شكيب أرسلان.. الوعي الشعري وسؤال التحديث

شكيب أرسلان.. الوعي الشعري وسؤال التحديث

تتيح لنا تجربة شكيب أرسلان، بغناها الفكري والإبداعي، الاقترابَ من العلاقة الدالة بين الوعي الشعري وسؤال التحديث، انطلاقًا من مداخل اختبارية، أهمها اعتبارُ سؤال التحديث سؤالًا معرفيًّا يتسمُ بامتداده وفاعليته في الممارسة النصية. ولا يكون هذا الاعتبارُ مبنيًّا إلا إذا كان السؤال المذكور نسقيًّا، وذا تمظهراتٍ بعناصرَ بنائيةٍ دالةٍ في النص والخطاب. ووفقًا لهذا المنظور الجدلي، فإني أضع مقدمتين متصلتين من جهة البناء:

الوعي الشعري لدى شكيب أرسلان مسكونٌ بفكرة الأصل والمرجع.

لم يمس سؤال التحديث عنده أيَّ عنصر من عناصر الإبدال الشعري.

أولًا- الأفق الشعري

لا نكاد نعثر، فيما كتب أرسلان من مقالات ودراسات، عن تصور محدد للشعر، بقدر ما نجد آراء متفرقةً لا نظفرُ منها بإطار تنظيري واضح. ومع ذلك يمكن أن تشكل هذه الآراءُ مواردَ لفهم طبيعة الصلة بين الوعي الشعري والتحديث. وترجع فكرة الأصل في كتاباته إلى طبيعة البنية التقليدية التي وسمت النص الشعريَّ لدى كل شعراء المرحلة؛ ولذلك يرى أرسلان في تجربتَي البارودي وشوقي عتبةً عُليا، تمثلُ الصيغة والنموذج، وتقديسُها، في ضوء قدامة الشعر، هو الذي جعل قصيدتَهُ قصيدةَ الذاكرة في كل عناصرها البنائية، وهو ما عاق انعكاسَ مبدأ التحرر في ممارسته النصية.

ويبدو أن مبدأ التقدم، بما هو دعامةٌ لإشكال التحديث، لم يكن نسقيًّا لديه؛ إذ لم يشمل تصوره للشعر والكتابة، رغم خطابه التحديثي المتنور والجريء الذي احتفى بالمجتمع، والاقتصاد، والعمران، والسياسة. ولكن يبقى هذا الاستثناءُ مفارقةً واضحةً فيما كتب من شعر. ولا شك أن بعض سجالاته، ومواقفَه من قضايا أدبية وفكرية، تضيءُ جوانبَ مهمةً من سياق التحديث؛ إذ نستطيع أن نعُدَّها مدخلًا دالاًّ لتحديد مستوى المفارقة التي ذكرناها آنفًا. ففي ردِّه على خليل السكاكيني، في مسألة الأسلوب الجديد، يقول: «لا أعرفُ في الأدب واللغة إلا مذهبًا واحدًا هو مذهب العرب، وهو الذي يريدُ أن يسميَه بالمذهب القديم.. لأنه المثل الأعلى والغاية القصوى»(1). ولهذا يظل الشعر صيغةً وغايةً في الآن نفسه؛ ذلك لأن اشتراطَ الحد الزمني في النموذج غير وارد، ولا يقوم بأي وظيفة تجاه فعل الكتابة من جهة، وفعل تصورها من جهة أخرى.

ويتخذُ إشكالُ الوعي بالزمن، لدى أرسلان، مظاهر عديدة، أهمها صعوبةُ التقريب بين البيان، من حيث هو بناء صوري ومعياري، وبين الشعر من حيث هو جنس أدبي موسومٌ بالتغير والتعدد. فالتصور التجزيئي لعلاقة اللغة بالشعر والأدب يضاعف من لا نسقية سؤال التحديث، بما هو قيمة مضافة لتاريخ اللغة والأدب العربيين. ومن تجليات هذا التصور إبقاءُ اللغة بناءً نمطيًّا، تُقاسُ عليه القضايا والمعاني بمختلف محمولاتها الثقافية والفنية ذات الصلة بزمن إنتاجها، وبوعيها الناظم لتسويغ تلقيها وتداولها. فإذا كانت اللغة، كما يرى شكيب نفسُه، قادرةً على أن «تسَعَ من المعاني الجديدة، ومن المواضيع العصرية ما يُعينُ الكاتبَ، ويتوخاهُ المؤلفُ مع رعاية ديباجتها الأصلية التي إن خرجَ البيانُ عنها كان عند العرب مستهجَنًا»(2)، فإن شرط التفكير باللغة، في الإنتاج الأدبي والشعري خاصةً، يظل معزولًا عن التفكير في التحديث، نظرًا لوجود الصيغة النموذجية التي تستطيع أن تستوعبَ الطارئَ من المعاني والقضايا، من دون قَبولها لقوانين الإبدال والتحول من داخلها كذات فاعلة. ومن هنا أصبحت الصيغة النموذجية من بين المتعاليات التي تؤطر الوعيَ الشعريَ لدى أرسلان، وتخلق الهوة بينه وبين سؤال التحديث من حيث انفصالُ فهم اللغة عن مشروع القصيدة التي تأطرت ضمن البنية التقليدية.

وإذا كانت قصيدة الذاكرة صيغةً وشكلًا من أشكال عودة الماضي إلى ماضيه، فإن ارتباط شكيب بالعتبة العليا، التي مثلها البارودي وشوقي، كان من قبيل الكتابة المضاعفة لوعي التقليديةِ بشروطها من دون حدودها. ففكرة الإحياء التي تغنَّى بها البارودي وأرسلان، وأصبحت مقولةً يتداولها الملفوظ الشعري كقيمة شعرية، لم تتخذ لها محتوًى نوعيًّا ضمن جنس الشعر، إنما ضاعت بين مقولتي التأصيل والتأسيس. وذلك ما نلاحظه في قول البارودي عن شعر شكيب:

أحيـــا رميمَ الشعـــــر بعـــد همــــوده وأعــــادَ للأيـــام عــصرَ الأصمـــــعي

هو ذلك النظمُ الذي شهدت لــــــه أهـــــــلُ البــــراعــة بالمــــقـــال المُبـــــدِعِ

وبالمنطق نفسه يكتبُ أرسلان عن البارودي ما نصه:

ولو كان يُرقى المرءُ مــــا يستحقُّه إذًا لَبـــــلـــــغــــت النَّيِّراتِ بــــسُـــــــلَّــــمِ

وأنت الذي يا ابنَ الكــرام أعدتَهـــا لأفصحَ من عهد النواسي ومسلم

وأنشرتَ ميتَ الشعر بعد مصيره لأعظــــــمَ نثـــرًا مـــن رفــــات وأعـــظـــم(3)

قد يرجع هذا التَّسييدُ إلى محدودية المُنتَج الشعري، وإلى جعله -مع ذلك- الإمكانيةَ الموضوعيةَ والتاريخيةَ لبناء أفق شعري ذي شروط إنتاج عربية صرف. ومن المعلوم أن شكيب أرسلان ينظرُ إلى اللغة، في عدد من مقالاته ودراساته، نظرةً إستراتيجيةً وفق آليات النحت والاقتراض والترجمة، ولكن هذه الكفايةَ التفاعليَّةَ كانت بعيدةً من الكتابة الشعرية، رغم تأكيده على تاريخية وضع الشعر في تحديد معالم انتقالات المجتمع العربي وتحولاته بقوله: «وما كانت نهضة العرب العلمية في القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة، وتطاولهم إلى الفنون والآداب والحكمة التي كانت للأعاجم إلا من نتائج انتشار الأدب العربي»(4).

والتصريح بهذه الإستراتيجية في كل اعتبار تاريخي، هو اختيارٌ واعٍ لأفق التحديث العربي بشروطه المادية والمعنوية بمختلف تمثلاتها الفكرية، والأخلاقية، واللغوية. ومع ذلك فإن التساؤل عن مدى تحويل البيان إلى أفق شعري يظل قائمًا في ظل الاستثناء الواعي أو غير الواعي الذي يطال الشعر إزاء هذا التحديث؛ لأن اختزال الأفق الشعري في عنصر واحد هو ممارسةٌ ذهنيةٌ غير جدلية، ولا تراهن على الإمكانات النوعية، والمفهومية، والتجريبية للفعل الشعري ذاته.

قد يكون البيانُ، في صيغة أفق شعري، سؤالًا آتيًا من غير الشعر؛ فالكتابة لدى شكيب موسومةٌ بالتداخل والاشتراطات النوعية. ولا يهمنا أن نحدد نسبة هذه الاشتراطات إلى وعيه الأدبي والفني، بقدر ما يهمنا معرفة الفعل الشعري ذاته، من جهة ارتباطه بالتجربة أساسًا. ومع ذلك تحتكم هذه التجربة إلى بعض الحدود التي تبين قيمتَها وكفايتَها، وتميِّزُها من حيث قوةُ تمثيلها للفعل الشعري.

