جديد ازدهر في الرواية الفرنسية منذ الثمانينيات، وهو قد أتى ليحلّ محلّ الأشكال الكرونولوجية للأوتوبيوغرافيا والتخييل الذاتي، وليتقدم في شكل بحث أركيولوجي في أنساب الذات، من أجل استكشاف الماضي العائلي، ومن أجل بناء معرفة بالذات انطلاقًا من الوجوه العائلية: الآباء والأجداد. وقد وظف لوران دومانز هذا المصطلح في كتابه المهم:

Laurent Demanze, Encres orphelins, Josi Corti, Paris, 2008.

الروايات موضوع الدراسة:

سهيل إدريس: الحي اللاتيني، دار الآداب، بيروت (الطبعة الأولى، 1953م)، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، الطبعة 15، 2007م. 

سعود السنعوسي: ساق البامبو، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة السادسة، 2013م.

 

هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟ (حسن المودن)

هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟ (حسن المودن)

على النقيض من تصريحات الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ونصوصه النظرية(1)، نفترض أنه في نصوصه التخييلية، والقصصية بالأخص، كان ينتصر للتحليل النفسي، وكان يتبنى السؤال الفرويدي «نسبة إلى سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي» بشكل من الأشكال، لكن من مرجعيات أخرى، أدبية وثقافية، فكرية وفلسفية، أوسع وأكبر ربما من تلك التي يستند إليها فرويد. وأقترح أن نعود في هذه المحاولة النقدية إلى بعض نصوصه القصصية الشهيرة.

أول هذه النصوص قصة قصيرة بعنوان: بورخيس وأنا(2)؛ وفي هذا النص القصير، يبدو واضحًا، من العنوان نفسه، أن المبدأ الذي تأسس عليه التحليل النفسي عند فرويد: «الأنا ليست بسيدة بيتها الخاص»، هو المبدأ نفسه الذي تتأسس عليه هذه القصة القصيرة عند بورخيس: في الذات الواحدة، هناك «أنا» من جهة أولى، وهناك بورخيس من جهة ثانية، والاثنان هما معًا يشكلان الذات، بشكل يصعب معه، في النهاية، أن نحدد بالضبط مَنْ كاتب هذا النص القصصي: «حتى إني لا أعرف الآن من منا كتب هذه السطور»(3).

بلا شك، هناك تمايزات بين الاثنين: فالأنا تحب أن تتمشى في بوينس آيريس، وقد تتوقف لتتأمل شيئًا أثار انتباهها؛ إنها تعيش وتترك نفسها لعيشها وحياتها؛ في حين أن بورخيس تحدث له أمور أخرى، فأخباره تصل عبر البريد والمؤلفات، وهو يمارس الأدب، ويظهر في قائمة الأكاديميين أو في بعض معاجم الأعلام، وهو معروف بطريقته السمجة التي تجعل الأشياء تبدو كأنها مجرد تمثيل وتصنع، كما أنه معروف بطريقته المضللة في تشويه الأشياء وتهويلها. لكن سيكون من المبالغة والمغالاة، كما يقول النص، أن نعد علاقتهما عدائية؛ لأن هناك أشياء مشتركة ومتداخلة بينهما: فهما معًا يحبان الساعات الرملية، والخرائط، والفن الطباعي للقرن الثامن عشر، وأصول الكلمات، وطعم القهوة، ونثر ستفنسون.. والأكثر من ذلك، فإن أدب الآخر، بورخيس، هو الذي يبرر وجود الأنا، وإن كان غير قادر على إنقاذها من ضياعها ومصيرها، فإن هناك بضع شذرات من الأنا لن تنجو إلا من خلال ذلك الرجل: بورخيس.. كأن الأديب هو آخر الأنا، وكأن الأدب هو موطن ذلك الآخر، آخر الأنا.. وهو لا يقول الأنا كاملة، ولا يمكنه أن يقول إلا شذرات منها، لكنه وحده يقول شيئًا عنها، وحده الأدب يتحدث عن الأنا، وعن آخر الأنا.

