لستَ سوى غجريّ

لستَ سوى غجريّ

لم يكن في حياة ألكسندر رومانس (1951م) ما يعد بأنّه سيكون كاتبًا أو شاعرًا، فرجل السيرك، ولاعب الأكروبات، ومروّض الأسود في شبابه، ينتمي لشعبٍ مترحّلٍ لم تكن الكتابة يومًا جزءًا من تقاليده. ولكن كان لدى رومانس ما يقوله، وبتشجيعٍ من جان جينيه وجان غروجان، اللذين ربطته بهما صداقة قوية، بدأ، وهو في الخامسة والأربعين، يدوّن قصائده وحكاياته الغجرية، التي تولّى الكاتب كريستيان بوبان نشرها سنة 2004م في ثلاث مجموعاتٍ لدى دار غاليمار الباريسيّة العريقة. لاقت كتابات رومانس استحسانًا نقديًّا وجماهيريًّا كبيرين، بفضل بساطتها المدهشة، وصدق نبرتها، وإيجازها، وتقشّفها اللغوي، ورؤيتها المغايرة للثقافة الماديّة والنزعة الاستهلاكية السائدتين. واليوم يواصل رومانس، الذي أنشأ، بالقرب من باريس، أوّل سيرك غجريّ في أوربا، كتابة قصائده وتدوين حكايات أهله الغجر، من دون ادّعاء صفة «الشّاعر». إنّه يحيا حياته «شعريًّا» بصورة عفويّة، ويكتب ليقول ألمه، وغضبه، وحبّه، ويطرح أسئلته الوجودية، من دون أن يفارقه الشُّعور بالذَّنب:

«لستَ سوى غجريٍّ»!

هذا ما يعتقدونه،

ربّما ما كان عليّ أن أكتب أبدًا،

لقد خنتُ؛ كان عندي الكثير ممّا أوّد قوله،

والآن أطلب الصفح من أبي ومن أمّي

ومن عِرقي كلِّه.

فيما يأتي مختارات من قصائده ومن حكاياته الغجرية.

قصائد

قسمتُ العالم إلى نصفين:

من جهة هناك ما هو شعريّ،

وفي الجهة الأخرى ما ليس كذلك،

ما هو شعريّ موجود في نظري

وما ليس شعريًّا لا ألتفت إليه حتّى.

* * *

كنت في السابعة أو الثامنة من العمر،

كنت أسير في الريف، وإذ عبرت أحد الحقول

لمحتُ زهرة آس،

انحنيت لأقطفها، فاكتشفت مفتونًا أنّ الحقل كان مليئًا بتلك الأزهار،

جاثيًا على ركبتيّ، جمعت كلّ ما استطعت،

كان حضني مليئًا بالعشب والأوراق والآس،

وحين حلّ الليل، بدأت أولى النجمات بالظهور

ففكّرتُ: أيّ خسارة ألّا تكون النجوم متعدّدة الألوان!

* * *

كنت قد بدأت كتابة القصائد،

ذات يوم، كتبت منها خمسًا في نهار واحد،

كنت مسرورًا إلى حدّ أنّني وضعتها تحت وسادتي؛

قرب رأسي،

كما كان ليفعل طفلٌ في الخامسة بِدُميَتهِ الدبّ.

* * *

ذات يوم، سأزور قبر أبي

سيكون ذلك كما كان في الماضي،

حين كان حيًّا،

لن نتبادل أيّة كلمة.

* * *

اليوم وصلني استدعاءٌ من الشرطة

لِيُزَجّ بي في السّجن؛

لكنّي كتبت أيضًا قصيدتين،

هو نهارٌ طيّب إذن، رغم كلّ شيء.

* * *

كان الرجال يمرّون إلى جانبها دون أن يروها،

راكعة بتواضع في العشب الطريّ،

الوردات دَهِشات كانت تتبادل النظرات

دون أن تفهم الأمر.