1.2. الحد النوعي: يتضح في صناعة ديوان أرسلان أنه موزعٌ إلى أربعة أقسام: المراسلات السامية، والمساجلات الشعرية، ومراثي العلماء والأدباء والكبراء، والمدائح السلطانية. وأهم ملاحظة نسجلها هي التداخل بين المراسلات الشعرية والمساجلات والمعارضات؛ ويعني ذلك أن العناصر البنائية والسمات التكوينية للنوع لم تكن واضحة في ممارساته النصية، وهو ما يحد من إمكانية النظر إلى الإبدالات النصية من حيث قدرتها على ممارسة فعل التحديث. فإذا عددنا هذه النصوص تجربةً، فإن السمةَ الغالبة عليها هي التماثل، بينما التجربةُ فعلٌ متحولٌ ومتعددٌ من حيث البناءُ والخطابُ؛ ولذلك غلبَ النقلُ النوعي على تقريب النصوص، كما هو الأمر مع نقل الترسل إلى النظم، فلم يكن مراعيًا لشعرية الكتابة. أما التقريب الحاصل بين المساجلة والمعارضة، رغم عناصر الاتصال القائمة بينهما، فيجري بإسقاط بناء أحدهما على الآخر، إما من جهة الموضوع أو من جهة الصياغة التنظيمية للقول. ومن المشاكل التي نواجهها في هذا التقريب، تحويلُ عنصر الحِجَاج إلى تكوين شعري مخصوص؛ إذ يظل هذا التكوين معزولًا بحكم هيمنة بناء الغرض؛ لأنه يُعدُّ التكوينَ الأعلى في سُلم النظم. وبهذا تمتنعُ الكفايةُ التجنيسية من قوانين المساجلة، ومن قوانين القصيدة بما هي شعر. فالوعي بالتداخل أو بالتضايف محكومٌ بجهة النظر في الكتابة وفي التسمية؛ إذ الفرقُ واضحٌ بين تسمية المساجلة الشعرية، والقصيدة السجالية؛ لأن منطلقاتِ القول المبنيةَ على النوع هي محدِّدٌ جوهرٌ لإدراك التناسب في البناء النصي، وإدراك مستوى تلقيه.

2.2. الحد المفهومي: إن التجليات السابقة في الحد النوعي ذات صلة وثيقة بالتصور النظري الذي يؤطر التجربة الشعرية، ويُسندُ نسَقَها في التراكم الكمي والنوعي. فتصور أرسلان للشعر وممارستِه لا يخرج عن دائرة الصنعة، وإن لم يصرح بذلك لفظًا؛ ولكننا نلمس ذلك في طبيعة علاقته بالشعر من خلال قوله: «ومما لا مرية فيه أنني مُذ أيام الشباب قلما نظمتُ الشعرَ رغبةً فيه، ونزوعًا مني إلى الاتصاف بالشاعرية عكسَ النثر الذي كان أبدًا مرمى آمالي ومطمحَ خيالي.. وقلما نظمتُ الشعرَ انبعاثًا من نفسي وإطاعةً لمجرد خاطري، فليس لي على هذا الوجه إلا قصائد معدودات»(5).  يبدو أن علاقة أرسلان بالشعر علاقة مناسبة وليست علاقة تجربة؛ فمستوى التراكم النصي الذي حققه في ديوانه، وفي ما كتبه في المجلات والصحف، يكاد يتخذ سمة الصنعة، بحكم السياقات التي نظمت فيها قصائدُه، وبحكم الصياغة النمطية التي حكمت منجَزَهُ التعبيري في مختلف الأغراض. والملاحظة الأهم في قوله هي غيابُ الذاتية في شعره، وفي ارتباطه بالقول الشعري، وهو ما يؤكد انصرافَه إلى غير الشعر من حيث وعيُه بالاختلاف الحاصل بين التجربة والصنعة. ومن هنا يتضح أن انجذابَ البيان إلى أفق النثر موسومٌ بتحقق الذاتية والتخييل، وهو ما ينتفي في سؤال تحويل البيان إلى أفق شعري.

وإذا كان البيانُ آليةً إبداعيةً وفنيةً، تمسُّ كل الأجناس، فإن وضعه عند شكيب محكومٌ بخصيصة النثر وفنون القول فيه؛ ولذلك لم يختبر سؤالَ التحديث الشعري من مدخل التجربة، فكانت الصنعةُ في ممارسته علَّةَ النظم. ونلمس ذلك في الكلمة التي قدَّمَ بها مطران ديوان أرسلان حينما قال: «فهو ينظمُ كما ينثر، فياض الفكر غير تعبٍ، ولكن نظمه يحمل في عهده الآخر أثرًا من نثره»(6). ولم يكن الوعي النظري لمسألة الحدود حاضرًا في كتابته، رغم الإبدالات الأولى التي مارستها التقليدية مع البارودي وشوقي، ورغم التحولات التي عرفتها البنية الجديدة في الشعر.

من الصعب الحكم على هذه الممارسة بأنها ضد البنية الجديدة، أو أنها في وضع مواجهة لتاريخية الشعر الحديث، ولكن المسكوت عنه في تقديم مطران نابعٌ من صدوره عن بنية مختلفة في التصور والكتابة، وهي البنية الرومانسية، رغم التبريرات التي يقدمها إزاء شاعرية أرسلان. ففي السياق ذاته يقول: «غير أن شأنًا آخر من الشؤون الضخام التي هي أشد إغراءً للرجل البعيد المطمح في مطالب العلياء صرَفَهُ وشيكًا عن الهيام في مسابح الخيال والضرب في آفاقه الأنيقة إلى منازلة الحوادث والأيام في معترك الحقيقة»(7). لا شك أن الشعريةَ لا تمتنع بامتناع الذاتية والخيال؛ لأن البنية التقليديةَ، التي تأطرت مع البارودي وشوقي، عرفت الخيالَ من منظورها أيضًا، ولكن الوضع مع نصوص شكيب ينحو في اتجاه الوقائعية التي تُسمِّي أغراضَه وتستبطِنُها، فيتوارى صوته بما هو ذاتٌ متكلمةٌ وفاعلة، مهما تكن الموضوعاتُ المطروقة. وما يؤكد ذلك قولُه في مقدمة ديوانه: «ولم يزل الشعر وهو الخيال المجسم أحسنَ قيد للحقائق، ولم تزل الوقائع التاريخية تأخذ من الوزن والقافية أثبَتَ المَواثق، وكم من واقعة تاريخية نَشَدَها المؤرخون في أقوال المنشدين، وكم من رجل لم تخلده التواريخ وجعله الشعر من الخالدين»(8). ومن البيِّن أنه لا يغادرُ مفهوم الحقيقة، بما هو عنصرٌ بانٍ لمفهوم التقدم، إلى جانب عنصري النبوة والخيال في بنيات الشعر الحديث. ولكن الحقيقةَ التي يربطها بالخيال المجسم ليست سوى مَدرَجٍ لمحمول الواقع وتجلياته في أي خطاب. ولهذا جعل الخيال قيدًا، رغم أنه مفهومٌ آتٍ من ممارسات رواد الشعر المنثور في بداية العشرينيات بلبنان، فضلًا عن الاختيارات التي قادتها الرابطة القلمية في اتجاه تحول مفهوم الشعر بإبدال الخيال. أما الشق الثاني المتعلق بالتأريخ الشعري، فإنه منافٍ لمفهوم التقدم؛ ذلك لأنه رهنٌ بحدود قدامة.. الشعر في التعاطي مع السِّيَر والأخبار، بينما يتخلَّقُ التأريخُ بإجراءاته الخاصة منذ التدوين. ولهذا يكون تصور أرسلان عن الشعر المؤرِّخِ عازلًا عن الشعر خصيصتَه الشعرية، وعن التأريخ خصيصتهُ التوثيقية. ومن هنا يراكمُ سؤالُ التحديث عائقَه الزمني مرةً أخرى، ما دامت الحقيقة جوابًا، وما دام الشعر معزولًا عن السؤال بما هو بحثٌ واختبار.

