صبحي حديدي وإدوارد سعيد الناقد

صبحي حديدي وإدوارد سعيد الناقد

فخري صالح
ناقد فلسطيني

ما زال إدوارد سعيد (1935– 2003م)، بعد خمسة عشر عامًا من رحيله، موضوعًا لعناوين كتب عديدة في الغرب والشرق، وما زالت أفكاره ومنجزه المتعدد في النقد والنظرية وتحليل الخطاب ودراسات ما بعد الكولونيالية مثار جدل واستلهام في الكثير من الكتب والدراسات والبحوث التي تسعى إلى تأويل أفكاره ورؤاه وتأملاته وجهازه المصطلحي، ومنجزه الفكري والنقدي الذي أثر في حقول بحثية عديدة تبدأ من النقد والنظرية، وتمتد إلى علوم التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا، وحقول بحث لا أظن أن إدوارد سعيد تصوَّر أن عمله سيكون مؤثرًا أو مرجعيًّا فيها. ويمكن أن نرصد خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية صدور عشرات الكتب، فضلًا عن مئات البحوث، التي نشرت عنه في اللغة الإنجليزية، فضلًا عن لغات أخرى، وهي تلقي الضوء على كتابات الناقد والمنظر الفلسطيني الأميركي، وعلى كشوفه النظرية والمنهجية والدروب الواسعة التي فتحها أمام عدد لا يحصى من الباحثين والمنظرين والنقاد في الشرق والغرب ليعيدوا النظر في علاقات الشرق والغرب، ومفاهيم الهوية ومعنى المثقف والمنفى، والكولونيالية وما بعدها، وتحليل الخطاب، فضلًا عن إسهامه في نقد الموسيقا وتحليلاته السياسية للواقع الفلسطيني في العديد من الكتب التي أصدرها خلال سنوات حياته الأخيرة.

وقد شهدت الحياة الثقافية العربية اهتمامًا كبيرًا بمنجز إدوارد سعيد، منذ صدور ترجمة كتابه «الاستشراق»، بتوقيع كمال أبو ديب عام 1981م عن مؤسسة الأبحاث العربية، لكن منجز سعيد النقدي والنظري، الذي سبق كتاب «الاستشراق»، ظل بعيدًا من متناول القارئ العربي، حتى هذه اللحظة، وأنا أشير هنا بصورة خاصة إلى كتابه الأول الذي خصَّ به «جوزيف كونراد وقصص السيرة الذاتية» (1966م)، و«بدايات: القصد والمنهج» (1975م). ومع ذلك، وبغض النظر عن عدم ترجمة أربعة كتب أخرى لإدوارد سعيد إلى العربية حتى هذه اللحظة: «المسألة الفلسطينية» (1979م)، و«بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية» (1986م)، و«لوم الضحايا»، وهو بالاشتراك مع كريستوفر هيتشنز (1988م)، و«الموسيقا في حدودها القصوى» (2007م)، فإن المكتبة العربية بدأت تغتني، منذ سنوات قليلة، بالعديد من الكتب التي تناولت فكر إدوارد سعيد وتأثيره في النظرية الأدبية المعاصرة ودراسات ما بعد الكولونيالية وتحليل الخطاب. ومن بين الكتب التي صدرت عنه في العربية: «دفاعًا عن إدوارد سعيد» لكاتب هذه المقالة (2000م)، و«إدوارد سعيد: رواية للأجيال» لمحمد شاهين (2005م)، و«إدوارد سعيد: أسفار في عالم الثقافة» لمحمد شاهين (2007م)، و«إدوارد سعيد: دراسة وترجمات» (2009م) لكاتب هذه المقالة، و«الوعي المحلق: إدوارد سعيد وحال العرب» ليحيى بن الوليد (2010م)، و«إدوارد سعيد ناقد الاستشراق: قراءة في فكره وتراثه» لخالد سعيد (2011م)، و«إدوارد سعيد: الهجنة، السرد، الفضاء الإمبراطوري» لإسماعيل مهنانة (2013م)، و«إدوارد سعيد ونقد تناسخ الاستشراق: الخطاب – الآخر – الصورة» لوليد الشرفا (2016م)، و«البعد السياسي للاستشراق في فكر إدوارد سعيد» لمحمد هاشم البطاط (2016م)، و«الاستشراق من منظور ما بعد الكولونيالية عند إدوارد سعيد» لوسام فايز هاشم الموسوي (2017م)، إضافة إلى ترجمة نحو عشرة كتب عن سعيد صدرت عنه خلال حياته أو بعد وفاته.