* * *

الركض في الحقول،

الإحساس بالريح، لم يكونا كافيين،

مثل كلّ أصحاب الرؤوس الفارغة،

أنا أيضًا ظننت أنّه ينبغي صنع شيء ما.

* * *

حين دخلت المشفى

وابنتي بين ذراعي،

فكّرتُ: يا إلهي نَجِّها!

لا تجبرني على أن أصبح أعظم الشّعراء.

* * *

كثيرًا ما قلت: نعم

حين كان ينبغي أن أقول: لا،

وأن قلت: لا

حين كان ينبغي أن أقول: نعم.

لم أكن قد التقيتك بعدُ.

* * *

ضدّ صخب العالم

ضدّ كل هؤلاء النّاس الذين يتكلّمون،

وليس لديهم ما يقولون،

بعيدًا من العالم،

الحزن الصامت لِطفليْنِ مهجورين يتحابّان.

* * *

حين أكون وحيدًا في الريف

وتغدو خطوتي ثقيلةً،

أودّ لو أن طائرًا يأتي

ويحطّ على كتفي،

لكن لا شيء يجيء؛

فأبقى وحيدًا مع ألمي.

* * *

ما من مصالحة ممكنة  بيني وبين العالم،

فأنا أوثر الطائر اللامبالي فوق الصخرة،

الذي يرمي بنفسه في الفراغ.

* * *

لست أفهمُ شيئًا في هذا العالم،

بعض النّاس يشعرون أنّهم أقرب إلى الكلب منهم إلى السماء،

لو أنّهم يرفعون رؤوسهم فقط!

* * *

ربّما تتلمّس بناتي بأيديهن

شاهدة قبري،

فيما الوردة اليقظة تنظرُ

والغيمات والعصافير تعبر.

* * *

لا صِلة لي بهؤلاء النّاس

الذين يتراجعون حين ينبغي أن يتقدّموا،

غير أنّني انحنيت أمام الحياة

مثل الشجرة العزلاء

إذ هاجَمتها الريحُ.

* * *

لم تعد لك عيناك الجميلتان،

ولا يداك الرائعتان،

ما بقي منك بات تحت التراب،

بلا قلبك،

النجوم المكدّسة في السماء،

ونعومة الحجر، وسخاء الريح،

محظورة عليك،

مثلما حظرت على نفسي

التفكير فيك.

حكايات وشذرات

مثل كلّ العائلات الغجرية، لم نقدّم يومًا لابنتنا ألكسندرا أيّة دمية. جلبت لها سيّدة عجوز دمية رائعة. فتأمَّلَتها، ثمّ أمسكَتها من ساقها ورمتها في الطّين.

نظرتُ إلى ابنتي بإعجاب.

* * *

كانت إحدى قريباتي تقرأ الكفّ في باريس. ذهبتُ مع عمّي وطرقنا بابها.

ماذا أصابك يا ابنة العم؟ لم نعد نراكِ منذ سنين؟ ما أخباركِ؟

لقد تزوّجت يا عمّي.

وماذا يعمل زوجكِ؟

إنّه طبيب نفسيّ.

هذا جيّد، وأنت، أما زلتِ تقرئين الكفّ؟

لا، هذا أمر بات من الماضي. لقد درستُ واليوم أنا أيضًا طبيبة نفسية.

وما معنى طبيبة نفسية؟

شرحت ابنة العم الأمر، فقال عمِّي:

إن كنت قد فهمتُ جيّدًا، فقد درستِ مدّة عشر سنوات كي تقومي بما كنت تقومين به قبل الدراسة!

* * *

في القطار، اجتزنا منطقة لي فوج، من الرجل الجالس قبالتي يفوح عطرٌ مذهل. لم يسبق لي أن شمَمت مثله.

بادرتُه بالحديث وسألته عن مهنته.

«حطّاب»، قال.

كانت الأشجار إذن سرّ ذلك العطر.

* * *

ابنتي روز وهي تنظر من فوق كتفي:

انظر يا أبي، السّماء في كلّ مكان!