ولكننا نصادف بعض المفارقات في تصوراته، وبخاصة حينما يصبحُ قارئًا وناقدًا للشعر، وهو ما نعثر عليه في تتبعه لقصائد شوقي، وكذا في بعض الخلاصات التي يعممها في قوله: «ليس الشعر بكيمياء ولا طب ولا جغرافية ولا طبيعيات، وإنما هو تأثُّراتٌ نفسيةٌ وانطباعاتٌ فكرية لا غير.. هذا من جهة الشعر عمومًا، وأما من جهة الشعر العربي الذي تريدون أن تفرنجوه، فالشعر العربي لا يكون شعرًا إلا إذا وافقَ ذوق العرب ولاءَمَ مشاربَ أنفسهم، وجانسَ مذاهبَ لغتهم واتَّصلَ بمناحي حياتهم»(9). فالشروط الثلاثة التي يحدّ بها الشعر العربي، وهي الذوق واللغة والحياة، لا تستجيب لمبدأ التحول، إذا ربطناها بالتأثير النفسي والانطباع الفكري اللذين يحكمان مفهومه للشعر بصفة عامة. فما يغيب في هذا التصور المبدئي هو الوعي بالزمن؛ لأن صياغة التأثيرات النفسية والانطباعات الفكرية على النموذج يلغي مبدأ التعدد والاختلاف، كما يلغي التاريخ بما هو حركة تستوعبها التجربة الشعرية، وتنتجها وفق الذوق واللغة اللذين ينظمان مستوى تلقي هذه الحركة. ولذلك لا ندري الجهة التي تقوم بالتأثيرات والانطباعات، أهي جهة الشاعر أم جهة القارئ؟

وإذا رصدنا طرائق تلقي أرسلان لشعر المرحلة، فلا نكاد نعثر على عنصري التأثير والانطباعات الفكرية إلا لمامًا؛ إذ يتحكم في تلقيه المتعالي المعياري الذي يسم تاريخ التعاطي مع الشعر العربي، حيث يقول: «وأشعر الشعراء عندي محمود سامي البارودي، ثم شوقي ثم حافظ.. وأحب أن أشبه البارودي بأبي تمام في علو نفسه وقوة ملكته ومتانة أسلوبه، وأن أشبه شوقيًا بالمتنبي في دقة معانيه وسمو حِكَمه وكثرة جوامع كلمه، كما أن حافظًا يشبه البحتري في سلاسة لفظه وحسن سبكه وتأثيره النفسي»(10). لا نناقش هنا مشروعية المفاضلة، بل أسبقية المعيار لديه؛ ذلك لأن علو النفس، ومتانة الأسلوب، وسلاسة اللفظ وغيرها، ليست خصيصات نصية بانية، بقدر ما هي أطر عامة ونمطية في تسمية القصائد وتلقيها وتقويمها. ويبدو أن استعادتها في بنية التقليدية، من لدن أرسلان، لم يتح إمكانية تغيير جهة النظر إلى الممكن النصي في ضوء الإبدالات الشعرية، بل كرَّسَ متعاليات التلقي التي سادت في مختلف مراحل الشعر العربي القديم. ورغم أنه كان مطلعًا على المنتج الغربي، وواعيًا بأهميته، وبخاصة أنه قرأ شعر شوقي من داخل أنماط الشعر الأوربي، فإنه لم يتلقَّ الشعر الحديث بمعايير أخرى نابعة من النص بناءً ورؤيا. إن سؤال الزمن في التحديث ذو مسيرٍ معكوس، إذ حينما يحدد طبيعة هذه العلاقة في شعر شوقي، فإنه لا يحددها إلا من جهة واحدة، يقول:

يتمثلُ العصرُ الحديثُ بشعره حقَّ التمثُّل من جميع جهـــــاتـــــه

ولـــرُبَّ بيـــتٍ يــستقـــل بــجـــــملــــة تغني عن التاريخ في صفحاته(11)

صحيح أن شعر شوقي إضافةٌ للعصر الحديث، ولكن لسنا ندري لِمَ لَمْ يَرَ إلى العصر الحديث إضافةً نوعيةً لهذا الشعر؟ وعلى هذا الأساس يظل الشعر هو المعلومُ، فيما يبقى الزمن ذاك المجهول أو المنسيّ. وسنعملُ على تأطير هذا السؤال الحيوي في ضوء عملية تلقي شكيب أرسلان؛ إذ سنقف على بعض المكونات التي تشكل السند النصي لديه.

التكوين النصي

يرتبط البناء النصي لدى أرسلان بكل الصيغ القديمة، بدءًا من استقلالية البيت وانتهاءً بمقولة الجزالة اللفظية. ويبدو أن الاشتغال على عمود الشعر هو إعادة إنتاج لمتعاليات القراءة المعيارية بصورة لا تفتح أمامنا أيَّ استقراء لمستوى التكوين النصي في ضوء أسئلة نقد الشعر. ولذلك سنلخص تلقينا في ثلاثة عناصر:

1.3 التسجيلية: إن أغلب قصائد أرسلان محكومةٌ بوقائع وأحداث، يجري تسجيلها نظمًا في أغراض مختلفة، سواء أكانت مدحًا أو فخرًا أو رثاءً. ولكننا نقصد بالتسجيلية الصيغةَ التي تضطلع بها هذه الوظيفة من خلال الكتابة نفسها. ففي أغلب نصوصه، يقوم التسجيل على التقاط وانتقاء موجهات الموضوع، وهي سمة نثريةٌ بالأساس، حيث يفضي السياقُ إلى إعادة تركيب الموضوع أو الغرض بناءً على مشاهد مستقلة، أو موزعة داخل القصيدة. ويرجع ذلك إلى أن منطق الكتابة النثرية هو منطق نسقيٌّ، أما في قصائد شكيب فيعوق هذا المنطقَ وضعُ استقلالية البيت معنى ومبنى؛ ولذلك كان الطابع التسجيلي موزعًا بين الصياغتين، ومحصورًا بين العرض والتصوير الفني. ففي بعض مدحياته للشيخ محمد عبده يقول:

له قــــــــــلمٌ يـــــــــــزري بكـــل مهنــــد يصولُ على العادي بــــــه فيقدُّهُ

لهُ في رهــــان المكرمات مـــــآثـــر كبت دونها قبُّ السباق وجرده

تـــردَّى بأثـــواب المحــــامــد كلــهـــا وفوّف من كل المحاسن بـــــرده

لديكَ رقيق الشعر يحلو نشيده وفيك دقيق الفكر يحسن نشده(12)

قد يكون تعدادُ المناقب رهانَ الشاعر في نظمه، ولكن هذا الرصفَ يقدِّمُ الصفاتِ على الصوغ الجمالي، فيغدو تسجيلًا وتقييدًا أساسُه تركيب صورة الموصوف، وليس شعرية الصفة بتخييل عوالمها. وليس من هذا التكوين النصي غيرُ الوزن؛ لأن إمكانية تجميع ملفوظ القصيدة نثرًا لا يتطلب جهدًا في النقل من جهة الخصيصة الشعرية. وإذا انتقلنا إلى مستوى الانفعال بالصفة في مقام التسجيل، سنلاحظ كيف يقف النص الشعري عند حدود المشهدية التي يستطيع أن يقدمها أي ناثر أو قارئ. ففي قصيدته عن تحرير أدرنة يقول أرسلان:

أدرنة يا أمَّ الحصون ومن غدتْ لدار بني عثمان سورًا ومعصما

فدينـــاكِ ربعـــــًا مـــــا أبرَّ بأهــــــــــــلـــه وأمًّــــــــا علينـــــــا مـــــا أعز وأكــــــرمـــا

عمَّرناك أحقابًا طوالًا فلم نزل بأهلكِ من أهل البسيطة أرحما

فلما أتاك المصلحون بزعمهم أعادوا إلـى تلك الجنان جهنمـــا(13)

لا نريد أن ندخل في مقارنة بين هذه القصيدة وقصيدة شوقي في المناسبة ذاتها، رغم الفرق الواضح في مستوى شعرية الثانية، ولكننا أردنا استقراءَ السمة التسجيلية في علاقتها بالانفعال مع حدث تاريخي على المستوى الشعري. فالقصيدةُ كلها توصيفٌ لمعلومٍ، لا تضيف شعريًّا أثر الانفعال إلى القول، بل تُنضِّدُ التاريخيَّ على المحكي. ولربما كان فهمه للشعر بما هو فعل تأريخي، هو السبب في استعادة مواطن التسجيل وتحويلها إلى نظم.