التابع وثقافات الإمبريالية

آخر ما صدر عن إدوارد سعيد كتاب صبحي حديدي «إدوارد سعيد الناقد: آداب التابع وثقافات الإمبريالية» (الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 2018م)، وهو يسعى إلى التعريف بإدوارد سعيد ناقدًا، حيث يركز بحثه على الأعمال الأولى التي سبقت صدور الاستشراق من كتب ومقالات نشرها في دوريات أميركية عديدة مناقشًا الكثير من القضايا التي شغلت الحياة النقدية والفكرية الأوربية والأميركية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. ويركز حديدي، انطلاقًا من عنوان الكتاب، على كتابي سعيد غير المترجمين إلى العربية: «جوزيف كونراد وقصص السيرة الذاتية» و«بدايات: القصد والمنهج»، وكذلك «العالم والنص والناقد» (1983م)، ويضرب صفحًا عن كتاب «الاستشراق» (1978م)، و«المسألة الفلسطينية» (1979م)، وكذلك عن «فرويد وغير الأوربيين» (2003م)، و«الأنسنية والنقد الديموقراطي» (2004م)، و«حول الأسلوب المتأخر» (2007م)، لكنه يناقش كتب سعيد الأخرى: «بعد السماء الأخيرة» و«الثقافة والإمبريالية» (1993م)، و«متتاليات موسيقية» (1991م)، و«تمثيلات المثقف» (1994م)، و«تأملات حول المنفى» (2000م). كما أنه يضيف عددًا من المقالات التي ترجمها لإدوارد سعيد، وحوارًا أجراه معه عام 1994م، ومقالة ترجمها لستيفن هاو «إدوارد سعيد: المسافر والمنفى» كتبها عن سعيد بعد وفاته.

يرى صبحي حديدي في مقدمته أن إدوارد سعيد هو من «تلك الفئة من النقاد والمنظرين والمفكرين الذين يسهل تحديد قسماتهم الفكرية الكبرى، ومناهجهم وأنظمتهم المعرفية وانشغالاتهم؛ ولكن يصعب على الدوام حصرهم في مدرسة تفكير محددة، أو تصنيفهم وفق مذهب بعينه»، فهو إذن «نموذج رفيع للمثقف الذي يعيش عصره على نحو جدلي، ويدرج إشكالية الظواهر كبند محوري على جدول أعمال العقل، ويخضع ملكة التفكير لناظم معرفي ومنهجي ومركزي هو النقد».

انطلاقًا من هذا التصور لعمل سعيد في حقول بحثية ومعرفية متعددة، وتطوره الدائم، وعدم شعوره بالاستقرار في حقل أو منهجية ضيقة في البحث والكتابة، يعمل حديدي على قراءة تحولات سعيد في ميدان النقد والنظرية، بدءًا من تأثره بمدرسة جنيف النقدية، وليس انتهاءً بتصوره الطباقيّ للآداب والثقافات والتجارب الإنسانية، وعدائه الشديد لسياسات الهوية المتصلبة غير المتحولة، وإيمانه بهجنة الثقافات، ودور المثقف الذي يرى «سعيد» أن عليه أن ينخرط في الشأن العام ولا يبيع معرفته للسلطة مهما كان الثمن ومهما تعاظمت الإغراءات. لكن هذه الخطوط العامة لعدة سعيد الفكرية لم تحل دونه وتطوير منهجية في البحث والقراءة والتحليل النقدي أثَّرت في أجيال متتابعة من النقاد والباحثين في العالم الثالث، أو الراحلين من بلدان الشرق إلى الغرب، أو المثقفين المنشقين من أبناء الغرب نفسه.   