هناك «أنا» من جهة أولى، وهناك «بورخيس» من جهة ثانية، وهو ما يعني أن الذات هي الأنا ونقيضها، وأن الذات «هي نوع من التناشز والانفصام»، والآخر هو شيء يقع خارج الذات، ولذلك يسميه النص بــ «ذلك الرجل» في أكثر من مكان، فالحياة التي تعيشها الأنا في شوارع بوينيس آيريس غير الحياة التي يعيشها بورخيس على صفحات الجرائد وقوائم الأكاديميين ومعاجم الأعلام، ويبدو كأن لكل واحد منهما حياته الخاصة؛ لكن النص يقدم من الدلائل ما يكشف أن ما بينهما ليس عداء، بل إنه نوع من التماهي، والأنا، على الرغم من محاولاتها، فهي لم تستطع التحرر من ذلك الآخر: «أما أنا فسأبقى على الدوام في بورخيس، وليس في نفسي، إذا كنت في الحقيقة كائنًا ما»(4)، فالأنا تذهب إلى حد الشك في وجودها بوصفها كائنًا حقيقيًّا؛ ذلك لأن وجودها لا يكون إلا من خلال ذلك الآخر: فالأنا هي الآخر(5)، لأنه في النهاية، سيكون مصير الأنا هو النسيان، ووحده ذلك الآخر سيبقى: «لقد انتهت الأشياء جميعًا إلى خسارة، سقط كل شيء في النسيان أو في يد ذلك الرجل»(6)؛ ولهذا، فالكاتب لا يعرف، في النهاية، مَنْ كاتب هذا النص: أهو أنا أم بورخيس أم هما معًا؟ وهو ما يعني أن الأنا ليست بالوحيدة التي تكتب النص، بل ربما أنها ليست بكاتبته، فالآخر ربما هو الكاتب، لكنه الذي لا يمكنه ألا يقول شيئًا، ولو قليلًا، عن الأنا، لما بينهما من علاقات، فالأنا هي الآخر، بما يعني أن الآخر هو الأنا، ولو جزئيًّا. لكن الذي يبقى هو ذلك «الرجل الآخر» الذي ينتمي إلى نظام الكتابة والأدب، أما الأنا التي تنتسب إلى نظام الواقع والعالم فإنك تنتهي إلى الموت والنسيان. وإجمالًا، يبدو بورخيس، في هذا النص على الأقل، كأنه يعيد كتابة فرويد، كأنه يعيد أسئلة التحليل النفسي إلى مائدة النقاش: ماذا عن الأنا؟ أهي موحدة منسجمة وسيدة بيتها أم أنها منقسمة منفصلة منفصمة؟ كيف يتأسس هذا الانقسام بين الأنا والآخر؟ ما دور الآخر في تشكيل الهوية؟ ما دور الغيرية في بناء الذاتية؟ كيف يمكن أن أكون آخر بالنسبة إلى أناي؟ لكن بورخيس يدرج الأدب في إطار هذه المسألة: ما علاقة الأدب بالأنا؟ أبإمكانه أن يقول الأنا في كليتها وشموليتها، أم أنه لا يقولها إلا جزئيًّا من خلال بضع شذرات منها؟ أيقول الأنا أم يقول الآخر، آخر الأنا؟ أليس الآخر بالذي يبقى في النهاية بعد أن تؤول الأنا إلى النسيان؟ ألا يعني ذلك أن الأدب هو هذا الذي وحده يحتفظ ولو بقليل من الأنا، وهو لا يقولها في كليتها، لكنه يحتفظ ربما بكثير عن آخرها؟ 

