ملحمة «كوم الخادم».. سرد روائي ميتالغوي

ملحمة «كوم الخادم».. سرد روائي ميتالغوي

عبدالعليم حريص

من نقطة النهاية تبدأ الرواية، من لحظة الهدم الثوري والطوفان الأعظم يبدأ البناء السردي؛ حيث ترتفع بجلاء في كلا المشهدين «أصواتُ الاستغاثة والهلع، فالقرية كلها تصرخ، حينما انفجرت عيون الماء، وتدافعت الأسماك المتوحشة من البئر القديمة، لتأكل كلَّ شيء. ستُباد القرية بأكملها، لتنتهي الحكاية، وتبدأ أخرى، ولكن بدون غانم ومملكته، وقريته التي طالما حلمتْ باستخراج كنزها الملعون، الذي سيُغير خارطة العالم، ويجعل منها أغنى قرية على وجه البسيطة».

من لحظة الثورة والهدم يبدأ المؤلف، وكأنه اختيار يُؤكد أن كل بناء جديد يحتاج لهدم القديم؛ لذلك يبدأ النص وينتهي بالهدم، ثم ينسج بينهما تاريخًا ممتدًّا وعميقًا لذلك المجتمع، فما بين مشهدي الدمار والاندثار في بداية ونهاية الرواية القصيرة – أو «النوفيلا» – «كوم الخادم» بتوقيع الصحافي والشاعر المصري عبدالعليم حريص، الصادرة عن دائرة الثقافة بالشارقة – في 161 صفحة من القطع المتوسط، نعيش تجربة سرد دائري مليء بالمنحنيات صعودًا وهبوطًا وفق مصاير وأهواء الأبطال، سواء كانوا شخصيات رئيسة أو محورية، حتى تلك الشخصيات الهامشية تظهر بملامح حادة قوية لتُكمل المعمار السردي، والبناءين المجتمعي والفني لمملكة غانم، عبر خيال تعبيري رشيق ومتين، ملون بفضاءات الواقع الذي تُخصبه الأسطورة من دون أن يتخلى المؤلف عن إشارات سياسية يأتي بعضها مُغلفًا برداء شفاف مباشر من الدلالات الرمزية على الأخص ما يتعلق منها بحرب ٤٨، ونكسة ٦٧، وبقايا الملكية والإنجليز، وحكم الضباط الأحرار، وقوانين الإصلاح الزراعي.

نص ميتالغوي

أما بعض الإشارات السياسية فيبدو متواريًا، متستّرًا بقناع الأسطورة أو الأحلام وكأنه يحتمي بهما؛ كي يشي بقضايا شديدة المعاصرة، فالكاتب يوظف تقنية الرمز، فيمزج بين الرمز والأسطورة والتراث والفلكلور، جاعلًا الرمز القادم من أعماق الماضي واضحًا، بجماله وقيمه وبهائه، لكنه ماضٍ لا يخلو من تناقض، وكانت له مشكلاته أيضًا.

ليس الرمز هنا رمزًا جزئيًّا، وإنما رمز كلي، يشتمل الحياة بشتى صورها. فللرمز مقدرة على تجريد الواقع وصياغته في علامة تتخذ من الحكاية التاريخية والأسطورية والشعبية أردية شفافة لها، وهو ما يتضح بقوة مع قضية الاستبداد المطروحة عبر أشكال متباينة ومختلفة داخل متن رواية «كوم الخادم»، كما أن فرض الهيمنة في المجتمع هناك واضحة في طغيانها، فالهيمنة والاستبداد متفشيان في قلب ذلك المجتمع البطريركي الغارق في ذكوريته.

