رحيل والدي

رحيل والدي

 

جو جوه بينغ

إذا فقد المرء والديه يصير يتيمًا، بغض النظر عن سنه. ينهار معهما الباب الذي دخل منه إلى هذه الدنيا، وحاجز خروجه منها. عندما يكون الأبوان على قيد الحياة، يكون درب حياة المرء الذي يمضي فيه قدمًا واضحًا أمامه، ويصبح طريق خاتمته مشوشًا. وعندما يرحلان، يصير طريق حياته غامضًا مبهمًا مع مرور الوقت، ويُفتح طريقه المفضي إلى الموت. تولد لدي هذا الإحساس فجأة، بعد وفاة والدي. أقول فجأة؛ لأنه عندما كان والدي على قيد الحياة، لم أدرك بتاتًا كم أن وجوده كان مهمًّا لي.

كانت علاقتي بأبي بعيدة، منذ بداية صباي. في ذلك الوقت كان بيتنا مزدحمًا بالأولاد والبنات، والمسؤولية التي كان يحملها والدي على عاتقيه ثقيلة؛ لذلك كان سيئ المزاج، ودائمًا ما يفقد أعصابه. وكلما كنت أتعرض لذلك الأمر، كنت أحمل كتابًا أمامه، دون أن التفت برأسي وأخرج من باب البيت، وأبقى وقتًا طويلًا في الخارج للقراءة، وذلك للتعبير عن اعتراضي واحتجاجي على تصرفاته.

بعد ذلك التحقت بجامعة بكين للدراسة، وكان أول جواب لعائلتي ممتلئًا بكلمات كثيرة، انتقدت فيه أسلوب التربية التي اتبعها أبي من جميع النواحي. سمعت بعد ذلك أن كل ما فعله والدي بعدما قرأه ابتسم، وقال لإخوتي: «أصبح أخوكم الكبير واضع نظريات».
تقدم العمر رويدًا، وكذلك كبر إخوتي جميعهم، وهدأ مزاج والدي مع مرور الزمن. ومع ذلك، كل مرة كنت أعود فيها إلى شنغهاي أكون منشغلًا دائمًا مع أصدقائي، وقلما أكون في البيت. كأن لا يوجد ثمة حديث يمكنني أن أتجاذبه مع والدي في المنزل، كان هناك شعور بوجود فجوة وجفاء. ذات عام أتى أبي إلى بكين، وفي يوم طقسه صافٍ، اقترح عليَّ من دون مقدمات أن نذهب معًا إلى التنزه في الجبل العطري(*). كنت متوجسًا بعض الشيء، من أن نسير معًا في الطريق صامتين، ويخجل كل منا من الآخر، فأخذت ابن أختي الصغير معنا متعمدًا ذلك.

في الحقيقة إنني ولد عاق؛ لم أراسل عائلتي سوى مرة واحدة، خلال عشر السنوات الأخيرة. بعدما حملت زوجتي، كنت أعرف أن والديّ لطالما يتطلعان إلى أن يكون عندي طفل، فسرعان ما عددتُ هذا خبرًا سارًّا لهما، وقمت بزفِّهِ إليهما. وفي رسالتي، أخبرتهما أنني أنا وزوجتي نتمنى أن ننجب فتاة. رد والدي في الحال على رسالتي، وقال بغض النظر عن كون المولود ولدًا أو فتاة فهو سيحبه كثيرًا. كان جوابه بالفعل يفيض بمشاعر الفرح، إنه قد فرح كثيرًا لتلقي رسالتي التي لم يكن سهلًا أن يتلقاها مني. من يستطيع أن يتخيل، أنه بعد بمرور بضعة أيام معدودات، علمت بخبر رحيل والدي.
مات والدي بشكل مفاجئ جدًّا. كانت صحته مؤخرًا جيدة جدًّا، والجميع يجزم أنه يمكنه أن يعيش عمرًا مديدًا. في الصباح الباكر ليوم وفاته، حمل سلة الخضراوات، وذهب إلى السوق لشراء اللبن والخضار. ثم ذهب إلى وحدة العمل لقضاء أمر ما. وبعد ذلك شعر بضيق يجثم على صدره في منتصف الليل، طلب من أكبر إخوتي الصغار أن يصطحبه إلى المشفى للفحص. وبإجراء الفحوصات اتضح أنها جلطة قلبية، وكان يجب إنقاذه من فورِهِ، وفي الوقت نفسه أُخبِر بأن حالته حرجة. وقت الظهيرة، قال لأخي الذي كان يجلس إلى جوار فراش مرضه: لا تخف، أنا على ما يرام. كان يصدق حقًّا أنه لن يموت. ولكن، بعد ساعة، توقفت أنفاسه.

