الجاذبية الهشة لمباريات المونديال .. التحوّل من صورة عظيمة في المخيال إلى سراب بعيد في الأفق

الجاذبية الهشة لمباريات المونديال .. التحوّل من صورة عظيمة في المخيال إلى سراب بعيد في الأفق

  تشبه مباريات المونديال ما يُعرَف لدى بائعي الكعك عندنا بـ«كعك الهوى»، وهو نوع من الكعك الهش جدًّا، مذاقه حلو ويخصَّص عمومًا لاستهلاك الصغار، لكن الكبار يحبّونه أيضًا، تأكله وتستمتع به، غير أن مفعوله ينتهي بسرعة لافتة، تتلذّذ بطعمه، لكن من دون أن تدوم اللّذة سوى دقائق، تلتهمه مرّة، ثم أخرى، ثم أخرى من دون أن تشعر بالشبع، حتى لو تناولت عشر كعكات منه، الواحدة تلو الأخرى. والواقع، كما يعلمه بائع الكعك من غير أن يفصح عنه، أن وظيفة كعك الهوى المصنوع من الدقيق الناعم والمحلب والسكّر ليست إشباع الجوع، بل التسلية، هو جزء من اللهو، وعند هذا الحدّ تقف مهمته. هكذا هو المونديال الذي يأتي كل أربع سنوات مع الريح، ويذهب كل أربع سنوات أيضًا مع الريح.

  لماذا يا ترى؟

صناعة المجد: قبل أن يتحوّل إلى ظاهرة، المونديال هو حدث مركَّب في الأساس، تبدأ الأمور بحشد إعلامي واسع على المستوى العالمي قبل ستة أشهر من موعد المباريات، بحيث يبدأ الجميع بانتظار الحدث الصيفي العظيم في خضمّ الشتاء، تتهيأ النفوس يومًا بعد يوم، وعلى عدة أشهر متواصلة لظهور المونديال، وكأني به عملاق أسطوري يستبطن جنًّا عظيمًا.

تأتي العملية الإعلامية برمتها تحت إشراف شركات متخصصة وخبرات عتيدة؛ حيث يطلّ الإبداع من بوابة مفهوم مبتكر يعمل على إلباس الحدث المونديالي لبوس «وعد»، تعمل المهارات الإعلامية على إخفاء الوجه الاستهلاكي الأساسي للحدث خلف مظهر رمزي مبني على «الوعد» بسعادة تتجاوز حدود المعروف؛ لذلك تأتي مهلة ستة أشهر التي تستغرقها الحملة الإعلامية كجزء من الحدث، هي التي تمنحه رمزيّته المفعمة، فكلما طال الانتظار ازداد الشوق وارتفع منسوب الاستجاشة العاطفية لدى المنتظرين، وتتابع هذه العملية إلى أن تصبح نفوس المنتظرين بحالة هيام بالوعد الملمَّح له طوال الأشهر السابقة.

أما الوعد فوعد بالدخول إلى جنّة أرضية لمشاهدة فرق من العالم أجمع، تتبارز في لعبة تتزاوج فيها المهارة الفردية مع التنسيق الجماعي؛ بغية الحصول على مجد عالمي.

صحيح أن هذا المجد رمزي، لكن اللعبة الإعلامية تجعله كأنه حقيقي، وصحيح أن الذي يكسب هذا المجد هم اللاعبون، لكن المهارة الإعلامية تجعل كل فرد من الجمهور يشعر أنه هو الذي ينال المجد الموعود، والمهارات التقنية والإعلامية متقنة لدرجة أن حتى أفراد الجمهور الجالسين في بيوتهم أو في مقاهٍ أو مطاعم، أو المتجمّعين في ساحة من الساحات يشعرون أن هذا المجد هو أيضًا من نصيبهم، على هذه الأسس يجيء «سحر الكرة» ضمن عملية تعبئة عاطفية قوية، مصحوبة بشحنة رمزية مضافة، بحيث يأتي الوعد غير قابل موضوعيًّا للتحقيق، ومعيش ميدانيًّا كأنه متحقق فعلًا.

ما من شك أن لعبة كرة القدم شيّقة، بيد أن إخراجها إعلاميًّا على هذا النحو يجعلها لعبة شبه سماوية.

