في برلين «المتوحشون الجدد» يكتشفون الجدار السور الحصين يتحول  إلى متحف مفـتوح

في برلين «المتوحشون الجدد» يكتشفون الجدار السور الحصين يتحول إلى متحف مفـتوح

كثيرًا ما نتناسى أن الكتابة والحفر على الجدران أقدم من الكتابة على الورق. لقد رسم المصريون القدماء وكتبوا على جدران المعابد، قبل أن يبدؤوا في تدوين الأحداث على البرديات. وربما تكون الكتابات الجدارية هي أقدم أشكال الصحف، وأقدم سبل التواصل مع «الرأي العام». الكتابة على الجدران قد تكون أيضًا فعل مقاومة. نظرة إلى داخل أي سجن في العالم تثبت لنا ذلك. السجين التوَّاق إلى الحرية والشاعر بالظلم يجد في الكتابة على الجدران أو الحفر عليها متنفسًا. هذا شيء لم يستطع سجّان في العالم أن يقمعه تمامًا.

والرسوم والكتابة على الجدران هي في المعتاد وليدة سياق زمني أو اجتماعي معين وحدث آنيّ، وهي عادة تعبير عن الاحتجاج والرفض ومقاومة «السلطة». لنتذكر الرسوم والكتابات الجدارية التي نشأت في أعقاب الثورة المصرية 2011م، وبخاصة في شارعَيْ محمد محمود وقصر العيني بالقاهرة، والرسم والمحو، والكر والفر بين الرسامين المحتجّين وبين السلطة السياسية. الكر والفر، والرسم والمحو كان مصير «الغرافيتي» في برلين أيضًا، وأوربا عمومًا، خصوصًا في أول عهده، أي في سنوات الستينيات. آنذاك راح فنانون يعترضون على النمط الموحَّد السائد في الشوارع، والباعث على الملل في رأيهم. كان الشعار السائد هو «استعادة الشارع» من «السلطة» التي تفرض نمطًا معماريًّا وجماليًّا معينًا، وكان السؤال هو: من له الحق في تشكيل الفضاء العام – الحكومة ولجانها الفنية، أم الناس، على اختلافهم؟ «فن الشارع» كان أيضًا ردة فعل على الإعلانات الاستهلاكية التي تسيَّدت الشوارع. منذ البداية كان «الغرافيتي» في مواجهة مع القانون، وفي مواجهة مع التيار المحافظ الذي يرى في «الغرافيتي»، و«فن الشارع» عمومًا، تشويها واعتداءً على ممتلكات الآخرين.

خلال سنوات الثمانينيات انتقلت الكتابات الجدارية إلى المدن الألمانية الكبرى، مثل: مدينة هامبورغ في شمال ألمانيا، ومدينة كولونيا في غربها، ثم إلى برلين الغربية. وتمثل رسوم السويسري هارالد نيغيلي نقطة تحول في المشهد الغرافيتي في برلين. لقد كانت دعوة إلى الابتكار على غرار مقولة جوزيف بويس وآندي وارهول: إن «كل إنسان فنان»، و«كل شيء جميل». هارالد نيغيلي – المولود عام 1939م والمُلاحَق آنذاك في سويسرا بعد أن صدر بحقه حكم بالسجن والغرامة المالية بتهمة «الإضرار بممتلكات الآخرين» من خلال الرسم على الجدران – وجدَ في ألمانيا ملاذًا مؤقتًا، إلى أن رُحِّل إلى سويسرا لتنفيذ حكم القضاء.

بعد تلك البدايات الحذرة اكتشف الشباب جدار برلين الممتد على طول 166 كم. في البداية كانت هناك «شخبطات» بدائية على الناحية الغربية من السور، كتابات أو شعارات سياسية مباشرة. أما الناحية الشرقية فكانت ناصعة البياض، لا يلطخها سوى دم من يحاول الهرب. وبمرور السنين أضحت برلين الغربية، بسبب الجدار، «الجنة» التي يتمنى رسامو الغرافيتي أن يعيشوا فيها، أو على الأقل أن يخلِّدوا أعمالهم على جدارها.