2.3. باراديغم الشاعر الفارس: من فرط استعادة صورة الشاعر الفارس في مختلف أشعاره، أصبحت باراديغمًا مؤسِّسًا للقول الشعري، سواء أكانت القصيدة مدحًا، أم رثاءً، أم فخرًا. ولكن استعادتها في الشعر التقليدي لم تضمن ممكن تحولها وفق بنية الخطاب الحديث؛ لأن المنطق المتحكم فيها رهنٌ بشروط إنتاج الوعي العربي في قدامته. ولذلك نلمس في قصائده، على غرار قصائد البارودي، مفارقةً بين زمن الكتابة وزمن الرؤيا. فإذا كانت الممارسة النصية مشروطةً بزمنها الحديث، فإن الرؤيا تنحو إلى تجسيد فروسية الشاعر الجاهلي، ولا تبرحها نحو تمثُّلٍ يعضد سياق الوعي بالزمن. ونسوق بعض النصوص كي نلمس صيغة هذا الباراديغم:

جعلتُ القولَ في سيفٍ ورُمحٍ وعفتُ النظمَ في قدٍّ وخصرِ

فإنــي عـــاشقٌ غُرَرَ المعــالــــي ولي نفس فداؤك نفسُ حُـــــرِّ(14)

من اللافت أن هذه المتلازمةَ أصبحت بنيةً ذهنيةً تستقل بجميع معطياتها القيمية، وبمستويات تجلياتها الإبداعية، وتغدو مسيَّجَةً بفعل تداولها النصي بين الشعراء في خطابهم الشخصي، وفي خطابهم عن غيرهم. ومثال ذلك ما قاله البارودي في شعر أرسلان:

هو ذلك النظمُ الذي شهدتْ له أهــلُ البـراعــة بالمقــال الـمـبـدِعِ

أبصرتُ مـنـه أخـا أيــادٍ خـاطبــًا وسمعتُ عنترةَ الفوارس يدعي(15)

فإذا كانت هذه المتلازمةُ شرطًا في الوعي الشعري، فمن الضروري أن تكون الفروسيةُ مستجيبةً لزمن هذا الوعي، وبخاصة عنصر اللغة أحد أهم الأبنية المنتجة للخطاب. فكيف يشتغل النص الشعري الحديث بالرمح والقناة والمهند.. لتوصيف مقام الفارس في زمن تطورت فيه آليات المواجهة الحربية؟

قد لا يروم التحديثُ في أبنية اللغة مستوى اللفظ وتداوله السياقي، ولكنه قد يتجه صوب المحمولات الدالة على عملية التعبير، وقوة اتساقها وانسجامها مع الوضع أو الحال المعبر عنهما. وبامتناع ذلك امتنع صوغ الذاكرة الشعرية بما يؤهلها لشروط الوعي بالزمن وبالتحديث في الشعر التقليدي. ونلاحظ من جانب آخر أن تعميم هذا الباراديغم على كل الشعر، وعلى كل الشعراء، رغم انتفاء عنصر الفروسية عنهم، دليلٌ على توطين هذه الذاكرة بخطيتها التاريخية، كأن مضمونها الفكري والذهني ثابتٌ، وضرورةٌ لتسمية القول الشعري. ولهذا كان البيانُ متماثلًا مع هذا الباراديغم؛ إذ يشكل إحدى الدعامات لتوطين تلك المتلازمة، بكل المتطلبات اللغوية والبلاغية التي راهنت على فكرة التأصيل والتأسيس. وقد يكون هذا المبدأ مبررًا موضوعيًّا لطبيعة اشتغال نصوص أرسلان في مرحلة فهم واستيعاب المكتسب الأدبي والفني العربي، وتمرير خبرته إلى سياق التداول.

صوغ أمثولة الحكمة: يتمثل أرسلان هذا الصوغ البنائي من خلال تمثله للُّغة ووظيفتها في الشعر. وإذا كان، حسب قول مطران: «حضري المعنى، بدوي اللفظ، يحب الجزالة، حتى يستسهل الوعورةَ، فإذا عرضت له رقةٌ وألانَ لها لفظَه، فتلك زهرات ندية مليةٌ شديدة الريَّا»(16) فإن التماثل القائم بين استعمال اللغة وتلقيها شعريًّا، قد لا يقف عند الجزالة وحسب، إنما يتعداه إلى شعرية هذه اللغة من خلال التركيب والصورة.

صحيحٌ أن شكيبًا يبني عباراته على التوازيات والتقابلات والالتفاتات، وعلى عناصر إيقاعية مهمة في إيراد الدلالات المتفرقة والمتناقضة أحيانًا، لكن تركيبَه البياني لا يخرجُ عن دائرة المشابهة والمقايسة في تقدير أوجه العبارة داخل المتن الشعري. ولذلك تغدو عملية استدعاء الحِكَم مجرَّدَ صيغة من صيغ الاستدلال على سياق موضوعي، أو على معنًى يرادُ لهُ إضافةٌ تَحُدُّ تلقيه وتُقرِّرُه. ومهما يختلف وضع وموقع هذه الصيغة في جميع النصوص، فإنه يحمل بداخله ما يتقدمه وما يلحقه من بنية الغرض. يقول في إحدى قصائده:

هـل الدَّهـرُ إلا ذا النـهــــــار وضده يعــــاودُ كلاًّ منهــــما الدهـــرُ نــــدُّهُ

يــدورُ فمن أي الجـهـــات ابــْتَـدَرتَــهُ وتـــــابـــعــــتَه تَــــبْــــدا بـــه وتـــحـــــــــــدُّهُ

فلا خيرَ في يومٍ يمرُّ على الفتى إذا لـمْ ينــــلْ فــيــه ثَـــنـــًا يــستجــدُّهُ

فليــست حيــــــاةُ المـــــرءِ إلا شهــــادةً على فضل مَولاهُ فيُظهر مجدَهُ(17)

من البيِّن أن النص تقديم لتقريظ. والابتداءُ بصيغة الحكمة استعادةٌ ثانيةٌ لتداخل أمثولة الحكمة في مختلف الأغراض. فالمتأملُ لهذه البداية يظن أن المقام مقامُ رثاء، والحالُ أنه مدحٌ للشيخ محمد عبده. وقد استخدم الشاعر التقريبَ الخلافي من أجل إبراز قيمة الثناء في المدح، وحاجته إليه في القول، مبنيًّا على مكوني الاستثناء والنفي الموجِبَينِ لدلالة التحقق غير المشروط. وقد يتحول هذا التحقق، في نصوص أخرى، إلى تبرير مبني على صيغة رد الأعجاز على الصدور، وهي صيغة ذاتُ صلة بالتقريب المنطقي؛ ولذلك كانت الحكمة أمثولةً، لكونها مصدرًا ومرجعًا بيانيًّا. وفي نص آخر يقول:

إليــكَ حــقُّــــــكَ لا ظــــــلمٌ ولا ســــــرفُ لا يُــــــنكــــرُ الشـــمس إلا فــــاقـــدُ البـــصـــرِ

وإن يــــــؤاخـــــــــذكَ نـــقــــادٌ بــــــــــــــبــــادرةٍ فلـــــــيس يـُــــــرجَـــــمُ إلا مُـــــثْـــمــــرُ الشجـــــــــرِ

وقد يُعابُ الذي في البدر من كلفٍ وليس يسلبُ معنى الحسن في القمرِ18

نستشفُّ من هذه الأبيات مديحًا ذا تكوين نصيٍّ متنامٍ برد الاعتبار وبرد المظنة، ثم التقدير. والأمرُ أن الواقعة الكلامية موسومةٌ بالرثاء، رثاء اليازجي. ففي كل صدر تقريرُ حال، يقابله في كل عجُزٍ تبريرُه بصيغة حكمةٍ، هي أمثولةٌ جاريةٌ لتقدير حالٍ يتجاذبها قُطبا السموّ والدنوّ. إن نقل المثل السائر من المتداول إلى الشعر، لم يراعِ الصوغَ البياني في مستواه البلاغي، إنما أُعيدَ تركيبُه بما يتلاءمُ مع صنعة النظم. فهذه الأبيات استكمالٌ لعشرين بيتًا سابقًا، يبدي فيها الشاعرُ موقع الرثاء بوضوح:

قُـــصارَ كـــل فــتى مستكمل الخــطــرِ أن يـنحـني لـقـضــاء الله والـقـــدر

وأن يقابل صرف الدهر كيف جرى بالخلق في عَبَرات العين والعِبَرِ

والأهم عندنا هو أن الاستغراقَ الحِكَمِيَّ الذي يطولُ التقديم لم يصغْ إلا معنًى واحدًا مختزلًا في هذين البيتين. وإذا كان مقامُ البيان تكثيفٌ دالٌّ، فإن هذه الصيغةَ تعوقُ علاقتَيِ المشابهة والمجاورة لتوسيع المعنى ولو في حدوده البلاغية. وعلى الرغم من تركيزه على التكرارات، والجناسات، والتصحيفات، فإن مدار المعنى محصورٌ حتى إن التمسَ له تشكيلًا معجميًّا متنوعًا.

إن تحويل أمثولة الحكمة إلى أمثولة شعرية يضاهي تحويل البيان إلى أفق شعري؛ ويرجع ذلك إلى معيارية الحكمة في تقويم شعرية القصيدة القديمة، وهو ما عبّر عنه أرسلان في تقويم شعر شوقي تبعًا لسمو حكمه المتناظرة مع شعر المتنبي من هذا الجانب حيث يقول: «وكان المتنبي كله لا يروقنا إلا من جهة الأمثال والحكم، وكنا نرى شعره في بعض الأحايين نازلًا عما يجب أن يكون»(19). وما يجب أن يكون في شعر المتنبي هو المسكوت عنه في تصور شكيب، أي ذلك الصوغ الشعري الذي لا يقف عند حد البيان وتمظهراته. لا نريد أن نحاكم الشاعر أرسلانَ بما حاكم به شعر المتنبي، إنما أردنا مساءَلةَ ذاكرة الحكمة في شعره، من خلال أسبقيتها في الصياغة والتعبير، والاعتماد عليها في بناء الأغراض سندًا تكوينيًّا. ويتضح أن هذا السندَ متماثلٌ مع إشكال الوعي بالزمن وبسؤال التحديث، رغم أن فكرة وظيفة الحكم والأمثال مشتركةٌ وفاعلةٌ في كل خطاب وفي كل زمان. ومع ذلك يظل تكوينها الشعري بعيدًا من المتغير النصي الذي يتفاعل مع شروط التحديث وبنيته.