أما لغة النص فواضحة غير معقدة، لكنه أيضًا يمتاز بأنه سرد يمتلك بنية لغوية متعددة الطبقات، حيث يفارق في العديد من المرات أرضية الدلالات اللغوية المباشرة، ليحوم في سماوات رمادية وأجواء فوق لغوية، حيث الدلالات المتكاثفة، التي ما تلبث بعد فكّ شفراتها النصيّة إلى أن يجري تأويلها إلى فضاءات رحبة من الدلالات الثنائية لتشكل عوالم شفيفة من المعاني والدلالات. فمثلًا هناك العديد من الاختيارات التي تجعلنا نتساءل ونتوقف أمامها طويلًا: لماذا اختار الروائي «الهدهد» ليسقط في البئر مع هذا الغلام الذي يسكن جسده مملكة من الجن؟ هل يودّ السارد العليم بالأمور إعادتنا لقصة سليمان الحكيم؟ ولماذا اختار لبطله «غانم» أن يُصبح أول ملك على الأرض لا يوجد لديه رعية؟ لماذا جرَّده من شعبه وأملاكه رغم وجود مملكته الشاسعة، ولم يترك له سوى ميراث العدم؟ لماذا قرر أن يحوّل الأسماك من مصدر للخير ورمز الزرق في الثقافة الشعبية، ويستبدل بها صورة كائنات متوحشة تلتهم الأخضر واليابس في القرية؟ لماذا تَعمَّد الروائي أن ينسج العديد من الثنائيات المتناقضة أحيانًا، فمثلًا هناك ثنائية الابنة التي اختارت أن تقرر مصيرها بنفسها، فاتخذت قرارها بالهرب مع مَنْ تُحب؟ في حين رضخت الأم للسرقة والقبول بالزواج من مغتصبها لأن معاملته لها كانت أفضل من الحياة التي كانت تعيشها بين أهلها، مع مراعاة أن الفكرة ذاتها تتقاطع مع فكرة مديح المحتل والمستعمر وفق ما يطرحه الراوي العليم؛ إذ يُفضل وجود الاستعمار ويراه في مصلحة الشعوب المحتلة.

الثنائيات

يعود المؤلف للثنائيات حيث تلوح في الأفق بين فصول العمل بقوة لتؤجّج الصراع الدرامي، منها ثنائية الثوري والخانع، فنواف ذاته -الابن الأكبر لغانم والثائر على والده- يجمع بين الصفتين، وكأنه يمثل ضفتي شخصية واحدة اعتبارية، الأخذ في الحسبان بثنائية متناقضة أخرى تتعلق بشخصية الجازية ومقارنتها مع باقي الشخصيات النسوية، فالأولى تبدو أقرب لعالم الرجال وسطوتهم، وهناك شخصيات أخرى هامشية عديدة -من النساء والرجال- أغلبها كان خانعًا، لكنه الخنوع المُوشى برداء الحكمة والفضيلة، حيث يجعلها المؤلف تبدو كأنها ثنائية للفكر المستنير في مواجهة الواقع الحافل بالثأر، واللعب وفق حسابات المكسب والخسارة، مثلما تبدو بجلاء ثنائية السلام في مواجهة الدموية، والصراع بين جِيلَيِ الآباء والأبناء وما بينهما من منافسة وعدم اتفاق، إضافة إلى ثنائية الحلم والواقع، الحرام والممنوع، المباح والمسموح، خصوصًا ما يتعلق بالنظرة إلى اللص ومكانته الاجتماعية، والعلاقة بينها وبين الفتوة في روايات نجيب محفوظ. وغيرها من الأمور مثل العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، أو بين التاجر اليهودي والفلاحين، أو بين حرب فلسطين واغتصاب غانم للأرض من أولاد أخيه، واغتصاب صاحب أرض المقام لميراث أولاد أخته أيضًا، وكأنه إسقاط على «القدس» واغتصاب أرض فلسطين… وإلا فلماذا رُبِطَ بين الواقعتين؟

إن تلك الأقطاب الثنائية -السابقة- المتقابلة تعمل على شحن المسار الدرامي بتوترات جدلية، وطاقات صراع تحفظ للحكاية ديمومتها وتُنشط حيويتها، خصوصًا عندما يحكي عن «حازم بيه» ومنافسته للمسيحيين في عهد الملك فاروق، مثلما يجعلنا نتساءل: لماذا جرى تجهيل شخصية صاحب أرض المقام بينما جرى تعريف هوية مَنْ تجرأ على شرائها، فالمشتري نصراني مذكور عنه كثير من التفاصيل؟ لماذا التجهيل في مقابل التعريف؟ كذلك صاحب الأرض مجهول الهوية يُحصن نفسه بقراءة فاتحة الكتاب والمعوذتين ثم يستنجد بأم اليسوع، وكأنها إشارة إلى هويته المسيحية أو تغليب لها على إسلامه «فعند الصباح سمع الخفير ينادي عليه، فخرج معه في هدوء، وهو يحصن نفسه بفاتحة الكتاب والمعوذتين، وأحيانًا يردد يا أم اليسوع أنا في حماكِ، حتى أرجع إلى أولادي، فهو لا يدري بأي دعاء سيحفظه الله من بطش حازم بيه».

