ووكر إيفانز.. سعى إلى رؤيةٍ شعريّة مكثفة للعالم

ووكر إيفانز.. سعى إلى رؤيةٍ شعريّة مكثفة للعالم

ووكر إيفانز أحد أكثر الفنانين تأثيرًا في القرن العشرين. عملت صوره الفوتوغرافيَّة الرائعة المنشورة، النقيّة كالكريستال، والمعبِّرة، على إلهام أجيال عدة من الفنانين، بداية من هيلين ليفيت (1) وروبرت فرانك (2) وصولًا إلى ديان آربوس (3)، ولي فريدلاندر (4)، وبيرند وهيللا بيتشر (5). بالنظر إلى السابقين عليه في التصوير الفوتوغرافي التوثيقي الأميركي، امتلك إيفانز القدرة الاستثنائيّة على رؤية الحاضر كأنه الماضي، وترجمة تلك الرؤيا المعرفية وتحويلها تاريخيًّا إلى فنّ خالد. كان موضوعه الرئيس التعبير عمّا هو رائج وشائع ومحلي الذي بمقدور الناس العثور عليه متمثّلًا في الشواخص على جوانب الطُّرُق، والمقاهي الرخيصة، والإعلانات، وغُرف النوم البسيطة، والشوارع الرئيسة للبلدات الصغيرة. خلال خمسين عامًا، بداية من أواخر العشرينيات إلى بدايات السبعينيات، قام إيفانز بتسجيل المشهد الأميركي برهافة شاعر، ودِقّة جَرَّاح، خالقًا بذلك كشفًا موسوعيًّا مصوَّرًا لأميركا الحديثة في تحوّلها.

وُلِدَ ووكر إيفانز عام 1903م في سانت لويس، ميسوري، متجهًا للرسم في طفولته، ثم جامعًا للصور المطبوعة على البطاقات البريدية، وملتقطًا صورًا لعائلته وأصدقائه بواسطة كاميرا كوداك Kodak صغيرة. بعد سنة واحدة أمضاها في Williams College، ترك المدرسة وانتقل إلى مدينة نيويورك، عاثرًا على عمل جزئيّ في متاجر بيع الكتب، وموظفًا في مكتبة نيويورك العامة، حيث امتلك فيها حرية إطلاق العنان لشغفه في قراءة تي. إس. إليوت، ودي. إتش. لورنس، وجيمس جويس، وكذلك شارل بودلير، وغوستاف فلوبير. وفي عام 1927م، بعد أن أقام في باريس سنة لتحسين لغته الفرنسية، وكاتبًا لقصص قصيرة ومقالات غير أدبية، عاد إلى نيويورك عازمًا أن يصبح كاتبًا. وإلى جانب هذا، واظب إيفانز على حمل الكاميرا موجهًا بالتدريج حافزه الجَماليّ لإظهار عناصر الأدب في صوره، كالغنائيّة، والسخرية، والوصف الحاد، والبناء السردي، ليكون ذلك كلّه جزءًا من فن التصوير الفوتوغرافي.

أظهرت معظم صور إيفانز المبكِّرة تأثيرات الحداثة الأوربية، وبخاصة تمسكها بالشكل وتشديدها على بنيات التخطيط الطباعي الحيوي في حركته. لكنه سرعان ما تحوَّل تدريجيًّا مبتعدًا من هذا الأسلوب المريح جدًّا، ليطوِّرَ أسلوبًا خاصًّا به يتسم بالتنبيه والإيقاظ إنما بواقعية صامتة، أو قليلة الإفصاح، وبإيلاء دور للمشاهِد في قراءة الصورة، وبالأصداء الشِّعريّة للموضوعات العادية. ولقد كانت سنتا الكساد العظيم (*) (1935- 1936م) أكثر مراحل إيفانز وفرةً في الإنتاج وتميّزًا في الإنجاز. وفي يونيو 1935م، قبلَ وظيفة مؤقتة عرضتها عليه وزارة الداخلية لتصوير تجمعات حكومية بُنيَت لإسكان عمّال المناجم العاطلين في فيرجينيا الغربية؛ فما كان منه إلّا أن قام بتحويلها بسرعة إلى عمل دائم بوصفه «متخصصًا إعلاميًّا» في إدارة المستوطنات (أمن المزارع فيما بعد)، وهي وكالة مستحدثة في قسم الزراعة.

روح الحياة الأميركية

تحت إشراف روي سترايكر(6)، عمل إيفانز على توثيق حياة البلدات الصغيرة وإظهار كيف كانت الحكومة الفيدرالية تحاول تحسين ظروف التجمعات الريفية خلال فترة الكساد العظيم، وذلك ضمن فريق من المصورين: دوروثيا لانغ (7)، وآرثر روثستاين (8)، وراسل لي. (9) لكنه لم يولِ اهتمامًا كبيرًا بالأجندة الأيديولوجية ليوميات الرحلة المقترحة، وبدلًا من ذلك استجابَ لحاجته التركيز على روح الحياة الأميركية المتبدية فيما هو بسيط وعادي. ولقد عكست صوره للتشكيلات المعمارية على جوانب الطُّرُق احترامًا كبيرًا لعادات الرجل العادي المهملة، وكذلك للكنائس النائية، وحَلّاقي البلدات الصغيرة، والمقابر، كما ضَمِنَ بذلك صيته بوصفه المصوِّر التوثيقيّ الأميركي الأبرز. ومنذ نشر تلك اللقطات لأوّل مرّة في المجلات والكتب أواخر الثلاثينيات، كان أن دخلَت وعيَ الناس الجمعي كأيقونات مباشرة، وباتت الآن راسخة في تاريخ الأمة المصوَّر الخاصّ بمرحلة الكساد العظيم.

في صيف 1936م نال إجازة ليسافر إلى الجنوب، رفقة صديقه الكاتب جيمس آجي (10)، الذي تعاقد مع مجلة Fortune من أجل كتابة مقالة عن المزارعين من غير أصحاب الأراضي، بينما يكون إيفانز هو المصوِّر. وعلى الرغم من أن المجلة رفضت نصّ آجي الطويل عن ثلاث عائلات في ألاباما في النهاية، فإنّ ناتج ذلك التعاون كان كتاب «دعونا نُمَجِّد الرجال المشهورين» الذي نُشر عام 1941م، وهو عبارة عن رحلة مثيرة للمشاعر صوب أقصى حدود التأمل المباشر. ففي صفحاته الخمسمئة من الكلمات والصور مزيجٌ متفجِّر من الوصف التوثيقي والموضوعية العميقة، حتى إنه شكّلَ كتابةً سِيَريَّة ظلَّت واحدة من النَّوَيات الأولى في الأدب الأميركي للقرن العشرين. إنَّ صور إيفانز في الكتاب إظهارٌ صادق للوجوه، وغُرف النوم، وملابس الأفراد المزارعين الذين يعيشون في تلالٍ جافة تبعد سبعة عشر ميلًا شمال غرينزبورو، ألاباما. وإذا عايناها متسلسلةً، فإنها تبدو توضيحًا لكامل مأساة الكساد العظيم، في حين تشكِّلُ كلُّ واحدة منها حالة حميمية، وبارعة، وإشكالية. وإنها، في نظر الكثيرين، قمة ما بلغه إيفانز في عمله الفوتوغرافي.

في سبتمبر 1938م، افتتحَ متحف الفنّ الحديث «ووكر إيفانز: صُورٌ أميركية»، كمعرضٍ استعادي لالتقاطات حقبة إيفانز الأولى، وكانت أوّل مرّة يخصص فيها المتحف عرضًا لفنان بمفرده. ولقد نشر المتحف في الوقت نفسه كتابًا حمل العنوان نفسه – لا يزال حتّى الآن دليل اهتداء لعدد كبير من الفنانين بالمقابل من جميع ما خلصت إليه الأبحاث المتعلقة بالتصوير الفوتوغرافي. يبدأ الكتاب بوصف ملامح المجتمع الأميركي من خلال الأفراد: مزارعو القطن، وعمّال المناجم، وخبراء الحرب، وكذلك المؤسسات الاجتماعية، الوجبات السريعة، ودكاكين الحلّاقين، وثقافة السيارات. بعدها ينتهي بتقريرٍ شامل عن البلدات الصناعية، والإعلانات المرسومة بخطّ اليد، والكنائس الريفية، والبيوت البسيطة – المواقع والآثار التي تشكِّل التعبير المادي والملموس عن طموحات الأميركيين، ويأسهم، وعاداتهم.

وجوه أكثر عريًا

بين عاميْ (1938 -1941م) أنجزَ ووكر إيفانز سلسلة صور مهمة لوجوهٍ التقطها في قطار أنفاق نيويورك. ظلّت تلك الصور من غير نشر لمدة خمس وعشرين سنة، حتى عام 1966م، عندما أصدرت هوغتون ميفلن (11) كتابًا أسماه «كثيرون المُنادى عليهم»، يتضمن ثمانيًا وتسعين صورةً، مع تقديم كتَبَه جيمس آجي عام 1940م. فبواسطة كاميرا صغيرة ماركة Contax ألصقها بصدره، في حين ثبّت عدستها بين زِرّين من أزرار معطفه الشتائيّ، استطاع إيفانز أن يلتقطَ صورًا للمسافرين من حوله وأمامه من دون أن يلحظوا ذلك، وعن قُرب كبير. وبالرغم من أنّ المحيط الذي تحرك فيه كان الفضاء العام، فإنه وجد في وجوه الذين صوَّرهم استغراقَهم العفوي الكامل في أفكارهم، وتقلبات أمزجتهم المستمرّة، وفضولهم، وسأمهم، وضحكهم، وقنوطهم… وجوهًا حالمة وأخرى نَكِدَة. «الحِرْصُ سقطَ والقناعُ زال»، كتبَ ملاحظًا، «حتى داخل غُرف النوم المنعزلة (حيث هناك مرايا)؛ فإنَّ وجوه الناس في أنفاق القطار أكثر عُريًا».

بين عامي (1935- 1965م)، ساهم ووكر إيفانز بأكثر من أربعمئة صورة فوتوغرافيّة مصاحبة لخمس وأربعين مقالة نُشرت في مجلة Fortune. لقد عمل لدى هذه المجلة المترفة كمحرر فوتوغرافي خاصّ، من عام 1945م إلى عام 1965م، ليس مبتكرًا لحافظات الوثائق والحقائب الخاصّة بها، ومنفذًا للصور، ومصممًا لصفحاتها فقط؛ لكنه كان يكتب النصوص المرافقة لتلك اللقطات. طُبِعَت موضوعاته بالأسود والأبيض وبالمواد الملونة بما فيها رموز وإشارات شركة الخطوط الحديدية، وأدوات العمل المستعملة، ومنتجعات الصيف الفندقيّة القديمة، ومشاهد لأميركا كما بدت من نافذة قطار. مستخدمًا الصيغة الصحفية المعتمَدَة للقصة التي تصاحبها الصورة؛ مزجَ إيفانز اهتمامه بالكلمات والصور، مجترحًا سردًا متعدد الأبعاد غير مألوف وبسويّة عالية. كانت الأساليب الفنيّة الكلاسيكيّة المتروكة، تلك المقالات الموقعة باسمه، إنما هي حِرفة إيفانز طوال عشرين سنة.