والواقع أن هذه الاختيارات لا تمثل الفعل الشعري لدى شكيب؛ لأن نصوصًا أخرى تختلف كليًّا من حيث  طبيعتُها ورؤيتها. ولسنا ندري لمَ كان يرفضها ويعدُّها من عبث الشباب؟ ولربما قصدَ عدمَ إدراج عدد كبير منها في ديوانه، إما لسبب أخلاقي، أو لسبب نظري متعلق بفهمه للشعر وحدوده، أو للبنية السائدة آنذاك.  وأرى أنها تمثل اختبارًا نوعيًّا أساسُهُ الذاتيةُ والخيال اللذان غُيِّبا فيما كتب في الديوان. ومن بين هذه الأعمال نورد جزءًا من قصيدة مُمثِّلة:

أرى في غـزال الدوِّ منـــه شمائـــــلا فأهفــــــــــو إليه كــــلما مـــــرَّ ســـــانـــحُــــــــــــه

وتخطُــــر قضبـــانُ العذيب فتنــثــني معـــــــاطفه فــــي خـــاطري وجـــوانـــحُــــــــه

أكـــــــــادُ لمرأى كـــــــل غصن أراكـــــــةٍ أعــــانـقــــه مــــن أجـــــــــــلــه وأصـــــافــــحــــــه

وأعشـــــقُ نـــور البدر لــيــــــــــلــــةَ تـــمِّــه؛ لأن قـــد بــــدَتْ مـــــنه عليه ملامـــــحُــه

يقول عذولـــي: شفَّ مسكتك الهــوى فأنت لعمـــــري ذاهبُ الفكـــر ســـائحُــه

فقلت: جميع الرشد في سُبل حبــِّـــــه إذا لاح لي من ذلك الوجه لائحُــــــــه

وقالوا: أضعتَ العمر في حب أغيد ومن علق الغزلان ضاعت مصالحُه

فــقــــلت لهــم: يــــا حــبــذا مــا أضعــــتــــه  بمــــن فــــي حـــبه كـــنـــزٌ تــنوءُ مفاتحُــــــه(20)

ولا أجد كلمة ختامية أجدر من كلمة مطران في حق الأمير حيث يقول: «ولو ظل الأمير معنيًّا بذاك الفن الرفيع لَصدق فيه ما ظنوه كل الصدق»(21).

عناوين

إذا كان البيانُ آليةً إبداعيةً وفنيةً، تمسُّ كل الأجناس، فإن وضعه عند شكيب محكومٌ بخصيصة النثر وفنون القول فيه؛ لذلك لم يختبر سؤالَ التحديث الشعري من مدخل التجربة، فكانت الصنعةُ في ممارسته علَّةَ النظم

يتخذُ إشكالُ الوعي بالزمن، لدى أرسلان، مظاهر عديدة، أهمها صعوبةُ التقريب بين البيان، من حيث هو بناء صوري ومعياري، وبين الشعر من حيث هو جنس أدبي موسومٌ بالتغير والتعدد

الهوامش:

1 شكيب أرسلان، الأسلوب الجديد، جريدة السياسة، مصر، 1923م.

2 خليل السكاكيني، مطالعات في اللغة والأدب، مطبعة القدس، 1925م.

3 ديوان شكيب أرسلان، مطبعة المنار، مصر، 1935م، ص.6

4 شكيب أرسلان، تأثير الأدب في رقي الأمم، جريدة الوحدة المغربية، عدد 105، السنة 3، تطوان، 1939م.

5 شكيب أرسلان، شوقي أو صداقة أربعين سنة، مطبعة عيسى البابي، مصر، 1936م، ص.21.

6 ديوان شكيب أرسلان، م.س. ص.4.

7 نفسه، ص.4.

8 نفسه،ص.2.

9 شكيب أرسلان، شوقي أو صداقة أربعين سنة، م.س. ص. 237.

10 نفسه، ص.89.

11 نفسه، ص.84.

12 الديوان، ص.163

13 نفسه،ص.100

14 نفسه، ص.18.

15 نفسه، ص.11.

16 نفسه، ص.4

17 نفسه، ص.161.

18 نفسه، ص.60.

19 شكيب أرسلان، شوقي أو صداقة أربعين سنة، م.س.ص.101.

20 الديوان، ص.163.

21 الديوان. ص.4.

التعدد أفقًا وسمةً تميز كتابة الشاعر محمد بنيس

التعدد أفقًا وسمةً تميز كتابة الشاعر محمد بنيس

يتطلب التعامل مع شعر محمد بنيس زادًا نظريًّا واستبصارًا بالأوضاع النصية التي تستقبل تلك المعرفة وتتحاور معها. ولهذا الحوار تاريخُه النصيُّ الذي يبدأ مع ديوانه الأول «ما قبل الكلام» (1969م)، من حيث طبيعة الاختيار الشعري، ذات الصلة بأوضاع التجارب المغربية والعربية في مطلع السبعينيات. وبتقدم الممارسة نحو سؤالها الخاص، ضمن تلك الأوضاع، كان التعدد أفقًا وسمةً تميز كتابة هذا الشاعر الذي ربط بين الممارسة والتنظير كفعل متوازٍ، له إستراتيجيته المعرفية المتواشجة مع الجغرافيات الشعرية في العالم. ويبدو أن ما نشره من نصوص في مجلة «مواقف» سنة 1969م، لم يكن من قبيل الاستثناء الاعتباطي أو العرضي الذي رافق المشهد الشعري المغربي بالأفق التقليدي في بعض المراكز المشرقية الأخرى، وإنما كان مغامرةً عمقت الوعي عنده بمرحلة السبعينيات، من حيث هي حالة فارقة في الثقافة المغربية، من أجل معرفة طموحاتها، وحاجاتها، ومستوى قدرتها على اقتراح ثقافة جديدة في الشعر وغيره. ولا شك أن البحث المتقدم عن الأسئلة العميقة، وبخاصة بعد اللقاء مع نتائج ثورة الطلاب بفرنسا سنة 1968م، كان عاملًا في إغناء الاختيار الشعري عند بنيس(1).

ومع نتائج أطروحته الجامعية «ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب» (1978)، وما خلقته من ردود أفعال متباينة، كان نصه يختبر أبنيةً في اللغة والخط والصفحة، فتعمق الوعيُ بضرورة استئناف المغامرة بقيم وأسئلة شعرية تزيد من تأزيم الأسئلة الأيديولوجية التي وسمت نقد الشعر بالمغرب. ومن اللافت للنظر أن اشتغاله بالتركيب وبناء الآية، في الثمانينيات، أفسح المجال أمام شعراء آخرين لالتماس مبدأ حرية الاقتراب من المختلف والمتعدد، رغم محدودية ذلك المطلب وقدرتهم على الصوغ المفهومي لذلك المنجز. وقد كان لـ»بيان الكتابة» الصادر سنة 1981م بمجلة الثقافة الجديدة، الأثرُ العميق في فهم وضع الشعر المغربي الحديث والمعاصر، ورفع الالتباس عن أوجه التحديث التي اختلط فيها السياسي والثقافي، وهيمن على آفاقه وأسئلته التي كان من المفترض أن تجد مسوغها الإبداعي منذ الخمسينيات، بعيدًا عن المؤسسة وأيديولوجياتها المتكررة.

ولم يكن نقل هذا السؤال إلى الدرس الجامعي هيِّنًا، بل واكبتْه إشكالات عديدة، أبرزها صعوبة الحديث عن شعر مغربي معاصر لا يزال في طور التشكل والبحث عن هوية ممكنة بخصائص غير معلومة ومحددة؛ كي يكون موضوعَ درسٍ أكاديمي في مختلف المسالك. وقد تبلور الحوار الأكاديمي مع جيل الثمانينيات، من خلال الإنصات إلى رؤيةٍ مختلفة تقرأ المنجز المغربي الحديث بوسائل منهجية جديدة، وتضع كل الآراء موضع تساؤل، بدءًا من عملية توثيق النصوص، وإعداد ترجمات للشعراء، ثم وضع الأسئلة الممكنة للدراسة. وأول سؤال وضعه بنيس هو: «ماذا نعني بالشعر المغربي الحديث والمعاصر؟ وأين هي نصوصه الدالة عليه؟»؛ لكي ينجز المقدمات الأولى لحفريات الشعر المغربي. ولذلك كان هذا العمل من صميم اهتمامه بوضع الكتابة؛ لأن الرؤية المختلفة التي شيدها عن هذا الدرس لم تكن تجاوزًا للبيداغوجيات السائدة، بل كانت عملًا آخرَ ذا توجه نقدي، مكَّن الطالب/القارئ من مقاربة نسقية ومنهجية، في غياب اهتمام الجامعة بدراسة الشعر المغربي الحديث قبل السبعينيات، اللهم ما تناثر من كتابات تهم تاريخ الأدب.