السرد الحلزوني

من لحظة ثورية ينهض النص الروائي الذي بُني، من ناحية، بناءً اجتماعيًّا حلزونيًّا، فالبُعد الاجتماعي الذي يحييه الخطاب الروائي، مُعبر بقوة عن تصادم الأهواء والمشاعر بين الشخصيات، حيث تشي بنية الشخصيات وتاريخ المكان بالتحولات الاجتماعية والسياسية عبر لمحات وخيوط رقيقة لكنها كاشفة بقوة الدلالة، وذلك في ظل مهارة الروائي في تجسيد ملامح وأنماط الشخصيات المتباينة، وبخاصة شخصية غانم، ونواف، والجازية، إلى جانب شخصيات الراعي والتاجر، والعمدة، كلٌّ بتاريخها الروائي الكاشف للتحول القيمي بالمجتمع، والانحراف عن مبادئه وعقائده، فهناك لمحات لانهيار بعض القيم، ومنها قيمة العمل والكرامة، وتفشي الفساد، والكذب، والخداع؛ حتى إن الطموح تحول إلى قيمة سلبية بعد أن بلغ حدود الجشع المغموس في الغيرة المتأججة التي تدفع بالإنسان إلى السلب والنهب والاغتصاب والثأر الأعمى.

يُطرِّز المؤلف حكاياته بتفاصيل قاسية عن الانتقام، الإلهي والبشري، من الواقع والتاريخ والأسطورة، فيستعيد قصصًا للقتل العمد المدروس، وأخرى وقَعتْ عن طريق الخطأ. إنه عمل روائي ملغم بحكايات الجن وأصحاب الكرامات، لكن المدهش أن مفاصل العمل وعناصره الأساسية المكونة لعموده الفقري تخلط بين الوهم والحقيقة، بين الرواية والأسطورة. «فما يظهر هنا، لا يمثل عُشر الحقيقة، التي تختفي أسفل الأرض، وينطبق هذا على أغلب قرى ومدن صعيد مصر، حيث الحقيقة تختفي، ولا يظهر منها إلا مقدار ضئيل أمام أعين الناس.. وتبقى الحقيقة جزء من الأسطورة، والأسطورة بنت الحقيقة، الرابضة أسفل «كوم الخادم».

لعلّ أحد الملامح البارزة في الرواية السرد التوثيقي للأسطورة، والتاريخ، والعادات والتقاليد، والفلكلور بتلك القرية التي تكاد تكون تمثيلًا لجميع قرى الصعيد، وربما لكثير من محافظات أرض الكنانة؟ إضافة إلى براعة المؤلف في توظيف تقنية الحلم على قلتها، وكأنه القنطرة التي يعبر عليها الحدث، إلى مزيد من عرض الأحداث، والمواقف، التي تبين الاختلافات والفروقات بين الشخصيات ومصايرها. من هنا يبدو الانقسام الداخلي بين الماضي والحاضر، فهناك توازٍ بين الزمنين، بين تطور الحدث في الحاضر وحركة «الفلاش باك» في ذكريات الماضي، والانتقال بين التاريخ والأسطورة وآنية الواقع.

من زاوية أخري، الرواية لا تخضع لوحدة الحدث. فحدثها أكثر تشعبًا وتشابكًا ومعه تتسع الرؤية. على الرغم من ذلك يتميز السرد هنا، بأنه قريب الشبه من حكايات «ألف ليلة وليلة»، فالمؤلف يُوظف الراوي العليم بالأمور، من دون أن يُحدد هويته، ليحكي بواسطته عددًا من القصص المتناوبة فتبدأ من القصة الافتتاحية لتتلوها حكاية الإطار، ثم يخرج لقصة فرعية تضمينية قبل أن يعود إلى القصة الأولى والرئيسة مجددًا، ليخرج منهما إلى قصة ثالثة ورابعة، مرات ومرات، فيُكرر ذلك بإيقاع جذاب.