هي أسئلة تزداد استشكالًا وبخاصة عندما نستحضر نصًّا آخر عند بورخيس، عنوانه: الآخر(7). من بداية النص، يخبرنا السارد أن الأمر يتعلق بحدث وقع صباح أحد أيام شباط 1969م، وهو حدث عاشه هو نفسه، لكنه لم يقم بأي محاولة لتدوينه؛ في ذلك الوقت. وهذا يعني أن الحدث عاشه السارد الكاتب، أي بورخيس نفسه. وهو يوضح أنه لم يقم بأي محاولة لتدوينه، لأنه كان يريد نسيان ما وقع، خوفًا على عقله؛ لكن بعد انقضاء سنوات، قام بتسجيله على الورق، أولًا من أجل أن يقرأه الآخرون على أنه قصة، وثانيًا من أجل أن يتحول إلى مجرد قصة بالنسبة إليه أيضًا. وهذا يعني أن السارد الكاتب (بورخيس) يرى القصة (لنقل: الكتابة؟) شيئًا آخر غير الواقع، وإن كانت تبدو كأنها تنقل ما وقع، فالواقع عندما يروى، أي عندما ينتقل إلى نظام التدوين والكتابة، فإنه قد يتحول إلى شيء آخر؛ ولهذا، فالسارد الكاتب انتظر لسنوات قبل أن يروي ما حدث، من أجل أن يقرأه الآخرون على أنه قصة، ومن أجل أن يتحول إلى قصة بالنسبة إليه أيضًا. لكن، وبشكل مفارق، فالنص من بدايته يوضح أن ما حدث قد حدث فعلًا وحقيقة، والسارد الكاتب يريد من القارئ أن يقتنع بهذه الجزئية الأساس، بنقطة انطلاق ربما هي ضرورية إن أراد القارئ أن يتصور ما حدث، وأن يستوعب ما وقع، وأن يدرك أبعاد ما عاشه السارد الكاتب في ذلك الصباح من أيام شباط 1969م. لكن ما الذي حدث؟ ولماذا لم يعمل الكاتب على تدوين ما حدث وقت حدوثه؟ وماذا عن الحدث عندما ينتقل إلى نظام التدوين والكتابة؟

ما حدث هو شيء لا يتصوره العقل، ولهذا كان السارد الكاتب يريد أن ينسى ما عاشه خوفًا على عقله بالضبط، فالحدث كان، على حد تعبيره، «مرعبًا عندما وقع، وكان أكثر رعبًا في ليالي الأرق التي أعقبته»(8). وعلى الرغم من كل هذا الرعب، فالكاتب انتظر سنوات قبل أن يقرر نقل ما حدث رواية وكتابة. والأكثر من ذلك، فهو يوضح أن أثر ما وقع بالنسبة إليه لن يكون بالضرورة هو الأثر نفسه بالنسبة إلى مجرد قارئ لهذا الذي وقع: «لكن هذا لا يعني أن رواية ما حدث ستهز كل شخص آخر بالضرورة»(9). وذلك لأن الحدث كما عاشه الكاتب غيره عندما انتقل إلى نظام الرواية والتدوين، وأن أثره على من عاشه فعلًا وحقيقة غيره على من قرأه، وأن هناك فرقًا بين نظام الواقع والعالم ونظام الكتابة والقراءة.

ما حدث هو أن خورخي لويس بورخيس كان يجلس فوق أحد المقاعد التي تطل على نهر «تشارلز»، وكانت الساعة نحو العاشرة صباحًا من أحد أيام فبراير 1969م، وكان هناك شخص جالس على الحافة الأخرى من المقعد نفسه، ولن يمر وقت كثير ليبدأ التعارف بينهما، وليكتشف خورخي لويس بورخيس أن هذا الشخص الجالس قريبًا منه اسمه خورخي لويس بورخيس أيضًا، لكن مع وجود فارق: فالأول يعيش بمبردج أواخر الستينيات، والثاني يعيش بجنيف في العقد الثاني من القرن العشرين، أي أن الأول أكبر سنًّا من الثاني، كأن بورخيس يلتقي الذي كانه في زمن مضى وانقضى، فبورخيس الأول يمثل المستقبل، في حين نجد الثاني يمثل الماضي. ودار حوار طويل بينهما، حول حقيقة ما يقع لهما وعلاقته بالحلم، حول الماضي والمستقبل، حول الكتب والكتابة. وهو الحوار الذي كشف عن عدد من الاختلافات بين الاثنين حول الناس والقراءات والأذواق، بحيث يبدو أنهما غير قادرين على التفاهم، على أن يفهم الواحد منهما الآخر، فقد كانا «متشابهين جدًّا ومختلفين جدًّا»(10). وقبل أن يفترقا، اتفقا على اللقاء في اليوم التالي «على المقعد نفسه الموجود في زمانين ومكانين مختلفين»(11)؛ لكن بورخيس الأول لم يحضر في اليوم التالي، ولا شك أن الآخر لم يحضر أيضًا.