جميلة فاتنة. في النهاية لم ير والدي طفلتي التي جاءت إلى الدنيا. وكما تمنيت تمامًا، أنجبت فتاة، ولكن من كان يتوقع، أنها كانت مصابة بمرض عضال، وعاشت حتى بلغت عامًا ونصف العام فقط ثم رحلت. طالما كنت أشعر بالحزن على والدي، كلما تذكرت ذلك الجواب الذي يحمل أخبارًا جميلة، ورد والدي المفعم بالسرور. من حسن الحظ لن يعرف والدي بهذه المأساة إلى الأبد، وهو ما يعد رحمة له. أما أنا فقد صرت أبًا، وجربت مشاعر الأبوة، وأنبني ضميري حينما أدركت أنه في الحقيقة كان والدي دائمًا كان يسعى إلى التقرب مني، ولكن محاولاته قوبلت مني بتجنب صارم.

خلال سنتين قصيرتين، كبلتني التعاسة، فقدتُ والدي وابنتي تباعًا. على الرغم من أنني أحيًانا كنت أفكر بعمق في مسألة الموت، عندما كان والدي على قيد الحياة، لكن دائمًا ما كان يبدو لي أنه يحول بيني وبين الموت حاجز. على الأقل يشعر قلب الإنسان الذي يعيش والداه بصحة جيدة، بأنه بعيد من الموت. فيما بعد أصبحت أبًا، وعجزت عن تشييد مثل هذا الحاجز لطفلتي. إن موت والدي جعلني أشعر بأن الحجرة التي أقطن فيها قد تهدم نصفها، أما رحيل ابنتي فجعلني أشعر أنني لا أتعدى كوني غرفة فارغة ذات أربع جدران. ما أزعمه مؤخرًا أنه لا داعي لأن يمر المرء بالشظف والمعاناة كي يدرك مآسي الحياة، فما أعرفه الآن، أن تجربة المعذبين في النهاية لها وزن وثمن مختلف تمامًا.

هوامش:

– الجبل العطري: حديقة كبيرة ممتلئة بالتلال الخلابة تقع شمال غرب بكين.

– جو جوه بينغ: كاتب وشاعر ومترجم وفيلسوف صيني معاصر، باحث بمعهد الفلسفة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية. ولد عام 1945م بمدينة شنغهاي، وتخرج من جامعة بكين في قسم الفلسفة عام 1967م، وترجم أعمال نيتشه إلى الصينية.

شي جين بينغ.. لا يوجد طريق  أطول من الأقدام الزعيم الصيني الأقوى منذ ماو تسي تونغ،  قارئ ومثقف تربطه صداقات بكبار الأدباء

شي جين بينغ.. لا يوجد طريق أطول من الأقدام الزعيم الصيني الأقوى منذ ماو تسي تونغ، قارئ ومثقف تربطه صداقات بكبار الأدباء

عام 1969م، في منتصف الليل، في أحد كهوف قرية ليانغ جيا خه، تحت زجاجة الحبر المستخدمة كقنديل زيتي، كان هناك شاب مثقف يقرأ كتابًا. كان شابًّا مختلفًا؛ فبينما كان يحضر الشباب الآخرون ملابس أو طعامًا معهم، كان ذلك الشاب يحضر معه حقيبة ممتلئة بالكتب. في جنح الليل أو راحة الظهيرة، كان هذا الشاب يقبع في الكهف للقراءة والاطلاع، وبمجرد أن يمسك كتابًا بين يديه، كان ينسى الوقت، كأنه خرج عن نطاق الزمن. هذا الشاب المثقف لم يكن سوى شي جين بينغ، الزعيم الصيني الأقوى اليوم منذ عهد ماو تسي تونغ. فعلى الرغم من أن البيئة التي وجد فيها في ذلك الوقت، لم تكن مهيَّأة قط للقراءة، لكنه لم يتخلَّ يومًا عن شغفه بالثقافة والمعرفة، وقد أسهمت هذه الكتب فيما بعد في بناء شخصيته ونسيجه الفكري.

