سمير أمين.. العربي الذي فكّر للعالم

سمير أمين.. العربي الذي فكّر للعالم

لم يحظَ سمير أمين (1931– 2018م)، المفكر السياسي المصري الأصل – الفرنسي الجنسيّة وأحد أهم أساتذة الاقتصاد السياسي وأمتن منتقدي النظام الرأسمالي العالمي في صيغته المتأخرة بما يستحقه من اهتمام على الصعيد العربي. إذ هو بعد تجربة قصيرة لم تزد على ثلاث سنوات نهاية الخمسينيات في بلاده مصر مكلفًا بملف التخطيط المركزي فيها انتهى إلى خلافات مع الضباط الأحرار؛ إذ كان أمين وقتها شابًّا صغيرًا وصريحًا جدًّا وربما راديكاليًّا أكثر مما يمكن أن يتحمله العسكر، فغادر مسقط رأسه إلى منافٍ اختياريّة بين باريس ودكار مرورًا بعدة حواضر إفريقيّة أخرى، مع تجوال معولم أخذه خلال ستين عامًا من العطاء المهني والفكري الثري إلى معظم عواصم العالم الثالث محاضرًا ومحاورًا ومستشارًا لقادة وأنظمة سياسيّة فيما يعرف بدول الجنوب، كانت تبحث عن بدائل لحل معضلات التنميّة في مواجهة تمركز الثروة والنفوذ عند دول الشمال الأوربي – الأميركي الغني. كان أمين بالفعل وفق وصف البروفيسور المكسيكي فرانشيسكو كاربويو «نوعًا مختلفًا من الخبراء التكنوقراط: لديه مواقف سياسية نظريّة جدية، ولكنه أيضًا ذو خيال واسع في وظيفة تتطلب سلوكًا مهنيًّا جامدًا، وهو بالفعل عمل دائمًا بمنهجيّة علميّة صارمة لكنّه وعلى النقيض من معظم التكنوقراط الغربيين كان مهتمًّا بإنتاج سياسات تستجيب للظروف الخاصة بالمجتمعات المحلية بدلًا من استيراد الوصفات الأجنبية أو تطبيق دوغما الكتب المدرسية بشكل أعمى على حياة الأشخاص الحقيقيين».

أمين في مجموع أعماله العديدة المنشورة (أكثر من ستين كتابًا ومئات الدراسات والمقالات والمقابلات) ومحاضراته التي كانت تحظى دائمًا بإقبال كبير ترك منظومة نظريّة متكاملة لا تكتفي بتفسير حالة العالم الشديد التعقيد كما انتهت إليه في عهد «خرف» الرأسماليّة المتأخرة –على حد تعبيره– بل ترسم طريقًا ومنهجيّة عمل لتغييره نحو غدٍ أفضل للبشريّة في مجموعها، لمصلحة الكثرة المهمشة لا لاحتكارات القلّة الثريّة. أفكاره الجريئة والمبنية على أسس أكاديميّة صارمة جعلته من أعلى الأصوات في نقد الإمبراطوريّة الرأسماليّة المعولمة، وأكثرها إثارة للجدل مع الاقتصاديين النيوليبراليين الذين عادوه بشدّة. البرفيسور نيرمال تشاندرا، مثلًا، قال: إن «نظريات أمين وعلى أهميتها الأكاديميّة فإنّها تبقى في النهاية شديدة التبسيط، تحاول الادّعاء بالقدرة على فهم الهوة المتزايدة بين الشمال والجنوب باستخدام عدد محدود للغاية من المتغيّرات»، كما لا يكاد يخلو عدد من المجلات الأكاديميّة المخصصة لدراسات التنمية من مقالة أو اثنتين في نقد أمين من منظور أساتذة الاقتصاد النيوليبرالي الذين يسيطرون على معظم كليات الاقتصاد في الغرب. لقد كان مفكرنا الراحل من أشد منتقدي فكرة السوق ذاتي التنظيم –المركزيّة في الاقتصاد الليبرالي- وصاغ في ذلك نقدًا علميًّا قاسيًا للمناهج النيوليبراليّة التي عبثت بمجتمعات دول الجنوب وسلمتها فريسة قريبة ليد مؤسسات المال والبنوك الدوليّة فعاثت فيها خرابًا، كرّس تبعيتها لمنظومة الرأسماليّة المتأخرة واستهلك مواردها في مشاريع تنميّة مستحيلة. وقد كتب هوراس كامبل يقول عن دور أفكار أمين في الكشف عمّا أسماه الاحتيال المموه تحت عباءات دراسات التنميّة وتقارير المؤسسات الدوليّة بشأنها: «وحدها إعادة قراءة سمير أمين اليوم تمكننا من استيعاب حقيقة أنه بعد خمسين عامًا من تقرير بيرسون (شركاء في التنمية) وتقرير براندت (نحو إنهاء الفقر والجوع) والتقارير التي لا عدد لها من البنك الدوليّ، وما سمي مبادرة الألفيّة لأهداف التنميّة ولجنة بلير من أجل إفريقيا، أصبح الأفارقة اليوم أفقر وأكثر عرضة للاستغلال مقارنة بهم في عام 1960م».