هذا ملخص ما حدث بإيجاز شديد، وأفترض أنه يطرح، من منظور التحليل النفسي، ثلاث مسائل:

(أ) هل الأنا منقسمة متنافرة لا موحدة متجانسة؟

في أكثر من مكان في النص ما يؤكد أن انقسام الأنا أمر معروف ومسلّم به، فـ«ليس هناك من لا يجد نفسه مع نفسه في اليقظة»(12)، وهذا ما حدث لبورخيس في ذلك الصباح من أحد أيام فبراير 1969م، وجد نفسه مع نفسه، لكن ليس بمعنى أنه اختلى بنفسه، وليس بمعنى أنه يحدث نفسه في مونولوغ داخلي مثلًا. ذلك لأن هناك شيئًا مختلفًا في هذه الحالة، صاغه بورخيس بهذا الشكل الاستثنائي: «عدا أننا اثنان»(13): فالجديد هنا أننا أمام بورخيسين اثنين، هناك تشابه كبير بينهما، لكن هناك ما يفصل بينهما، ويجعل كل واحد منهما منفصلًا مختلفًا عن الآخر: هناك «الأنا» وهناك «الأنا الآخر»، وبينهما اختلافات كثيرة وعلى مستويات عديدة: فعلى المستوى العائلي، وبالنسبة إلى الأنا، فالأم حية ترزق، والأب ميت والجدة ميتة كذلك، لكنهم كلهم أحياء بالنسبة إلى الأنا الآخر؛ وعلى المستوى الشخصي: الأنا كاتب مشهور ومحاضر في كمبردج، أما الأنا الآخر فإنه لا يزال في بداياته، يقرأ رواية لدوستويفسكي التي لم تعد الأنا تتذكرها؛ وواضح أن بينهما اختلافات كبرى في تصور كل واحد منهما للقراءة والكتابة: فالأنا الآخر يتحدث عن كتاب يحتفل فيه بأخوة الإنسان وهو موجه إلى الجمهور الأعظم من المضطهدين والمنبوذين، في حين يوضح الأنا أن فكرة «الجمهور» تجريدية، إذ لا وجود في الواقع إلا للأفراد؛ والأنا الآخر يؤمن في الأدب بابتكار استعارات جديدة أو اكتشافها، فيما يؤمن الأنا بتلك الاستعارات التي تحمل شبهًا حميميًّا واضحًا، تلك الاستعارات التي ارتضاها خيالنا سلفًا (الشيخوخة والغروب، الأحلام والحياة، انسياب الزمن والمياه). والخلاصة أننا أمام اثنين مختلفين جدًّا: في واقعهما ومصيرهما، في أفكارهما وتصوراتهما، في قراءاتهما وكتاباتهما. وكان الحوار بينهما صعبًا: وإن كان بينهما كثير من التشابه، فإن كل واحد منهما يبدو كأنه «نسخة كاريكاتورية للآخر»(14)، كأنه لا يمكن لأي واحد منهما أن يكون صورة طبق الأصل من الآخر، لأن هناك وجه الشبه كما أن هناك وجه الاختلاف، وهو ما قد يعني أن هناك أنا تنقسم إلى أنوات مختلفة وإن كان هناك شبه بينها: أي أن الأنا ليست وحدة متطابقة ومنسجمة، موحدة ومتجانسة، بل إنها وحدة تنقسم وتنفصل، تتضاعف وتتعدد، تختلف وتتعارض. فما تفسير ذلك انطلاقًا من النص نفسه؟