مستحيل أن تظل الغيوم عالقة في سماء المرء إلى الأبد، ففي يوم ما، سيتسلل خيط من نور ليقشعها، وخطى شي جين بينغ منذ شبابه حتى وصوله إلى مراكز قيادية مهمة، خير دليل على ذلك، كما أن مراحل كثيرة مرّ بها شي ستكشف لنا أن النتيجة التي وصل إليها يتوراى خلفها درب طويل صعب وشاقّ، سار فيه وراء إيمانه بأهدافه وطموحاته. حكيم، قائد جسور، ودود، ذو شخصية رائعة، لطيف ويعطي شعورًا بالأبوة… هكذا وصف الصينيون شي جين بينغ.

في أكتوبر الماضي عُقد المؤتمر الوطني 19 للحزب الشيوعي الصيني، الذي يُعقد كل 5 سنوات. (الحزب الشيوعي الصيني أسس عام 1921م بشنغهاي، وهو أكبر حزب سياسي في العالم؛ لأنه يضم 89 مليون عضو) وانتبه العالم لحدث إعادة انتخاب الرئيس الصيني شي جين بينغ أمينًا عامًّا للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني لمدة ثانية، ولتعديل دستور الحزب الشيوعي لإدراج أفكاره المتعلقة بالاشتراكية ذات الخصائص الصينية إلى جانب ما يحتويه الدستور على الماركسية اللينينية، وأفكار ماو تسي تونغ، ونظرية دنغ شياو بينغ قائد الإصلاح والانفتاح، وهو الأمر الذي يعدّ حدثًا فريدًا من نوعه في الصين المعاصرة، ويدل على أن الصين تنظر إلى شي جين بينغ على أنه قائد لصين جديدة أقوى، وأن «شي يعد الزعيم الأقوى منذ عهد ماو»، كما ورد في صحيفة الغارديان.

ولد شي جين بينغ في عام 1953م، في مقاطعة شان شي، والده هو شي جونغ شون، أحد قادة الحزب الشيوعي البارزين، عام 1962م جرى إيقافه عن العمل؛ بسبب ادعاء تورطه فيما عُرف بأزمة رواية «ليو جه دان» المعادية للحزب. وفي أثناء الثورة الثقافية، سُجن والده وتضررت عائلته بشكل كبير. التحق شي جين بينغ بالحزب الشيوعي عام 1974م، وتولى فيما بعد كثيرًا من المناصب المهمة التابعة للحزب؛ ففي عام 1985م انتقل إلى مقاطعة فوجيان، وأمضى فيها 17 عامًا، وارتقى من منصب نائب رئيس عمدة مدينة شيامن إلى منصب حاكم المقاطعة. وهناك أحب شي جين بينغ وتزوَّج وأنجب ابنته، يقول شي: «أجمل سنوات الشباب في حياتي قضيتها في فو جيان». قام شي جين بينغ بإصلاحات كبيرة في القرى الفقيرة هناك، مثل: إدخال الكهرباء وتوصيل الماء وتمهيد الطرق، ومن أشهر هذه القرى كانت قرية «شيا دانغ».

جبال من ذهب وفضة

يقال: إن ما فعله شي جين بينغ في مقاطعة فو جيان كان نموذجًا مصغرًا لفلسفته في الحكم. بين عامي 1998 -2002م تخصص شي جين بينغ في دراسة النظرية الماركسية والتعليم السياسي والأيديولوجي بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة تشينغ خوا، ثم حصل على الدكتوراه في القانون. ترك بينغ مقاطعة فو جيان عام 2002م ليصبح رئيسًا لمقاطعة جه تجيانغ في العام نفسه، علمًا أنها مقاطعة غنية بمواردها الطبيعية، لكن كانت هناك مشكلة كبيرة، وهي التلوث الذي كان يطبق على سمائها، فقال شي: «إن الجبال الخضراء والمياه الزمردية، هي أيضًا جبال من ذهب وفضة»، وهناك طبَّق سياسات للحفاظ على البيئة ومواردها. وفي عام 2007م أصبح أمينًا للجنة الحزب ببلدية شنغهاي، وفي عام 2008م أصبح عضوًا في اللجنة الدائمة في المكتب السياسي، وعضو أمانة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ومنها إلى نائب رئيس الجمهورية، حتى صعوده إلى رئاسة الجمهورية عام 2012م.