ظاهرة معولمة

ظاهرة المونديال ليست ظاهرة عالمية بقدر ما هي ظاهرة معولمة، لولا إدراجها ضمن قائمة السلع الثقافية بالمعنى الأميركي للكلمة، لبقيت لعبة جميلة يمارسها بعض الشباب عبر العالم، وقوع الخيار عليها وليس على سواها؛ لإعطائها الحجم العالمي المطلوب، لم يأت مصادفة؛ إنها لعبة شعبيّة بامتياز، يمكن ممارستها أينما كان، ولا تحتاج الى ملعب مسقوف أو مقفل بالضرورة، بل تحتاج فقط إلى كرة، إنها لعبة تحتمل المشهديات الكبرى، كما في الأفلام، وبإمكانها حشد جماهير تتألف من عشرات الآلاف من المشاهدين.

إنها لعبة عالمية متواضعة، تجري عولمتها كل أربع سنوات كي تظهر وكأنها لعبة ما فوق عالمية، مع حظوظ كبيرة في حصول هذا الأمر، إنها لعبة مبنية على طموح دفين لدى الشعوب كلها في التبارز السلمي والرمزي على المستوى العالمي ككل، بحيث يشعر أبناء بلدان جنوب الأرض بأنه يتاح لهم منازلة جميع بلدان الأرض، وبخاصة تلك التي تقع شمال الكرة الأرضية. ومن هنا التشديد المقصود على لفظ الكلمة باللغة البرازيلية البرتغالية.

مواءمة بين الجاه الرياضي والجاه السياسي

من أبرز سمات مباريات المونديال: أنها تشكّل مِنَصّة رياضية وسياسية على السواء، فالجاه السياسي يرافق هذه التظاهرة الرياضية الواسعة الجمهور العالمي.

  وينقسم هنا الجاه إلى جاهين: جاه الفريق الفائز، وجاه البلد المضيف. جاه الفريق الفائز: هو جاه رياضي كبير لأعضاء الفريق الفائز، الذين يصبحون من مشاهير البلاد والعالم، علمًا بأن هذا الجاه الرياضي يُستخدَم أيضًا لأغراض إعلانية؛ بحيث إن المطلوب ليس أن يشتهر اللاعب الرياضي، بل أن يقوم بإبراز السلعة التي تستأجره المؤسسة التجارية لخدمتها، فتصادر منه جاهه الذي يَفقِد بعدها رمزيّته.

أما الأهم فهو الجاه السياسي الذي تسعى الدولة المضيفة إليه، وقد استغلّت دول عديدة مباريات المونديال لرسم هالة حول اسمها؛ فعلت ذلك في الماضي الأرجنتين، إبّان الحكم العسكري، محاولة تسويق صورة حضارية لنظامها الدكتاتوري، وتحاول اليوم روسيا الحصول على صورة مختلفة عن تلك اللصيقة تاريخيًّا بها، وهي صورة الدّب الروسي، من خلال تنظيمها لمباريات المونديال، هي تسعى أيضًا لإظهار أنها قوة عظمى تتقن مهارات التنظيم ولا تهتم فقط بالسياسة، بل أيضًا بالرياضة، وبكرة القدم تحديدًا، مع العلم أن هذه اللعبة ليست لعبة شعبيّة في روسيا لا في الماضي ولا في الحاضر.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الاستغلال السياسي للمونديال يجيء أقل حجمًا من استغلال إقامة الألعاب الأولمبية، بيد أنه ليس أقل أهمية؛ فالاستغلال السياسي للمونديال متاح للدول متوسطة الحجم والإمكانيّات، على عكس الأولمبياد الذي يشترط حضور إمكانيّات بشرية واقتصادية عظمى. وفي هذا السياق يبرز الطموح المنتفخ لدولة قطر التي تسعى إلى شراء جاه سياسي لنفسها عبر إقامة المونديال على أرضها مستقبلًا، غير أن هذا المسعى السياسي المموّه في كسب جاه مصطنع يشبه حكاية الفرنسي لافونتين عن الضفدعة التي حاولت أن تنتفخ لتصبح بحجم الثور، كي تغدو مثله، لكنها لم تبلغ في النهاية الجاه المنشود.