(ب) هل الزمن هو الذي يقسم الأنا ويعددها ويغيرها؟

نفترض أن الفكرة الرئيسة التي يدافع عنها بورخيس من خلال هذه القصة هي ضرورة الانتباه إلى الدور الكبير الذي يؤديه الزمن في حياة الأنا ووجودها، في انقسامها وتعددها، في اختلافها وتنافرها. وهكذا، فالخلاصة الأساس التي انتهت إليها الأنا هي أنها في زمن مضى وانتهى غيرها في الوقت الحاضر أو في الزمن المستقبل؛ والعنصر الأساس في هذه التغيرات التي تصيب الأنا، فتجعلها منقسمة متعددة، هو الزمن، فهذا هو ما انتهت إليه الأنا بعد ذلك الذي حدث في فبراير 1969م لما التقت الأنا الآخر وهو يعيش زمنًا آخر يعود إلى بداية القرن العشرين: «وإنسان الأمس غير إنسان اليوم» كما قال أحد الإغريق، وربما كنا نحن الجالسين على هذا المقعد في جنيف أو كمبردج دليلًا على ذلك(15). وليس من دون دلالة أن يكون ما فكرت فيه الأنا قبل أن يحدث ما حدث هو التفكير بالزمن من خلال صورة النهر عند هيراقليطس: «كنت جالسًا فوق أحد المقاعد التي تطل على نهر تشارلز.. كانت المياه الرمادية تدفع الطوف الجليدي. وقد دفعني ذلك إلى التفكير بالزمن صورة هيراقليطس قبل ألف عام»(16). وهذه الفكرة التي يصوغها بورخيس تخييليًّا هي نفسها الفكرة التي يوضحها في نصوصه النظرية، ففي مقالته حول الزمن، نجده يقول:

«يشبه الزمن دائمًا نهر هيراقليطس، فنحن دائمًا نرجع إلى هذا المجاز القديم… فنحن دائمًا هيراقليطس يتأمل ظلّه في مياه النهر، وهو يفكر في أن هذا النهر ليس هو إياه؛ لأن المياه فيه قد تغيرت، ويفكر أيضًا في أنه ليس هيراقليطس نفسه؛ لأنه كان شخصًا آخر بين اللحظة التي رأى فيها النهر في المرة الفارطة وبين اللحظة الراهنة»(17).

في المقعد نفسه، في اللحظة نفسها، يلتقي بورخيس الذي نيف على السبعين وبورخيس الشاب الذي لم يبلغ العشرين، أي يلتقي الماضي والمستقبل، فالأنا هي مستقبل الأنا الآخر، وهذا الأخير هو ماضي الأنا، وبورخيس في اللحظة الراهنة هو الاثنان معًا. وبالنظر إلى طبيعة عقولنا وعقائدنا وإدراكاتنا، فإنه من غير الممكن أن نقبل بإمكانية أن يلتقي أحدكم بذلك الشخص الذي كانه في الزمن الماضي: أن يلتقي في اللحظة نفسها شخصك في الألفية الجديدة وشخصك في عقد من زمن الألفية المنصرمة؛ لأن عقولنا سلمت بأن ما مضى قد انتهى ومات، والواقع أن ليس هناك من دلائل على موته ونهايته، لأن الأمر لا يتعلق إلا بتصور للزمن سلمنا بأنه وحده الصحيح، ولهذا سيكتب بورخيس مقالة نظرية بعنوان شديد الدلالة: «دحض جديد للزمن»(18)، وفيها يوضح مفهومه للأنا وللزمن فيقول:

