مجتمع جديد وثقافة أخرى

مجتمع جديد وثقافة أخرى

لا يمكن لنا أن نعالج الأسباب التي تساءل عنها المحور حول تراجع مفهوم الثقافة وعدم حظوته بتقدير عند شرائح واسعة من المجتمع، بل الاستخفاف به كذلك فضلًا عن معالجة أثر ذلك في المثقفين أنفسهم من دون أن نراجع مفهوم الثقافة نفسها وما طرأ عليها من تغيير وضعها على عتبة أخرى من الفهم يتوجب علينا الوقوف عليها قبل الحديث عن موقف المجتمع منها ومدى استخفافه بها أو تثمينه لدورها. ذلك أن المحور المطروح هنا وما استند عليه من مسلمات وما طرحه من تساؤل إنما ينطلق من المفهوم التاريخي للثقافة الذي ظلت محتفظة به ومحافظة عليه قبل أن يلج عصرنا الحديث ثورة التقنية، وما أتاحته من وسائل التواصل وما مكنت به شرائح واسعة من المجتمع من الانتقال من تلقي الثقافة والانفعال بها إلى المشاركة في الفعل الثقافي وممارسة الفعل به، وإذا كانت الثقافة بذلك قد خسرت دورًا تاريخيًّا لها فإنها قد اكتسبت أثرًا وتأثيرًا لم يكن لها من قبل.

لم تعد الثقافة هي ثقافة النخبة، ولم تعد أسئلتها هي تلك الأسئلة الكبرى المتعلقة بالقضايا المصيرية والقيم العليا المتصلة بالحقيقة والجمال، ولم يعد المثقفون هم تلك النخبة التي يسكن كثير من أفرادها في أبراجهم العاجية فإذا ما استشعروا مسؤوليتهم تجاه المجتمع هبطوا إليه «من المكان الأرفع» هبوط الناصحين والمبشرين والمعلمين يأخذون بأيدي الناس لما يرون فيه خيرهم وصلاحهم.

لم تعد الثقافة كذلك ولم يعد المثقفون كذلك بعد أن مكنت التقنية ووسائل التواصل المختلفة جميعها الناس جميعهم من المشاركة في تبادل الأخبار والنصائح والتوجيهات وفضح كل ما يمكن أن يستهدف سلامة المجتمع وأمنه واستقراره، والمشاركة في صياغة الوعي بما يُتداوَل من تغريدات ومقاطع سواء كانت مجتزأة من أخبار مصورة أو أعمال فنية أو خطب عابرة، كأنما هناك عودة إلى مفهوم الثقافة في المجتمعات البدائية، أو البدوية، حين كانت المجالس معتركًا ثقافيًّا يتبادل فيه أفراد تلك المجتمعات الأخبار والنصائح والخبرات، وذلك قبل أن تمتاز منهم فئة وتستحوذ على هذا الدور ثم تمضي به إيغالًا في المعرفة وتحليقًا بالقيم العليا بعيدًا من معترك الحياة اليومية للمجتمع.

لقد غُيِّر مفهوم الثقافة، فلم تعد أكثر عمقًا واستشرافًا للمستقبل وتكريسًا للقيم العليا، غير أنها أصبحت أكثر قربًا من المجتمع وأعمق تأثيرًا في مجرى حياته اليومية، وتغير مفهوم المثقفين، فلم يعودوا هم أولئك المعلمون العالمون العارفون الموجهون، أصبحوا أفرادًا من داخل المجتمع لا يكاد يعرف أحد أسماءهم، بل ربما لا أسماء لهم غير أن ما يقولونه أو يتحدثون عنه أو يحذرون منه أو يوجهون له لا يلبث أن يطير في الآفاق كما كان يطير المثل والقول المأثور والحكمة السائرة.

لم يُدِرِ المجتمع، إذًا، ظهره للثقافة، إنما أدار ظهرَه للثقافة كما استقر فهمها لدينا نحن معشر المثقفين، ثقافة النخبة في استعلائهم أو ثقافتهم حين يتواضعون كذلك محتفظين بدورهم الذي يستمدون منه نخبويتهم تلك، وإذا لم يكن لهم بُدّ من أن يستشعروا الإحباط فليستشعروه حين يجدون أن تغريدة واحدة قادرة على أن تفعل ما لم تكن كتبهم مجتمعة قادرة على فعله، وليس لهم بعد ذلك من دور إلا أن تكتب النخبة للنخبة وأفراد المجتمع الجديد عنهم في ثقافتهم الجديدة فكهون.