* * *

تسأل لينا العجوزَ التي تبيت في الشارع:

ليس لديك أبناء إذن؟

بلى، لديّ عشرة.

ومع ذلك أنت في الشارع؟

نعم، كان عليّ أن أنجب أحد عشر ابنًا.

* * *

قدّم فلّاحٌ حقله للغجر كي يُمضوا فيه فصل الشتاء. في بضعة أيّام امتلأ الحقل بالكرافانات، وارتفع عدد سكّان القرية من 300 إلى 600 نسمة.

ملأ السُّرور التجّار وأخذوا جميعًا يفركون أيديهم حماسةً: البقّال، والخبّاز، والقصّاب، باستثناء بائع الكتب.

* * *

أطلبُ من فلورينا أن ترسم بيتًا، فترسم بيتًا بساقيْنِ.

* * *

سورين: «أبي، من صبّ الملح في البحر؟»

* * *

ديليا: هذا الأحمق ألبرتو جعل دورينا ترى العجائب، فهجَرته، وها هو يأكله الندم. لقد كانت لديها كلّ الفضائل: النظافة والشجاعة والإخلاص، وأيّ لِصّةٍ بارعةٍ كانت!

* * *

ديليا: «غريب أمر التلفزيون، يحدّثنا طوال الوقت عن البابا ولا يحدّثنا أبدًا عن المسيح»!

* * *

أمام حظيرة حيوانات في سيرك صغير:

«أيّها السيدات والسادة، تفضّلوا بالدخول، سترون القرود بشحمها ولحمها وهي تتصارع ويمسك بعضها ذيول بعض، كأنّها بشر حقيقيّون».

* * *

الشّاعر جان جينيه كان يقول لي:

«أوتظنه أمرًا ظريفًا أن أكون أنا أنا؟».

* * *

كتبت ديليا على الكرافان بالخطّ العريض:

مدام ديليا تبصر كلّ شيء؛ تقرأ الكفّ حتّى الكوع. تخصّص: إرجاع الحبيب.

* * *

في مقابلة مع التلفزيون الفرنسي، بدأ الحفيّ بداية قويّة جدًّا:

«أنتم الغجر، كلّكم لصوص».

سألته: إن كان فرنسيًّا؟، فأجابني بنعم.

فقلت له: «أنتم الفرنسيُّون سرقتم نصف إفريقيا، والغريب أنّه لا يقال أبدًا: إنّكم لصوص».

كان ابن عمّي رولان يذهب إلى طبيب الأسنان ومعه حبْل:

«سيّدي، أنا لا أطيق الألم؛ فإمّا أن توثقني بهذا الحبل، أو أن تجازف بتعرُّضك للضرب».

* * *

استشاط ابن عمّي سامبيون غضبًا حين سمعني في المذياع أقول: إنّ عائلتنا غجرية.

فوعدتُه أن أقول من الآن فصاعدًا: إنّ عائلتنا كلّها غجرية باستثناء ابن عمّي سامبيون.

* * *

صادرت الشرطة الرومانيّة أوراقنا الثبوتيّة، فلم نعد قادرين على الخروج من البلد. توسّط صديق لنا لدى نائبٍ من أنصار الملكيّة.

قال النائب: «أنا حريصٌ على مصارحتكم، من باب النزاهة، بأنّني لا أحبّ الغجر كثيرًا».

فسألتُ: «لماذا»؟

أجابني: «سيطول شرح هذا الأمر، لكن سأقول اختصارًا: إنّ شعبكم لا يمتلك أيّة فضيلة».

ثمّ شرح لنا خلال ثلاثين دقيقة فظائع الشيوعيّة.

عند المغادرة، قلت له:

«هل تعتقد حقًّا أنّ الغجر لا يملكون أيّة فضيلة»؟

فردّ النائب: «أعتقد ذلك حقًّا».

قلتُ: «لو كان الرومانيّون غجرًا، كم كان سيدوم النظام الشيوعيّ؟»

فكّر لحظةً وقال: «ما كان ليدوم ثمانية أيام».