«الزمن نهر يجرفني لكنني أنا الزمن، إنه نمر يفترسني لكنني أنا النمر، إنه النار التي تلتهمني لكنني النار… فأنا بورخيس»(19). ما يمكن أن ننتهي إليه هو أن مفهوم الأنا لا يمكن تصوره من دون أن نأخذ بعين الاعتبار مفهوم الزمن، وأن تلك العلاقة الجدلية بينهما هي التي يمكن أن تفسر لنا لماذا ينبغي لنا أن نجدد من مفهوماتنا: لماذا يكون من الضروري أن ننظر إلى الأنا على أنها ليست وحدة موحدة متطابقة منسجمة متجانسة، بل إنها على عكس ذلك وحدة منقسمة متنافرة لا تعرف الانسجام والتجانس؟ ولماذا يكون من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار أن الأمس غير اليوم، وأن الماضي غير المستقبل، لكن الحاضر قد يكون هو ذلك كله، أي أن اللحظة الراهنة هي الماضي والمستقبل معًا، كما قد لا يكون هذا الحاضر أي شيء، كأنه غير موجود، ما يوجد هو الماضي أو المستقبل. وفي الأحوال كلها، فإن مفهومنا للزمن وللأنا يحتاج إلى التغيير: فالأنا يغيرها الزمن باستمرار، لكنها هي الزمن نفسه؟

(ج) هل الحلم هو المفتاح؟

   فكرت الأنا كثيرًا في هذا اللقاء الذي لم تروه لأحد، واعتقدت في النهاية أنها وجدت المفتاح: «كان اللقاء حقيقيًّا. أما الآخر فكان يحلم عندما تحاور معي»(20). وهذا يعني أن الحدث، حدث اللقاء، قد كان حقيقيًّا بالنسبة إلى الأنا: بورخيس في اللحظة الراهنة، وهو يشرف على السبعين سنة بإمكانه أن يتعرف إلى نفسه لما كان شابًّا لم يبلغ العشرين بعد، فهو يعرفه جيدًا، لأنه عاشه فعليًّا؛ لكن الأنا الآخر، أي ذلك الـ«بورخيس» الشاب لم يعش بعد بورخيس السبعين سنة، ولذلك لا يمكن للقاء أن يكون حقيقيًّا بالنسبة إليه، لا يمكنه أن يكون إلا حلمًا، ولهذا تقول الأنا: «لقد حلم بي الآخر، ولكنه لم يحلم بي تمامًا»(21). ومعنى هذا أن ما حدث لا يمكن تفسيره إلا بهذا المفتاح: الحلم، والحلم عند فرويد هو الطريق الملكي إلى اللاوعي(22)، والذي يحلم في أثناء الحلم ليس هو الأنا (الوعي؟)، بل إنه الأنا الآخر، فهل نقول مع التحليل النفسي: إن الآخر هو اللاوعي؟(23) لكن المسألة عند بورخيس وإن كان لها هذا البعد النفسي، فإن لها أبعادًا أخرى، ومنها بالأساس البعد الزمني: فالآخر هو بورخيس الشاب الذي يحلم بمستقبله، أي ببورخيس الشيخ، أي أن الآخر هو الماضي الذي يحلم بالمستقبل؛ وربما أن هذه الفكرة تعاكس فكرة فرويد التي تقول: إن الحلم يحكي رغبة مكبوتة منسية، أي أن اللاوعي يستعيد حدثًا من الماضي لم تنجزه الأنا فعليًّا، وحصل إنجازه حلميًّا في زمن لاحق؛ ذلك لأن بورخيس يقلب الأدوار: الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل وليس العكس، الماضي هو الذي يحلم كأنه يريد أن يعرف مصيره ومنتهاه ومستقبله. وربما قد يتعلق الأمر بشيء آخر، كأن تكون تلك الفكرة عند فرويد بأن اللاوعي لا يعرف الزمن هي التي يحاول بورخيس بلورتها وتطويرها؟ يبقى أن بورخيس يترك النافذة مفتوحة أمام أسئلة مقلقة وغريبة دارت بين الأنا والأنا الآخر: من الحالم ومن المحلوم به: الأنا أم الأنا الآخر؟ ما الفرق بين الحلم والعالم؟ ماذا لو استمر الحلم ولم يتوقف؟ وهي أسئلة تمنح المسألة بعدًا وجوديًّا، أي أن الحلم، مثل الواقع، هو مستوى آخر من الحياة والوجود، ولا بد، يقول نص بورخيس: «أن نقبل بالحلم تمامًا كما نقبل بالعالم وبأننا نولد ونرى ونتنفس»(24).