ينطلق صبحي حديدي في مقاربته لعمل سعيد النقدي من مسلمة أساسية مضمرة، وهي أن كتاب «الاستشراق» قد حجب عمل سعيد النقدي، خصوصًا في العالم العربي، ووجه أجيالًا من الباحثين والأكاديميين والقراء إلى النظر إلى سعيد بوصفه ناقدًا للغرب، ولنكون أكثر تحديدًا: أنه صاحب كتاب «الاستشراق»، دون أن يتنبَّه الكثيرون إلى أن سعيدًا امتلك، حتى قبل صدور «الاستشراق» عام 1978م، تصورات نقدية وفكرية لافتة بدأت منذ كتابه الأول عن كونراد وكتابه «بدايات» ومقالاته التي نشرها في عدد من المجلات، ثم جمع بعضها في كتابيه «العالم والنص والناقد» و«تأملات حول المنفى ومقالات أخرى». ويقوم حديدي، بالطبع، برسم صورة لتحولات سعيد الناقد، عبر استعراض أفكاره في هذه الكتب والمقالات التي سبقت «الاستشراق»، ونعثر على تطوير لها، في «الاستشراق»، و«الثقافة والإمبريالية» (1993م)، و«تمثيلات المثقف» (1994م)، وغيرها من الكتب والدراسات والمقالات التي نشرها سعيد فيما بعد. وتضيء المقالات التي ترجمها صبحي حديدي لسعيد، وكذلك حواره معه، ومقالة ستيفن هاو المتميزة والكاشفة بعمق لفكر سعيد وشخصيته النقدية والفكرية ومفهومه لوظائف المثقف وآثار المنفى السيكولوجية والثقافية والإبداعية، تصور حديدي لعمل سعيد في المقدمة التي وضح فيها منهجه في التعامل مع فكر سعيد النقدي، بطريقة أوضحت للقارئ العربي، الذي لم يطلع على الكثير من كتابات سعيد النقدية، حتى تلك التي تعالج القضية الفلسطينية، أو مراجعاته حول الموسيقا التي كان ينشرها في مجلة «ذا نيشن» الأميركية، الصورةَ الكليّةَ لمنهجية سعيد وإنجازه النقدي والفكري المتعدد. كما أنها سعت إلى انتشال سعيد من الرؤية التي تحشره في إطار ضيق يغفل عظمة منجزه النقدي والنظري والمنهجي الذي جعله واحدًا من أكثر النقاد والمنظرين الأدبيين أهمية في القرن العشرين.

منهجية الفصل

ما أختلف فيه مع الكاتب هو منهجية الفصل بين أعمال سعيد حول القضية الفلسطينية ومنجز سعيد النقدي، واستبعاده لكتاب «الاستشراق» من قراءاته، لرغبته في تقديم إدوارد سعيد مختلف، وكذلك استبعاده عددًا من الكتب بدعوى أنها لم تكن مكتملة، وقد صدرت بعد وفاته. ففيما يتعلق بكتب سعيد ومقالاته حول القضية الفلسطينية، أظن أن وضعيته كفلسطيني كانت من الحوافز والمؤثرات العميقة والأساسية التي دفعته إلى كتابة «الاستشراق»، ومن ثمَّ «الثقافة والإمبريالية»، وبعد ذلك «تمثيلات المثقف»، إلخ. كما أن كونه منفيًّا، مثله مثل ملايين الفلسطينيين، هو الذي جعله يطور نظريته حول المنفى وآثاره السيكولوجية وفضائله الثقافية. لو لم يكن إدوارد سعيد فلسطينيًّا فلربما يكون مسار حياته قد اختلف، كما أن رؤيته للعالم ومنهجيته النقدية والفكرية ستتخذ وجهة أخرى. وقد وضَّح لنا صبحي حديدي نفسه أهمية كتاب سعيد «بعد السماء الأخيرة» الذي يجمع صورًا لجان موهر ونصًّا طويلًا متخللًا لسعيد عن الذات وفلسطين والفلسطينيين.