وهكذا نجد قواسم مشتركة بين «كوم الخادم» و«ألف ليلة وليلة» في الأسلوب الفني المُعالج به الشخصيات والأحداث حيث يتداخل الزمان والمكان في الحكايات، فهناك حكاية المفتتح عن غرق القرية، والطوفان، ثم الحكاية الإطار وهي حكاية غانم ومملكته الملعونة والمنسوجة بمهارة بالغة وانتقالات شديدة السلاسة مع تلك الحكايات التضمينية التي تتداخل ضمن حكايات الإطار وتتمتع بدلالات فنية ومضمونية مثل حكاية الأولياء الصالحين، والراعي المسيحي، والتاجر اليهودي، والعمدة المعجون بالجشع والطمع والجبروت خصوصًا «غانم» الذي «لم تكن الحياة معه وردية على طول الطريق، فكانت هناك منحنيات وحفر وسدود، تعيق أو تؤجل أحيانًا «غانم» عن المضيّ قدمًا في طموحاته الاستعمارية، فهو يفكر بذهنية مستعمر لا مصلح».

لكن اللافت أن دخول الشخصيات الجديدة كان يُنسج بتلقائية، مع المحافظة على الشخصيات الرئيسة، في ظل تغليب لتقنية الوصف الشاعري أحيانًا من دون تجسيد مواقف درامية، فالروائي متأثر بحرفته الشعرية، لكن مع ذلك، وعلى الرغم من كثرة الشخصيات، وزخم التفاصيل والأحداث، فالقارئ يقفز من قصة إلى أخرى عبر الحكايات المتوالدة المتكاثرة، لكل منها بداية ووسط ونقطة صراع متفجر، لكن بعضها لا نُدرك نهاياته، إذ يختفي أبطالها كما في الحياة من دون أن نسبر أغوارهم، ومن دون أن نصل لكشف أسرارهم القابعة في قاع البئر المكين. أو ربما هي خدعة من المؤلف لتوريط القارئ في اختراع نهايات لهم.

سينما عربية لا تخلو من خطاب نسوي.. أمــل الجمل

سينما عربية لا تخلو من خطاب نسوي.. أمــل الجمل

على الرغم من أن السينما المصرية والعربية لم تتعرضا للأبعاد الحقيقية لشخصية المرأة من الناحية الإنسانية، وظلت المرأة في خلفية الأحداث -باستثناء بعض التجارب القليلة- في حين استحوذ الرجل على الأدوار الرئيسية، وصحيح أن السينما المصرية والعربية لم تقدّما في أغلب تلك الأفلام سوى صور مشوهة عن المرأة، من خلال تكريس كثير من الأفكار الخاطئة بشأن عقل المرأة وجسدها.

وعلى الرغم من أننا لم نرَ -إلا في أفلام تكاد تكون شحيحة في نتاجات السينما العربية- نساءً صاحبات قرار أو تتمتع شخصيتهن بالتأثير الإيجابي مقارنة بما نشاهد في السينما الأميركية وسينما أوربا الشرقية والغربية التي أظهرت نساءها بصورة تليق بمكانتهنّ، في حين لم يتسنَّ للسينما المصرية أن تُعيد الاعتبار إلى النساء العربيات الكاتبات والمناضلات أو الممثلات والمخرجات والمنتجات اللائي قامت السينما على أكتافهن وبجهودهن وبرؤوس أموالهن –عندما كانت السينما مجرد هواية وعشق يستنزف الثروات فيهرب منها الرجال وقبل أن يتحول الفن السابع إلى صناعة كبيرة ومصدر للربح يُغوي الرجال– فلم يتسنّ للسينما المصرية أن تعكس صور هؤلاء النسوة بخطاب نسوي شفيف، ضمن تجارب سينمائية تُكلل بالنجاح الفني والجماهير، كما شاهدنا واستمتعنا بمصاحبة أفلام نسوية أخرى مبهرة من السينما العالمية.