منذ عام 1965م أصبح أستاذًا محاضرًا للتصوير الفوتوغرافي، قسم التصميم الغرافيكي، في جامعة ييل للفن.

بدأ عام 1973م العمل مستخدمًا الكاميرا المبتكرة Polaroid SX-70، وبإمداد للأفلام غير محدود من الشركة. ولقد تناسبَت الكاميرا تمامًا مع أبحاثه الساعية إلى رؤيةٍ شعريّة مكثفة للعالم: كانت طباعتها الفورية، لمصوِّرٍ فوتوغرافي متردد في السبعين من عمره، قد ساعدته على قصقصة الورق وقطعه ليخرج بما يشبه أعمال الفنان الفرنسي ماتيس في شيخوخته. كانت طباعة الصور الملتقطة بواسطة هذه الكاميرا الفريدة آخر أعمال الفنان وذروة اشتغاله على امتداد نصف قرن. ومن خلالها عادَ إلى موضوعاته الأثيرة العديدة – وأكثرها أهمية تمثلت في اليافطات، والملصقات، وتحويلاتها اللامحدودة، وأشكال الحروف نفسها.

المصدر

https://www.metmuseum.org/toah/hd/evan/hd_evan.htm

محطّة كوبيّة مبكِّرة

في شهريْ مايو ويونيو من عام 1933م، عملَ ووكر إيفانز على التقاط مجموعة صور في كوبا بتكليف من ناشر كتاب كارليتون بيلز (12) «جريمة كوبا»، المتضمن وصفًا حادًّا لدكتاتورية جيراردو ماتشادو. وهناك اعتاد إيفانز مشاركة إرنست هيمنغواي الشراب ليليًّا، وهو مَنْ أقرضه المال لتغطية مصاريف إقامته أسبوعين إضافيين. كانت صوره توثيقًا لحياة الشوارع، وحضور رجال الأمن الطاغي، والمتسولين، وعمّال الموانئ بأسمالهم، ومشاهد أخرى لواجهة المدينة المائية. كما أنه ساعد هيمنغواي في الحصول على صورٍ من أرشيف الصحيفة التي قامت بتوثيق بعض أعمال العنف السياسي التي وصفها في روايته «أن تأخذ وأن لا تأخذ» عام 1937م. وخشية من احتمال مصادرة السلطات الكوبية للصور التي التقطها، والتي تشهد على انتقاده لها، ترك عند هيمنغواي 46 صورة مطبوعة. لكنه لم يتعرض لأيّ صعوبات عند عودته إلى الولايات المتحدة، لتظهر فيما بعد 31 صورة من صوره في كتاب بيلز. اكتُشِفَت الصور المطبوعة المخبأة المتروكة عند هيمنغواي في هافانا عام 2002م، وأُقيم معرض لها في «كي ويست». (13)

المصدر

https://en.wikipedia.org/wiki/Walker_Evans

هوامش

(1) Helen Levitt: (1913- 2009م)، مصورة فوتوغرافية أميركية. أولت اهتمامها بـ«فوتوغرافيا الشوارع» في مدينة نيويورك. أُطلق عليها «أكثر الفوتوغرافيين المحتفى بهم وأكثرهم ذيوعًا في زمنها».

(2) Robert Frank: (1924- )، مصور فوتوغرافي سويسري- أميركي، وصانع أفلام وثائقية. اشتهر بكتاب عنوانه «الأميركيون» نُشر عام 1958م.

(3) Diane Arbus: (1923- 1971م)، مصورة فوتوغرافية أميركية، عُرفت بتصويرها للذين يعيشون على هامش المجتمع؛ الأقزام، العمالقة، مزدوجي الجنس، العُراة، أصحاب الاستعراضات في السيرك، وسواهم ممن يُنظر إليهم كشخصيات قبيحة وغريبة الأطوار.

(4) Lee Friedlander: (1943- )، مصور فوتوغرافي وفنان أميركي. أنشأ في الستينيات والسبعينيات لغة مرئية عبر الصور تحاكي كلّ ما هو مديني «فضاء اجتماعي»، بالاشتراك مع عدد كبير من زملائه.

(5) Bernd& Hilla Beacher: فنانان ومصوران فوتوغرافيان تبنيا التصوير «المفاهيمي»، وعملا معًا كزوجين على نحوٍ تعاوني. بيرند (1931- 2007م)، هيللا (1961- 2007م).

(6) Roy Stryker (1893- 1975م): رجل اقتصاد أميركي، وموظف حكومي، ومصوّر فوتوغرافي. ترأس فرع المعلومات في إدارة أمن المزارع خلال حقبة الكساد العظيم، وأسس حركة التصوير الوثائقي.

(7) Dorothea Lange: (1895- 1985م)، مصورة فوتوغراف وثائقي وصحافي، عُرفت بأعمالها عن حقبة الكساد العظيم، عندما عملت لصالح إدارة أمن المزارع.

(8) Arthur Rothstein: (1915- 1985م)، مصور فوتوغرافي أميركي. اشتهر بصوره المتميزة للصحافة كواحد من الأفضل. عمل طوال خمسة عقود على تصوير الأميركيين في شتّى أحوالهم.

(9) Russell Lee: (1903- 1986م)، مصور فوتوغرافي صحافي أميركي. عمل مع إدارة أمن المزارع، وركّز في أعماله على تصوير فئات المجتمع الأميركي بأصولها ومنابتها كافة.

(10) James Agee: (1909- 1955م)، روائي، وصحافي، وشاعر، وكاتب للنصوص السينمائية، وأحد أكثر النقّاد السينمائيين تأثيرًا في الولايات المتحدة في الأربعينيات من القرن الماضي. كتب للسينما: «الملكة الإفريقية» عام 1951م، و«ليل الصيّاد» عام 1955م. ومن رواياته: «موت في العائلة» عام 1957م، نال عليها جائزة بوليتزر، و«مراقبة الصباح» عام 1951م.

(11) Houghton Mifflin: واحدة من كبريات دور النشر.

(12) Carleton Beals: (1893- 1979م)، صحافي، ومؤلف، ومؤرخ، وناشط سياسي أميركي، صبّ اهتمامه على قضايا أميركا اللاتينية. أبرز نجاحاته مقابلته مع الثائر النيكارغوي «أوغستو ساندينو» في فبراير 1928م. من كتبه: «جريمة كوبا»، و«متاهة مكسيكية»، و«ذهب الموز».

(13) Key West: مدينة في جزيرة بالاسم نفسه تابعة للولايات المتحدة، وهي جزء من أرخبيل فلوريدا كيز، تبعد 90 ميلًا شمالي كوبا.

(*) Great Depression: شكّل الكساد العظيم أسوأ انكماش اقتصادي في بلدان العالم الصناعي، امتد من عام 1929م إلى عام 1939م . بدأ إثر إفلاس البورصة في أكتوبر 1929م، وهو ما أدّى إلى شلل «وول ستريت، سوق السندات المالية» فحطّم ملايين المستثمرين، مسببًا هبوطًا حادًّا في الصناعة والوظائف تجلّى في إفلاس الشركات وصرف العمّال. وفي عام 1933م، عندما وصل الكساد العظيم أوجه، باتَ أكثر من 15 مليونًا من الأميركيين بلا عمل (ما يزيد على 20 بالمئة من سكّان الولايات المتحدة آنذاك)، وإفلاس نحو نصف بنوك البلاد.

ووكر إيفانز: أنجزتُ كثيرًا من الأشياء تصيبني بالدهشة الآن، إذ تُظهرُ معرفةً كبيرة لم أكن أملكها أو أعلم بامتلاكها

ووكر إيفانز: أنجزتُ كثيرًا من الأشياء تصيبني بالدهشة الآن، إذ تُظهرُ معرفةً كبيرة لم أكن أملكها أو أعلم بامتلاكها

ووكر إيفانز (1903- 1975م) المصوِّر الفوتوغرافي الأميركي ذائع الصيت، الذي درَّسَ التصوير في جامعة ييل Yale حتّى تقاعده قبل بضع سنوات، يتحدّث بطلاقة مع طلاب اليوم عن حياته، وفنّه، وعملية الإبداع الغامضة. (*) يقول إيفانز: أعتقد أني الوحيد من أبناء جيلي الذي نجا خارجًا من مدرسةٍ غير تجارية، فنانًا شابًّا علَّمَ نفسه بنفسه عندما كنت في عمركم. لم نكن نعمل ما يُطلب منا عمله وقتذاك، وحاربنا من أجل ذلك. بالطبع، هذا الأمر قتلَ معظم الناس. لكنه لم يقتلني لسببٍ أو لآخر. وإني أشعر بهذا منذ بدأتُ بإحراز تقدمي البطيء، وما زال أمامي الكثير مما أعمله.

* هل لكَ أن تحدّثنا عن تجربتك عندما عملتَ مع جيمس آجي (1) على كتاب «دعونا الآن نُمَجِّد الرجال المشهورين»؟

– نعم. كان هذا بالطبع أكثر الأمور التي قمتُ بها وضوحًا في ذاكرتي، وبالتحديد فيما يتعلق بآجي. لقد حزتُ صيتًا كبيرًا خادعًا لأنني كنت أعمل مع رجل رهيب، وإني أتحرَّج من مجرد الحديث عن ذلك؛ لأنّ شخصية آجي لا تتناسب وذاك التمجيد الذي مرَّ به. كان رجلًا متواضعًا جدًّا، وكذلك معارضًا شديدًا لكلّ أشكال المؤسسات، وبخاصة الأكاديميّة منها، وأن يوضع اسمه داخل دائرة كهذه – حسنًا، لم يكن يرغب في الوجود في هذا النوع من الأجواء. لكن عليَّ القول بأنه كان صديقًا عظيمًا لي قبل شروعنا في العمل معًا في الجنوب، كما كان واضحًا أنه القائد- المُحرِّك لذلك المشروع، وأعتقد أننا ما كنا لننجح من دون موهبته في كيفية التعامل مع الناس.

على أي حال، إنّ جزءًا من موهبة الفوتوغرافي ينبغي أن تبدو متجسدة بين الناس. فبإمكانكَ أن تنجزَ عملًا رائعًا إذا عرفتَ كيف تُفْهِم الناس طبيعة ما تعمله وتُشعرهم بالرضا عنه، وبإمكانك أن تنجز عملًا بائسًا إذا جعلتهم في حالة دفاع، يجدون أنفسهم فيها في البداية. عليكَ أن تخرجهم من سلوكهم الدفاعي وتجعلهم يشاركون. كان آجي جيدًا جدًّا في هذا. تحركنا معًا باتجاه بعض العائلات البعيدة جدًّا في أماكنها من بعضها، لكنها كانت عائلات من المزارعين المتطابقين في عيشهم مرحلة الكساد العظيم، في وقتٍ انغمسَ كلُّ شيء بالفقر. لم يكن لديهم بِنس واحد. كانوا في حالة بؤسٍ فظيعة، لكنهم متساوون؛ لأنَّ الجميع كان هكذا. وإني أفترض، من دون أن أقصد، أنّ ما كنتُ أعمله إنما هو تصويرٌ للفقر الإنساني. لم يكن بإمكاني غير ذلك. كنا جميعًا نعيش هذا الواقع. الجميع كان يائسًا. وإني لأجد هذا الأمر صعبًا جدًّا عند وصفه كما كان وقتذاك.