من جهة أخرى، فإن استبعاد حديدي للكتب الأخيرة التي صدرت لسعيد بعد وفاته، يخلُّ بالمنحى التطوري لشخصية سعيد وعمله النقدي؛ وهو المنحى الذي حاول حديدي أن يبيّنه لنا في كتابه. فالكتب التي تجنب الكاتب الحديث عنها هي من إنجاز سعيد، حتى لو أنها صدرت بعد وفاته، أو أن صديقًا له قام بترتيب أوراقها لتأخذ هيئة كتاب (وهذا الشيء ينطبق على كتاب «حول الأسلوب المتأخر» بصورة حصرية، ولا ينطبق على «فرويد وغير الأوربيين» الذي صدر في إبريل 2003م، أي قبل وفاة سعيد بخمسة أشهر، ما يعني أن سعيد راجعها).

ومع ذلك، فإن كتاب صبحي حديدي هو من بين الكتب العربية القليلة التي تقدم صورة مختلفة لإدوارد سعيد الناقد الذي طور أدواته النقدية والمنهجية على مدار السنوات التي عاشها على هذه الأرض، قارئًا النصوص والمنهجيات، منتقدًا الشائع والمؤثر من التيارات النقدية والنظرية والفكرية التي تهمل الإنسان والتاريخ، مستفيدًا من الثقافة الغربية وأعلامها الكبار (غيامباتيستا فيكو، وجوزيف كونراد، وجورج لوكاش، وثيودور أدورنو، وإريك أورباخ، وميشيل فوكو)، وكذلك من فرانز فانون، المارتينيكي – الجزائري، ومن قراءاته المتأخرة لنظريات اللغة لدى ابن حزم الظاهري وابن مضاء القرطبي وابن جني، وغيرهم ممن ينتمون إلى المدرسة الظاهرية في اللغة والفلسفة، ليواجه بتلك النظرية اللغوية العربية التأويل الباطني للغة والوجود الذي اعتنقه أبناء جيله من النقاد والأكاديميين الأميركان الذين تأثروا بجاك دريدا ومدارس القبالة الباطنية، من أمثال هارولد بلوم وزملائه في جامعة ييل.

سعد الله ونوس: الرائي الذي تنبأ بالمقتلة السورية

سعد الله ونوس: الرائي الذي تنبأ بالمقتلة السورية

النص الكبير هو النص الذي كلما عدتَ إلى قراءته نما وانداحت الدوائر حوله، وتعاظم إيحاؤه وقدرته على إضاءة تجربة العيش وأسرار النفس الإنسانية. كذلك هي نصوص الكاتب المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس (1941 – 1997م) التي تبدو لي الآن، بعد عشرين عامًا على غيابه، في ضوء آخر، كاشفة عن رؤيا كئيبة لحال العرب المعاصرين، لما بدا له، على مدار تجربته الكتابية، بعد نكبة فلسطين وهزيمة يونيو 1967م وجنون الاستبداد في وطنه سوريا، أننا سائرون إلى مقتلة عظيمة وخراب عميم. هكذا، وبعد مرور ما يزيد على ربع قرن من الزمن على اهتمامي وانشغالي بأعمال هذا المسرحي العربي الكبير، الذي يتخذ من المسرح وسيلة للتفكير في الوجود والتاريخ ومعنى الإنسان في زمان الاستبداد والتسلط، يتجلى لي سعد الله من عصبة الشعراء والروائيين والمسرحيين الذين يستشعرون دبيب المستقبل، كاتبًا رائيًا يتنبأ في مسرحه بما يحدث هنا والآن، بالمآل الذي انقلب إليه السوريون في جنون الدكتاتورية الذي قاد إلى تدمير سوريا وحوَّلها نهبًا لكل القوى الطامعة في الأرض، وبؤرة للإرهاب ورعب التطرف والقتل، وجنون المذاهب والطوائف والأيديولوجيات القُصووية، والكراهيات المتناسلة التي لا تبقي ولا تذر. إنه يتنبأ في مسرحياته الأخيرة، التي كتبها تحت وطأة مرض السرطان الذي نهش حنجرته وجسده، وفي الفسحات الزمنية التي أتاحها له العلاج من مرضه الخبيث، بما سيأتي، بما أتى، نتيجة العمل المنظم والحثيث لآلة السلطة الوحشية الرهيبة على جسد المجتمع الذي ازدادت تشوهاته وفقد، مع تسارع عمل هذه الآلة الجهنمية، إنسانيته وكرامته.