ثمّ عانقني قائلًا: «لقد لقّنتني درسًا جيدًا. إنّ لشعبكم فضيلةً عظيمةً».

* * *

كلُّنا نُعجب ببراءة الأطفال

ولكن حين يحتفظ بالغٌ، كما لو بمعجزة، ببراءته

يغدو موضع احتقار.

* * *

اختراعُ آلةٍ ما أمرٌ في متناول أيّ أحمق،

أمّا الحديث عن السماء، فهذا شأن آخر.

* * *

لا أفهم كلَّ شيء،

لكنّ ما أفهمه رائع.

* * *

كان متمردًا،

يريد تغيير كل شيء

عدا نفسه.

* * *

الغطرسة أو الحكمة

علامتان على أنّنا لا نعرف شيئًا.

ألكسندر‭ ‬رومانس‭   شاعر‭ ‬فرنسي    ترجمة‭ ‬وليد‭ ‬السويركي‭   شاعر‭ ‬ومترجم‭ ‬أردني

وليد السويركي: بوب‭ ‬ديلان‭ ‬يقاوم‭ ‬الزمن‭ ‬بشعرية‭ ‬جديدة‭ ‬

وليد السويركي: بوب‭ ‬ديلان‭ ‬يقاوم‭ ‬الزمن‭ ‬بشعرية‭ ‬جديدة‭ ‬

nobel-prizeما زال الجدل حول مفاجأة فوز المغنّي – الشاعر الأميركي بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب هذا العام متواصلًا في الشرق والغرب، ولم يزد امتناع الفائز عن الردّ على اتصّالات لجنة الجائزة وعن التعليق على خبر فوزه هذا الجدلَ إلّا إثارة واحتدامًا. وإذا كان السجال قد انصبّ بصورة رئيسية على ما إذا كان ديلان يستحق هذا التكريم أم لا، فإنّ فوزه بالجائزة أعاد إلى السطح كثيرًا من الخلافات والنقاشات حول الرجل ومسيرته الفنيّة.

لا يكاد أحد ممن اعترضوا على منح الجائزة لبوب ديلان ينكر أنّه واحدٌ من أعظم الشّعراء في تاريخ الموسيقا الشعبية الأميركية، وأنّ نصوصه لا تقل قيمة وإبداعًا عن نصوص عظام كتاب الأغنية مثل: جون لينون، وجيم موريسون، ونيل يونغ وغيرهم، لكنّهم يشدّدون على هوية ديلان كموسيقيّ ومغنّ مُذكرين بصعوبة الفصل في أغانيه بين الكلمات واللحن والأداء الصوتي مما يجعل انتماء نصوصه إلى الأدب محلّ شكّ. ومع الاعتراف بـ«شعرية» نصوص ديلان فإن كثيرين لم يتقبّلوا أن يدرج اسمه شاعرًا في مصافّ شعراء كبار سبقوه إلى الفوز بالجائزة مثل نيرودا وسان جون بيرس. ورأى بعض المعلّقين أنّ أسطورة موسيقا الروك الذي حظي بكل أشكال التكريم، ونال ما لم ينله غيره من أرفع الجوائز في حقل الموسيقا، لا يحتاج إلى جائزة نوبل قدر ما يحتاجها الأدب، وأن منحه الجائزة قد حرم كتابًا كبارًا مثل: فيليب روث، هاروكي موراكامي، جويس كارول أوتس أو إسماعيل كاداري من التكريم المستحقّ، وذهب آخرون إلى أنّه حتى في فئة كتاب الأغنية، ثمّة من هو جدير بالجائزة أكثر منه، مثل: ليونارد كوهين، وجوني كاش، أو باتي سميث.