* هل استغرقتم وقتًا طويلًا لتجاوز توترهم؟

– لا، لأنّ آجي كان موهوبًا جدًّا في المسألة التي كنتُ أتحدّث عنها، وهي إشعار الناس بالاطمئنان. والحقيقة أنهم بدؤوا يحبونه وأبدوا الاهتمام به إلى حدّ الإزعاج. كما أنه بذلَ معهم الكثير من الجهد لكي يدركوا أنّ ما نقوم به ليس غزوًا لهم، أو عِبئًا عليهم بأي شكل من الأشكال. في ذلك الوقت لم نكن نعرف أنّ ما نعمله سيتحوّل إلى كتاب –كان مجرد عمل من أجل مقالة في مجلة- أخبرهم عنها وأشعرهم بأنهم مشاركون فيها. كنا ضيوفًا نسدّد مقابل الضيافة، إلى جانب تفهمهم الحقيقة، ولم يكونوا قد رأوا أيَّ مال لمدة طويلة، ومع ذلك لم تكن إشارة إلى رشوة إطلاقًا لصالح لعبة مصالح. ما دامت اللعبة، حينذاك، كانت صفرًا.

* ما الوقت الفاصل بين العمل ونشره فعليًّا؟

– في الحقيقة، كان الوقت الفاصل وقتًا طويلًا. ما حدث أنَّ جزأين من المقالة رُفضا من المجلة التي كلّفتنا بالمهمة، عندها طالب آجي بحرية حقوق النشر. ثم قبض دفعةً صغيرة من أحد الناشرين وكتب الكتاب، لكنّ الأمر استغرق ثلاث سنوات أو أربع سنوات. أعتقد أننا كنا في عام 1936م، في حين نُشر الكتاب في عام 1941م، ولذا كانت ثمّة مدة طويلة- فالكتاب رُفض من الناشر الأول فنُقِل إلى ناشر ثانٍ. إنها قصة معقدة وليست مشوقة جدًّا، لكنها تشكِّل نموذجًا لتاريخ أي مجازفة. إذا كنتَ بصدد البدء بعمل شيء فأنتَ مقبلٌ على التعرض لعقبات تحول دون تحقيق ما تريد. إنّ أي مجازفة ما هي إلّا طريق صخرية. وهكذا هو تعليمك هنا، أيضًا.

* أنتَ وصفتَ نفسك متمردًا على المؤسسة، وتحدثتَ عن مصائب زمن الكساد العظيم، لكنَّ صورك لا تتسم بالنقد. إني أراها تنحو باتجاه التمجيد – تمجيد الواقع الواضح والبسيط.

– سعيد أنا بسؤالك هذا؛ لأنني لم أحبّ السِّمة التي اكتسبتها بلا وعي بأني فنّانٌ صاحب موقف اجتماعيّ معارض. لم آخذ على عاتقي قط تغيير العالم. ومعاصري الذين آمنوا بفكرة أنهم سيسقطون حكومة الولايات المتحدة، وخلق عالم جديد، إنما كانوا في نظري مجرد حَمقى. عرفتُ منذ ذلك الوقت أنْ لا أحد سيفعل هذا. وهذا النوع من التاريخ كرر نفسه مرارًا. فالناس أواخر الستينيات، وهذا ليس بالتاريخ البعيد، دارت في أذهانهم الأفكار نفسها، ولم يحدث خَرْقٌ أو خللٌ بسيط واحد للقوى التي أرادوا إسقاطها.

الفعل السياسي

* لكن ثمّة بعض الصور تتضمن حقًّا مضمونًا سياسيًّا، بداية من صور «هاين» (2) للأطفال المشتغلين في المعامل عند نهاية القرن، على سبيل المِثال.

– حسنًا، هاين أكثر قدرةً مني على استثمار التصوير لهذه الغاية، وثمة سبب وجيه. لقد تقصّد هاين تضمين الفعل السياسي في صوره، أو على الأقلّ لفت النظر إلى تشغيل الأطفال، بينما كان اهتمامي أن تُقرأ بعض الأمور في عملي، لكنني حقيقةً لم أتقصّد أن تكون آرائي وأعمالي ورؤيتي قيد الاستثمار بوصفها فعلًا سياسيًّا. وما دمتَ أنك سألتَ إذا ما كنتُ فنانًا يملك تفكيرًا سياسيًّا أم لا، فإن الجواب هو لا، أنا لستُ كذلك. لم يسبق لي أن مارستُ فعلًا سياسيًّا. وفي كلّ مرّة امتلكتُ رأيًا سياسيًّا جاءت الأحداث لتثبتَ أنه خطأ. على سبيل المثال، عندما سمعتُ خطاب السيد نيكسون – أنتَ تذكر خطابه الشهير الذي ألقاه وإلى جانبه كلبه الصغير، عندها كان اقتناعي هكذا: «حسنًا، هذه هي نهاية نيكسون.» وفي الصباح التالي وجدتُ البلاد تهلل له وكأنه فارس أبيض!

* في صوركَ لعمّال حوض السفن في كوبا، كان للشخصيات وجود واضح بقوة. الوجوه سوداء كما هو سواد غبار الفحم، أو أيّ شيء آخر يعملون فيه، ومع ذلك كانت صورُكَ تُظهرهم مبتهجين تقريبًا.

– حسنًا، عليك أن تتذكّر أنني لم أتعمّد ذلك. أردتُ تسجيل ما هو موجودٌ هناك، وأنتَ مُحِقّ، لم يكن لهؤلاء الناس أيّ إحساسٍ بالإشفاق على الذات ولا أيّ معنى من هذا القبيل. كانوا مجرد أُناس فرحين مثلكَ أنت. هل أنتَ فَرِح؟ ربما تمُرّ بوقتٍ أسوأ من الوقت الذي مرُّوا به.

* هل تعتقد أنكَ بالتقاط الصور للضواحي الأميركية التي تشكّلُ جزءًا عريضًا وواسعًا من حياة اليوم، بوسعكَ استخدام طريقة الفهم نفسها، من مجرد معاينة السطح الواضح للخروج بتمثيلٍ حقيقيّ لها؟

– هذا لن يُجدي. حاولتُ، «هذا مقطعٌ مهم وعظيم من أميركا»، لكنني أُصبتُ بالملل من النظر إلى الأعمال التي أُنجزت، كما أصابني الملل من أعمالي أنا أيضًا.

* ولكن هل وجدتَ أفكارًا جيدة عند تصويرك لأميركا الضواحي؟

– كان «الخِرّيج» (3) فِلمًا سينمائيًّا هِجائيًّا وصادقًا تمامًا، ونافذًا تمامًا، لكنه ليس صورًا ثابتة. وثمّة تراكم كبير في الكتابة نحى منحاه، تمثَّلَ في روايات سينكلير لويس (4). فشخصياته، مثل «بابيت»، صورٌ قاسية للحياة الأميركية في طبقتها الوسطى. غير أني لا أستطيع تخيُّل نفسي أقوم بتصوير مجموعة من الناس يجلسون متحلِّقين في نادٍ ريفي، أو أيّ اسم يُدعى. فأنا لم أجدهم قط مادةً هجائيّة بما يكفي.

* البعض قال: إنكَ عرفتَ عن أميركا في الثلاثينيات أكثر من أيّ رجل آخر؛ كيف كان هذا، أَفهمتَ أميركا؟

– حسنًا، نعم، لكني فهمتها على نحوٍ غريزي، بالفطرة. هذا السؤال وسِواه من الأسئلة تخطر لي الآن من دون إجابات وهي صعبة التفسير. أعرف الكثير الكثير من الأشياء، باستطاعتي الآن عبر استعادة الأحداث وتأملها – تلقائيًّا وبلا وعي، وهذا ينسجم مع نظريتي الخاصة: أنّ جميع الفنانين الجيدين، تقريبًا، قد عملوا ونجحوا مستعينين بقوى يملكونها لكنهم لا يدركونها. إنهم ناقلو حساسيات لا يدركون أنها فيهم، ناقلو قوى موجودة في الهواء لحظة إنجازهم أعمالَهم. لقد أنجزتُ كثيرًا من الأشياء تصيبني بالدهشة الآن، إذ تُظهرُ معرفةً كبيرة لم أكن أملكها أو أعلم بامتلاكها. بإمكاني اليوم أن أتعلّمَ شيئًا ما من خلال صوري.

* هل كان صعبًا العثور على أميركا في ذلك الوقت بعد عملك في شركة أندوفر؟

– هذا سؤالٌ عريض ودقيق، كما هو أمرٌ لا أعرف عنه الكثير، لكنني أمعنتُ التفكير فيه. نعم، إني نتاج مؤسسة راسخة مثل أندوفر، على سبيل المثال، غير أني لطالما كنتُ ضد المؤسسات، حتّى في ذلك الوقت. لم أرد الإقرار بأني أعمل داخل مؤسسة تقليدية، واعتدتُ التحايلَ متظاهرًا بعكس الحقيقة، أو بأني لستُ مثقفًا، وأن ذلك إنما كان بفعل نشاط شبابيّ. كان ذلك تفكيرًا خادعًا، غير أني استعدتُ توازني الآن. أن تتمتع بالامتياز، إذا ابتغيتَ أن تكون مستقيمًا تمامًا في تحليلك، لوضع لا أخلاقيّ وغير عادل، لكن في حالة حصولك عليه وليس لك خيار فيه فلسوف تستثمره بالتأكيد. أنتَ تتمتع بالامتياز لكونك تدرس في جامعة ييل، لكنك تعرف بأنك مطالَبٌ بإعادة منح ما استُثمِر فيك.

في الحقيقة، عددٌ قليل من أبناء جيلي كان ضد المؤسسات، أو من الثوريين، أو فنانين. ثمّة تغيير كبير حدث الآن، أحد أكثر الثورات المذهلة في التفكير وطريقة العيش غير مسبوقة. ولهذا سبب واحد؛ إذ أصبح للشباب مكان يتوجهون إليه إذا أرادوا الهرب بعيدًا من أماكنهم الأولى. لم نملك مكانًا نذهب إليه. الحزب الشيوعي خذلنا بسلطات ستالين المطلقة ومحاكمات موسكو. لم يوفِّر لنا العالم بأسره مجالًا للنجاة من شرط حياتنا وظروفها ومن ماضينا والسلطة الحاكمة. لم نستطع الخروج من هذا كلّه. غير أنكَ لو تمعنتَ في ظاهرة مثل وودستوك Woodstock (5)، ستتبيّن عندها أنّ ثمّة حشودًا كبيرة من الناس يقبعون في قاربٍ واحد معًا، وأنهم يعتني بعضهم ببعض. نحن لم نملك قوة الاتحاد معًا. لم تكن أيّ وحدة تجمعنا.