لعبة غربية بامتياز

لعبة كرة القدم ليست لعبة غربية لأن بريطانبا هي التي شهدت نشأتها فحسب، بل لأن العقل الغربي هو الذي صممها في زمن كان يسيطر فيه على العالم أجمع، فالأنموذج الإرشادي الذي دفع المعنيين إلى ابتكار هذه اللعبة الجماعية قام بتصميمها على قاعدة صدامية مكشوفة؛ حيث يقوم فريق بهجوم شبه عسكري على فريق خصم يدافع عن مرماه ويحاول بدوره اختراق المرمى المقابل فيما يشبه عمليّة الكرّ والفرّ التي تتميز بها المعارك. والأهم من هذا في الأمر كله: أن النتيجة تأتي حكمًا على قاعدة غالب ومغلوب كما في أعتى الحروب العصبيّة؛ حيث لا تنتهي اللعبة إلّا بهازم ومهزوم، وكاسر ومكسور، فيحتفل المنتصر بالنصر الذي حققه بفرح عارم، بينما ينسحب الفريق المهزوم خَجِلًا مهزومًا مكسورًا، هنا تحديدًا يقع بيت القصيد.

يروي لنا الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي- شتراوس في كتابه «الفكر البرّي» كما في كتاباته الأخرى- ما الذي حصل عندما أدخل البريطانيون لعبة كرة القدم إلى أستراليا التي كانت تقع في عداد مستعمراتهم. بدأ السكّان المحلّيون بممارسة اللعبة فيما بينهم بحسب القواعد البريطانية، فكان يتألف كل فريق من جماعة تلعب ضد الجماعة المخاصمة، غير أن تشكيل هذه الفرق المتخاصمة كان يأتي منسجمًا مع الواقع الاجتماعي القائم ميدانيًّا، فينضم أفراد عائلة أو عشيرة (أ) إلى الفريق الأول، وأفراد عائلة أو عشيرة (ب) إلى الفريق الخصم، وتبدأ اللعبة يصحبها حماس متزايد الوتيرة مع مرور الدقائق، لكن عندما كان ينتهي الوقت، ويعلن الحكم انتصار الفريق الثاني على الأول، أو العكس، كانت تتحوّل اللعبة إلى معركة؛ حيث لم تكن تتقبّل العائلة أو العشيرة المهزومة إعلان هذه النتيجة المخزية، فكان ينشب العراك فالقتال وتسيل الدماء، لذلك وحفاظًا على أنفسهم عمد السكّان المحلّيون إلى تعديل قواعد اللعبة وراحوا يلعبونها على الأسس الآتية: يتوزّع اللاعبون على فريقين، ويمارسون اللعبة من دون تحديد سقف زمني لها، فيسجّلون النقاط في مرمى الخصم، من هذا الطرف وذاك، ولا يحق للحكم إعلان انتهاء المباراة إلّا عندما يتعادل الفريقان كي يحتفل الجميع بالنصر!

بهذا التعديل البسيط، ولكن العاقل، أعطى السكّان المحلّيون الأستراليون درسًا بالحكمة للبريطانيين وللعالم أجمع في أن على اللعبة أن تبقى لعبة، وألّا تحمل في أحشائها بذور الاختلاف والاقتتال ولو على نحو رمزي. سيادة الغلب وهشاشة الإنسان: لذلك كلّه يلاحظ الجميع أن التعبئة الإعلامية والإعلانية الهائلة التي ترافق المونديال، يليها فور انتهائه فراغ هائل، يتحوّل المونديال عندها من صورة عظيمة في المخيال إلى سراب بعيد في الأفق.

لماذا يا ترى؟ ببساطة؛ لأنه حقق ما كان مطلوبًا منه من قِبَل منظِّميه؛ حيث يكون المونديال قد أدّى واجبه الثلاثي غداة انتهاء المباراة الأخيرة، ويكون قد أنجز مهمته الإعلانية الربحيّة على أكمل وجه، جالبًا لشركات الإعلان أقصى ما يمكنها تحقيقه من أرباح في أقصر وقت ممكن؛ لذلك ولعلم هذه الشركات بأن موسم الحصاد قد انتهى، ترمي هذه الأخيرة قشرة البرتقالة بعد أن تكون قد عصرتها جيّدًا؛ بحيث يتمّ الترحيب بكل الأرباح الجانبية التي تستمر بالوصول إلى صناديقها، ولكن من دون تكبّد عناء حفزها الميداني المكلف، إلى حين تجفّ وحدها.