قلب فرضيات فرويد رأسًا على عقب

هل أفترض أن بورخيس قد قرأ فرويد، وأنه قد أعاد كتابته بشكل من الأشكال، بمعنى أنه يسائله ويقوّمه ويطوره، فهو وإن كان ينطلق من الفرضية الأساس في التحليل النفسي الفرويدي بأن الأنا ليست بسيدة بيتها الخاص، أي أنها ليست وحدة متطابقة، وأنها تنقسم إلى أنوات متعددة وغير متجانسة كل التجانس، فإنه يلفت الانتباه إلى أبعاد أخرى للمسألة النفسانية، ويبدو كأنه يقلب بعض فرضيات فرويد رأسًا على عقب: الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل وليس المستقبل بحالم بالماضي؛ الحلم ليس بمجرد استعادة لما عاشته الأنا في الماضي، ذلك لأن الحلم هو عالم آخر، هو مستوى آخر من الحياة والوجود. وبورخيس بذلك كله، يبدو كأنه يرفض تطبيق التحليل النفسي على الأدب، لكنه يفضل تطبيق الأدب على التحليل النفسي، بالمعنى الذي بلوره أحد قراء بورخيس الناقد والمحلل النفسي الفرنسي المعاصر بيير بيار(25)، ذلك لأن الأدب هو الأقدر دومًا على تجديد الأسئلة والمفهومات والتصورات النفسانية للإنسان ولغته وأدبه.

لكن إعادة قراءة فرويد، وإعادة كتابته، بما يعمل على تجديد أسئلة التحليل النفسي لم يكن ليكون ممكنًا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار أن بورخيس يعمل قبل ذلك على اشتراط مفهوم جديد للكتابة الأدبية. لأنه لا بد من تصور جديد للأدب يكون قادرًا على مقاربة جديدة لتلك الأسئلة النفسانية والفلسفية. وقد رأينا أعلاه، وبخاصة مع النص الثاني، كيف يتحدث بورخيس عن كتابة، وإن كانت تنطلق من الواقع اليومي المعيش، إلا أنها سرعان ما تحلق عاليًا نحو فضاءات الخيال والرمز والغرابة وغير المعقول. فالتفصيلات اليومية مادة أساس في الكتابة، لكن هذه الأخيرة لا تكتفي بالنسخ والتسجيل، وإنما تقوم بالنبش في أماكن ومسالك أخرى لاقتناص ذلك الغريب في واقعنا ووجودنا، ومساءلة قدرنا الكوني واشتغالنا الذهنيّ والاجتماعيّ والتاريخي. وتتقدم الرؤية التي تنسجها نصوص بورخيس استشباحية (فانطاسماغورية) للأنا والزمن، للوجود والحياة. فمن الصعب في قصة بورخيس أن نعرف أيتعلق الأمر بحكاية واقعية حقيقية، أم أنها مجرد حلم أو استيهام، أيتعلق الأمر بواقعة حدثت فعلًا في الزمن والمكان، أم أن الأمر كله مجرد تهيؤات وتخيلات وأحلام؟ وكأن الأمر يتعلق بلغز يحاول النص التخييلي فك أسراره والوصول إلى حقيقته، لكنه بقي مفتوحًا على كل الاحتمالات من دون أن ينغلق على حقيقة ما على أنها الحقيقة، وتبقى الأسئلة مطروحة دون جواب: هل حدث اللقاء فعلًا بين بورخيس الشيخ وبورخيس الشاب؟ هل من الممكن أن يلتقي الشاب والشيخ، بوصفهما كائنين منفصلين وإن كانا متشابهين، في المقعد نفسه، لكن كل واحد منهما يوجد في تلك اللحظة بزمان ومكان مختلفين؟ هل الأمر واقع أو حلم؟ من الحالم ومن المحلوم به؟ ما الفرق بين الحلم والواقع؟ أليس الحلم شكلًا آخر من الحياة والوجود؟