وبقدر ما انشغل محمد بنيس بحفريات الشعريات العالمية، انكبَّ -في هذه المرحلة- على وَسْمِ نصه الشعري بإيقاع اللغة والبياض والصفحة المتعددة، فكان ديوان «مواسم الشرق» وديوان «ورقة البهاء» عملين مؤرِّخين لمشروع الكتابة، من حيث هو إبدالٌ واضحُ العناصر في التصور والبناء النصي. ورافق هذا المشروعَ سؤالُ الترجمة من جهة توسيع انفتاح الشعرية العربية على ما هو كوني في التاريخ والذات واللغة والمجتمع. ولما كانت الترجمة رهانًا ثقافيًّا وإبداعيًّا، كان التماسُ شرط الإبداع قيمةً مضافةً لفهم خاصية اللغة المترجَم إليها، سواء أكانت اللغة العربية أم غيرها. وللفعل الترجمي تاريخه الشعري الذي أنتج نصًّا باذخًا بإقدامه على ترجمة قصيدة «رمية نرد» للشاعر ملارمي؛ تلك القصيدة التي عاشت مع مشروع بنيس سؤالَي الكتابة والترجمة لأكثر من عشرين سنة، اقترن خلالها نص محمد بنيس بالفرنسية والتركية والإسبانية والألمانية وغيرها، إقامةً في المسكن الحر، مع مترجمين -شعراء وباحثين- من أجل قصيدة للعبور بين اللغات. هكذا عبر ديوان «كتاب الحب» وديوان «المكان الوثني» وديوان «نهر بين جنازتين» بنَفَسِ الكتابة وهي تحتمي بنقصانها وقلقها.

الكتابة والتأريخ

bbb-1أقدِّم، في مقاربة هذا الموضوع، بعضَ الاعتبارات المنهجية التي تُسيِّجُ الوضع الإبستمولوجي الوارد في صيغة الكتابة والتأريخ، وأختار مقدمتين متصلتين كما يلي:

1- لا تنظر الكتابة، في شعرية محمد بنيس، إلى تاريخها من حيث هو مُعطًى، بل تسعى إلى المعرفة التأثيلية، وتترك المعرفة التحصيلية به؛ وبهذا تكونُ الكتابةُ نفيًا لأي سلطة كيفما كانت.

2- وبتحقيقها لهذا الشرط تغدو موردًا لإنتاج السؤال في الممارسة والتنظير معًا؛ وبهذا تكونُ فعلًا نقديًّا.

وفي ضوء الصلة القائمة بين النظر والصوغ البنائي لفعل تأمل الكتابة، تضطلع أسئلة بنيس الكبرى بوضع هذه الكتابة ضمن مجال معرفي، لا تنفصل فيه الذاتُ عن المجتمع وعن التاريخ؛ وذلك هو مجال نقد منظومة المتعاليات في كليتها. ونقطة الانطلاق هي بيان الكتابة، بما هو إعلانٌ كشف التخلف المضاعف لمختلف الأنظمة الثقافية، والاجتماعية، والسياسية.

يتعمق الدرسُ مرة أخرى، بعد خمس وثلاثين سنة من تجميع الشعرية المغربية لأعطابها؛ فيما الحاجة إلى سؤال تمثيل البيان في الثقافة العربية محسومة بتغيير جهة النظر، عندما نعلم أن لا شيء تغيَّرَ في المشاريع المجتمعية والثقافية، بل لا تزال الأنظمة الفكرية مقتنعة بتحيين المشاريع في غير زمنها. لم يكن سؤال الوعي بالزمن شرطًا أخلاقيًّا بقدر ما كان شرطَ وجوبٍ لممارسة الحرية والمغايرة والاختلاف، وبه يمتلك الشاعرُ لُغَتَهُ، تلك التي تتكلم عن اللغة، وتبينُ ما يفعل ويصنع بها الشاعرُ؛ كي يغدوَ هو وغيرُه محتوى هذه اللغة. وبهذا المحتوى يفك بيان الكتابة الارتباط بفكرة البداهة والارتجال. ولم تتغير ردودُ الأفعال، ولم تزد على ثلاثة مواقف: موقف يقوم على منطق التجريب ولا يستوعب مفهوم الإبدال فينتج فكرة التعطيل، وموقف يقوم على استعادة التاريخ ولا يستوعب حركية التاريخ فينتج فكرة عودة الماضي إلى ماضيه، وموقف يقوم على الحاجة إلى التنظير ولا يستوعب آلية الانتقال من اللغة إلى الخطاب فينتج وهم التماثل بشروط مغايرة.

وإذا كانت أهميةُ بيان الكتابة ماثلةً في وضع سؤال المعرفة داخل حركة التاريخ وليس على هامشها، فإن الوعيَ الذي استقبله كان وعيًا في حال اشتباه؛ لأن الممارسة النصية مشروطةٌ بوعيها بالزمن من حيث كونُه محركًا لفعل الإبداع بالمعنى الحداثي. وفي هذا المعنى يتأسس الاختلاف الذي يجلبه البيانُ إلى مختلف الخطابات، عبر إعطائه فاعليةَ التحديث، وعبر إدخاله إلى دائرة الحوار. ولكن هذه الخطابات حدست تهديد البيان لمركزيتها، فأنتجت الكثرةَ بدل التعدد.

لم تكن تاريخية الممارسة، في وضع الكتابة، توصيفًا أو استقراءً، بل حركةً تتفاعل بها في الزمن والتاريخ؛ وهو ما يفيد أن الكتابة، منذ البيان، غير معزولة عن التمثلات الفكرية، والتأويلات المرافقة لها، في امتدادها الذي يجعلها قوةً معرفية أساسًا. ولذلك فهي قارئة يقظة تجاه ذرائعية الوقائع في التاريخ، والبحث عن شرعية وهمية. وما لم ينتبه إليه نقد الشعر بالمغرب وغيره، هو أن الحقيقة في البيان هي الانفتاح الذي لا يعني الاستدراك والحاشية بمسمى الحوار والنقد والتوسيع. ولما كان فعل التنظير وفعل الممارسة متلازمين في مشروع بنيس، أمكن النظر إلى الانفتاح أفقًا نصيًّا تحتفل به القصيدة عبورًا للغة في الجسد، وللتاريخ في الممكن واحتمالاته في الخطاب.

يمكن أن نلامس ثلاث حركات كبرى في شعرية بنيس. وأستعمل الحركة هنا بالمعنى الذي يقدمه جيل دولوز، أي الحركة في الطية؛ حيث لا وجود لمقاطع ثابثة، ولا إعادة تشكيل الحركة مرة ثانية(2). ويبدو أن هذه الحركات هي: تفضية الكتابة -إعادة الكتابة- مادية الكتابة؛ وهي حركات غير منفصلة عن بعضها، بل متداخلة وفق مفاهيم إبداعية مؤطرة هي: النقصان، والمحو، والحبسة، بحيث تصير تجاذبًا نصيًّا، يجلّيه البناء وإنتاج الدلالية. وعلى الرغم من أن مصطلح القصيدة أضحى يضيق عما بدأه بنيس في التماس الكتابة وَسْمًا لممارسته النصية، فإن هجرة النصوص كانت مغامرةً لمستمر الإيقاع وممكنه؛ لأنه مستمرٌّ يضع تاريخية الكتابة ذاتًا تفكر في مَسِيرِ القلق باللغة وفي اللغة، ولذلك تسم هذه الهجرة فعل القراءة من جهة تقريب النصوص من بعضها مع مراعاة اختلافها في البناء.

تقوم الكتابة، إذن، على تجربة الفعل؛ إذ تتبنَّى اللغة ما يحدث أثناء الكتابة، وخاصة المفاجئ وغير المتوقع الذي يقتحم هذا الحدوث. ويأتي المفاجئ من عوالم، ومن فضاءات، ومن فنون مختلفة في آليات البناء والعرض، سواء أكان تشكيلًا، أم موسيقى، أم وثيقة… ولهذا الانفتاح لغته الثانية: لغة الحواس؛ حيث الدال النصيّ إيقاع شخصي يحيا في مناطق النسيان، ويتجاوب مع ما تتذكره العين والأذن والأدمة في غفلة عما تخطه يد الشاعر. ويتم صوغ هذا التقريب في مختلف دواوينه بدءًا من ديوان «وجه متوهج عبر امتداد الزمن»، علمًا بأن مقامات التقريب غير متماثلة وغير متشابهة، فقد تلتقي نوبة أندلسية مع لوحة فان جوخ، أو فيرير، وقد تلتقي صيرورة حجر مع سكون الفراغ في صفحة متعددة، وقد يلتقي صوت مع موال جبلي أو أمازيغي في مكان وثني يحتفل بجنازة الذات وجنازة اللغة.