بين «العار» و«الحماية من الفاشية»

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي أعقاب الصراع حول السلطة بين الاتحاد السوفييتي والحلفاء الغربيين، أصبحت برلين محور المواجهة بين الشرق والغرب. وفي خريف 1949م أُعلِن تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية الرأسمالية) وجمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية الشيوعية)، وهكذا وجد الألمان أنفسهم، فجأة، مقسمين بين نظامين سياسيين واقتصاديين متعاديين. كان الوضع في برلين أكثر عبثية؛ إذ قسمت المدينة نفسها، وفي بعض الأحيان قسّم الشارع، فتكون الجهة اليُمنى تابعةً لبرلين الشرقية، واليسرى تابعة لبرلين الغربية، وهو ما حدث في «برناور شتراسه» Bernauer Strasse على سبيل المثال. لكن البشر لا توقفهم حدود أو جدران. سريعًا ما شعر الناس في ألمانيا الشرقية أن جمهوريتهم لا تتصف بالديمقراطية إلا في الاسم الرسمي، فشرعوا «يصوتون بالأقدام» ضد النظام القمعي البوليسي، أي بالهرب من البلاد. حتى عام 1961م بلغ عدد الفارّين من ألمانيا الشرقية ما يزيد على مليوني ونصف مليون إنسان. هذا النزيف البشري ألحق ضررًا كبيرًا باقتصاد ألمانيا الشرقية، كما أصاب الأيديولوجية الشيوعية في مقتل: ها هم الناس يهربون من «الجنة الاشتراكية» إلى «جحيم الغرب الرأسمالي المتوحش». ما العمل؟ كيف يمكن منع الناس من الفرار إلى الأعداء؟ كان الجواب عن السؤال هو منع الناس من مغادرة البلاد بالقوة. وهكذا استيقظت برلين صبيحة الثالث عشر من أغسطس عام 1961م لتجد أسلاكًا شائكة تفصل بين شطري المدينة، وشيئًا فشيئًا شرعت السلطات في ألمانيا الشرقية في بناء جدار منيع، يحرسه جنود لديهم أوامر بإطلاق الرصاص الحي على من يحاول العبور من الشرق إلى الغرب.

مع مرور الوقت تحول الجزء الغربي من سور برلين إلى أكبر ساحة في العالم كله للاحتجاج على غباء الأيديولوجيات التي تقسم الدول والبشر. لعب الجدار هذا الدور في منتصف السبعينيات بعد إعادة بنائه للمرة الرابعة والأخيرة قبل انهياره عام 1989م؛ إذ أتاحت الكتل الخرسانية الناعمة والمتلاصقة والمطلية باللون الأبيض فرصةً ذهبيةً لهواة الرسم والغرافيتي. عن ذلك يقول أستاذ الفن الألماني هيرمان فالدنبورغ: إن هوس الكمال والنظافة قد ابتكر أفضل نظام لتأمين الحدود في العالم، غير أنه صنع أيضًا خلفية مثالية للرسم والكتابة في الفضاء العام(1).