يبدو أن ذلك كله قد يقود إلى المزيد من الأسئلة والشكوك، إلى حد أن أنطونيو تابوكي قد ذهب بعيدًا بالتفكير البورخيسي عندما تساءل: هل وجد بورخيس فعلًا؟ أو أنه مجرد اختراع من كتاب ومثقفين من الأرجنتين، وأن حياته مجرد كتابة: «من المسموح لنا أن نقول: إن خورخي لويس بورخيس هو شخصية من ابتداع شخص يحمل اسمه، لم يكن له وجود باعتباره هو»(26).

هوامش:

(1) تلحظ الناقدة وأستاذة الأدب الإسبانيّ مرسيديس بلانكو أنه من غير الممكن أن نميّز ما كان يعرفه بورخيس عن فرويد، فلا تصريحاته ولا أعماله النظرية تساعدنا على ذلك؛ لكن الشيء اليقين هو أن تلك الإحالات القليلة على التحليل النفسي في كتاباته تأتي مختزلة وسطحية ومتهكمة؛ ولمزيد من التفصيل، نحيل على دراستها:

Mercedes Blanco : «Borges et l’aversion pour la psychanalyse», Savoirs  et clinique, 2005  / 1,N : 6

(2) بورخيس، خورخي لويس: «بورخيس وأنا»، ضمن مؤلف: سداسيات بابل، مختارات نقلها إلى العربية حسن ناصر، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013م.

(3) نفسه، ص 156.

(4) نفسه، ص 156.

(5) «الأنا هي آخر» هي أيضًا قولة مشهورة للشاعر أرتور رامبو في إحدى رسائله التي تعود إلى 15 مايو 1871م؛ وهي عنوان كتاب لأحد أكبر المنظرين للأتوبيوغرافيا في العصر الراهن: فليب لوجون في كتابه: الأنا هي آخر، الصادر عن دار سوي بباريس سنة 1980م.

(6) بورخيس: نفسه، ص 156.

(7) خورخي لويس بورخيس: «الآخر»، ضمن: كتاب الرمل، ترجمة سعيد الغانمي، الإصدار الثاني، أزمنة للنشر والتوزيع، الأردن، 1999م.

(8) نفسه، ص 14.

(9) نفسه.

(10) بورخيس: نفسه، ص 19.

(11) نفسه.

(12) نفسه، ص 16.

(13) نفسه.

(14) نفسه، ص 19.

(15) نفسه، ص 18.

(16) نفسه، ص 14.

(17) بورخيس: الزمن، ضمن مؤلف: بورخيس صانع المتاهات، ترجمة وتقديم محمد آيت لعميم، المركز الثقافي العربي، البيضاء، بيروت، 2016م، ص 83.

(18) مقالة مذكورة ضمن حوار مع ألبرتو مانغويل، مترجم ومنشور ضمن مؤلف: بورخيس صانع المتاهات، المذكور أعلاه.

(19) نفسه، ص 131، 132.

(20) بورخيس: الآخر، ص 20.

(21) نفسه.

(22) جان بيلمان نويل: التحليل النفسي والأدب، ترجمة حسن المودن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997م، وبخاصة الفصل الثاني، وعنوانه: قراءة في اللاوعي.

(23) Roland Chemama : Dictionnaire de la psychanalyse, ed. Larousse,  Paris, 1993, p28.

(24) بورخيس: الآخر، ص 15.

(25)  Pierre Bayard : Peut-on appliqué la littérature à la  psychanalyse, ed.  Minuit, Paris, 2004.

(26) أنطونيو تابوكي: هل وجد بورخيس فعلًا؟، ضمن مؤلف: بورخيس صانع المتاهات، سبق ذكره، ص251.