ويكون المونديال قد حقق أيضًا مهمته الإعلامية، مساهمًا في تلميع الصورة «الحضارية» للدولة المضيفة التي تخرج منتصرة من امتحان التنظيم، ومع فوائد سياسية ثمينة جدًّا في نظرها، وبخاصة عندما تكون صورتها الشائعة غير برّاقة، يساهم المونديال الرياضي في هذه الجراحة التجميليّة السياسية، في مقابل المكاسب المادية التي يجنيها الاتحاد المنظِّم للمباريات، حُكَّ لي ظهري حتى أَحكّ لك ظهرك، ولكن بعد لقاء المصالح الهشّ هذا، يذهب كل طرف في طريقه بسرعة، غير مكترث بالباقي.

عند انتهاء المباريات يكون قد حقق المونديال أيضًا إنجازًا معرفيًّا مستدامًا، وهو تكريس فكرة الغلب رمزيًّا؛ حيث يتمّ تثبيت هذا المفهوم في نفوس الراشدين والراشدات عبر العالم وغرسه بحلّة جميلة في نفوس الناشئة، بعد ذاك ما من مشكلة في أن ينشب نزاع عسكري من هنا وحرب من هناك، طالما أن النفوس غدت متآلفة رمزيًّا معها، فالمونديال يعمل -من حيث لا يدري أصحابه، ومن حيث لا ندري نحن أيضًا- على تعميم الذهنيّة المواتية للتخاصم النضالي، الذي يسحبه بسرعة العقل من المجال الرياضي إلى المجال العسكري كما بيّنته التجربة الأسترالية.

المأدبة الخادعة

يحاول منظِّمو فعاليات المونديال أن يسوّقوها على أنها احتفاليّات، ثم يقدّمون هذه الاحتفاليّات على أنها جزء من عيد حديث، بيد أن الواقع هو غير ذلك؛ إذ إن ما يتمّ عرضه على أنه عيد حديث ليس إلّا تمظهر جديد لفكرة قديمة موروثة عن زمن مجتمعات القبائل، ولا يفيد التمظهر الحديث في محو النسيج القبلي للتوزّع التخاصمي والعصبي بين فريقين وبلدين ودولتين، يستعيد كل جمهور من جمهورهما ما يشير إليه ابن خلدون في معرض توصيفه لمرتكزات العصبيّة من نُعْرة، وتذمر، واستماتة.

الفرق الوحيد هنا -مع ما يذكره العلاّمة العربي-: هو أن النُّعرة في ملاعب المونديال تتحقق بأقوى صورها بين الجمهور عبر هذا الصراخ المتمادي، الذي يخرج مرتفعًا من كل خيشوم صغير وكبير، الذي تنقله بإسهاب المشاهد التلفزيونية عبر النقل المباشر؛ مثلها مثل التذامر الجماهيري الواسع الذي يتحقق عبر حشد عشرات آلاف الأفراد، من حملة الرايات والإشارات والألوان المتميّزة والمتخاصمة؛ بينما الاستماتة وحدها تعاش رمزيًّا.

تتمظهر المباريات في الملعب كما على المدرّجات بالتعابير الخارجية الحديثة، بينما هي في الواقع لا تمت إلى حداثة إنسانية نوعية، بل تستعيد معاني الغلب التي تعود إلى الأزمنة القبليّة الغابرة، التي يدّعي الغربيّون أنها أُخرجت من قاموسهم الحديث، لكن المونديال، بقيادة غربية مكشوفة، يعيد لمدّة شهر كل أربع سنوات تسويق هذا الأنموذج الإرشادي المقعَّر والدفين الذي يحمله الغربيّون في طويّة وعيهم؛ لذلك، بعد التذكير به معرفيًّا واستغلاله وعصره ماديًّا واقتصاديًّا، والاستفادة منه سياسيًّا يعمدون إلى التخلّص منه بسرعة مدهشة، فنبقى نحن منتظرين بسذاجة ما قد يتبع، بينما الأمور محسومة ومنتهية لدى معشر الذين قاموا بتنظيم السيرك، ثم فكّوا الخيام ورحلوا بعد انتهاء العرض.

لذلك نجد أنفسنا بعد انتهاء المونديال كالمخدوعين: ووعدنا بالدخول إلى جنّة أرضية وإذ بنا على الحضيض، وعدنا بمجد عظيم وإذ بنا صفر اليدين، وعدنا بحدث عالمي وإذ بنا نجد أنفسنا بين حشد من العصبيّات المستحدثة والمتناحرة، وعدنا بحلم العولمة الثقافية وإذ بنا بحوزة مشهديّات كبيرة لا تقدّم ولا تؤخر. جُذِبنا إلى مأدبة سمعية بصرية بمنتهى الروعة الفنّية، لكننا وجدنا أنفسنا في نهاية المطاف أمام وجبة متواضعة من كعك الهوى.