«المتوحشون» والجدار

في تلك الحقبة شهدت برلين اتجاهًا فنيًّا جديدًا، أُطلق على أتباعه «المتوحشون الجدد». لفت هذا التيار الأنظار، وحقق نجاحًا عالميًّا. كان الأسلوب الذي اعتمده الفنانون أسلوبيًّا تعبيريًّا يتضمن عناصر من فن «الغرافيتي» ويستخدم الألوان القوية. كثير من «المتوحشين الجدد» كانوا يدرسون الفن في برلين الغربية، وهؤلاء اكتشفوا الجدار موضوعًا وخامةً لفنهم. ومن الأسماء التي تكررت على رسوم وغرافيتي تلك الحقبة المبكرة الفنان ثيري نوار Thierry Noirالذي يعد اليوم أحد أشهر «فناني الشارع» في برلين. وُلد نوار في ليون عام 1958م، ثم انتقل للعيش في برلين عام 1982م. ومنذ منتصف الثمانينيات بدأ مع زميله كريستوف بوشيه في الرسم على سور برلين. ويقول نوار: إن جنود ألمانيا الشرقية كانوا يحاولون القبض على مَن يرسم على السور و«يشوهه»، فالجدار بناحيتيه كان مبنيًّا على أرض ألمانية شرقية، ويضيف أن سكان حي كرويتسبيرغ الغربي لم يكونوا سعداء أيضًا بالرسم على الجدران. غير أن الوضع تغير مع الوقت، وأصبح «الغرافيتي» أكثر قبولًا(2). اشتهر نوار بالوجوه المربعة أو المستطيلة ذات الألوان الصريحة التي رسمها على جدار برلين ولاقت إعجابًا حتى ممن يرفض «تشويه» الجدران. ولذلك اختاره المخرج فيم فيندرس ليرسم كواليس فلمه المشهور «السماء فوق برلين».

كتابات الجدار

منذ البداية سيطرت السياسة على كتابات سور برلين، وكان المضمون أو الرسالة أهم من الشكل والجماليات الفنية. ومع الحركة الطلابية في عام 1968م أضحى جدار برلين مثل «حائط مبكى» يفرغ عليه المعارضون والمحتجون شحنة غضبهم تجاه المجتمع والسلطة.

ولنلقِ نظرة على كتابات السور التي حفظتها المجلدات المصورة الكثيرة التي صدرت بعد انهياره(3):

«لا للجدران»

لتسقط رسمتي مع الجدار!

«ألمانيا الشرقية = معسكر اعتقال / الولايات المتحدة = النازية»

«اللعنة على الشرطة»

«بيرة أكثر، لحم أكثر، أورويل أقل، ليبارك الرب عام 1984م»

«الرب يريد نقودًا سائلة!»

«الإباحية هي أسمى أشكال الديمقراطية»

«ما نريده، لا يمكن شراؤه!»

«العمارة هي مواصلة الحرب بوسائل أخرى» (تحوير للقول الشائع: الدبلوماسية هي مواصلة الحرب بوسائل أخرى).

وأخيرًا هذه الأبيات للشاعر النمساوي إيريش فريد: «مَن يريد أن يبقى العالم على ما هو عليه / فهو لا يريد أن يبقى العالم».

تدريجيًّا حلَّت الصور محل الكتابات، ومنها ما اتخذ من الجدار نفسه موضوعًا، مثل الرسم الشهير الذي يبين فتحة في الجدار، تنبئ بمصيره الزائل، ومن الفتحة يتخيل الفنان منظر الشارع والبنايات بلا أسوار تحجبها. أصبح سور برلين متحفًا مؤقتًا يلبِّي ما طالب به جيل الستينيات بـ«دمقرطة الثقافة والفن»، فقد كان بإمكان كل شخص أن يضيف ويمحو، وأن يعبر عن رأيه، وأن يسخر من الجدار ذاته. وهكذا حولت الرسوم والغرافيتي أكثر الأسوار في العالم حصانة ومناعة إلى مادة للحوار والسخرية والاستهزاء. اجتذبت برلين فنانين من بلدان أخرى، مثل الفنان كيث هارينغ من نيويورك الذي رسم في عام 1986م نحو مئة متر من الجدار عند نقطة العبور المعروفة باسم «نقطة تفتيش تشارلي»، وذلك احتجاجًا على «سخافة الحدود والعداوات». وجدير بالذكر أن رسومه غطت على رسوم غرافيتي قديمة، وهو ما أثار ضغينة الفنانين البرلينيين. ولم تكن هذه حالة فريدة في برلين الثمانينيات. آنذاك اشتغلت حرب الغرافيتي على المساحات المتبقية من الجدار، والتهمت الرسوم بعضها بعضًا.