* هل تعتقد أنّ هذا التغيُّر الذي أصاب ظروف العيش قد ترك نتائج متسارعة على التصوير الفوتوغرافي الجيد؟

– هذا سؤال معقد. لدي نظرية تقول بأنَّ الاهتمام الواسع بالتصوير غير التجاري، الذي يمكن أن يؤخذ على محمل الجد الآن، يعود إلى الترابط بين مجموع ما تختزنه ذاكرتك ونزوعك المِثالي نحو الصدق. وأنك افترضتَ أنّ التصوير أداة ووسيط فنيّ أكثر تمثيلًا للصدق من الكلمات، والتخطيطات، والرسوم. إني أُومِن بأنها مسؤولية حال الاهتمام الهائل بالتصوير التجاري، مع عدم وثوقي بأنك محق في اعتقادك أن التصوير وسيط صادق، أو أنه يتيح إمكانيات للتعبير الصادق.

مصور الصدق غير العادي

* يبدو لي أنكَ رائدٌ مبكِّر لهذه الحركة التي تصفها. إنّ أحد أسباب تميّزك أنكَ كنتَ دائمًا مصوِّر الصدق غير العادي والبساطة – إنّ ما كنتَ تبحث عنه في أميركا إنما هو شيءٌ طبيعيّ، وسهل، وحقيقي.

– عليكَ أن تتذكّر أنّ هذا ليس سوى ظاهرة غير واعية، وأنها تشكّلُ لي حادثًا مدهشًا في تاريخ الفن، وتاريخ التحليل النفسي، والتاريخ الأميركي الذي كنتُ أشتغل عليه، بلا وعي مسبق، والذي برز على السطح، بعد ذلك، لدى جيلكم. أنتَ أشرتَ إلى البساطة. عندما بدأت في التصوير، كانت صوري مسطحة جدًّا لدرجة عدم عدّها فنًّا، وعدم عدّ نفسي فنانًا. لم يُلتفَت إليَّ على الإطلاق. الذين نظروا إلى صوري ظنّوا أنها مجرد لقطات لباحة منزل خلفية. من جهتي، عرفتُ العكس وواصلتُ بعِناد. أعتقد أني عرفتُ ما أفعل، لكني لم أعرف أني أستقدمُ تلك الميزات التي تتحدّث عنها وأقوم بتفعيلها. أنتَ تتحدّث عن الصدق. أنا لم أعرف أني كنتُ صادقًا، كنتُ أعملُ بعفوية. ما حدث هو أنّ طريقة التفكير في الجامعة كانت تعتمد الانعكاس والتحليل، لكنّها طريقة استثنائية. فما يُطلق عليه رجل الشارع، إذا كان له وجود فعلًا، ليس انعكاسيًّا أو تحليليًّا.

* في أثناء التقاطك الصور، ثمّة نوعٌ من التغيير يحدث. ثمّة ما هو مختلف بين صوركَ وأصولها، ويتضح هذا إذا ذهبتَ إلى ذاك المكان ونظرتَ إليه بالعين المجردة، وإني كنتُ أتساءل: لا بد أنكَ عكستَ ذلك، بمجرد التقاطك كلَّ تلك الصور: أيّ تأثير تلقاه ذهنكَ عندما اتخذتَ القرار الواعي وضغطتَ على الزر.

– هذا ما حدث لي حقًّا. أعتقد أنها حالة مذهلة، لكنها غير قابلة للتفسير أيضًا. وإني أجازف إنْ كنتُ أستطيع القيام بذلك باستهانة، للادّعاء بأني فنّان، في حين دوافع الفنّانين مسألة عظيمة الغموض. مَن يعرف لماذا تُلهمنا فقرة كتبها تولستوي وتبقى خالدة. إنها قطعة أدبية وفنٌّ راقٍ، في حين كتابة محرِّر النيويورك تايمز لن تحظى بذلك، ولا يمكن أن تكون. ومع ذلك فإنّ كتابة الاثنتين صاغتهما اللغة.

* هل تعتقد باحتمال أن تكذب الكاميرا؟

– بالتأكيد. إنها غالبًا ما تكذب.

* أليس ثمة ضير أن تكذب الكاميرا؟

– لا، ليس حسنًا أن يكذب أيّ شيء أو أيّ أحد. لكن الأمر خارج السيطرة. إني أشعر بأنّ الصدق موجودٌ في الناس، هنا وهناك، وعلى نحوٍ نِسبيّ.

* ما أود أن أسأله، إذا التقطتَ صورة جميلة لحاوية قمامة، فهل الصورة تكذب؟

– كتب أحدهم مقالة أسماها «لا وجود لشيء كالجَمال» وإنه لأمرٌ يستحق التفكير فيه. بإمكان القمامة والمهملات، في أوضاع معينة، بالنسبة لي على الأقلّ، أن تكون جميلة، والسبب هو أنكَ تراها هكذا. بعض الناس لديهم القدرة على رؤية ذلك، رؤيتها والإحساس بها. إني أميل إلى فتنة الشيء وجاذبيته، إلى قوة المرئيّ، إلى الجمالي في المادة المنبوذة أو المهملة.

* أيعود السبب في أنّ تلك المواد تشكّلُ تحدّيًا لك؟

– لا، هكذا أنا. يكمن السبب في جزء منه في المعاكسة والانحراف. لقد استمددتُ الكثير من زخمي المبكِّر من احتقاري للأفكار المقبولة عن الجمال، وهذا جيد جزئيًّا، وأصيلٌ جزئيًّا أيضًا، كما أنه هَدّامٌ جزئيًّا. لم أكن شابًّا لطيفًا جدًّا. كنتُ أمزّقُ كلَّ شيء بمقدوري الحصول عليه. إني أرى هذا عند استعادتي له وتأمله. كان هذا داخلي، مثلما هي أشياء معينة تستدعي الفضول والتساؤل لديك، عندما يمضي الوقت وتبلغ سنِّي، لكنكَ لن تصل القعر أبدًا.

* لنعُد إلى الفرق بين التصوير غير التجاري والتصوير الصحافي، فأنا لا أجدُ أيّ فرق إذا ما عُلِّقَت صورةٌ صادقة في صالة عرض، أو طُبعت على صفحة في مجلة.

– وكذلك أنا. الحقيقة أنني أستريب في حالة تعليق صورة في صالة عرض. ودائمًا ما أقوم بقصّ صور لافتة من الصحافة اليومية والاحتفاظ بها.

* هل حاولتَ تجربة الفِلم الملوَّن، وهل تعتقد أنه أقلّ صدقًا في صوره مقارنةً بالأسود والأبيض؟

– لا، لقد قمتُ بتجربته. إني الآن في مرحلة العمل بالتصوير الملوَّن، وإني مهتمّ بذلك. لكني لا أعتقد بأنّ الأبواب قد شُرِّعَت لِما هو زائف من خلال الألوان، أو أنها أعظم مما هي عليه، وذلك من خلال تداول مطبوعات الأسود والأبيض. فأنتَ تستطيع أن تُشوِّه وتُحرِّف بالألوان أيضًا. ولقد صادفَ أن كنتُ رجلًا رماديًّا؛ أنا لستُ رجلًا أسود وأبيض. أعتقد أن الرمادي أكثر حقيقية. إنّ نثر إي. إم. فوستر(6) رماديّ، وإنه رائع ومدهش.

* يبدو أنّ معظم الذين ينفّذون أعمالهم بالألوان ينحون باتجاه ما هو دراماتيكي، مثل إرنست هاس (7).

– إني أتفهم ذلك كلّه، لكنني الآن أعمل على كاميرا SX-70 الصغيرة من أجل المتعة، وأصبحتُ مهتمًّا بها جدًّا. أشعرُ وأنا أستخدمها بانسجام كبير. قبل سنة من الآن كان يمكن لي القول بأنّ الصور الملونة مبتذلة، وينبغي عدم تجربتها تحت أيّ ظرف من الظروف. وإنها لمفارقة حقًّا؛ إذ تلازمني الآن، والحقيقة أنني أنوي اعتمادها الجدي.

* في استهلال الحديث قلتَ: إنكَ تأخرتَ في بداياتك، وإنكَ شعرتَ بأنّ عملك المهني لا يزال على طريق طويل. ماذا تفعل الآن؟

– أخبرتكَ. إني مفتونٌ بهذه الآلة الصغيرة التي ظننتها في البداية مجرد لُعبة.

* وماذا تحاول عمله باستخدامك لها؟

– توسيع رؤيتي وترك المجال لفتح طُرُقٍ فنيّة جديدة لم أجرّبها سابقًا. هذا أحد الأشياء المميزة الخاصة بها، التي اكتشفتها على غير توقع. إنّ المصوِّر صاحب التجربة يملك الآن إضافةً جديدة بكل معنى الكلمة تتيحها هذه الكاميرا. فأنتَ تصوّر أشياء لم تكن تفكّر بتصويرها من قبل. حتى إنني لا أعرف لماذا، لكني وجدت نفسي أتجدد عند استخدامها.

خطوة لا أخلاقية

* ماذا ترى في التأكيدات الحديثة على التكنولوجيا؟

– حسنًا، أنا لم أفكّر كثيرًا في هذه المسألة، لكنني مرتبكٌ جدًّا حيال تلك الكاميرا الجديدة. أخذتها معي إلى إنجلترا الصيف الماضي، وقال صديقٌ لي وهو ناقدٌ فنيّ: «هذه حالة كَمال، فالعمل الشاق بسبب التقنيات الصعبة إنما هو جزءٌ ضروريّ من أجل إنجاز أعمالٍ فنيّة، ولذلك فإنّ استخدام هذه الكاميرا خطوة لا أخلاقيّة» صحيح؛ بواسطة هذه الكاميرا فإنّ عملك يُنْجَز كاملًا بمجرد ضغطك الزر. غير أنكَ ينبغي أن تفكّر بما يتخلل ذلك. عليكَ أن تحوزَ خبرةً طويلة وتدريبًا ومبادئ، مع أني أريد الآن أن أضع هذه الكاميرا بين يدي شمبانزي وطفل ورؤية ماذا سيحدث. حسنًا، ليس ما يتعلق بالشمبانزي – لقد جُرِّب هذا من قبلُ. لكني أريد تجريب الكاميرا مع الأطفال وماذا سيفعلون بها. إنها المرّة الأولى، كما أعتقد، التي تضع فيها آلةً بين يدي فنّان وتدعه يتكل تمامًا على رؤيته، وذوقه، وعقله.

* ربما هذه إحدى أسوأ الأشياء في كاميرا SX-70 – أنها خالية من أيّ صعوبات تقنية. فبإمكان أيّ شخص أن يلتقط بها الصور.

– هذا ليس الشيء الأسوأ. فأمر كهذا يصحّ على أيّ شيء، بصرف النظر إنْ كان ثمّة حاجة للتقنيات أم لا. فعلى سبيل المثال، جميعنا تعلّمنا الكتابة، وأيّ شخص بإمكانه أن يجلس وأن يكتب شيئًا ما. غير أنه ليس كلّ شخص قادر على الجلوس وكتابة ما له قيمة.

* يبدو أنّ كثيرًا من الصور الحديثة تركّز اهتمامها على ما يظهر في الصورة بلا شعورٍ عاطفي حيالها. ألفرد ستيغلتز(8) قال: إنّ أكثر ما يهمه إنما هو قوة المشاعر التي يستمدها من المادة نفسها.