عِبَر ثقافية من عطلة صيفية

عِبَر ثقافية من عطلة صيفية

عاد طالب من طلابي لتوّه من السفر إلى فرنسا التي زارها للمرة الأولى. وهو أصلًا قد سافر لأول مرة إلى أوربا. فزارني وكانت مناسبة لي كي أقيّم معه الدروس المستفادة من سفره.

سألته: ما الذي أعجبك في رحلتك هذه؟ أجاب: كل شيء. قلت: كل شيء؟

صحّح عندها قائلًا: معظم الأشياء في الحقيقة… تشعر أن تنظيم أمور الحياة عملي جدًّا وأن الناس يحترم بعضهم بعضًا كثيرًا. وهذا أمر لسنا معتادين عليه كثيرًا في بلدنا. سألت: كيف لاحظت ذلك؟ قال: في الشارع وأينما كان. تتوقّف السيارات للمشاة مثلًا، وما من أحد يتزاحم مع الآخر في صفوف الانتظار… قلت: هذا جميل ولكنك كنت في مدينة ثانوية. لو كنت في العاصمة باريس لاختلف الأمر…

أضاف: لكن لديهم فسحات كثيرة للتنزّه وممرّات خاصة للدرّاجات الهوائية.

سلوك عمراني خلدوني

من الواضح أن صديقي كان مأخوذًا بسلوك عمراني، بالمعنى الخلدوني للكلمة، شأنه شأن كل طالب يكتشف عالمًا جديدًا ومختلفًا عن عالمه. لذلك وضعت بعض النقاط على الحروف.

قلت له: هل تعلم أن في المدن الصينية الحالية فسحات عديدة للتنزّه وممرات خاصة للدرّاجات الهوائية وأيضًا أخرى للعميان؟

علّق متفاجئًا: كلّا، لم أكن أعلم.

سألته: ما الذي أعجبك أيضًا؟

أجاب: يحبّون الطبيعة كثيرًا ويعتنون بها في الأماكن العامة وفي بيوتهم على السواء. لذلك هناك فسحة جمالية دائمة من حولك. وتشعر أنها حقيقية وليست مصطنعة… وهناك المتاحف. لديهم متاحف قديمة ورائعة وفي كل المجالات. قلت: هذا صحيح. لا تنسَ أن الثورة الصناعية قد أبصرت النور عندهم منذ زمن بعيد. كما أن اختراعاتهم واكتشافاتهم الأولى تعود إلى خمسة قرون راكموا خلالها الكثير الكثير.

أضاف طالبي: تقدّموا كثيرًا وعلومهم وثقافاتهم متقدمة جدًّا.

في الحقيقة لم أرد قمع حماسه وكبح مشاعره الإيجابية والمحقّة، لكني كنت أرغب في طرح سؤال نوعي يسمح بالذهاب أبعد من الانطباعات العامة. سألته: هل ترغب في الاستقرار والعيش في فرنسا… أو في أي بلد أوربي آخر؟

أجاب: كلّا.

قلت: لماذا؟

قال: أحب أن أزور البلدان الأوربية كلها، ربما تباعًا إن استطعت ولكن لن أعيش في إحداها على نحو دائم. فلو استقررت في أوربا سيكون عملي أفضل وكذلك ظروفي المهنية لكني سأكون بعيدًا من أهلي.

قلت: وماذا؟ أضاف: سأكون مضطرًّا لزيارتهم باستمرار، وسأشعر بأني لمدّة أحد عشر شهرًا في السنة أنا مقطوع عنهم… وهم مقطوعون عنّي. لن أعيش بهذا الشكل حياتي: أنا في قارة وأهلي في قارة أخرى. شو صاير علينا أنا وإياهم؟ فالحياة ليست لي فقط، بل لي ولهم على السواء.