تجاهل من الرفاق الماركسيين

وإذا كان فكر أمين مثار جدل مع الليبراليين، فإنه تعرّض أيضًا إلى إعتام وتجاهل متعمد من جانب الرّفاق الماركسيين في اليسار الغربي الذين لم تشفع لهم ماديتهم التاريخية من الوقوع في شباك المركزيّة الأوربيّة –الغربيّة– وافتقدوا الخيال اللازم لتصور منجز فكري أو حضاري يأتي من خارج فضاء الغرب. ويقول أندريه فليتشيك عن ذلك: «كان المفكر الراحل يدرك تمامًا أنّه في الغرب، تكاد لا توجد رغبة بالتخلي عن الامتيازات، أو الدخول في صراعات من أجل عالم يتسم بالمساواة والعدل. وبينما يندد العديد من المثقفين الغربيين -التقدميين- بالظّلم العالمي وبإمبرياليّة الغرب (المركز الشمالي)، فإنهم لم يرغبوا في النّضال أو حتى مجرّد التصويت من أجل كوكب يتسم بالمساواة. اليسار الغربي معنيّ فقط ويكافح لأجل تقديم الامتيازات لشعوبه (ساعات عمل أقصر، وتحسين الرّعاية الطبيّة، وزيادة الأجور، وما إلى ذلك) وفي الغالب على حساب الفقراء والشّعوب شبه المُستعمَرة في العالم أو ما يسميه أمين بالجنوب».

تخلّف دول الجنوب المشهود وفق رؤية المفكر الراحل ليس نتاج محدوديّة تشبيكها في منظومة الاقتصاد العالمي، بقدر ما هو حصيلة لازمة لارتباطها الشديد بتلك المنظومة كمجرّد جرم تابع. وقد جزم بأن عمليّة نقل التصنيع الكثيف من (المركز) الغربيّ إلى (الأطراف) -أي دول العالم الثالث- لم تهدد أسس هيمنة المركز بقدر ما كرّست ارتهان وتبعيّة دول الجنوب، في الوقت الذي مكنت فيه لدول المركز من إضعاف طبقاتها العاملة المنظّمة. ولذلك يقول البروفيسور كاربويو: إنّه «لا عجب في أن مثقفين وقادة كثرًا عبر الجنوب من الصين وأميركا اللاتينية وبالتأكيد إفريقيا وجدوا أمينًا روحًا ملهمة. لقد قدّم للعالم صياغة قوية لموضوعات كانت معضلات أساسية لليسار خارج الغرب وتأكيده -كمفكر من الشرق الأوسط- على أن المشاكل التي تواجهها دول الجنوب تكاد تتطابق في جذورها».

لم يقع أمين في نظرته إلى الغرب رهينة مركزيّة منعكسة من الأطراف هذه المرّة. فهو كان يرى أن استقلال دول الجنوب وتحالفها معًا في مواجهة المركز المهيمن سيهيِّئ المناخ لإنقاذ النوع البشري كلّه من أنياب النظام الرأسمالي فيما إذا تمكنت القوى العاملة في الشمال الغني من موازاة ذلك بكسر احتكار برجوازيّة بلادها لمصلحة علاقات متوازنة مع دول الجنوب تغني الطرفين، وتسمح بنَشْل بلايين البشر من أوضاعهم الرثّة وحياتهم عديمة المعنى. ووفق نيك ديردن فإن أمينًا بهذا المعنى «يطرح تحديًا وجوديًّا على الناشطين في الشمال الغني؛ إذ إن دعم تغييرات جذرية تمسّ بنية الاقتصاد العالمي قد يعني في الوقت نفسه تقلّص امتيازات مجتمعات دول الشمال، وينهي أسطورة التدخل الإنساني الغربي ونظام المساعدات الخيريّة الطابع التي تخفق دائمًا في تغيير علاقات القوّة التاريخيّة الطابع بين الطرفين».

وللأمانة فإن رؤية أمين لكسر هيمنة المركز الغنيّ لم تكن يومًا من خلال ثورات عنفيّة حاسمة تنقل المجتمع إلى يوتوبيا اشتراكيّة في اليوم التالي كما عند اليساريين الحالمين، بقدر ما كانت نوعًا من طريق طويل ورحلة بناء مجتمع جديد – قد تكون أحيانًا مؤلمة – نحو الغد الأفضل، لكنها عنده بمنزلة الأمل الوحيد لوصول المجتمعات إلى العيش الرغيد. وعن ذلك كتب ديردن: «ربما يبدو سمير أمين مثاليًّا في تصوراته عن المستقبل، لكن هذا أبعد ما يكون من الحقيقة. فهو يرفض صراحة فكرة الثورة في يوم وليلة وأعمال التمرد التي تدعي التحول إلى الاشتراكية. وهو يتقبل وجود حاجة لاستخدام رأس المال الخاص، حتى الدولي، من أجل تنويع اقتصادات الجنوب. الشيء المهم عنده هو السيطرة الممهنجة على توجهات ذلك المال ولذلك تحدث عما أسماه (الطريق الطويل للانتقال إلى الاشتراكية)».