– أعتقد أنه كان، في رأيه هذا، منساقًا إلى حد كبير نحو التنظير عن المسائل الفنية. فكلما أكثرَ من التفكير في ذلك، قَللَ من كونه فنّانًا. عندما بدأ يعتقد أنه كان يقوم بتصوير الله، لم يكن يصوّر شيئًا. لكنه أنجزَ بضعة أعمالٍ رائعة، نحو سنة 1906م في شوارع باريس. لقد قبضَ على حقيقة تلك الشوارع حقًّا. كان أستاذًا في التكنيك، وكذلك تلك الأعمال التي تركزت على الزراعة والحبوب. غير أنّ صور الغيوم ليست شيئًا في نظري، لا شيء على الإطلاق، في حين يعدّها هو أعظم إنجازاته.

* ماذا تقول لطلّابكَ؟

– قبل كلّ شيء أقول لهم بأنّ الفن لا يخضع للتعليم، لكن (التعليم) عامل حافز، ويمكن اجتياز بضعة عوائق من خلال مدرّس نبيه، كما يمكن خلق جوّ يؤدي إلى فعلٍ فنيّ. غير أنّ الفن نفسه سِرٌّ ويصعب الوصول إليه. فأنتَ لا تستطيع وضع الموهبة داخل أيّ شخص. إني أعتمد على الجاذبية، على قوة المرئيّ، على جمالية المادة المنبوذة والمهملة. أعتقد أنه عليك أن تقول هذا مباشرةً، وبعدها تحاول عمل شيء آخر. ولهذا الغرض وُجِدَت الجامعة، لتكون مكانًا للمحاكاة وتبادل الأفكار، وفرصة لمنح الناس امتياز البدء بنهل مِقدار ما من غِنى الحياة الموجود داخل كل إنسان، التي ينبغي عدم الحجر عليها.

المصدر

http://www.americansuburbx.com/2011/10/interview-walker-evans

(*) نُشر أصل الحوار في
Yale Ahumni Magazine, February,1974

هوامش:

(1) James Agee (1909-1955): روائي، وصحافي، وشاعر، وكاتب للنصوص السينمائية، وأحد أكثر النقّاد السينمائيين تأثيرًا في الولايات المتحدة في الأربعينيات من القرن الماضي. للسينما كتب: «الملكة الإفريقية» 1951م، و«ليل الصيّاد» 1955م. ومن رواياته: «موت في العائلة» 1957م، نال عليها جائزة بوليتزر، و«مراقبة الصباح» 1951م.

(2) Lewis Hine (1874- 1940م): عالم اجتماع ومصوّر أميركي. استخدم الكاميرا كأداة في مجال البحث الاجتماعي. كان لمجموعة صوره لأوضاع الأطفال في المصانع والمزارع تأثيرها الفعّال في تغيير قوانين عمل الأطفال في الولايات المتحدة.

(3) The Graduate: فِلم سينمائي أميركي أُنتج عام 1967م، أخرجه مايك نيكولس، وكتب نصّه كلٌّ من بك هنري، وكالدر ويلنغهام، واستُقي من رواية تشارلز ويبي بالعنوان نفسه.

(4) Sinclair Lewis (1885- 1951م): روائي، وقاصّ، وكاتب مسرح أميركي. نال جائزة نوبل عام 1930م. من رواياته: «لا يمكن حدوث هذا هنا» 1935م، و«شارع رئيسي» 1920م.

(5) Woodstock Music & Art Festival: مهرجان موسيقيّ موسمي بدأ عام 1969م في الولايات المتحدة، يجتذب ما يقارب أربعمئة ألف من الجماهير التي تكتظ ببهجة هائلة حيث يُقام عادة في الخلاء، ويستمر أيامًا.

(6) E.M.Forster: (1879- 1970م): روائي، وقاصّ، وكاتب مقالات إنجليزي ليبرالي. من رواياته: «ممر إلى الهند» 1924م، و«نهاية هوارد» 1910م، و«غرفة مع منظر» 1908م، و«الرحلة الأطول» 1907م.

(7) Ernst Hass: (1921- 1986م): مصوّر صحافي نمساوي المولد، رائد في التصوير الملوَّن. خلال أربعين عامًا من اشتغاله بالتصوير عملَ على التجسير بين التصوير الصحافي واستخدام التصوير كوسيط وأداة للتعبير والإبداع.

(8) Alfred Stieglitz (1864- 1946م): مصوّر أميركي عمل على جعل التصوير مقبولًا لدى الناس يوصفه فنًّا في ذاته.

ألبرتو جياكوميتي.. الخَطُّ يسأل والقحطُ يجيب

ألبرتو جياكوميتي.. الخَطُّ يسأل والقحطُ يجيب

لا أحد يفلت من قوة الإيحاءات المباغتة لحظة الوقوع البَصَري على أعمال هذا الفنّان السويسري. هذا ما حدث معي حين تعرفتُ نماذج من أعماله، في الثمانينيات تحديدًا، وفي الصفحات الملونة والأنيقة لمجلة «فنون عربيّة» التي نشرت، حينذاك، موضوعًا عنه بحسب ما أذكر. كما أذكر أنَّ اسمه ظل صداه عالقًا بوصفه فنانًا إيطاليًّا! ألبرتو جياكوميتي! غير أنَّ تخطيطاته ولوحاته الزيتيّة كانت ما لفتتني أكثر من منحوتاته، أو تشكيلاته المصنوعة من مواد مختلفة. وإني أحاول، الآن، لملمة تلك الإيحاءات الأولى وجمعها في كلمات، لكنني أفشل! فربما هي ذاتها التي أجتهد لأن أصفها، وربما كانت أشياء أخرى، غير أنني على ثقةٍ بأنَّ ثمة مشتركات بين زمنين يباعد بينهما أكثر من عقدين!

أهو الحضور الفادح، الساطع بمعنًى ما، والجارح لسببٍ قد يبدو غامضًا في ظاهره، لكنه، بقليلٍ أو كثيرٍ من التأمل، أستطيعُ الكشف عنه بالقول:

ها أنا أشهدُ على ذاتي عاريًا حتّى العظم مني! أشهدُ عليَّ ناحلًا كالخيط المشدود، مرتَجَلًا مثل خطٍّ عابث، وواقفًا وسط فراغ كامل! أنتصبُ وسطَ عَراء قد أبدو فيه، أو في خوائه بالأحرى، مرئيًّا؛ لكنني (كالخواء العاري أو عُري الخواء)، لستُ بملآن إلّا بهذا الحضور. وإنه حضورُ السؤال البليغ في مساءلته لكل مَن يقع بصره عليَّ (أنا الخطُّ الهَشّ والخيطُ المتطاول ألتفتُ إليكم، أو أمشي بإقدامٍ وعزم غير مفهومَين)، ناسجًا من هيئتي شبه المتلاشية شِباكَ السؤال في وجهته المستديرة باتجاه العالم.

لعلّه السؤال/ الشَّرَك؟

ولِمَ لا يكون شَرَكًا ليصطادَ إجابةً واحدةً، فقط واحدة، تسعفني (أنا الخط الخيطي في حالاتي شبه الهَبائيّة) في تبرير حضوري الشَّبَحي هذا وسط الخواء إلّا من ظلّي الواهن؟ غير أنَّ ظِلّي لا يراه غيري. ظِلّي في داخلي، وداخلي يكاد يكون موجودًا ـ إذ أكادُ أنا أن أكون! حضوري فَحْميٌّ سرعان ما سوف يتطاير غبارُ رماده إنْ هَبّ نسيمٌ نسيناه، فثمة حياة أولى كانت، أو ثالثة لا أعرف متى ستكون! لماذا أنا أصلًا، ولماذا باتَ قَحْطُ العالم فضاءً مصمتًا تُركتُ فيه ألوكُ سؤالي كأنما هو قَدَري المرسوم، ومصيري المحتوم؟ ألا ترون هذا الـ«جياكوميتي» كيف يجعلُ من عينيَّ، في تخطيطاته بالأسود والأبيض ولوحاته الملونة، تجويفين مليئين ببياضٍ قد يكون أبديًّا (ألأنه أزليٌّ أيضًا؟) لا يمتلئان سوى باللون الذي ينبغي عليَّ أنا أن أجعله فيهما؟ أن أدلقه داخلهما؟ لكنني لا أستطيع الحَراك من مكاني، حتّى وإنْ كنتُ أمشي أو ألتفتُ صوبكم! لا أستطيع في كل حالاتي: إنْ كنتُ خطًّا، أو خيطًا، أو برونزًا بسُمْك الحبل، أو رجلًا جالسًا يحدّق في عدسةٍ خفيّة، أو وجهًا خُططَ بأصابع هذا الجياكوميتي العصبيّة المتوترة! كيف لي أن أجيب عن سؤالي إذا ما بقيتُ واقفًا في قحطٍ أصمّ، وأبكم، انتُزِعَت منه السماءُ، فلا شمس ولا هواء، لا ليل ولا قمر؟ أو منتصبًا كالمسلّة في خواءٍ لا يحملُ في خوائه سوى خوائي إلّا من سؤالي الأرفع مني والأنحل من شبك العنكبوت؟

أهذه هي «رسالة» ألبرتو جياكوميتي لي:

لا تنتظر؛ فلن يأتيكَ أي «غودو»، وعليكَ الاكتفاء بظلّكَ الذي فيكَ وحدك، فربما، ربما، يكون هو دليلك.

فأسألُ: دليلي إلى ماذا؟

فلا يجيبني القحط إلّا بصمته!

عن هذه الوحدة والعزلة لدى كائن الفنان الخيطي، بحسب اجتهادي، كتبَ جان جينيه في كتابه «الجرح السرّي: مرسم ألبرتو جياكوميتي» يقول: «فن جياكوميتي، إذن، ليس فنًّا اجتماعيًّا؛ لأنه سيقيم بين الأشياء صلةً اجتماعيّة – الإنسان وإفرازاته، بل سيكون، بالأحرى، فنًّا للمتسكعين الممتازين الذين يبلغون في صفائهم درجة تجعل ما يمكن أن يجمعهم هو الإقرار بعزلة كل كائن، وكل شيء. وكأنَّ الشيء يقول:

أنا وحيد، إذن أنا مأخوذ داخل ضرورة لا تستطيعون أن تفعلوا ضدها شيئًا. إذا لم أكن سوى ما أنا عليه، فإنني غير قابل للتحطم. ولمّا كنتُ هو ما أنا موجودٌ عليه، فإنَّ عزلتي، وبدون تحفظ، تعرف عزلتكم».

* * *

إذَن: هي العزلة ما يمكن أن تشكِّلُ جوابًا.

لكنه جوابٌ مطروحٌ فوق قحطٍ مترامي الأطراف، بلا نهار وشمس. بلا ليل وقمر. بلا آخر قيد التواصل والمناكفة، أو المنافحة عن أمرٍ ربما تحوَّلَ إلى ما يشبه «سقط المتاع»!

يا لمصير الكائن؛ هذا الكائن على وجه التعيين!