هنا ابتسمت وقلت له وهو الحامل لشهادة جامعية عليا بتميّز: يا عيني عليك، أكسبتك هذه السفرة حكمة تضاف اليوم إلى علمك. ولكن ما الذي أدى بك إلى هذا الاستنتاج؟

أجاب باختصار: ما لاحظته هناك. فالعائلة لم تعد موجودة في هذه البلدان… لماذا يا ترى يا أستاذي؟

هنا أوضحت له الآتي: القصة طويلة ومتشعبة. وسأتناول بالشرح بعض جوانبها. بدأ التفكك العائلي في أوربا منذ منتصف القرن التاسع عشر حيث انطلقت بقوة الثورة الصناعية؛ إذ حصل تهافت كثيف للعمال القادمين من الأرياف الفقيرة باتجاه المدن الصناعية الكبرى. فحضرت أعداد كبيرة إلى مدن واعدة تاركين أريافهم الأصلية والعائلات الممتدة التي كانوا ينتمون إليها. ثم بعد فترة اختار كل عامل شريكة حياة له وتزوجها وسكن معها في المدينة الكبيرة. غير أنه رضخ هنا لأمرين أدَّيا لاحقًا إلى تغيير نمط حياته الاجتماعية وتركيب أسرته: كانت زوجة العامل هذا تعمل مثله عملًا مأجورًا كي يتمكنا من تأمين متطلبات الحياة المدينية، حيث لكل شيء ثمن وحيث يغيب تعاضد الأسرة الممتدة الريفية التي أضحت أثرًا بعد عين بالنسبة للعامل وزوجته. فنشأت وانتشرت العائلة النواتية المؤلفة من الأب والأم والأولاد.

أسر نواتية صغيرة

وبما أن حال الأهل كان ضيقًا ماديًّا على الدوام، ارتأى الولدان أن يقلّصوا عدد الأولاد لديهم، بحيث زمّت هذه الأسرة المدينية النواتية إلى ولد أو ولدين فقط. وبما أن الأولاد كانوا يشكلون عبئًا معيشيًّا حقيقيًّا تعوَّد الأهل على الطلب منهم مغادرة المنزل بعد سن الثامنة عشرة وتأمين معاشهم واستقلاليتهم المادية تجاههم.

لكن ما حصل هو أن هؤلاء الأولاد عادوا وأنشؤوا أُسرًا نواتية صغيرة على القاعدة نفسها مع عنصر إضافي تمثّل بالاستقلال العاطفي. بحيث أضحى بعد حين التباعد العائلي مكرّسًا ومعممًا. فالتفكك الأول أدى إلى تفكك ثانٍ. ثم كرّت السبحة.

قاطعني هنا طالبي قائلًا: هذا أمر خطير… ولكن لماذا لا يعودون إلى الوراء اليوم ويصححون مسيرتهم؟ أجبته: بات الأمر مستحيلًا اليوم، بعد مُضي أكثر من قرن ونصف على هذا المنعطف حيث إن كل الأمور باتت مفصّلة على هذه القاعدة الجديدة. خذ مثلًا المسكن الحالي في الغرب عمومًا. أين كان يسكن الفرنسيون والألمان والسويسريون الذين تعرّفت عليهم؟

قال: في شقق… قلت: وماذا تعني الشقة؟ قال: لا أعلم. قلت: تعني غياب البيت. تعني غياب الأهل. تعني غياب العائلة بشكلها القديم. علّق قائلًا: لكن ذلك يعدّ خسارة.

قلت: تمامًا. هذا أهمّ ما خسرته الحضارة الغربية، وهذا ما لمسته وشاهدته بأم العين أثناء سفرك الذي كان بمثابة رحلة ثقافية. تقدّموا كثيرًا على المستوى العلمي كما العمراني لكنهم خرجوا خاسرين على المستوى الاجتماعي. وها هم اليوم قد أوغلوا في الفردانية لدرجة أنهم يعجزون عن العودة إلى الوراء. فكل ما ينتمي إلى الماضي ليس بالضرورة سيئًا، وبخاصة عندما يتعلّق الأمر بأساسيّات الحياة. فالعائلة ليست مجرد قيمة اجتماعية قابلة للاجتهاد والتفسير الظرفي والاستنسابي. العائلة مبدأ من مبادئ الحياة الإنسانية. والمبدأ نتمسّك به ولا نفرّط به. هل أنت معي؟

فكّر قليلًا وهو ينظر إلى البعيد، ثم قال: هل هناك بلدان متقدّمة لم تتخلَّ عن العائلة على وجه الأرض؟ أجبته: طبعًا. هناك الصين مثلًا، واليابان. وهي تقع شرقًا.

فختم قائلًا: في سفرتي المقبلة أنا ذاهب إلى الصين…وضحكنا معًا.