ابن التربة الصفراء

يقول في مقال بعنوان: «أنا ابن التربة الصفراء» (يشير شي جين بينغ بالتربة الصفراء إلى الهضبة الصفراء وهي من أكبر أربع هضاب في الصين، مساحتها تمتد 640 ألف كيلومتر مربع): «أتيت إلى التربة الصفراء وعمري 15 عامًا، وحينذاك كنت حائرًا ومشوشًا، وعندما غادرتها كنت أبلغ 22 عامًا، ولكنني كنت ممتلئًا بالثقة في الذات، وقد بات عندي هدف ثابت في الحياة. أنا خادم للشعب، جذوري ممتدة في هضبة شان بيي؛ لأنه هنا قد نما إيماني الراسخ». السنوات التي قضاها شي في الريف كانت قاسية (ذهب إلى الريف للعمل بالزراعة، في سياق ما عرف بـ«إعادة التثقيف») لكنها علمته كثيرًا، وأسهمت في تشكيل شخصيته ورسم دربه المستقبلي، فيقول شي: إنه لم يكن يشعر بأن السنوات السبع كانت بمنزلة المنفى له، لكنها كانت على عكس ذلك تمامًا؛ لأنها أسهمت في بناء أفكاره وتحديد مساره في الحياة. قضى مع الفلاحين سنوات طويلة، عاش حياتهم وعمل معهم، توطدت علاقته بهم لدرجة أنه حين حان موعد مغادرته القرية، لالتحاقه بجامعة تشينغ خوا سنة 1975م، لم يصعد أي من أهل القرية إلى الجبل لمباشرة العمل، إنما خرجوا في مسيرة وداع له إلى مدخل القرية، بل إلى مسافات أبعد من ذلك بكثير، كانوا مُصرِّين على السير معه أطول مسافة ممكنة.

من أكبر الشعارات التي نادى بها شي كانت «الحلم الصيني»؛ وهو تحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية، ويتجسد ذلك في قوة الصين وازدهارها، وتطور الأمة وارتقائها، وتحقيق الرخاء والسعادة للشعب، ورفع المستوى المعيشي للمواطن الصيني. يقول شي جين بينغ عن الحلم الصيني: «لكل إنسان طموح ومسعى، لكل إنسان حلم خاص به. الآن، يتناقش الجميع حول الحلم الصيني، أعتقد أن تحقيق النهضة العظيمة هو أعظم أحلام الأمة الصينية في العصر الحديث. وهذا الحلم، هو خلاصة أمنيات أجيال من الصينيين». مع مطلع عام 2013م قاد شي جين بينغ حملة تطهير حاسمة تحت اسم «سحق النمور والذباب»، وهي حركة لتطهير الفساد ومحاربته من أصغر مسؤول إلى أكبر مسؤول، طالت الحركة مسؤولين كبارًا جدًّا في الحزب الشيوعي، وهو ما عدَّه الصينيون قوة وجراءة غير مسبوقتين. يسعى شي وحكومته لتقليل نسبة الفقر في الصين ولرفع مستوى معيشة الشعب الصيني، فقد تعهد شي بأن يسعى كل أعضاء اللجنة الحزبية والحكومة الصينية جاهدين ل  لقضاء على الفقر بحلول عام 2020م، وذلك عن طريق خطة الحكومة الصينية الخمسية الثالثة عشرة لتنمية الاقتصاد والمجتمع، فوفقًا لما وَرد في صحيفة الصين اليومية؛ أنه ما زال هناك أكثر من 40 مليون صيني يعانون الفقر.