المصدر‭:‬
http://www.mystudio.com/bios/Alberto_Giacometti.gtml

عابرون‭ ‬دون‭ ‬تواصل

عُرفَ النحّات السويسري السيريالي ألبرتو جياكوميتي (1901-1966م) بتشكيلاته المتوترة النحيلة والمتطاولة. بدأ جياكوميتي تخطيطاته بالفحم وهو في التاسعة من عمره، وقام برَسْم اللوحات الزينيّة في الثانية عشرة، وشكَّلَ منحوتته الأولى عندما بلغ الرابعة عشرة. اشتهر أبوه كرسّامٍ انطباعي وكان معلّمه الأول. في عام 1919م باشر جياكوميتي دراسة النحت في جنيف، ثم تابعها في باريس ولمدة ثلاث سنوات تحت إشراف النحّات الفرنسي الأشهر في ذلك الوقت، إميل أنطوان بورديل.

في بداية عمله بمفرده، واجه جياكوميتي صعوبةً في العمل المستمَد من شكلٍ حي، إذ بدا له أنه آخذ بالتفسُّخ والتحطم خلال الإنجاز. وبدلًا من ذلك، حاول العمل انطلاقًا من مخيلته، وواصل فعل ذلك طوال عشر سنوات. أثناء تلك الفترة كان للتكعيبيّة، والفن الإفريقي، وللنحّات التكعيبي ليتواني الأصل جاك ليبتز تأثيرهم الكبير في عمله. لقد تحوّلَ أسلوبه على نحوٍ أساسي ليصبحَ نحيلًا قرصي التكوين أولًا، ثم باتَ صلبًا متضامًّا ومحكَمًا، وبتشكيلات أشهرها «الزوج»، و«المرأة الملعقة».

بدت تلك الأعمال الأخيرة غريبة وشاذة، منتصبة كالمسلّة ومضحكة، بارزة ومقعَّرَة، جامعةً ما بين المواجهة الجسديّة القوية المتحدية والمضمون الإيروتيكي. في عام 1928م شعر جياكوميتي بالحاجة إلى فتح أشكاله، ليخلقَ أعمالًا ذات تشابكات فولاذيَّة، أتبعها بسلسلة هياكل عظميّة كالأقفاص نتجت عنها أجواء ثلاثيّة الأبعاد، مساويًا في ذلك ومتساوقًا مع اللوحات السيرياليّة. وبلغت تلك الأعمال ذروتها وازدهارها في عمله الثمين والرائع «القصر في الرابعة قبل الظهر»، مكوّنًا إيّاه من الخشب، والأسلاك، والزجاج، والحبال.

وفي عام 1935م عاد جياكوميتي ليعمل وفقًا لنماذج إنسانيّة حيّة، مركزًا على التغيرات الصغيرة والدقيقة لكل جزء من الجسد. ومع المبالغة الحسّاسة أو إظهار كل تفصيل، وصلت التشكيلات، مهما بلغت نحولتها، إلى البروز جاعلةً الفضاءَ المحيط بالعمل مرئيًّا وجزءًا من العمل. لقد أدّت تلك المنحوتات المتطاولة والنحيلة على نحوٍ ملموس، وهي التي أشهرت جياكوميتي وكانت علامته المميزة، إلى أن تبدو متفسخة من مسافة قريبة. لكنها، عند النظر إليها من بُعد، فإنها تعبّر عن إحساسٍ كوني بالحيويّة الحيّة. إنَّ أشكال جياكوميتي المفردة أو تلك الواقفة ضمن مجموعات، والعابرة لبعضها من دون أي تواصل، تصاحبُ بحثًا قلقًا بسببٍ من وحدتها، أو لوقوفها باستقامةٍ واستقلاليّة مثل أشجار في غابة شاهقة.

إ.ف.

ميشا غوردن: أنا إنسان بسيط يثق في حدسه

ميشا غوردن: أنا إنسان بسيط يثق في حدسه

تعد تجربة الفوتوغرافي الأميركي من أصل سوفييتي ميشا غوردن واحدة من أعمق التجارب في فن الفوتوغرافيا، ومن أكثرها أصالة واشتباكًا بالتهديدات التي تواجه الذات الإنسانية. أعماله الرائدة تعبر، في كيفية لا تخلو من غرابة وتعقيد، عن المأزق الوجودي للإنسان، وعن عزلة الفرد واغترابه في لحظات زمنية وشعورية مختلفة. أعماله ليست مجرد صور مركبة أو ذات مسحة سوريالية، إنها تراجيديا مستمرة تثير التساؤلات وتحفز التأمل في سر الفن ومصير الإنسان، الذي يبدو في أعمال ميشا معطوبًا أو يتهدده العطب، مقذوفًا في خلاء مفتوح على الوحشة. ولد ميشا في الاتحاد السوفييتي عام 1946م بعد سنة واحدة من انتهاء الحرب العالمية الثانية. درس هندسة الطيران، لكنه لم يعمل في تخصصه، ثم قرر الهجرة إلى أميركا. وللتعرف أكثر على العالم الإشكالي لهذا الفوتوغرافي، ننشر هنا ترجمة لحوار معه، ثم شهادة له حول تجربته، ومقال نقدي حول مشروعه. والمواد الثلاث من إعداد وترجمة الكاتب والمترجم إلياس فركوح:

ذكرتَ أنكَ اكتشفتَ أسلوبك الخاص عندما تركتَ التصوير الوثائقي والتقاط «البورتريه». حدث ذلك تحديدًا في عام 1972م، حين اجترحتَ أوّل وأهمّ صورة مفاهيميّة: الاعتراف. صِفْ، لو سمحتَ، ما قادكَ باتجاه هذا المفهوم، وكيف قُمتَ بتطويره فيما بعد؟

في تلك المرحلة من حياتي تركَّزَت جُلُّ حيويتي في العثور على شيء «جديد» في التصوير الفوتوغرافي. ذات صباح كنتُ جالسًا في الخارج من منزل أبي الواقع على البحر. انتبهتُ للبستاني وإلى جانبه عربة يد بدولابٍ واحد.. ما أدّى هذا إلى قَدْح صورة لحقلٍ مفتوح مع امرأة عارية تدفع عربة اليد المليئة بدُمًى معطوبة وهي تواجه ريحًا عاصفة. بعد هذا، وفي يومٍ كنتُ متوجهًا للعمل، رأيتُ مجموعة أولاد لفرقة عزف متجوّلة تعبرُ الشارع بآلاتها. ضَرَبَني المشهدُ مثل البرق. كان ذلك هو العنصر المفقود الذي أبحث عنه. صارَ لديَّ هذه الرؤية، بسيطة وواضحة. رسمتُ تخطيطًا للصورة القادمة وبدأتُ بتركيب العناصر. استغرقني هذا عدة أسابيع لأجدَ الموقع المناسب، ودعامات المشهد، ومَن سيقوم بالأداء.

صباح أحد أيام الأحد، وعلى جانب طريق مرتفع، وقفت مجموعة من ثلاثة أشخاص غرباء ومعهم شبكة مليئة بالدمى، وطَبْل، وعربة يد، ينتظرون مَن يُقلُّهم. توقفَت أوّل سيّارة… عندما وصلنا إلى الموقع، تبيّنَ لي أنّ الحقلَ تحوّلَ إلى وَحْلٍ وطين. كانت أمطَرَت ليومين متتاليين. والموقع المناسب لالتقاط الصورة كان وسط الحقل. انتزعتُ أدواتي، وحملتُ عربة اليد على ظهري، وشرعتُ في عبور الحقل ببطء، غاطسًا بالوحل والطين حتّى رُكبَتَيّ. تَبِعَني المؤديان. لم يكن هذا الوضع ساحرًا أو فاتنًا مثلما توقعاه. كان يومًا مشمسًا بسماءٍ زرقاء صافية وبلا ريح. قُمتُ بترتيب جميع الأدوات أمام آلة تصويري لأحاكي الرسمَ الذي خططته، لكنه لم يكن كما حسبته. ثمّة شيء مفقود. ثم فجأةً، ظهَرَت غيمةٌ سوداء في الأفق.

وكان أن أطارت عَصْفَةُ ريحٍ شَعرَ المرأة. قَرَعَ الرجلُ الطَّبْلَ. بُعِثَ المشهدُ حيًّا أمامي. أخذتُ عدة لَقَطات. ثم همدت الريحُ تمامًا، وعبرت الغيمةُ لتبقى السماءُ الزرقاء الصافية فوقي بقية اليوم…

أفكِّرُ أحيانًا أن عَصْفةَ الريح تلك قامت بتغيير اتجاه حياتي.

كيف تلقى الآخرون «الاعتراف» لأوّل مرّة؟

أذكرُ نسخةً صغيرةً مطبوعةً مُلصقة على خزانة المطبخ. عرفتُ أني كنتُ أنظرُ إلى أهمّ عَمَلٍ اجترحته في حياتي. امتلكتُ جميع العناصر لصورةٍ عظيمة وبمقدوري التعلُّم منها. معظم الناس حاروا في أمر «الاعتراف». كانت مختلفة جدًّا عن الفنّ الرسمي في الدولة الشيوعيّة. شعرتُ بأنّ بعض المصورين الفوتوغرافيين ممن رأوا هذه الصورة أُصيبوا بالرعب من الأسلوب غير المعروف، و«حاولوا» تجاهل عملي. لكنني لم أكن بحاجة إلى رأي الآخرين. كنت امتلكتُ رأيي أنا…

ذكرتَ أنّ بعض أكبر التأثيرات فيك كانت كتابات دوستويفسكي والتصوير السينمائي لتاركوفسكي. يبدو عملك متأثرًا أيضًا بـ«جحيم» دانتي أليغييري. هل قرأتَ لدانتي؟ ومَن كان له التأثير في عملك غير هؤلاء؟

لا، أنا لم أقرأ لدانتي، لكنني سمعتُ في كثير من المرّات أنّ الناس يرون عناصرَ مِن «جحيم» دانتي في عملي. وإني أعمل دائمًا على تشجيع المشاهدين على تأويل عملي كما هم يرونه. إنّ غايتي هي خلق صورة «تتكلّم».

كم من الوقت تحتاج لخلق صورة جديدة؟ ما العملية التي تنخرط فيها؟

يعتمد الأمر على الصورة نفسها. أحيانًا يستغرقني الأمر أسبوعًا، وأحيانًا أخرى شهرًا كاملًا. غير أنّ الأفكار حاضرة دائمًا. بعض الصور المطبوعة تكون في غاية التعقيد الفني وأحتاج لعدة جلسات لدراسة مكوِّناتها والتقاطها، ثم أمضي عدة أسابيع في غرفة التحميض (darkroom) لأجل تركيب أجزاء الصورة وجمعها من عدد كبير من نُسَخ الـ«نيغاتيف» المختلفة. أما العمليّة نفسها؛ فهي هي لا تتغيّر. تبدأ بالفكرة، ثم التخطيط بالرسم، وتجميع المكوّنات وترتيبها، وتصوير المادة ودراستها، وبعد ذلك الاشتغال التدقيقي في غرفة التحميض.