لا شك أن مادية الكتابة ليست صيغة تجريدية لممارسة نصية، إنها تنأى عن أن تكون عرضًا يُحْمَلُ على فعل الكتابة نفسه؛ فهي إبدال مستمر وفاعل في مجال تاريخية الشعر. ويعني ذلك أن مادية الكتابة تستوعب إعادة الكتابة ولا تنفيها، إنها تصحبها إلى صوغٍ مغاير؛ كي تتيح للقراءة عناصر نظرية خاصة بها، تسمي ذاتيتها. ثم إن مادية الكتابة، بعدُ، هي في وضع حيادٍ مع التمثيل مهما تكن صوَرُهُ وأشكاله؛ لأن مادية الكتابة في أعمال بنيس قائمةٌ على الاختبار الموسوم بالمحو؛ أما التمثيل(3) فقائم على تمجيد الاستضافة؛ استضافةِ الآخر، والغريب، وتاريخه ولغته بالعربية وأفقها.

وبما أن مقول الفكر لا يعثر على وجوده إلا إذا صار عاجزًا عن قول ما يجب أن يبقى متعاليًا على الكلام، فإن الكتابةَ تفكيرٌ وتأملٌ في هذا العجز، لكي تجعلَ منه طاقةً فاعلةً أمام الأشياء؛ وتلك هي حُبسَةُ محمد بنيس؛ لأن كل شيء عدا الشعر قولٌ. تفيدنا كلمة ليفناس هذه في تعرف الكتابة خارج القول، أي خارج المشابهة والمعارضة اللتين تمثلان صيغةً من صيغ مقاومة دخول الآخر إليها. ولكن الكتابة تحمل الاختلاف إلى دائرة الآخر كي تتحقق صيغة الاستضافة. فمثلما استضاف بنيس نبيذ أبي نواس، استضاف نبيذ أبولينير، ونبيذ بوردو وبغداد؛ إنه مبدأ الكتابة بماديتها، وأفقٌ لحياة اللغة العربية التي عاشت في النص رحلة دانتي، ورمية ملارمي، وأناشيد عزرا باوند. فحينما يعترضُ النص حركةَ الإحالةِ نحو الإظهار، تكفُّ الكلمات عن الانمحاء أمام الأشياء، فتغدو الكلماتُ المكتوبةُ كلماتٍ لِذاتها. وعندما تبدأ اليدُ في خط أول حرف، وتتضامن بما يسري وبما يصنع الحدث، تقوم الكتابةُ بممارسة المجاورة، مجاورة النقطة العمياء، والنقطة الخرساء، وتقوم بمجاورة آثارهما. فبنيس يهيئ تجربة العمى كي لا تتعينَ الأشياءُ في حيز الاستعارة فقط، بل بالتركيب من حيث هو محاورة ومجاورة للأشياء في تناقضاتها وغيرِيّتِها. إن الغيريَّةَ تماسٌ في الكتابة يراهنُ عليها محمد بنيس كي تجعلكَ تراها من حيث هي رائيةٌ أيضًا، لتملك الكتابة قارئًا بوجهة نظر.

رهانٌ يعدِّدُ صيغ المساءلة، فتعددت أنماط الامتلاك؛ ومن أفق تداول السؤال بين القراءة والنظر، تحمي الكتابة تاريخيتها؛ لأنها إنصاتٌ وتعلمٌ دائمان: تتعرفُ بها مكانَ القدامةِ وحدودها، ومغامرة اللغة في متغير نسق اشتغالها، ومكان الحداثة وممكن الإقامة في المستقبل، ومنعقد أهوال العثور على الطريق نحو الطريقِ.

الكتابةُ بمُمْكِنِها

bbb-2ممكنُ الكتابة من ممكنِ النص من حيث هو مختبرٌ منفتحٌ على إيقاعه المتبدل. وليس لهذا الممكن جهةٌ يتعيَّنُ بها، أو عنصرٌ يحتمي به في البناء، وإنما هو دالٌّ في اللغة وما يحيط بها أثناء الكتابة. وحينما تختبر الكتابةُ نحوَ الشعر، أي بالانتقال من اللغة إلى الخطاب، يغدو مجهولُ فكر الشعر أحدَ ممكناتها. يكتبُ محمد بنيس هذا السفرَ بما تقدمه القصيدةُ -وهي تضيقُ عن هذا الاصطلاح متجهةً نحو الكتابة- من استشراف لأهوال الحواس:

أنا الذي سافرتُ في ليل القصيدة

وابتهاج المحوْ

أدعو الخطوطَ لمجدِ هاويةٍ

لها الهذيانُ

والهذيانْ (4)

سؤال الشعر سؤال كوني

لا يرتبط الشعر بالهويات والوطنيات، وإنما يشتغل بما هو إنساني وكوني، كي يغدوَ لسؤاله الحيوي معنى. ويبدو أن القرن الماضي دشن عهد الكونيِّ في مجالات معرفية وإبداعية مختلفة، من الفلسفة والعلوم المعرفية، إلى التشكيل والنحت والموسيقى. وما يقوم به محمد بنيس من حوار مع الشعريات العالمية، هو توسيعٌ لمداخل هذا السؤال، وتقريبٌ لوضع اللغة العربية من مبدأ الانفتاح والاستضافة. ولم تكن استضافة دانتي، وملارمي، وعزرا باوند، من قبيل الاستعارة، بل قراءة واعية لمعنى الحداثة في الثقافات واللغات، من حيث هي مطلبٌ إنساني يستجيب لإبدالات الزمن والذات والتاريخ. ولما كانت «حداثة السؤال» اختيارًا شعريًّا، يروم تغييرَ وجهات النظر، أصبح مبدأ حرية الكتابة عضُدَ السؤال وقوامَه في صوغ طرائق الكتابة، بما تتيحه اللغةُ العربية من إمكانات وآفاق، بدءًا من محاورة تاريخها وأوضاعه، وتوقًا نحو وضع البدهيات والمتعاليات ضمن السيرورة التاريخية للإبداع، من حيث هو ممارسة قبل كل شيء.

لغة الكتابة نمط حياة

ليست لغةُ الكتابة هي المكتوب فحسب، بل هي صيرورة تنظيمٍ للمبدأ المحرك للتركيب والمعجم والبناء؛ لذلك تكون هذه اللغة مشروعًا يتنامى في الاختلاف والتعدد. وإذا كانت اللغة ممارسةً خاصةً للإيقاع، بما هي ممارسة خاصة للذات، فإن الكتابة، لدى الشاعر بنيس، معرفةٌ تضطلعُ بمهمة الحفر خارج «التعبيرية» وبعيدًا عنها، أي ضد التصور الرومانسي بكل تجلياته.

وأن تكون اللغة نمطَ حياة، هو أن تعيش زمنها مستشرفةً مستقبلَها، بما يؤهلها وضعُها الاعتباري والاختباري لإعادة النظر في كل ما يأسرها ويحنطها، سواء أكان متعلقًا بالصياغة والبناء، أم بالمحمولات التي تَثْوِي بداخلها. وقد كانت المقدمة التي وضعها بنيس لأعماله الشعرية دالةً على نمط الحياة الذي لا يُقيِّدُ اللغةَ بالشخصي وغير الشخصي في الممارسة النصية. ومن الجلي أن «حياة في القصيدة» هي حياةٌ للكتابة التي ترى في اللغة ممارسةً للنقد تجاه لغاتٍ تدَّعي الوحدةَ في منظومة كلية. وبهذا تكون مصاحبة القصيدة غير منفصلة عن تجربته التنظيرية؛ فهي فعلٌ متكاملٌ للبحث عن الكتابة والذات والعالم، بما هي أمكنةٌ تولِّدُ سؤالَ المعرفة. وبقدر ما تمس «حياة في القصيدة» حياةَ الشاعر، تمس حياةَ القصيدة أيضًا، من حيث هي كائنٌ يتبدَّل جسدًا، ولغةً، ورغباتٍ، وأسئلةً. إنها تحيا إذ تسكنها قصائدُ أخرى، بلغات أخرى تهاجر فيها.

bbb-3أولًا: تتبنى سؤالها خارج التجريب؛ لأنها مرتبطة بالمعرفة الشعرية التي تنتجها لا التي تستدعيها. إن منطق التجريب منطقٌ أحادي؛ لأن الممارسة تظل مرتهنةً به، ويغدو هذا التجريبُ موضوعَها بوعي أو بدون وعي. وعندما اختارت ممارسة بنيس الإبدالَ صوغًا بنائيًّا في اللغة والذات والتاريخ، فإنما اختارته معرفةً شعريةً بالأساس؛ فارتبط النص بسؤاله في أوضاع مغايرة، وأماكن نظرية تنبع من داخله. ومن الصعب الحديث عن استدعاء لمعرفة تجريبية خارج نصية؛ لأن أي مقاربة ترومُ فصل الممارسة عن التنظير، لن تقوى على فهم حوارية النص بمعرفته، إزاء مبدأ التقريب الشعري الذي يسوغ، لدى بنيس، مبدأَي الضيافة والحوار. أما التداخل النصي فليس شرطًا ماديًّا لإنتاج شعرية العمل- الأعمال، إنما هو صيغةٌ من صيغ التقريب ليس غير. ولكن حينما يتحول إلى فعل إعادة الكتابة، فإنه يتلبس سؤالها بالنص وبأفقه الشعري في آنٍ.