«إيست سايد غاليري»

كان المسؤولون في ألمانيا الشرقية يرددون أن سور برلين بُني ليحمي ألمانيا الشرقية من «الفاشية الغربية» حتى الأبد، غير أنه لم يصمد في وجه الزمن سوى 28 عامًا، وانهار تمامًا في التاسع من نوفمبر عام 1989م عندما أعلنت الحكومة في برلين الشرقية نبأ السماح لمواطني ألمانيا الشرقية بالسفر؛ إذ تدفق الآلاف من فورهم إلى جدار برلين العتيد، ومنه إلى الغرب. بدأ الناس يدركون أن هذا الجدار سيختفي قريبًا من الوجود. وهكذا بدأ بعض في كسر أجزاء من السور للاحتفاظ بها للذكرى، أو بيعها لاحقًا بأسعار فلكية في بعض الأحيان. وفي 13 يوليو 1990م – وقبل أسابيع من الوحدة بين شطري ألمانيا – بدأ جنود ألمانيا الشرقية في إزالة الجدار وسط تصفيق وتهليل البرلينيين. وفي الثالث من أكتوبر 1990م أُعلنت الوحدة الألمانية رسميًّا.

الآن، بعد مرور 28 عامًا على انهيار سور برلين، لم تبق سوى أجزاء قليلة منه في المدينة، مثل ذلك الجزء الخالي من الرسوم الذي تحول إلى متحف تذكاري في «برناور شتراسه»، وأجزاء صغيرة أخرى، في «الماور بارك» و«بوتسدامر بلاتس»، وبالقرب من محطة السكك الحديدية في شرق برلين. وتحتفظ بعض المتاحف بأجزاء من الجدار، مثل متحف التاريخ في بون، ومتحف الحرب في لندن، وكذلك مقر الأمم المتحدة في نيويورك.

وأكبر أجزاء الجدار المتبقية في برلين هو الجدار المحاذي لنهر «شبريه» بالقرب من محطة السكك الحديدية الشرقية، ويبلغ طوله 1,3 كم، ويقع كله في الجهة الشرقية من المدينة، أي في الجهة التي كانت خالية من الرسوم حتى انهيار الجدار. بعد الوحدة اقترحت الملحقية الثقافية في السفارة البريطانية في برلين الشرقية، الأسكتلندية كريستين ماكلين، الحفاظ على جزء من الجدار ليصبح معرضًا فنيًّا. واستجابت المدينة وسمحت لمئات الفنانين من 21 دولة بالرسم على الجدار لمدة عام، وأُطلق على هذا الجزء من الجدار «إيست سايد غاليري» (أي: معرض الجهة الشرقية) بعض أجزاء الجدار جرى بيعها، مثلما حدث في الأيام الأخيرة من عمر الجمهورية الاشتراكية عندما حاول المسؤولون الاستفادة من الجدار وما عليه من رسوم، فكلفوا شركة تتولى بيع أبرز الأعمال الفنية عليه. وأقيم مزاد علني في برلين وموناكو في عام 1990م لبيع أجزاء أخرى من الجدار. ومن الفنانين القلائل الذين نجحوا في أن يحصلوا على تعويض مالي مقابل ما رُسم على الجدار الفنانان ثيري نوار وكيدي سيتني اللذان رفعا قضيةً حُكم فيها بعد النقض لصالح الفنانين اللذين حصلا على جزء من حصيلة البيع.