● أنتَ لا تلجأ لاستخدام الوسائل الرقمية (الديجيتال) مثل برنامج الفوتوشوب. جميع ما خرجتَ به ناتج عن العمل في غرفة التحميض ويدويًّا. هل تمنحك هذه الطريقة سيطرةً أكبر على النتيجة النهائية؟

اشتغلتُ جميعَ صوري داخل غرفة التحميض تحت أداة تكبير واحدة، مستخدمًا تكنيكًا متطورًا باتَ ممتازًا عبر سنوات العمل. هذا التكنيك له حدوده، وإني أنكبُّ عليه لأواجه تلك المحدوديّة حين العمل على الأفكار. إضافة إلى هذا، وقبل طباعة الأصل، أُجري اختبارات وتنظيمًا وضبطًا لكلّ صورة سلبيّة (نيغاتيف) معدة للطباعة. أدوّنُ جداول حيث أُظهر الكشف المناسب وجميع نتائج المعمول عليه بتسلسله ولكلّ صورة نيغاتيف اسْتُخْدِمَت. بعد ذلك، تأتي مرحلة «تجفيف» ما طُبع. هذا الجزء من العملية هو الأكثر حساسية لأي خطأ. أعمل على التدقيق في العمل، كلّ صورة نيغاتيف بعد أخرى، مغيّرًا باستمرار التصحيحات إلى أن تصلح النيغاتيف الأخيرة لأن تُستخدم. عندها، يكون شعوري كمن يرجع إلى بيته سالمًا بعد قيادة طويلة لسيّارة على الطريق. هذا الجزء إنما يتعلق بالتدريب والانضباط والخبرة أكثر من كونه خاصًّا بالفنّ. بعد ذلك يأتي وقت «الحُكْم»، عندما تخرج أوّل صورة مطبوعة من جهاز التحميض. إنها لحظة في غاية التشويق لي. أبحثُ عن أخطاء محتملة كلّما أظهرَت الصورةُ نفسها، وثمّة إحساسٌ عظيم بالراحة والشعور بالإنجاز عندما تكون المطبوعة «خالية من العيوب». دائمًا ما أطبعُ سبعَ نُسَخٍ إضافة إلى ثلاث نُسَخ كبراهين فنيّة. لسوء الحظ؛ إنّ التكنيك الذي أستخدمه لا يسمح بأيّ أخطاء. إنه يتطلّب تركيزًا كاملًا، ويمكن أن يكون مُرهِقًا بَدَنيًّا وذهنيًّا للغاية.

المُعطيات الرقميّة (الديجيتال) سهلة ومطواعة. لكنّ طريقتي، على ما هي عليه من مشقة، تمنحني سيطرةً أفضل وفوريّة على الجودة. فأنا أطبع من النيغاتيف الأصلي بعد كل شيء. وكذلك؛ لستُ أشعر في هذا الوقت بالحاجة إلى تغيير الطريقة التي تأتي بنتائج طيبة. لا أدري كم من الوقت سأظلُّ محتفظًا بقوةٍ جسديّة جيدة لأكون قادرًا على مواصلة العمل بهذه الطريقة. لكني، عند لحظة ما، سيكون لديَّ خيار الانتقال إلى المُعطيات الرقمية.

كثيرٌ من أعمالك يعكس اغترابًا وعزلة. أهذه حالة عانيتها في حياتك؟ إذا كان الأمر كذلك، هل تشعر بأن هذا لعبَ دورًا في تطوير «موهبتكَ» الفنيّة؟

نشأتُ في دولةٍ توتاليتاريّة (شموليّة استبداديّة) بعد الحرب العالمية الثانية. كنتُ وَلَدًا سعيدًا أُمضي معظم وقتي في الشوارع ألعب مع أولادٍ آخرين، وغالبًا ما أكون مفتونًا بـ«ألعاب الحرب». كانت الحياة من حولي فقيرة جدًّا، مليئة بالصراع والمآسي. صور من طفولتي كامنة في العمق مني. كنتُ مراهقًا صعب المراس، حَرونًا وعنيدًا جدًّا ولا أحترم السلطات. أبعدني هذا السلوك عن المراهقين الآخرين، وكان له تأثيره في تطوير أسلوبي. لم أنْتَمِ قط لأيّ منظمة، وهو الأمر الذي يُعَدُّ مستحيلًا في دولة شيوعيّة. بعد وصولي للولايات المتحدة، وجدتُني مُحاطًا بكثير من الأشخاص الذين حاولوا مساعدتي. تعلّمتُ كثيرًا من أصدقائي الجُدد. وعندما أسستُ لنفسي سُمعةً كفنّان، أصبحتُ جزءًا من «مجموعات الفنّ» العاديّة. ثم بِتُّ بعدها مُهيأً لخطوة تغيير. حدث هذا عندما اشتريتُ ثمانين فَدَّانًا من تِلالٍ متدرجة وسط مينيسوتا، وانتقلتُ مع عائلتي لعيش حياة هادئة، بسيطة، بعيدًا من مشاحنات حياة المدينة وضجيجها. أعمل غالب الوقت مع القليل من وسائل التسلية. أثبتَ هذا التغيير أنه جيد ومناسب حتّى الآن. لقد أنجزتُ كثيرًا من الأعمال المهمة منذ ذلك الوقت… صخرةٌ كبيرةٌ ملقاة على الحدود الجنوبيّة للأرض حيث أعيش.

أحبُّ أن أزورها في أيام الشتاء المشمسة والسير من حولها في حلقات، متشرِّبًا لطاقتها الصامتة.

أحبُّ أن أقفَ فوق قمتها بعينين مغمضتين متجهتين صوب الشمس الساطعة. أحبُّ أن أملأ صدري بهواءٍ منعش وبارد وأن أبلغَ أعلى الفضاء. أشعرُ بأني متفرِّدٌ، ولكني لستُ وحيدًا. هو المكان حيث أنتمي. البومة المتوحدة تراقبني من عشها عبر الوادي.

ما الذي تعتبره أعظم منجزاتك؟

العثور على دربي الخاصّ واتباعه.

ما النصيحة التي تود تقديمها للفوتوغرافيين الصاعدين المتطلعين لاجتراح أسلوبهم الخاص؟

كونوا حَذرين عند اختياركم لمعلّمكم. إذا كنتم تملكون موهبةً حقيقية، ربما لا تحتاجون لأي معلّم.

بعد تطوير قوام عَمَلٍ يعكس أفكارك ومشاعرك الخاصّة، ماذا عَلَّمَتْكَ صورُك الفوتوغرافيّة عنك؟

أني إنسانٌ بسيطٌ يثقُ في حَدْسه.

المصدر:

http://www.ventilate.ca/issue06/bsimple.html

الفوتوغراف‭ ‬المَفاهيمي

ولدتُ عام 1946م، بعد السنة الأولى من انتهاء الحرب العالميّة الثانية. كانت عائلتي قد نجت للتو من الإجلاء القسري وعادت إلى ريغا، التي ترزح الآن تحت الاحتلال السوفييتي. ترعرعتُ وكبرتُ ضمن الأكثريّة الناطقة باللغة الروسيّة في لاتفيا، وباتت الثقافة الروسيّة ثقافتي الجذريّة. تخرجتُ من الكليّة التقنيّة مهندس طيران، لكنني لم أمارس تلك المهنة قط؛ إذ بدلًا من هذا التحقتُ بأستديوهات ريغا للسينما مصممًا لأجهزة المؤثرات الخاصّة. كنتُ في بداية العشرين من عمري، وأكاد أكون جاهلًا بالفنّ. في ذلك الوقت كانت الواقعيّة الاشتراكيّة ثقافة البلاد الرسميّة، لكني لم أولِها أيّ اكتراث. كانت المعلومات عن الفنّ الغربي الحديث متوافرة بصعوبة بالغة، واطلاعي عليها محدود للغاية. بدأتُ التصوير وأنا في التاسعة عشرة، مدفوعًا بالرغبة في اجتراح أسلوبي الشخصي ورؤيتي الخاصّة. انشغلتُ مدة من الوقت بالـ«بورتريه» وأنجزتُ بضع لقطات وثائقيّة، ثم سرعان ما اكتشفتُ أنّ النتائج لم تُرضني.

نَحَّيتُ الكاميرا جانبًا، وشرعتُ في التركيز على القراءة (دوستويفسكي، وبولغاكوف) والكتب الخاصّة بالتصوير السينمائي (تاركوفسكي، وباراغانوف). كنتُ أبحث باستمرار عن الطريقة التي أعبِّر من خلالها عن مشاعري وأفكاري الشخصيّة بواسطة الصورة الفوتوغرافيّة. بعد سنة من هذه القراءات، جاءتني الفكرة جَليَّةً وبسيطة. قررتُ تصوير المفاهيم. في عام 1972م اجترحتُ أوّل صورة وأهمّها: الاعتراف. لاحظتُ من فوري الاحتمالات الكامنة والممكنة لطريقة الاقتراب من إدراك المفهوم، وأصبحَت المعرفةُ المكتسبة من تلك الصورة العمود الفقري لجميع الأعمال التي أنتجتها طوال السنوات الخمس والعشرين اللاحقة. في عام 1974م، بعد سنوات من النفور من السلطات الشيوعيّة، تركتُ بلدي إلى الولايات المتحدة.

التقليديّ مقابل المفاهيميّ

هل أسلّط الكاميرا الخاصّة بي على الخارج باتجاه العالم الموجود، أم أقوم بتحويلها للداخل صوب روحي؟ هل أقوم بالتقاط صُوَر لواقعٍ موجود، أم أخلق عالمي الخاصّ بي، عالمي الحقيقي جدًّا لكنه غير– الموجود؟ إنّ حصيلة ما نتجَ عن هاتين الطريقتين المتعارضتين في الفهم، كلّ واحدة بمفردها، لهي مختلفة بوضوح شديد، وإنّ الصورة المفاهيميّة، من وجهة نظري، صيغة عليا في التعبير الفني تضع التصوير على مستوى الرسم نفسه، والشِّعر، والموسيقا، والنحت. إنها توظِّف الموهبة الخاصّة للرؤية الحَدْسيَّة. فمن خلال ترجمة المفهوم الشخصي إلى لغة التصوير، تنعكس الإجابات المحتملة لأسئلة الوجود الرئيسيّة: الولادة، والموت، والحياة. إنّ خلْق فكرةٍ ما وتحويلها إلى واقع لهو عمليّة جوهريّة وأساسيّة للتصوير المفاهيمي. المُنْتَج التقليدي اليوم، خلا القليل من الاستثناءات، هو المهيمن كاملًا على فنّ التصوير. غير أنّ ما يتأتى عن التصوير الرقمي (ديجيتال) سيعمل على تغيير هذه المعادلة. إنّ سهولة إنتاج وقائع خضعت للتعديل ستأتي بموجةٍ جديدة من فنّانين موهوبين سيعمدون إلى استخدام قدرات هذه التقنية في التعبير عن عالم رؤاهم الخاصّ، بكلّ ما تحمله من معانٍ، عَبْر الرموز واللجوء للغموض.