أمّا المدافعون عن فوز ديلان، فقد رأوا في فوزه مواكبةً للتحولات الثقافية المعاصرة وزحزحة لحدود المؤسّسة الأدبية لتشمل أشكالًا تعبيرية فنّية وجمالية تتجاوز الأجناس والأطر المستقرة تقليديًّا وأكاديميًّا، وتوجّهًا محمودًا نحو إلغاء الحدود بين النخبويّ والشعبيّ، وإعادة تعريف الأدب والأديب، مذكرين بأن الشعر في أصوله البعيدة، وعبر تقليد ممتدّ في التاريخ قد ارتبط بالغناء والموسيقا. كما حاجج آخرون بأن نصوص ديلان باتت تدرّس في العقود الأخيرة في الجامعات الأميركية والبريطانية والكندية، وتعدّ عنها الأطروحات الأكاديمية والبحوث المتخصّصة، مما أدخلها في المتن الأدبي وفي حقل الدراسات الثقافية بوصفها تعبيرًا فنيًّا وجماليًّا عن الثقافة الشعبية في أميركا.

الاحتجاج وتبني مقولات الدعاية الصهيونية

لكن السجال تعدّى مسألة جدارة ديلان بالجائزة إلى التذكير بالاضطراب والتناقض اللذين طبعا مسيرته ومواقفه السياسية والفكرية على وجه الخصوص، فالرجل الذي كان أيقونة غناء الفولك الملتزم مطلع ستينيات القرن العشرين، حيث ساند حركة الحقوق المدنية، ودافع عن حقوق السود في أميركا، وغنى ضدّ الحرب والظلم والعنصرية، انتقل إلى موسيقا الروك واستخدام الغيتار الكهربائي منذ عام 1965م، مبتعدًا في نصوصه من أغنية الاحتجاج الاجتماعية، فخاصمه كثيرون ووصفوه بالخائن، بعد أن اختار تناول ثيمات شخصيّة حميميّة بمسحة سوريالية. وفي آواخر السبعينيات تحوّل من اليهودية إلى المسيحية، وأصدر ثلاثة ألبومات لم تخلُ من نبرة تبشيرية.

وقد استعاد الصحافي مايكل. ف. براون جانبًا آخر في ماضي ديلان مذكّرًا بأنّه اختار مساندة إسرائيل، وتبنى مقولات الدعاية الصهيونية حين كتب بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982م أغنيته «بلطجيّ الحارة»، التي دافع فيها عن الجرائم الإسرائيلية:

«نعم، بلطجيّ الحارة مجرّد رجل،

يقول أعداؤه إنّه يحتلّ أرضهم،

وهم يفوقونه عددًا: مليون مقابل واحد.

فلا يمكنه الهروب أو الركض إلى أي مكان،

إنّه بلطجيّ الحارة.

كلّ إمبراطورية استعبدته زالت،

مصر وروما، حتى بابل العظيمة.

وها هو قد صنع من رمال الصحراء جنّةً…». وأعاد براون جذور هذه المواقف إلى مطلع السبعينيات، حين اقترب ديلان كثيرًا من رابطة الدفاع اليهودية المتطرّفة وامتدح زعيمها مائير كاهان، وبيّن استمراره في رفضه في عام 2014م الاستجابة لنداءات حركة مقاطعة إسرائيل وإصراره على الغناء في تل أبيب.

وبعيدًا من هذا السجال حول مواقف ديلان السياسية، فإن ثمة إجماعًا على موهبته الفذة، كاتبًا وملحنًا، وعلى كونه الموسيقي الوحيد الذي مارس، في حياته، تأثيرًا كبيرًا في أجيال متعاقبة من المؤلفين – المغنين: من البيتلز، ورولينغ ستونز، وباتي سميث، إلى ديفيد بووي، وبروس سبرنغستين، أو ليني كرافيتز . فالرجل الذي أعلن عن «موته» موسيقيًّا أكثر من مرة، كان يعود دائمًا باقتراحات فنيّة وتعبيرات شعرية جديدة سواء غنى الفولك أو الروك أو البلوز، متحدّيًا بذلك مرور الزمن، وما زال بعد نصف قرن على انطلاقته، يجوب الطرقات والمدن ليقدم عروضه منذ أن دشّن في نهاية الثمانينيات ما أطلق عليه «جولة بلا نهاية»، إذ يقدم منذ ذلك الحين ما يقارب مئة حفل في كلّ سنة، كما بلغ عدد الألبومات التي أصدرها حتى الآن 37 ألبومًا. وها هو أكثر من قُلّد أو جرى استلهامه في تاريخ موسيقا الروك الأميركية.