لقد سعى سعد الله ونوس، منذ بداياته المسرحية في ستينيات القرن الماضي، إلى التفكير في معنى السلطة من خلال اصطناع مشاهد ومواقف مسرحية، واقتراح أشكال للعرض المسرحي، تفسر رؤيته للسلطة بوصفها أدوارًا ووظائف تتجاوز الأفراد الذين يمثلونها. ما هو مهم هو الوظيفة والدور لا الشخصُ الذي يشغل هذه الوظيفة ويقوم بهذا الدور. ويمكن أن نعثر على هذا الفهم الفلسفي في مسرحياته «الملك هو الملك» و«طقوس الإشارات والتحولات» و«منمنمات تاريخية»، التي تمثل ذروة منجزه المسرحي – الفكري، وعمله الدؤوب على النظر من زوايا مختلفة إلى معنى السلطة، وآليات اشتغالها، وكيفية اندراجها ضمن نسيج المجتمع والثقافة، وإلى وظائفها السياسية والاجتماعية والثقافية التي تجعل عملها يتسم بالمعقولية ويحظى بقبول فئات واسعة من المجتمع، حتى لو كانت هذه السلطة تعمل ضد مصالح بعض هذه الفئات، أو أغلبيتها، على الأرجح. وفي هذا السياق من التحليل البارع لعمل السلطة، في المواقف والمشاهد والحوارات المسرحية التي اصطنعها المسرحي الراحل، تتبدى لنا الرؤية الفكرية الجبرية لمعنى السلطة التي تبدو صلبة، عصيةً على المقاومة، قادرة على اجتياز الأزمات والخروج ظافرة لدى اندلاع أي اعتراض أو تململ أو احتجاج أو مقاومة. ولعل هذه الرؤية الجبرية، التي تقترب من العدمية والنهلستية في بعض مسرحيات سعد الله ونوس، ناشئة من السياق التاريخي الذي كتب فيه سعد الله مسرحه، أي من معايشته لصعود نظام حزب البعث وتأوُّجه بظهور دكتاتور لوياثاني مثل حافظ الأسد ونظامه الذي سحق السوريين واستلب أرواحهم وداس على أجسادهم. فكيف لهذا النوع من الأنظمة الاستبدادية المتوحشة ألّا ينتج مثل هذه الرؤية القاتمة الكئيبة التي لا ترى في المستقبل أي نوع من الخلاص أو فسحة من الأمل؟