في عالم التكنولوجيا المتقدمة جدًّا، هل ستبقى مُسَلِّمًا بمصداقيّة الصورة؟ وهل يعنيكَ الأمر فعلًا؟

من جهتي؛ الأمرُ يعنيني. حاولتُ، في أثناء سنوات خلقي للصور المفاهيميّة، أن أجعلَ منها صورًا واقعيّة قدر الإمكان. تطورت قدراتي التقنيّة، مُتيحةً لي توسعة آفاق أفكاري. غير أنّ هذا ليس هو الجزء الأهمّ في المسألة. فالمفهوم الفقير، مهما بلغت درجة إتقانه، يظلُّ منتِجًا لصورٍ فقيرة. لذلك؛ فإنَّ المكوِّن الأكثر أهميّةً في الصورة ذات القوة الأكبر هو المفهوم. مزيج الموهبة في خلق مفهومٍ ما والبراعة والحذق في نَقْل ذلك – هاتان هما الكُتلتان البانيتان الرئيسيتان حين خلق صورة مفاهيميّة مُقْنِعَة.

أن تُستخدم صُوَرٌ فوتوغرافيّة ببراعة ليست فكرة جديدة. في الحقيقة، إنَّ جميع الصور تتحلّى بالبراعة بدرجة أو بأخرى. لكنّ القوة الحقيقية للصورة الفوتوغرافيّة تنشأ وتنبثق حين يُقَدَّم الواقع المُعَدَّل كواقعٍ موجود فعلًا ومُتَوَقَّع أن يكون هكذا. من الواضح أنّ صورة متقنة لا تعدو أن تكون خدعة تُظهر قدرًا من النقص في فهم القوة الفريدة للتصوير الفوتوغرافي – ذاك الإيمان المطمور في لا وعينا في أنّ ما التُقط بعدسة الكاميرا ينبغي له أن يوجَد. فنحن عندما نكون حيال أفضل الأمثلة على الصور المتقنة الناجحة، فإنّ السؤال: «أهذه صورة حقيقية؟» لا يبرز. أظهرَتْ لي أُولى محاولاتي في التعامل مع الكاميرا الرقمية كيف يتشابه تناظرها وتقنياتها الرقمية. فكلّ واحدة منها لها موضعها المُشِعّ والمظلم. إلّا أنني، في هذه اللحظة، لا أرى سببًا للانتقال إلى هذه التقنية. ما زلتُ أفضِّل القيمة المتوهجة للصورة المطبوعة وعمليات التظهير المختبريّة في إنتاجها. ومع ذلك؛ أعتقد أنها مجرد مسألة وقت قبل أن تستبدل المضاهاةُ الرقمية التناظرَ، وتسمو الصورةُ المفاهيميّة على التقليديّة. كما أريد أن أومن، بعد عدة سنوات من الآن، بأنْ يواصل الفنّانون تطوير لغة التصوير الفوتوغرافي، مُدركين قوته الفريدة ومحافظين عليها.

المصدر: http://www.ablemuse.com/premiere/mgordin.htm

الاستيقاظ في ظِلال الحُلم

يتجلّى الإبداع عبر حالات متعددة مُركَّبة من اللاشعور، ولا ننفتحُ على تلك الحالات إلّا من خلال الرمز أو المَجاز. ففي أثناء الأحلام، نواجه حالةً لا شعوريّة ناتجة تحديدًا عن خبرة شخصيّة من شَواشٍ وفوضى بدائيّة ظهرت عبر الاتحاد الحُر للمَجاز أو الرمز الحِسِّي المُرَكَّب. ولأنَّ الشَّواش والفوضى يشكلان صيغةَ نظامٍ أو بُنية، فإنَّ العقل الرصين أو الراشد غير قادر على استيعابهما، ومن ثم فإنَّ هذا الإبداع لا يشكّل مفهومًا يمكن الإحاطة به بالتفكير. إنه يوجد عميقًا في داخلنا، يختبئ خلف هياكل وأُطُر ما نَعرف وما نتمسك به. إنه يَبلغ عميقًا إدراكاتنا ووعينا عبر الأحلام وتدفق تخيلاتنا، ويوصلنا بعالَم داخلي غامض.

الفارق الوحيد بين واقع اليقظة وواقع الحلم يتمثّل في أنّ الأحلام لا قدرة لدينا على التشكيك فيها. لذلك؛ فإنّ الأحلام في الحقيقة أكثر واقعيةً، وأكثر حيويةً وخيالًا من الواقع الذي ندركه من خلال حواسنا البسيطة الخمس. إنّ العوالم الخياليّة التي ننتقل إليها في صور ميشا غوردن إنما تستدعي، بلا شكّ، أفكارًا ومشاعرَ نشأت من لغة الأحلام أكثر بكثير من لغة العقل اللفظي الرصين. كلّ صورة هي مدخلٌ يؤدي إلى ممرات ظِلاليّة تتعرَّج نحو مكانٍ ما، نحو مكانٍ آخر، يتيه وراء الواقع المنطقي، والعقلي، والمصنوع كما نتعارف عليه. هذه المداخل والممرات تتصلُ بأصْلٍ أو مصدرٍ ضخم، ومعقَّد، ومَتاهيّ؛ إنه أصْلٌ فوضويٌّ مُرَكَّب بُنيَ على قاعدة أكثر أُسس البشريّة من الحنان والتَّوق والتشوُّف.

تطفو صُورُ ميشا غوردن فوق الشَّواش والفوضى، ومع ذلك فإنها تحت السيطرة من خلال التجانس والشكل. ثمّة منطق محدد واضح وقصديّة في بنية الأفكار رغم تحديها للإدراك العقلاني. ربما تكون الصور سرياليّة، لكنها، مع هذا، دائمًا ما تكون واقعيّة حقيقيّة وبائنة بما يكفي لأن لا نرتاب بما نرى ونشعر، تمامًا مثلما نكون داخل حلم. في الأغلب يكون الفضاء قَفرًا عاريًا، والعزلة تامّة؛ أميالٌ وأميال من مساحات خاوية منجذبة وراء الخيال، منفتحة ووالجة لسماءٍ سوداء قاسية هي محيطها وحدودها، أو ثمّة شخصيّة وحيدة تلعبُ دورًا خياليًّا. وبصرف النظر إنْ كان هذا قصد ميشا غوردن، فإنّ صُورَهُ تقوم بتجسير الهوة بين واقع الحلم وواقع اليقظة عبر الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) التجريديّة. من خلال تدرج رائع للّون الأسود، أبيض وإلى حدّ كبير رمادي، تتنفس الشخصيات في صوره، كالمُسرنمين (السائرين وهم نائمون)، ويوجدون باستيقاظٍ كامل في «ظلال الحلم».

سيمفونيّة الأرواح الضائعة هو العنوان الذي خطرَ لي حين شاهدتُ هذه الصورة لأوّل مرّة. وكالعادة، هنالك شعورٌ بالانطواء والعزلة (يكاد يكون خانقًا غير مُحْتَمَل)، ومع ذلك يتراءى عنصرٌ بارزٌ للشر في هذه الصورة، ليس فقط بسببٍ من الأسود المنذر بالسوء، المهدد للسماء، ولكن أيضًا ناتج عن طبيعة وقفة «المانيكان». وتبدو المايسترو الصلعاء في ثوبها المتجعِّد الأسود آمرةً الأداءَ الموسيقي للمنشد الملائكي العاجز، غير المستسلم، بحماسةٍ تكاد تكون عسكريّة. ربما التضاد الصارم بين الأسود والأبيض في الثياب، والسماء، والرمل، والبحر ليس محض مصادفة. ربما هي دلالة غير واعية على صراعٍ داخليّ بين الخير والشر، أو مثلما في هذه الحالة، أنّ الشَّرَّ يهيمن على الخير. وهو الأمر الذي لا يمكن تصوّره بخصوص هذه الصورة، وما جذبني لأن أُعلِّقَ عليها (بالنظر إلى حقيقة أني شخصيًّا مفتونٌ على نحوي الخاص بـ«المانيكان» في صوري)، هو كيف اجتمعَت موضوعتان فاقدتان للحياة في هذه الوضعية (المايسترو والعازف محض «مانيكان» – المترجم) واستطاعتا إثارة هذا الكم الكبير من المشاعر والأفكار.

رهاب الخَلاء هي الكلمة الأولى والوحيدة التي خطرت لي حيال هذه الصورة الصادمة. ففيها نعاينُ تحولات الإنسان المعاصر، الصارخ، المُحتجّ، المكافح بلا أمل للخروج من جِنس الفئران للمجتمع الخانق. الفردُ محشورٌ داخل حشود من أُناسٍ بلا وجوه، ربما في أثناء ساعة الازدحام في أنفاق القطارات، ربما داخل مركز تسوُّق في أثناء سُعار الاستهلاك بمناسبة عيد الميلاد، أو ربما في المكتب في وقت الغداء وقد أُحيط بمن هُم يعملون، لا فرق بينهم وبين الإنسان الآلي (الروبوت)، يتلهون بألعابهم على أجهزة كومبيوتراتهم.

إنّ ما يميّز «الأفراد» من «الحشود» يتمثّل في أنّ «الأفراد» يشعرون باضطرارهم للرحيل من أجل أنفسهم، داخل أنفسهم، ومدعوون لرؤية ما وراء المفاهيم الثقافيّة، والأفكار، والتصرف حيال الذات، والتصرف حيال كيفيّة قضاء الوقت، ومواصلة الحياة، والتواصل مع الآخرين. إنهم يجرؤون على النظر وراء نظاميّة العالَم واستتباب أموره المحيطة بهم، إنْ قاموا بتثبيت المفاهيم لملاءمتها، أو لإعادة تشكيلها. على كلّ حال؛ يسعى المجتمع لأن يسيطر، ومن خلال التراتبيّة الراهنة نصبحُ مُسَيَّجين بما يفعله الإنسان، والواقع المصنوع للكلمات، والأفكار والخواطر. وللنجاة من تحكمه الضاغط على عقولنا، ليس هنالك من مسيرة قصيرة لهذه المهمة الضخمة.

إذن؛ ماذا علينا أن نفعل؟ الصراخ بكلّ اليأس.

(*): Sacha Dean Biyan

نخدشُ الليلَ ونصعد

نخدشُ الليلَ ونصعد

سيلفيا بلاث، وأليس ووكر، ومارغريت أتوود

ترجمة: إلياس فركوح

الناشر: دار أزمنة

ليس من سببٍ واحد أدّى إلى «تكوين وضَفْر» هذا الكتاب، ضامًّا بين غلافيه مجموعة القصائد الأربع عشرة، العائدة إلى ثلاث شاعرات؛ اللهم سوى المحافظة عليها من التشتت (وربما التبدد) بين الصحف، والمجلات، والمواقع التي نُشِرت فيها أوّل مرّة، وفـي أوقات متباعدة وسياقات مختلفة. هذا مبرري الصريح وراء إقدامي على جَمْع تلك القصائد/ النصوص. ربما لا يعثر القارئ على ما يجمع بين عوالم الشاعرات الثلاث، إذا ما اكتفى بقصائدهن المنشورة فـي هذا الكتاب، وربما يجتهدُ فيجدُ قواسم مشتركة. لكنه، وفقًا لشتّى الاحتمالات الممكنة، قد يخلقُ بفعل قراءته الخاصّة موضوعات صغرى تناثرت فـي معظم تلك القصائد؛ عندها نراه يجتهدُ فيعاينها ملمحًا موَحِّدًا لهنَّ.