وعلى الرغم من أن الصورة السلبية للمرأة في السينما العربية طغت على الصورة الإيجابية التي حاولت ‏‏ظاهريًّا إبرازها –مقارنة بحصاد السينما المصرية الذي يتجاوز وحده أكثر من سبعة آلاف فلم- فلا يمكن إغفال أن نحو ثمانية عشر فلمًا جاء من بين أهم مئة فلم في تاريخ السينما المصرية –ضمن استفتاء مهرجان القاهرة السينمائي عام 1996م- لا تخلو من هموم المرأة؛ مثل: قضايا الشرف والتعليم والنضال ضد العدو والمحتل المغتصب للأرض، والحق في اختيار شريك الحياة وتحمل مسؤولية الأهل، والانفلات من ازدواجية تعامل المجتمع معها وتمييزه للذكر عليها، والقدرة على تولي مناصب الإدارة العليا في العمل ورئاسة الزوج والتفوق عليه أحيانًا. كذلك لا يمكن تجاهل أنه في عام 1939م ظهر فلم «العزيمة» لكمال سليم الذي قدم أول ملامح واضحة للبنت المصرية في علاقتها بالواقع وقيود التقاليد، ووضعيتها، والمفروض عليها في مواجهة المفترض منها إنسانيًّا واجتماعيًّا، فـالبطلة كانت تُمثل نموذجًا إيجابيًّا، وشجاعًا، له وجهة نظر واضحة في الحياة يسعى لتحقيقها، وإن كانت البطلة تضطر في النهاية لتقديم التنازلات حتى لا تهبط إلى قاع المجتمع.

وعي مبكر

ومن دواعي الدهشة أن يُنتَج فلم «الآنسة حنفي» عام 1954م للمخرج فطين عبدالوهاب الذي يحمل خطابًا نسويًّا لافتًا بأسلوب فني كوميدي بسيط. ينهض البناء الدرامي على تفتيت موروث ثقافي بعقل الرجل الذي يرى أن البيت هو مكان المرأة الأقل مرتبة منه، فجاء المخرج والسيناريست جليل البنداري ليطرحا تساؤلًا معاكسًا؛ «ماذا لو أصبحت أنت أيها الرجل في موقع المرأة، ماذا لو صرت امرأة»؟ فيتحول القائم بممارسة القهر وصاحب السلطة البطريركية إلى ذات خاضعة للقهر الأبوي.

طُرحت تلك الأفكار التقدمية في منتصف الخمسينيات والستينيات ففي «مراتي مدير عام» لفطين عبدالوهاب يتناول صعوبة أن تصبح المرأة مديرًا عامًّا على الرجال متناولًا العقبات والمكائد كافة التي تحاك من حولها والنظرة لها على أنها ناقصة عقل ودين، فكيف يتسنى لها أن تقود الرجال؟!، ثم مأزق أن تكون رئيسة لزوجها كأنه اختبار لمدى صمود الحب أمام تلك الإشكالية، وقدرة المرأة على إدارة بيتها مثل المؤسسة وإنجاح المشروعات المكلفة بها أفضل من الرجل أحيانًا، رحلة سينمائية لا تخلو من خفة ظل خلقها سعد الدين وهبة كاتب السيناريو الذي رسم بمهارة وانحياز واضح للمرأة شخصية المديرة وهي تجمع بين الرقة والذكاء والقدرة على جمع الموظفين للعمل كيَدٍ واحدة في تعاون، وموهبتها في اتخاذ القرار الحاسم وحساسية التعامل مع عقول تحمل أفكارًا مشوهة عن المرأة، مختتمًا بنهاية وإن كان مبالغًا فيها بعض الشيء لكنها تؤكد على ضرورة تقبل الزوج لنجاح زوجته وتفوقها المهني عليه، وأنه طالما يحبها وهي كفء لتلك المسؤولية فمؤكد يمكنه أن يعمل تحت رئاستها.

على العكس مما سبق نجد في «تيمور وشفيقة» 2007م لخالد مرعي وسيناريو تامر حبيب، يشترط البطل –حارس الأمن- على حبيبته أن تتخلى عن عملها كوزيرة ناجحة حتى يتزوج منها، وينتهي الفلم بعودة المرأة الوزيرة إلى البيت، وتخليها عن أحلامها وطموحها المهني من أجل إرضاء الحبيب الذي يرفض فكرة العمل من أساسه، ويرى أن دور المرأة هو رعاية زوجها وبيتها، وأن كلمته هي العليا.