نكتب شعرًا كي لا نفنى

نكتب شعرًا كي لا نفنى

نتحدث في حياتنا اليومية كي نقضي حاجاتنا فتنقضي تلك الحاجات غير أن كلامنا تذهب به الريح، يتطاير كما يتطاير الرماد، يفنى بمجرد أن تنقضي تلك الحاجات، غير أننا حين نكتب شعرًا فإننا إنما نكتبه كي تبقى أصواتنا حية حين نرحل، يبقى شيء منا لا يموت، كأنما أنتم أرواح الأجيال المقبلة هي أرواحنا الخالدة التي لا تموت، تتنقل بين الأجيال وتبقى ما بقي أحد يذكر بعضًا مما قلناه ذات يوم.

والحقيقة التي لم تفت وعي الإنسان منذ القدم إنما هي حقيقة أنه كائن يتهدده الموت، كائن فانٍ يعرف من سيرة من سبقوه ويتوقع من سيرة من سيأتون بعده أن الحياة طويلة جدًّا وعمره قصير جدًّا، وأدرك كذلك كيف يطوي النسيان كثيرًا من الناس بعد موتهم حتى كأنما لم يولدوا ولم يعيشوا على هذه الأرض، يطويهم النسيان حتى لا يعود أحفاد أحفادهم يتذكرون أسماءهم، فمن منا يتذكر أكثر من خمسة أو ستة من أجداده إذا ما راح يتذكر نسبه.

محنة النسيان لم تكن بأقل مأساوية من محنة الموت، النسيان موت مضاعف، فناء مركب، محو كامل للحياة، موت الموت، مقبرة للمقبرة، حتى قبورنا تختفي معالمها، ولو نبش الأرض نابش بعد بضعة عقود من الزمن فلن يجد شيئًا منا، أو يجد خيطًا من رماد. وحين عرف الإنسان أنه كائن هش يتهدده الموت ويطويه النسيان، أخذ حجرًا أو إزميلًا وراح ينقش على الصخر من حوله رسمًا أو حرفًا أو اسمًا أو كلماتٍ، مستمدًّا من الصخر صلابة تقاوم الموت والنسيان معًا، حرفًا أو اسمًا أو كلمةً أو نقشًا تتوارثه الأجيال ويقف شاهدًا على أن هناك من عاش هنا وحين رحل ترك بصمة لا ترحل.

ذلك هو الأساس الذي انبنى عليه الشعر؛ صرخة ضد الموت، صمود في وجه الفناء، محاولة للتشبث بالخلود قدر المستطاع، واكتشف الإنسان بتدرجه وترقيه في عتبات الوعي أن الكلمات التي يتركها خلفه تكتسب حياتها وخلودها بقدر ما تتوافر فيها قيمتان: أولهما البعد الإنساني المعبر عن الإنسان في كل زمان ومكان، والبعد الجمالي الذي يجعل من تلك الكلمات إضافة لما يحيط بالإنسان من جمال العالم من حوله، إنسانيًّا يجد فيه الإنسان ما يجول في نفسه من أحاسيس وعواطف، من حزن وفرح، من سعادة وشقاء، وجماليًّا يرتقي بذوق الإنسان ويكشف له عن أن عليه أن يستمتع بالحياة التي وهبها الله إياه وألَّا يترك ما قد يخالط هذه الحياة من قبح يقف سدًّا بينه وبين جمالها حين يتجلى في هسهسة أوراق الشجر، وشقشقة عصفور يغرِّد، ولون وردة تتفتح، ولمعة الضوء على وجه ماء يترقرق.

الشعر يخلد ويخلد به الإنسان بقدر ما يكون إنسانيًّا، وبقدر ما يكون جميلًا، وبقدر ما يمثل المثل العليا التي تحفظ للمجتمع تماسكه وتعاونه وتشيع روح التعاون والمحبة والتسامح بين أفراده، وبقدر ما يتمتع به من جمال الفكرة وجمال التعبير عن الفكرة، وبقدر ما يرسمه من صور لا تلتقط من العالَمِ أجملَ ما فيه إنما تضيف إلى جمال العالَم جمالًا وبهائِه بهاءً. الشعر بذلك عمر ثانٍ للإنسان يخلد فيه الإنسان بقدر خلوده، إنه باب من أبواب الذكر الذي قال عنه أحمد شوقي إنه عمر ثانٍ للإنسان:

الناس جارٍ في الحياة لِغايةٍ

ومضلّلٌ يجري بغير عنانِ

المجدُ والشرفُ الرفيعُ صحيفةٌ

جعلتْ لها الأخلاقُ كالعنوانِ

دقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له:

إن الحياةَ دقائقٌ وثواني

فارفعْ لنفسِك بعد موتِك ذِكْرَها

فالذِّكْرُ للإنسان عمرٌ ثاني