الأدب والوطن

«إن الثقافة هي روح الوطن والأمة. يوضح لنا التاريخ والواقع، أن الأمة التي ترتد عن تاريخها وثقافتها، لا تعجز عن النمو فحسب، بل يصبح من الوارد جدًّا أن تمثل مشهدًا من التراجيديا التاريخية»، ويرى شي جين بينغ أن النهضة تنبع من هوية الشعوب، وأن التاريخ والثقافة هما من سبل إحياء أمجادها من جديد. شي شغوف بالأدب والفنون، فمقتطفات كثيرة من خطاباته، تصير أقوالًا مأثورة متداولة على شبكات الإنترنت الصينية، كما أنها تكاد لا تخلو من البلاغة وأبيات الشعر؛ «لا يوجد طريق أطول من الأقدام، ولا جبل أعلى من الإنسان»، هكذا استشهد شي ببيت للشاعر الصيني المعاصر الكبير وانغ جوه جن، في أثناء إلقاء كلمته، في منتدى التعاون الاقتصادي للدول الآسيوية، والمحيط الهادي APEC عام 2013م. ويشدد على أن «مصير الأدب مرتبط بمصير الوطن، وشرايين الأدب متصلة بشرايين الوطن». وقد نشأت بين شين جين بينغ ومجموعة من الأدباء صداقات عميقة، منذ شبابه حتى يومنا هذا، فقد سكن المكان نفسه في شبابه مع الكاتب الكبير لو ياو، وجمعته صداقة مع الكاتب الكبير جيا دا شان، وهو أول من التقاه شي حينما عمل في إقليم جنغ دينغ بمقاطعة خه بيي عام 1982م، تأثر شي جين بينغ كثيرًا بكتاباته، وبعد رحيل الكاتب الكبير جيا دا شان بعام، كتب شي مقالًا تحت عنوان: «في ذكرى دا شان». يقول الكاتب الكبير ليانغ شياو شنغ لشي جين بينغ: «أعتقد أنك شخص له موطنان، فالكتب هي موطنك الثاني».

تشاو جي بينغ: يجب أن يكون لموسيقانا صوتها الوطني

العناصر العربية في الشعر الصيني التقليدي

الأدب الروائي الصيني.. رؤية من الداخل

عصفور الزيبرا

عصفور الزيبرا

رائع حقًّا! أهداني صديق زوجين من طيور الزيبرا. وضعهما بداخل قفص بسيط من أعواد البامبو المضفرة، بداخل القفص كانت توجد أيضًا لفافة من العشب الجاف، التي كانت بمنزلة عش دافئ ومريح لهما.
يقال: إن هذا نوع من الطيور يهاب البشر.

عَلقت القفص أمام النافذة، حيث كانت هناك أصيصة لنبات الغيلان الفرنسي مزدهرة بشكل غير عادي. قمت بتغطية القفص بأوراق نبات الغيلان الخضراء والطويلة الممتدة، فشعر العصفوران بأمان كأنهما توارا وسط غابة نائية هادئة، وباتا يطلقان من هناك تغريدات رقيقة رنانة أشبه بصوت المزمار، كما بدا عليهما أنهما في منتهى الارتياح وهدوء البال. كانت خيوط الشمس تتخلل النافذة، منسابة إلى الداخل؛ مما جعل أوراق الغيلان الصغيرة الكثيفة التي تشبه الأظافر منقسمة إلى جزأين: أحدهما مظلل والآخر مضيء، فغدت كحجر اليشم، مرقشة وخضارها يضفي حيوية ونضرة.

كان ظل العصفورين يظهر ويختفي كوميض داخل القفص. أما القفص، فأحيانًا كان يصعب رؤيته، لكن كان يمكن رؤية منقار العصفورين اللطيفين الصغيرين الزاهيين في حمرتهما ممدودين من بين الأوراق الخضراء. قلما كنت أزيح أوراق النبات المنبسطة لألقي نظرة عليهما -وهما أيضًا- أصبحا تدريجيًّا يجرؤان على أن يطلا برأسيهما الصغيرين وينظرا إليَّ، وبهذا الشكل أَلفَ كل منا الآخر إلى حد ما.

بعد مضي ثلاثة أشهر، انبعث من بين النبات الكثيف المتمادي في النمو والازدهار صوت تغريدة حادة، لكنها ناعمة ورقيقة. خمنت أنه قد صار لديهما مولود صغير. فماذا فعلت أنا حينذاك؟ بالتأكيد لم أزح الأوراق لألقي نظرة إلى الداخل، وظللت أفعل الشيء نفسه، حتى عندما كنت أضع لهما الطعام وأزودهما بالماء، لم أزعجهما بنظرات يملؤها الفضول. لم يمضِ وقت طويل، حتى ظهر بغتة رأس صغير من بين النبات. آه هذا عصفور أصغر، إنه المولود الصغير!
كان صغيرًا، وبوسعه أن يتسلل ويخرج من بين قضبان القفص بكل سهولة ويسر. انظر، كم يشبه أمه، له منقار وساقان حمراوان، وريش رمادي الزرقة، فقط لم تكن النقطة البيضاء المستديرة قد نمت بعد على ظهره، كباقي عصافير الزيبرا؛ كان بدينًا جدًّا، وجسده أشبه بكرة شعثاء. في البداية، كان يتحرك العصفور الصغير في إطار القفص فحسب، ولكنه بعد ذلك أصبح يضرب بجناحيه محلقًا في الغرفة رائحًا غاديًا، تارة يهبط أعلى الخزانة، وتارة يقف فوق المكتبة متألقًا متباهيًا بنفسه، وتارة ينقر أكعبة الكتب المنقوش عليها أسماء فطاحل الأدب، وأخرى يرتطم بسلك المصباح فيجعله يتأرجح ذهابًا وإيابًا، وفي الحال يقفز لينتقل إلى الوقوف على برواز اللوحة، لكنه سرعان ما كان يعود طائرًا في الحال إلى القفص، بمجرد أن يصدر العصفوران الكبيران تغريدات غاضبة.