السادة الرجال

على صعيد آخر، هناك أفلام تتضمن خطابًا نسويًّا بليغًا لكنها تحذر من خطورة دخول الرجل والمرأة في حرب وإلا حكم على المجتمع بالخراب كما في الشريط السينمائي «السادة الرجال» 1987م سيناريو وإخراج رأفت الميهي الذي يطرح قضية المرأة من منظور حساس بموضوعية وحس كوميدي ساخر، ومؤلم، كاشفًا خطورة تطور تلك المعركة على الأبناء والمجتمع وذلك من خلال شخصية «فوزية» التي تُحرم من الترقي في عملها لكونها امرأة، وكيف أن الأمومة ومسؤولية البيت والزوج والمواصلات العامة تؤثر سلبًا في عملها، فتُصرّ «فوزية» بسبب الضغوط والإحساس بالظلم على تقسيم مسؤولية البيت والطفل بينهما، وعندما يرفض الزوج وتجد المجتمع الذكوري من حولها لا يعترف إلا بجمال ساقيها، فتقرر إجراء جراحة والتحول إلى رجل لتنال نفس حقوق الرجل، ثم تنقلب السخرية إلى كوميديا سوداء، وبعد تسليط الضوء على قضية المرأة بخطاب نسوي بليغ وبأسلوب فني راقٍ من دون انحياز للمرأة، يضع نصب عينيه الأطفال والمجتمع، ولذا يحذرنا من الصمت على قهر المرأة؛ لأنه عندما تتبع النساء أسلوب فوزية، لو أصبحنا جميعًا رجالًا أو جميعًا نساءً فلن يستقيم المجتمع، كأنه يشي لنا بعبقرية متوارية إلى خطورة تطرف النظرة النسوية والإصرار على تأييد حقوق المرأة وسيادة نفوذها -في الحق والباطل، أو «عَمَّال على بَطَّال»– ففي تلك الوضعية لن تختلف النسوية عن أفكار المجتمع البطريركي ومعتقداته وسلوكياته، أليس الدفاع المستمر عن المرأة من دون وجه حق يُعَدّ الوجه البطريركي الآخر للعملة؟ أوليس من العدل أن تتحدث الكتابة النسوية عن حقوق الرجل والقهر المجتمعي الذي يعانيه أيضًا، لتكون نظرتها موضوعية وأكثر رحابة وإنسانية؟

المرأة والسينما الوثائقية

أمل رمسيس

صار الوثائقي أكثر قدرة من الروائي –وإن بشكل متفاوت وإلى درجات متباينة بمجتمعات مختلفة- على أن يتعرض لقضايا كان الناس يخشون التحدث في شأنها، أو فيما يتعلق بالشأن النسوي على المستوى العربي، ووضعية المرأة وصورتها عن نفسها من منظورها الشخصي، أو حتى صورتها في عيون الآخر المحمَّل بموروث طويل من العادات والتقاليد، وبتلك النظرة النمطية للمرأة التي تكرَّست في أذهان شرائح واسعة من المجتمع، حتى إن تلك النظرة السلبية تسرّبت إلى المرأة ذاتها. من تلك الأفلام الشريط الوثائقي الطويل «أثر الفراشة» للمخرجة المصرية أمل رمسيس. ظاهريًّا يبدو الفلم كأنه عن مينا دانيال الشاب الذي لقي حتفه يوم 9 أكتوبر 2011م في مذبحة ماسبيرو، والشهير بغيفارا الثورة المصرية. لكن مَنْ يتأمل الشريط الوثائقي يكتشف أنه يسير بالتوازي في مستويات ثلاثة: الأول حكاية ماري دانيال الأخت الكبرى لمينا الكاشفة للضغوط المجتمعية، والمستوى الثاني سياسي صرف لأوضاع البلد وظروفه خلال تلك السنوات الثلاث، والمستوى الثالث يتوارى في ثناياه كل ما هو استعاري ورمزي. ربطت المخرجة بين الحياة الخاصة لماري واتخاذها قرارًا مصيريًّا حاسمًا مُتحدية المجتمع والكنيسة، وبين الأحداث العامة التي مرت بها مصر، بما فيها من تأويلات رمزية وإسقاطات سياسية، فكأن ماري وهي تسرد تفاصيل من حياتها وقصة زواجها وحصولها على حريتها الشخصية كأنما تشي بحكاية مصر التي نفضت عنها التراب وثارت على حكامها المستبدين بعد طول استسلام.