نصوص مختارة

لم يحل الظلام بعد

pop-6الظلال تهبط، مكثت هنا النهار كلّه

الجوّ شديد الحرارة فلا أستطيع النوم

والوقت يمرّ، كأن روحي غدت من الفولاذ

لم تزل لديّ الندوب التي لم تلأمها الشمس

وما من مكان كافٍ لأستريح

حسي الإنساني انتهى في المجاري

فخلف كلّ جمالٍ ثمّة ألم

لقد كتبَت لي رسالة، وكانت لطيفة،

قالت فيها كل ما جال في خاطرها

ولست أدري لِمَ علي أن أكترث لها.

لم يحل الظلام بعد، لكن ها هو يهبط

كنت في لندن، وكنت في باريس البهيجة

تتبَعتُ النّهر وبلغتُ البحر

لست أبحث عن أي شيء في عيني أيّ أحد

وعبئي أثقل أحيانًا من أن يحمل

لم يحل الظلام بعد، لكن ها هو يهبط

هنا ولدت، وهنا سأموت رغم أنفي

قد يبدو أنني أتحرك غير أنّي ما زلت واقفًا

كلُّ عصبٍ في جسدي خاوٍ وخدر

حتّى إنني لم أعد أتذكّر مما هربتُ إلى هنا

ولا أسمع ولو همسَ صلاة

لم يحل الظلام بعد، لكن ها هو يهبط

في مهبّ الريح

كم من طريق على الإنسان أن يقطع

قبل أن تسمونه إنسانًا؟

كم من بحرٍ على اليمامة البيضاء أن تعبر

قبل أن تغفو على الرمل؟

كم مرة ينبغي أن تدوّيَ المدافع

قبل أن تحظر للأبد؟

الجواب يا صديقي في مهبّ الريح!

الجواب يا صديقي في مهبّ الريح!

كم من السنين ينبغي أن تدوم الجبال

قبل أن يبتلعها البحر؟

كم من السنين ينبغي أن يعيش بعض الناس

قبل أن يغدوا أحرارًا؟

وكم من المرّات بوسع الإنسان أن يدير

مدّعيًا أنه لا يرى شيئًا؟

الجواب، يا صديقي، في مهبّ الريح

الجواب في مهبّ الريح

كم مرة ينبغي للمرء أن يحدّق في الأعلى

قبل أن يبصر السماء؟

كم أذنًا ينبغي أن تكون للمرء

قبل أن يتمكّن من سماع بكاء الآخرين؟

وكم من الميتات ينبغي أن تحدث

قبل أن ندرك

أن كثيرًا من الناس قد ماتوا؟

الجواب، يا صديقي، في مهبّ الريح

الجواب في مهب الريح

حين خرجت في الصباح

tumblrحين خرجت صباحًا لأتنفّس الهواء الطلق

بالقرب من توم بين(٭)

لمحت أجمل فتاة قد مشت في السلاسل يومًا

مددتُ لها يدي

فتأبطت ذراعي

في تلك اللحظة بالضبط أدركت أنها تضمر لي شرًّا

«ابتعدي عني من فورك»، صحتُ بها.

«ولكنّي لا أريد»، قالت.

فقلت: «إنك لا تملكين خيارًا».