الغرافيتي اليوم

لكن «الغرافيتي» في برلين لا يقتصر بالطبع على الجدار. الغرافيتي حاضر بقوة في العاصمة الألمانية، ولا سيما في بعض الأحياء «اليسارية» مثل حي كرويتسبيرغ. وإن زائر المدينة المسافر بالقطار سيشاهد حتمًا الرسوم والكتابات التي لا حصر لها على طول خط السكك الحديدية. لكن يمكننا القول: إن معظمها لا علاقة له بشعار «استعادة الشارع» الذي كان مرفوعًا في مطلع الثمانينيات، إنها محض «شخبطة» يقوم بها مراهقون يسعون إلى وضع التوقيع الشخصي على أكبر عدد ممكن من الجدران، وهو ما يكلف السكك الحديدية الملايين سنويًّا لإزالة تلك الرسوم، التي تكلف من يقوم بها أيضًا، في حالة ضبطه، غرامات مالية كبيرة، وقد تكلفهم أحيانًا حياتهم بسبب اتخاذهم لوضعيات خطيرة عند الرسم.

عمومًا، ما زال «الكر والفر» سائدًا بين رسامي «الغرافيتي» وبين الشرطة ومالكي العقارات، وما زال النقاش حاميًا حول الغرافيتي في الفضاء العام: أهو فن ومتنفس للشباب، أم إضرار بممتلكات الآخرين؟ المثير هو ملاحظة كيف تواجه الرأسمالية «فن الشارع» المناهض لها. ففي السنوات الأخيرة جرت محاولات عدة لاحتواء فناني الشارع، فالإعلانات الاستهلاكية تحاكي الآن هذا الفن الذي يهاجمها، بل لقد أصبح عدد من فناني الشارع يعملون في «غاليريهات» تجارية، كما تُنظم من آنٍ لآخر معارض خاصة ومهرجانات لـ«فن الشارع». قبول «فن الشارع» واحتواؤه تجسَّد أخيرًا في افتتاح متحف خاص لهذا الفن في برلين سبتمبر الماضي، وهو «متحف الفن المعاصر الحضري» في حي شونيبرغ. وهكذا، بعد أن كان هدف «فن الشارع» تحويل الشارع إلى متحف مفتوح، فإن سوق الفن أدخل «فن الشارع» إلى قاعات المتاحف وصالات العرض.

الهوامش

1) انظر مقدمة المجلد المصور عن جدار برلين:

Berliner Mauerbilder. Fotografien und einleitender Essay von Hermann Waldenburg. Berlin 1991

2) لمزيد من المعلومات عن ثيري نوار انظر:

Bernhard van Treeck, Street-Art Berlin, Berlin 1999

3) ثمة عدد كبير من المجلدات المصورة التي توثق للكتابات والصور على جدار برلين، وقد اعتمدت في هذه المقالة، إضافة إلى المرجعين السابق ذكرهما، على هذا المجلد:

Armin Lindauer: Die Berliner Mauer, Edition Panorama, Mannheim 2009

مِركل.. من «فتاة كول» إلى «قائدة العالم الحر»

مِركل.. من «فتاة كول» إلى «قائدة العالم الحر»

ذات مرة سأل صحافيون أنغيلا مِركل: ماذا تغير في حياتك بعد أن أصبحت مستشارة؟ فأجابت: التسوق!

في ذلك اليوم حكت مركل للصحافيين أنها اعتادت الذهاب إلى «السوبرماركت» بنفسها، وشراء ما تحتاج إليه. لكن ذلك أصبح صعبًا بعد أن تولَّت منصب المستشارية. فما تكاد تدخل محلًّا حتى يلتف العاملون حولها. «لم يكن يحدث هذا من قبل»، تقول مركل بنبرة جافة. ثم تسمع في المحل السؤال التقليدي: «عن أي شيء تبحثين؟» تقول لهم: عن خرشوف (أرضي شوكي) مُعلّب. «ماذا؟»، يأتي الرد باندهاش. في تلك الأثناء يكون مدير الفرع قد ظهر أمامها ليعيد السؤال نفسه: «عن أي شيء تبحثين؟» فتكرر مركل الإجابة. يقول المدير: «ماذا؟ لدينا بالطبع خرشوف طازج، سيادة المستشارة.» تعيد مركل أنها تفضل المُعلَّب؛ لأنه جاهز للاستخدام. هذه المواقف دفعتها إلى أن تطلب من زوجها يواخيم زاور، البروفيسور في الكيمياء، أن يقوم هو بالتسوق، لكن تضيف مركل: «بعد أن أكتب له ورقة بما نحتاج إليه».