هالة لطفي

أما المخرجة الجريئة هالة لطفي ففي فلمها الوثائقي الطويل «عن الشعور بالبرودة» ويحكي عن الصداقات والعلاقات المزدوجة بين البنات والأولاد، بين الرجل والمرأة وذلك من خلال تسع فتيات يقفن على عتبة «العنوسة»، يحكين عن شجون الحياة الشخصية من دون شريك، فيطرحن علامات الاستفهام عن علاقة الرجل بالمرأة، بجرأة، وعن إخفاقهن في علاقات الحب والارتباط. عن نظرة المجتمع الذكوري للمرأة الوحيدة. امتلكت بعضهن الجرأة والشجاعة للحكي عن احتياجاتها الجنسية، وكيف تتحايل لتشبعها في ظل الحرمان الذي تعيشه. أدركت بعضهن أن حديثها في الفلم سيكون صادمًا لأسرتها لكنها واصلت الاعتراف كأنها تُصرّ على التطهر. ينبش الفلم خلفية الشروط الاجتماعية والثقافية التي تعيشها الفتيات، أسطورة المجتمع الذكوري الذي يتعامل مع المرأة على أنها جسد للمتعة الحسية، حتى إنها لا تجرؤ على السير في الشارع بمفردها خوفًا من العيون الجائعة والكلمات المسمومة.

كذلك فلم «المهنة امرأة» للمخرجة هبة يسري الذى مُنع من العرض بمصر، وكان –كأنه- يحقق في أسباب انحراف بعض النساء؛ إذ يدور حول فتيات احترفن البغاء نتيجة للظروف الاجتماعية القاهرة في دولة يعيش أغلب شعبها تحت خط الفقر. «المهنة امرأة» فلم وثائقي مدته ١٣ دقيقة، اعتمدت فيه المخرجة على تصوير حياة فتيات بشخصياتهن الحقيقية؛ فتيات احترفن البغاء ومثلن شرائح عمرية مختلفة. لم يكن الأمر سهلًا أمام المخرجة الشابة فقد واجهتها مشكلة إيجاد الفتيات في البداية، فاضطرت إلى أن تنتحل شخصية رجل حتى تتمكن من العثور على أبطال فلمها من الشارع. أيًّا كانت التحفظات الفنية على الفلم تكفي جرأة الفكرة، وتمرد الفتاة على قيود المجتمع وعلى والدها الذي رفض فكرة مشروعها، ورفض أن تظل ابنته حتى وقت متأخر من الليل خارج البيت، فاضطرت هبة إلى العمل سرًّا من دون علمه على مدار شهور ثلاثة، يدفعها الإصرار على أن تنجز ما رغبت فيه حقًّا.

هبة يسري

في توقيت «المهنة امرأة» نفسه، ظهر أيضًا فلم وثائقي آخر جريء بعنوان: «البنات دول» 2006م للمخرجة المخضرمة تهاني راشد؛ جريء لأن مخرجته نجحت في تصوير تلك الفتيات وفي إقناعهن بأن يظهرن على الشاشة ويحكين عن حياتهن القاسية والمشينة رغمًا عنهن في بعض الأحيان، فهو يأخذنا إلى عالم فتيات يعشن في شوارع القاهرة، ذلك العالم المليء بالعنف، والقسوة، والاغتصاب، والعلاقات الحرة، المليء بالمشاجرات، والرقص، والمشاحنات، والضحك والتضامن الإنساني أيضًا. سواء كن سيدات أو أمهات أو أطفالًا، ورغم العيوب التي تشوب مضمون الفلم؛ إذ إنه مجرد رصد للفتيات من خلال نظرة سياحية، تتفرج عليهن من الخارج ولا تربط مشاكل البنات ووضعهن بالمجتمع والأمن والسياسة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؛ كأن هذا من فراغ! لكن تبقى القيمة الأهم أنه يطرح تساؤلًا ملحًّا حول نسب أطفال الشوارع، ولماذا لا يستخرج لهم شهادات ميلاد؟ ولماذا لا يصدر قانون ليكتب الطفل باسم الأم؟

نماذج عربية لافتة

ومن لبنان أستدعي تجربة فلم «يوميات شهرزاد» للمخرجة زينة دكاش، الذي يُتيح الفرصة أمام المتلقي لأن يتعرف إلى تجربة مجموعة من النساء السجينات، اللائي يحكين عن حياتهن وطريقهن إلى السجن وفيه، وعن أحاسيسهن داخل السجن، وعن الأحكام العقابية التي نالوها وموعد انتهاء العقوبة، وكيف يستعددن للخروج. تارة من خلال الحكي المباشر للكاميرا بضمير الأنا الأكثر حميمية، وتارة أخرى عن طريق التمثيل وما به من إسقاط وتورية. تتنوع حكايات النساء بتنوع جرائمهن بين القتل والسرقة وبين تجارة المخدرات أو تعاطيها. بعضهن حاولن إخفاء ملامحهن، لكن أخريات أصررن على أن يظهرن بوجوههن وبكامل شخصياتهن أمام الكاميرا من دون وجل أو خوف. وإن كانت إحداهن أكدت على رغبتها في عدم التواصل مع المجتمع الذي ظلمها ويدينها، وتحكي عن المستقبل الضائع.