تشريح السلطة

لقد أفضت هذه الأعمال التي أنجزها سعد الله في ثمانينيات القرن الماضي وبداية تسعينياته، إلى كتابة مسرحية من نوع آخر، أكثرَ قتامة، وأبعَد من التاريخ الذي نهلت منه مسرحياته المهمومة بتقديم تشريح للسلطة وأشكال تمظهرها؛ كتابة مسرحية تنهل من لحم الحاضر الحي وتشوهاته وعجزه عن مقاومة جنون السلطة المستبدة التي قهرت روح المجتمع قبل أن تكبل جسده، وتمومسه (وأنا لا أكتب هذه الكلمة الأخيرة كتعبير استعاري فيه نوع من المبالغة والولع بالغرابة اللغوية، بل لأن هذه الكلمة تعبر تعبيرًا صارخًا عما فعلته السلطة بجسد الإنسان السوري). ويمكن أن نعثر في مسرح سعد الله، بدءًا من «طقوس الإشارات والتحولات» وانتهاءً بمسرحيات «ملحمة السراب» و«يوم من زماننا» و«أحلام شقية»، على تحول ملحوظ إلى شكل من أشكال المسرح السياسي – الاجتماعي الذي يسعى إلى تشريح ما حل بالمجتمع في زمن الدكتاتورية المديد الذي خيَّم عقودًا كئيبة على أجيال من السوريين. ويمكن أن نلحظ في هذا المسرح السياسي – الاجتماعي، الذي يختلف عما ألفناه في مسرحيات سعد الله ذات التأثيرات البريختية مثل «حفلة سمر من أجل 5 حزيران»، تخليًا عن الطابع الملحمي، أو حتى التعليمي، لصالح حوارات محمومة عن رائحة تفسخ جسد المجتمع وانحطاطه بفعل الآلة الرهيبة للسلطة المستبدة التي اعتقدت أنها تملك أجساد الناس وأرواحهم، وأنها قادرة حتى على النفاذ إلى غائلة نفوسهم ورصد أحلامهم واستئصالها. لقد استخدم المسرحي الموهوب استعمال جسد المرأة وتحويله إلى سلعة، وانتشار البغاء، المعلن وغير المعلن، كتعبير عن ذروة التحلل السياسي والاجتماعي، والقيمي والثقافي، وغياب أدنى قيم الحرية في سلطة الاستبداد التي أنشأت جمهورية خوف مرعبة دنست أجساد النساء، وداست على كرامة الرجال والنساء على السواء.

تحلل المجتمع وتفككه

في مسرحياته الأخيرة، كما في نصوصه «عن الذاكرة والموت» التي كتب بعضها بعد انقشاع لحظات الغيبوبة في غرفة العناية المركزة أثناء علاجه من سرطان الحنجرة، يتنبأ سعد الله ونوس بالانفجار الكبير، بثورة تؤدي إلى تحلل المجتمع وتفككه وانقسامه على نفسه، وتآكله وتفتته، وانتقامه من ذاته، بصورة تشبه ما نرى عليه سوريا اليوم. لقد رأى الكاتب بعين الرائي موت الاجتماع والسياسة، ثم موت الإنسان، لا لكونه قادرًا على كشف حجب المستقبل، بل لأنه رأى أن جنون الاستبداد يقود إلى تفكك البلدان، وتحلل المجتمعات، وخراب الأوطان، وتداعي الأمم على قصعة هذه الأمة المأزومة الهوية والوجود، و«فساد العمران» بتعبير مؤسس علم الاجتماع العربي عبدالرحمن بن خلدون، الذي رسم له سعد الله صورة سلبية قاتمة في مسرحيته «منمنمات تاريخية» التي بدت إدانة مباشرة لـ«خيانة المثقفين» واعتصامهم بحيادية العلم الذي يكتفي بالوصف والمراقبة والتحليل. فهل يكون المسرحي السوري الراحل قد سعى، من خلال إدانة دور عبدالرحمن بن خلدون في التخلي عن أهل دمشق في محنتهم أثناء حصارهم من قبل تيمورلنك والتحاقه بركب الطاغية المغولي، إلى الإشارة بإصبع الاتهام إلى مثقفي سوريا المعاصرين، وكذلك مثقفي العرب عامة، لمهادنتهم الأنظمة القمعية، أو رحيلهم وهروبهم إلى بلاد الآخرين، أو صمتهم، الذي أفضى إلى هذه الكارثة التي نشهد توالي فصولها أمام أعيننا، ونسمع قصصها الرهيبة المزلزلة كل يوم؟ لعله أراد ذلك من رسمه لمشهد التحلل والخراب الذي تنبأ به في مسرح انتقل من التجريب، وتحليل كيف تعمل السلطة، إلى رؤيا قيامية، كابوسية، تصور الانهيار الذي يعقب توحش السلطة وجنونها الذي أفلت من عقاله. كان ينبغي أن نسمع ما تقوله شخصيات سعد الله ونوس، أن نصغي إلى هواجسها الظاهرة والخفية، أن يسمعه بعض العقلاء في السلطة، إن وُجد هؤلاء حقًّا. لكن آذان السلطة صماء وهي لا تسمع إلا صوتها فقط، ولذلك وصلنا إلى ما وصلنا إليه: العدم والخراب.