هذا الموقف يبين على خير وجه شخصية مركل التي لم تغيرها السلطة كثيرًا. ما زالت هي المرأة التي تحب أن تطبخ بنفسها، إذا توافر لديها الوقت، وتخبز في فصل الصيف فطيرة البرقوق؛ وما زالت هي البروتستانتية المتواضعة، المتقشفة، المحبة للعمل، التي تبتعد من الأضواء في حياتها الشخصية. لن تجد إلا نادرًا صورة لمركل وهي تقضي إجازتها السنوية في إيطاليا مثلًا، أو على جبال الألب، أو على أحد الشواطئ الساحرة، مثلما كان يفعل المستشار السابق غيرهارد شرودر، أو كما كان يفعل راعيها هلموت كول. لن نجد لمركل سوى صورها في أثناء تأدية عملها كمستشارة. بموضوعية العالِم وتجرده اقتربت من السياسة رغم أنها لم تفكر يومًا في الانضمام إلى حزب، ناهيك عن أن تصبح مستشارة.

ولدت أنغيلا مركل في هامبورغ (ألمانيا الغربية) في عام 1954م، وفي العام نفسه انتقلت عائلتها إلى ألمانيا الشرقية حيث نشأت وتعلمت في مدارس الدولة الاشتراكية، ومن جامعة لايبزيغ نالت درجة الدكتوراه في الفيزياء. وفي عام 1978م حصلت على وظيفة في معهد الكيمياء الفيزيائية بأكاديمية العلوم في برلين الشرقية. ولولا سقوط جدار برلين عام 1989م، وانهيار الكتلة الشرقية، وتوحد شرق ألمانيا مع غربها، ما تركت مركل السلك العلمي أبدًا.

عالمة براغماتية

يقول بعض: إنها تتعامل مع السياسة بمنطق العالِم الذي يقف أمام مشكلة ويريد حلها. ويطلقون عليها «البراغماتية» – يقولون ذلك ليس على سبيل المديح، بل ليؤكدوا أنه ليس لديها رؤية سياسية. هي تحل ما يعترضها من مشاكل فحسب، أو «تدير الأزمات»، بحسب تعبير المنتقدين. ونحن إذا نظرنا إلى كيفية تعاملها مع مشكلة العملة الأوربية، وانهيار بعض البنوك، والأزمة المالية في اليونان وإسبانيا وإيطاليا، نجد أن هذا التحليل صحيح إلى حد كبير. بعد انهيار المعسكر الشرقي أرادت عالمة الفيزياء أن تشارك في البداية السياسية الجديدة في شرق ألمانيا، فانضمت إلى الحزب الديمقراطي المسيحي في عام 1990م (عام الوحدة الألمانية)، وتقدمت إلى أول انتخابات برلمانية تجرى في ألمانيا المتحدة، ونجحت في الحصول على مقعد في البوندستاغ. لفتت أنظار المستشار الأسبق هلموت كول، فاختارها لتكون وزيرة للمرأة والشباب. نُظِر إليها باستخفاف آنذاك، وأُطلِق عليها «فتاة كول»، واتُّهِمت بأنها مجرد تابعة لراعيها، من دون أن يكون لديها شخصية سياسية مستقلة.