ثانيًا: تبرز فاعليتها في القيمة والتداول من خلال لغتها، دون أن تنفصل عنها في ذاكرتها وفي أفقها التلفُّظي. وهذا الفعل الشعري هو ما دعوتُه بذاتية الكتابة، من حيث هو توقيع شخصي يمس كلية العمل؛ لأن تحقُّق تلك الذاتية ليس سمة إضافية تلحق بالنصوص لكي تسميَ عملًا أو ديوانًا دون غيره، بل هي قيمة وتداولٌ في تاريخية البناء الشعري لشعرية محمد بنيس؛ ففي اللغة يكون سؤال الكتابة اختبارًا لهذه المعرفة، أي أن الكتابةَ هي كلٌّ لا يظهر في اللغة ويحضر من لدن الذات حضورًا غيرَ مسبوق؛ لذلك تتضمن ممارسة بنيس شرطَ تجددها في بناء النصوص. ولم تكن هذه المغامرة تجريبًا لأشكال وأدوات نصية، بقدر ما كانت ممارسة ذات توقيع شخصي يتميز بقوة الفعل والأثر في المعرفة الشعرية وإمكاناتها أثناء تتبع القارئ لها. وبقراءته للمتن لا يحس بالمختلف، بل يعيه، وذلك هو رهان شعرية بنيس.

ثالثًا: لا تنجذب، في الممارسة النصية، إلى المقولات، بل تخلق وتبني باستمرار صِيَغاً لما يمكن أن يُكتب. قد يتعارضُ الممكنُ النصيُّ مع تلك المقولات، سواءٌ أكانت فلسفية أم شعرية أم جامعة بينهما؛ إذ تغدو -في هذه الحال- متعالية على جوهر الكتابة نفسِها، فتلغي فاعليتَها التي حفرتها بلغتها الخاصة. ولهذا السبب كان الممكن، في ممارسة بنيس، متعددًا وغير متعين بشكل أو صيغة، وإنما يتخذ من الصيغ ذلك المستمرَّ الذي يتأصَّلُ في المحو والنقصان. والحركاتُ الثلاث التي تحدَّثنا عنها آنفًا: تفضية الكتابة، وإعادة الكتابة، ومادية الكتابة، نابعةٌ من روح الإبدال الذي تخلقه النصوص أثناء البناء، بطريقة متداخلة ومتفاعلة مع بعضها؛ فكل حركة تفضي إلى الأخرى من غير أن يكون لإحداها الأسبقية أو الأولوية على الأخريين.

هي فعلٌ وليست ردَّ فعل

وهذا ما يفسر أنها نفيٌ لأيِّ سلطة كيفما كانت طبيعتها؛ ولا يأتي هذا النفي تَبَعًا أو ردَّ فعل بعدي لما يمكن أن تمارسَه تلك السلطة، بل هو مبدأ جوهرٌ وثابتٌ، يتحرك بهذا الأفق كلما كانت السلطة مهيأةً لتخريب أداة من أدواتها المنتجة.

وقد تكون هذه السلطةُ شعريةً وذاتَ خطاب يناقض خطابَ الكتابة من جهة النظر إلى الشعر في طبيعته ومآله، وإلى اعتباره سؤالَ حياة حديثة وحداثية. ولذلك فهي تشرعن الانفتاحَ سلطةً للشعر، بما هو حوارٌ له تاريخيته الكونية، وفعلٌ مثبَتٌ في النصوص القديمة والحديثة.

وبما أن الكتابة فعلٌ، فهي مراجعةٌ، بالقصيدة ومآلها، لهذا التاريخ الذي يظل مسكونًا باعتباراتٍ قد لا تكون شعريةً في أصلها، ومن الطبيعي ألا تكون ردَّ فعل تجاه بنية قَبْلية، سواء في النظر أم في الممارسة؛ ويعني ذلك أنها في غنى عن أي تبرير يمس أفق اختيارها إزاء بنية شعرية كالتقليدية أو الرومانسية؛ فقد تكون مناقضة لهما في التصور والبناء لكنها ليست ردَّ فعل تجاههما سلبًا أو إيجابًا؛ لأنها تروم سؤالًا مختلفًا لا يوجد في البنيتين معًا. وبهذا الاختلاف تنأى عن مسيرهما لتبنيَ فعلها الخاص دون إي إلغاء.

حوار‭ ‬الكتابة‭ ‬والنأي‭ ‬عن‭ ‬التعبيرية

bbb-4كلما اختبرت الكتابةُ شعريتَها في الأبنية النصية، تضاعفَ بحثُها عن ممكنها؛ غير أنه بحثٌ لا يتقصَّى النظريات ويسقطها قسرًا على النصوص، بل يكشف العناصر النظرية من داخلها عبر الحوار والمراجعة والتقريب. ذلك هو مناطُ سؤال الكتابة عن ذاتها لدى بنيس، الذي أقام عميقًا مع المتغيرات النظرية في الشعريات العالمية، سواء تلك التي اختارت الكتابةَ بديلًا مفهوميًّا عن الأدب، أم تلك التي رأت الكتابةَ نسقًا خاصًّا بإمكانه أن يغدوَ جنسًا في الشعر والنثر على السواء. وبالابتعاد عن التعبيرية أصبح «الانكتاب» أفقًا نصيًّا يضاعف احتمالات التركيب بكل تجاوباته لإنتاج الدلالية. وبهذه الصيغة توافقت «اليد الثالثة»، التي استشعرها بنيس في ممارسته، مع مجهول موريس بلانشو، ومع محتمل نيتشه، وغائب جورج باطاي. ولكنه توافقٌ يحتمي باللغة العربية، باعتبارها عنصرَ حوار يمجدُ ماء الكتابة عبر إعادة قراءة تاريخ منجزها الشعري وغير الشعري.

ومن اللافت للنظر أن النص المتعدد لدى بنيس، بعيدٌ كل البعد عن أي تمثيل كيفما كانت موارده وصيَغه. ويعني ذلك أن الكتابة ليست موضوعًا مباشرًا في نصوصه، وليست تمثيلًا موجِبًا لأي تصنيف موضوعاتي تحت مُسمَّى التجربة، ولكنها سياقٌ متجددُ الحضور من خلال نصوصٍ متجاورة ومتحاورة ومهاجرة بين مختلف الدواوين، لا تقف عند وضع واحد أو عنصر واحد ضمن آلية المشابهة. إنها بعيدة، في الآن نفسه، عن الترميز بحكم ماديتها التي تَحُولُ دون المجاز، علمًا بأنها تستدعيه لتبينَ حدودهُ المحمولةَ بالقول؛ ولهذا يفرق محمد بنيس بين القول والكتابة؛ التماسًا لذاكرة الحواس في حيويتها، بعيدًا عن قصيدة الذاكرة، وقصيدة المعادل الموضوعي والقناع وغيرها.

هذه بعض عناصر الاقتراب من مادية الكتابة، بما هي ذاتيةٌ تتشكل أثناء البناء، لا قبله ولا بعده. وفيه يجد محمد بنيس تاريخية ممارسته الشعرية بالحوار مع السلالات الشعرية الباذخة، عبورًا بين جنازة الذات وجنازة اللغة؛ حيث يرتفع نداء المنافي إلى بذرة المجهول وماء الكتابة في كتاب يسْطُره المستقبل.

———————————-

الهوامش:

(1) عز الدين الشنتوف: شعرية محمد بنيس: الذاتية والكتابة، دار توبقال للنشر، ط1،  2014، ص99.

(2) Gilles Deleuze, L’image-Mouvement, éd.Minuit, Paris, 1983, P9

(3) لا نقصد بالتمثيل الاصطلاح البلاغي الفج، بل نقصد به: représentation inconditionnée، كما صاغه بول ريكور في كتابه: la métaphore vive؛ أي ما تنتجه النصوص من إمكانات خاصة بها، في المعجم والتركيب والخطاب؛ التماسًا لخصيصة الكتابة. وقد أكدنا في نهاية المقال على غياب التمثيل بالمعنى الأول.

(4) محمد بنيس، الأعمال الشعرية، ورقة البهاء، ج1، ص 24.