كذلك لا يمكن إغفال ما حققته السينما التونسية الوثائقية أو تلك العابرة للنوعية من أفلام حديثة تناقش وضعية المرأة اجتماعيًّا، وسياسيًّا، وتنتصر لحقوقها، كما يتضح جليًّا مع فلم: «يا من عاش» للمخرجة هند بن جمعة، أو فلم «شلاط تونس» لكوثر بن هنية الذي يمزج الروائي بالوثائقي بشكل مربك وبمهارة أسلوبية قادرة على إيهام المتفرج وإقناعه بأن ما يقدم وثائقي رغم أنه ليس كذلك طوال الوقت، وهو أمر لا يرتبط فقط بالشكل إنما أيضًا بالمضمون الوجداني والفكري كله. يبدو الفلم، ظاهريًّا، كأنه رحلة بحث عن الشلاط ذلك الرجل المجهول الذي كان يتجوّل على دراجته في شوارع تونس عام 2003م، ويضرب النساء اللائي يمشين على أرصفة المدينة بشفرة سكين على أردافهن، لكنه في جوهره بحث عما وراء الشلاط ودوافعه النفسية من خلال تفكيك عقلية تلك الشخصية والبنية الفكرية للمجتمع لمعرفة لماذا حدث هذا؟ وما عواقب ذلك على ضحاياه؟ فاختيار واقعة الشلاط ما هي إلا تكأة لمساءلة الواقع التونسي مجتمعيًّا وسياسيًّا؛ للكشف عن أوضاع المرأة فيه، وعلاقتها بالرجل، وكيف يفكر فيها رجل الشارع، ورجل الدين، ورجل الشرطة؟ وماذا يريدون منها؟ إنه تنقيب في عالم الرجل في محاولة لفهم خلفيات كل هذا الكره والعنف الموجه ضد المرأة؟

إلى جانب ما سبق هناك أفلام تونسية أخرى تجاوزت قضية المرأة إلى قضية الحريات في المجتمع، كاشفة الظلم السياسي والحقوقي والمادي الواقع على بعض الفئات الاجتماعية من دون أن تغفل تلك النظرة الذكورية للمرأة كما ظهر في فلم «جمل البروطة- الجورت» وتتضمن السينما الروائية التونسية نماذج إبداعية نسوية لافتة حققت شهرتها في المحافل الدولية، ومنها مفيدة تلاتلي ففي أفلامها: «صمت القصور»، و«موسم الرجال»، و«نادية وسارة» 2003م، تعالج مفيدة تلاتلي مشاكل المرأة التونسية ووضعيتها الراهنة حتى في ظل منظومة من قوانين تحرير المرأة. تُبرز معاناتها، ومعركتها النفسية والاجتماعية من دون السقوط في فخ المباشرة. بعيدًا من الرؤية النسوية المتعصبة تلتقط كل التناقضات التي تمنع تطور شخصياتها النسائية وتصنع جحيمها. تُسلط الضوء بفنية راقية على العلاقات المتوترة بين النساء والرجال، على القوة الرجعية المتأصّلة في عقلية المرأة التونسية. تفضح عوامل القمع والقهر الداخلي والخارجي التي تُكبّلها. تكشف كيف تخلق النساء أغلالهن بأنفسهن، مُوضحة أن الرجل لم يعد وحده المسؤول عن هذه الوضعية، فالنساء لم يعدن ضحايا له؛ إذ إنهن شريكات في تلك الجريمة. إنهن سجينات عقولهن وقيمهن، فالمرأة ذاتها تُكرّس لهذا القمع وتُعيد إنتاجه عندما تربي أولادها الذكور والبنات على القيم والتقاليد البالية نفسها، وهو ما يُضاعف من عجز الفتيات عن التحرر الداخلي.

أمــل الجمل –  ناقدة مصرية