لكن المقربين من الوزيرة الشابة تعرَّفوا «غريزة السلطة» لديها، كما أُعجبوا بأسلوبها الموضوعي في مقاربة القضايا السياسية، وإصرارها على الوصول إلى ما تعده صحيحًا، من دون الصدام مع الكبار في الحزب، وعلى رأسهم راعيها هلموت كول بالطبع. غير أن الصدام مع كول كان حتميًّا، وبخاصة بعد أن خسر انتخابات عام 1998م، وبعد أن افتضح أمره بسبب تبرعات حزبية تلقاها على حسابات بنكية سرية. كانت مركل مِن أول منتقدي كول علنيًّا، بل كتبت مقالًا في واحدة من أهم الصحف الألمانية لتعلن تبرؤها مما فعله. في عام 2000م اختارها الحزب –الذي كان متشوقًا إلى بداية جديدة بعد «فضحية كول»- رئيسة له، لتصبح أول امرأة ترأس حزبًا سياسيًّا كبيرًا في ألمانيا. ولم تمض خمس سنوات حتى حلَّت محل شرودر على كرسي المستشارية، لتغدو أول مستشارة في تاريخ ألمانيا، وأصغر من تولَّى هذا المنصب أيضًا (كانت آنذاك في الحادية والخمسين).

برز دور مركل القيادي في الاتحاد الأوربي خلال الأزمة المالية والاقتصادية التي اجتاحت العالم منذ نهاية 2007م، وكافحت من أجل إنقاذ العملة الأوربية الموحدة. ثم تعزز دور ألمانيا، ومعه مكانة مركل، بعد إجراء الاستفتاء في بريطانيا حول البقاء في الاتحاد الأوربي. كانت نتيجة الاستفتاء صدمة كبيرة لدول الاتحاد، بل صدمة للحكومة البريطانية نفسها؛ إذ لم يتوقع أحد أن تكون نتيجة التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوربي (البريكست). لكن مركل، كعادتها، استطاعت تحويل الأزمة إلى فرصة: فرصة للوصول إلى مزيد من التضامن الأوربي عبر إظهار الثمن المرتفع الذي ستدفعه لندن مقابل هذه الخطوة، أو على الأقل هذه هي إستراتيجية مركل.

المدافعة الأخيرة عن الغرب الليبرالي

ثم ارتفعت مكانة مركل عالميًّا بعد انتخاب دونالد ترمب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية الذي رفع شعار «أميركا أولًا». خشي كثيرون، في أميركا وخارجها، صحوة التيارات القومية المتشددة في العالم كله، التي لا ترى سوى مصالحها الذاتية. ظهرت مركل –بمواقفها الأوربية وتعاملها الإنساني مع أزمة اللاجئين- كأنها المضاد لشخصية ترمب، فوصفتها صحيفة «نيويورك تايمز» بـ«المدافعة الأخيرة عن الغرب الليبرالي». ولعل أكبر تحدٍّ واجهته مركل خلال سنوات حكمها الاثنتي عشرة هو مشكلة اللاجئين، وقرارها الخاص بفتح الحدود أمامهم في الرابع من أغسطس عام 2015م. يقول بعض الصحافيين: إن هذه الليلة تشبه ليلة سقوط جدار برلين في التاسع من نوفمبر 1989م، ويدّعون أن ليلة الرابع من أغسطس عام 2015م ستغيّر ألمانيا في العقود المقبلة بشكل عميق، مثلما فعل سقوط الجدار وما أعقبه من انهيار المعسكر الشرقي، ثم إعادة توحيد ألمانيا. آنذاك قالت مركل تلك الجملة التي اشتهرت فيما بعد في ألمانيا: «نستطيع ذلك»، أي نستطيع أن نتغلب على مشكلة اللاجئين التي عدَّتها المستشارة «مهمة وطنية ضخمة»، وبخاصة بعد أن استقبلت ألمانيا نحو مليون لاجئ في عام واحد.

لاقت سياسة مركل التأييد لدى قطاع كبير من الألمان، واكتسبت في تلك الأيام شعبية كبيرة داخل ألمانيا وخارجها، وأصبح لقبها لدى اللاجئين «ماما مركل»، وتناقلت وسائل الإعلام صور اللاجئين وهم يلتقطون صور «السِّيلفي» معها. ومع نهاية العام توقع كثيرون أن تنال المستشارة الألمانية جائزة نوبل للسلام لموقفها الإنساني النبيل. من ناحية أخرى، أصيب عدد كبير من الألمان بالصدمة والخوف عندما رأوا بلادهم تفقد السيطرة على حدودها؛ والدول في نهاية المطاف تُعرّف بحدودها، وهو ما أدى، مع تزايد عدد اللاجئين، إلى انقسام عميق في المجتمع الألماني ما زال مستمرًّا حتى اليوم.