تجاهلته. وظللت أفعل هكذا لوقت طويل؛ كنت أفتح النافذة، وكان أقصى ما يفعله هو أن يقف على إطارها لبعض الوقت، دون أن يطير مندفعًا صوب الخارج مهما حدث.

استجمع جسارته رويدًا رويدًا، وسرعان ما أصبح يهبط على مكتبي. كان في البداية يقف بعيدًا مني، وعندما توسم أنني لن ألحق به أذى، أخذ يدنو مني شيئًا فشيئَا، ثم بات يقفز فوق فنجاني، ويحني رأسه إلى أسفل ليحتسي الشاي، ثم يرفع رأسه مرة أخرى ليرى ردة فعلي. أما أنا فكنت أبتسم له ابتسامة خفيفة، وأواصل الكتابة كما كنت أفعل. لكنه سرعان ما أطلق لشجاعته العنان، أخذ يتقافز حتى وصل فوق الورقة، وغدا يدور متقافزًا حول سن قلمي هنا وهناك، كانت مخالبه الصغيرة الحمراء المحتكة بالورق تحدث صريرًا.

واصلت الكتابة من دون أن أحرك ساكنًا، وأخذت أستمتع بمودة الطائر الصغير في سكون. وبهذا الشكل، اطمأن قلبه تمامًا. وسرعان ما أصبح ينقر قلمي المتحرك بمنقاره الأحمر الصغير الذي يشبه شمعة مطلية. حسَّست بيدي على ريشه الأملس الرقيق، وهو أيضًا لم يخف، بل على العكس، نقر أصابعي مرتين برفق ورقة. كان يرافقنى كظلي كل الصباح، وعندما يصبغ الشفق السماء بلونه، كان يطير صوب القفص عائدًا، إثر تغريدات ثلاث متتالية من والديه، كان جسده المستدير الملتفّ، يزيح أوراق النبات الخضراء ويخترقها إلى أن يدخل القفض. ذات يوم، هبط على كتفي دون تمهيد، بينما كنت منكبًا على الكتابة، فأوقفت حركة القلم الذي كنت أمسك به بشكل لا إرادي؛ حتى لا أفزعه فيفرّ هاربًا. بقي لبرهة، وعندما استدرت لأراه، كان الصغير قد أمال رأسه إلى الأسفل وغط في نوم عميق على كتفي، كان وجهه الفضي يحجب عينيه، أما قدماه الحمراوان الصغيرتان فكان قد كساهما الريش الطويل الرفيع الذي يملأ صدره. رفعت كتفي بخفة، لكنه رغم ذلك لم يستفق، كان مستغرقًا في النوم ، إضافة إلى أنه كان يصدر صوتًا من فمه، أكان يحلم؟
أول ما تحرك سن قلمي، تدفقت منه المشاعر التي لمستني حينذاك:  الثقة تخلق دائمًا عالمًا بهيجًا.

————————-

٭ فنغ تـچي تساي ولد عام (1942م) كاتب وروائي ورسام صيني معاصر، ويُعَدّ واحدًا من أكبر الكتاب الصينيين المعاصرين وأهمهم، ولد في مدينة تيان تچن، هو الآن عميد معهد فنغ تـچي تساي للأدب والفنون بجامعة تيان تچين. له اهتمامات أدبية؛ موسيقية وفنية كثيرة، له إنتاج كبير من الأعمال الأدبية التي تعكس حياة المثقفين الصينيين، وكذلك تروي قصصًا تاريخية متعلقة بالمدينة التي يعيش فيها.