«أرجوك يا سيدي»، توسَّلَت إليّ هامسةً

«سأقْبَلك في السرّ، وسنهرب معًا إلى الجنوب»

عندها جاء توم بين بشخصِه

راكضًا عبر الحقل

مناديًا على الفتاة الجميلة

ثم أمرها بأن تستسلم،

وفيما كانت ترخي عناقها

ركض توم نحوي

«أنا آسف أيّها السيد»، قال لي،

«آسفٌ على ما فعلته».

مثل حجرٍ يتدحرج

في غابر الأيام، ارتديت أبهى الثياب

ورميت من عليائك قرشًا للمتسولين

كنت في أوجك، أليس كذلك؟

كان الناس ينادونك: «حاذري أيتها الدمية الطائشة.. ستسقطين»

فظننتهم يمزحون.

كان المتسكعون في الجوار يثيرون سخريتك

لكنّ صوتك لا يعلو الآن حين تتحدثين

ولا تبدين فخورة إذ تضطرين لتسوّل وجبتك القادمة

كيف تشعرين

إذ أنت بلا مأوى

مثل شخص مجهول تمامًا

مثل حجر يتدحرج؟

joan_baez_bob_dylanحسنًا، الآنسة «وحيدة»، لقد ارتدتِ أفضل المدارس,

لكنّك تعرفين أنك لم تفعلي شيئًا هناك سوى السُّكْر

ولم يعلّمك أحدٌ كيف تعيشين على قارعة الطريق

لكنك الآن مرغمة على اعتياد الأمر

كنت تقولين: لن أساوم المتشرّد الغامض

لكنك الآن تدركين أنه لا يختلق الأعذار

حين تحدّقين في فراغ عينيه

طالبةً أن يعقد صفقةً معك

كيف تشعرين

إذ أنت بلا مأوى

مثل شخص مجهول تمامًا

مثل حجر يتدحرج؟

لم تلتفتي لتري تقطيبة الحزن

خلف أوجه المهرّجين ولاعبي الخفّة

حين جاؤوا جميعًا يؤدون ألعابهم أمامك

لم تدركي أن الأمر سيِّئ

ما كان عليك أن تسمحي للآخرين

أن يتلقوا الرفسات بدلًا منك

كنت تركبين حصانًا فولاذيًّا

صحبة دبلوماسيّ يحمل على كتفه

قطة سيامية

أكان مؤلمًا اكتشافك

بأنّه لم يكن حيث يجدر به

بعد أن سلب منك كلّ ما وصلت إليه يده.

كيف تشعرين

إذ أنت بلا مأوى

مثل شخص مجهول تمامًا

مثل حجر يتدحرج؟

أيتها الأميرة في البرج، وكلّ هؤلاء الظرفاء

يشربون، واثقين من مستقبلهم

يتبادلون أثمن الهدايا

فأجدر بك يا فتاتي

أن تنزعي خاتمك الماسي، وأن ترهنيه.

لقد اعتدت أن تتسلّي بنابليون في الأسمال، بلغته في الحديث،

امضي إليه الآن، ها هو يناديك، ولا يمكنك الرفض

فحين لا تملكين شيئًا.. ليس ثمة ما تخسرين

أنت الآن لا مرئية تمامًا، وليس عندك ما تخفينه

كيف تشعرين

إذ أنت بلا مأوى

مثل شخص مجهول تمامًا

مثل حجر يتدحرج؟

————————-

هامش‭:‬

٭توماس‭ ‬بين‭:‬‭ ‬مفكّر‮ ‬‭ ‬ثوري‭ ‬وراديكالي‭ ‬إنجليزي‭.‬‮ ‬هاجر‭ ‬إلى‮ ‬أميركا‮ ‬عام‭ ‬1774م‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬السابعة‭ ‬والثلاثين،‭ ‬حيث‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬و‮ ‬شارك‭ ‬في‮ ‬الثورة‭ ‬الأميركية‭. ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬آباء‭ ‬أميركا‭ ‬المؤسّسين‭. ‬تحوّل‭ ‬منزله‭ ‬في‭ ‬نيو‭ ‬روشيل‭ ‬إلى‭ ‬متحف‭.‬