مواجهة النازية الجديدة

في تلك المُدة زارت مركل مركزًا لإيواء اللاجئين في مدينة «هايندناو» في ولاية سكسونيا (شرق ألمانيا) التي أصبحت رمزًا للتعصب والاتجاهات النازية الجديدة في ألمانيا، فهُوجِمت بأقذع الشتائم («عاهرة»، «خائنة»)، ووُوجِهت للمرة الأولى بهذا الغضب المنفلت لدى بعض قطاعات الشعب الألماني، ولا سيما تيارات اليمين المتطرف، التي ربما لم تكن تعلم بحجمها. ثم توالت أحداث في ألمانيا رفعت صوت منتقدي مركل عاليًا، بدءًا من أحداث ليلة الاحتفال برأس السنة الميلادية، وهي الليلة التي شهدت فيها مدن ألمانية عدة، وخصوصًا مدينة كولونيا حالاتٍ جماعيةً من الاعتداءات الجنسية والسرقة، وكان معظم الجُناة من اللاجئين، أغلبهم من شمال إفريقيا. ثم جاءت سلسلة من الاعتداءات الإرهابية نفذها لاجئون في مدن متفرقة من ألمانيا، بل شهدت العاصمة برلين في 19 ديسمبر 2016م عملية إرهابية راح ضحيتها نحو ثمانين شخصًا بين قتيل وجريح. أُصيب ملايين من الألمان عندئذ بالصدمة والذهول، واندفعوا يتساءلون: هل ارتكبنا خطأً باستقبال كل هذا العدد في هذه المدة القصيرة؟ هل كانت حكومتنا مدرِكةً حجمَ القرار الذي اتَّخذته؟ هل ارتكبت مركل أخطاء في التعامل مع ملف اللاجئين؟ كانت الإجابة عن كل هذه الأسئلة من وجهة نظر اليمين المتطرف هي: لا بد من إزاحة مركل!

في تلك الأيام قويت شوكة حزب جديد هو «البديل من أجل ألمانيا» الذي تأسس عام 2013م كحزب قومي مُعادٍ للاتحاد الأوربي والعملة الأوربية، غير أنه سرعان ما وجد في أزمة اللاجئين موضوعه المفضل، وبسرعة أصبح حاضنةً لكل خصوم سياسة «الباب المفتوح» التي انتهجتها مركل، سواءٌ من المواطنين «القَلِقِين» على مستقبل بلادهم، أو من النازيين الجُدد. قد يكون تشبيه ليلة الرابع من أغسطس بسقوط جدار برلين مبالغة كبيرة، لكن الأكيد أن تلك الليلة أدَّت إلى حدوث انقسام حادّ في المجتمع الألماني، وهو ما سيؤثر بالطبع في نتيجة الانتخابات المقبلة.

وعلى الرغم من كل ذلك، ففي اعتقادي أن مركل ستنجح في تحقيق انتصار لحزبها، وستجلس أربع سنوات أخرى على كرسي المستشارية؛ فكثير من الألمان يتحدثون عن غياب بديل حقيقي جدير بإزاحة مركل. لن يعني فوز مركل تأييد الملايين لسياسة الباب المفتوح التي انتهجتها، بقدر ما يعني ثقتهم في المستشارة «البراغماتية»، «مديرة الأزمات» التي أدركت، واعترفت، بأنها ارتكبت أخطاء في تعاملها مع أزمة اللاجئين، ووعدت شعبها بأن ما حدث ليلة الرابع من سبتمبر لن يتكرر ثانية.