وعلى الرغم من أنه تحوّل إلى أيقونة أكاديمية عالميّة وخبيرًا لا يشق له غبار في الاقتصاد السياسي فإنه لم ينعزل يومًا خلف أسوار الجامعات، بل أخذ خبرته ومعارفه إلى تجارب حركات التحرر الوطني والدول الحديثة الاستقلال التي ورثت الاستعمار الكولونيالي المباشر في القرن العشرين، بداية من تجربته الأولى مع مصر الناصريّة ثم مستشارًا اقتصاديًّا لعدد من القادة الأفارقة الثوريين في تنزانيا وأنغولا والسنغال، ولاحقًا كأحد المفكرين العالميين الأكثر قربًا من القيادة الصينية إلى جانب رئاسته لمنتدى العالم الثالث في السنغال لحين وفاته. وقد أغنت تلك التجارب فكر أمين كما أغناها هو بفكره، وجعلت من كتاباته أقرب ما تكون تدوينات عالم آثار بارع يصف لُقْيَاتِهِ من الخنادق الأماميّة. وعن ذلك كتب البروفيسور باربات باتنك يقول: «يتمايز أمين عن معظم المثقفين الحداثيين الآخرين في عصره بالتزامه الكلي والمطلق بالتطبيقات العمليّة للأفكار الاشتراكية. فهو لم يكن مجرد منظّر يجلس في برجه العاجيّ ويستخدم أدوات الماديّة التاريخيّة لتحليل الواقع المعاصر كنوع من النشاط الفكري المنفصل عن الحياة، بل كان على عكس ذلك تمامًا: ناشط ملتزم بشغف يوظّف مشروعه الفكري كمساعد له على الممارسة العملية. وهو لم يملّ يومًا من محاولة تنظيم زملائه الناشطين للقيام بتدخلات فاعلة تستهدف إحداث تغيير وقد استعانت به العديد من المنظمات غير الحكومية لتوجيه جهودها الإنمائيّة».

ومع أن الراحل صنع مجده الفكري في أجواء غربية فإنه لم يسقط أسير تناقضات انشطار الهويّة التي انتهى إليها معظم مثقفي العالم الثالث، الذين درسوا في الغرب وتملكتهم الدونية تجاهه. وعلى حد وصف فليتشيك: «لقد تمتع أمين بثقافة موسوعيّة وذائقة نقديّة عاليّة واستقلال فكريّ حاسم مكنه من تقديم قراءة تحررت من المواقف المسبقة والنظريّات المنزوعة من سياقاتها التاريخية والثقافية والجغرافية التي تتداول بكثافة على يمين الفكر الغربي كما على يساره». ولذا يحق له أن يكون كما وصف نفسه تمامًا (مفكر ماركسيّ خلّاق) يبدأ من ماركس لكنه لا ينتهي عنده أو عند لينين أو ماو تسي تونغ أو عند أي أحد، بل يأخذ من هؤلاء وغيرهم أدواتهم النقديّة ليبني فوقها تصورًا محدّثًا للعالم كما هو في عصر الرأسماليّة المتأخرة ليس بغرض تحليله فحسب، بل الأهم من ذلك لتقديم حلول عمليّة لمواجهته وتغييره. ويصفه البروفيسور كاربايو «بالمفكر غير المطيع الذي تمرد على كل عقيدة ممكنة واصطحب أفكار ماركس في رحلة استثنائية حول الكوكب. بفضل أمين أخذ الاقتصاد السياسي لماركس شخصية عالمية الطابع أكثر. وقد أظهر للمثقفين في جميع أنحاء الجنوب بأنه ليس ضروريًّا اقتصار تفكيرهم على قضايا مجتمعاتهم الضيقة ولكن يمكنهم أيضًا تقديم مساهمات حاسمة في النظرية الاجتماعية. فمنظرو الجنوب وعلماؤه، ليس عليهم الاكتفاء بإنتاج حواش للعمل الذي أُبدع شمالًا، لكن بإمكانهم في الواقع صياغة جدول أعمال للمناقشات العالمية. هذا جزء من إرث أمين وله أهمية كبيرة».

صورة أمين الفيلسوف والأكاديمي والخبير الدولي لا ينبغي أن تخفي جانبه الإنساني الفذّ، وهو جانب لا يقل لمعانًا عن إرثه الفكري المبهر، وكما قال فيه البروفيسور باربات باتنك: «لن يكتمل سرد لحياة أمين من دون الإشارة إلى دفئه الكبير وكرمه وحماسه، كما ضحكته التي لا تغيب، وطاقته اللافتة للنظر وقدرته على التقريب بين الناس لدفعهم للعمل معًا في تجارب تغيير. لقد كان شخصية تثلج الصدر، والتحدث إليه تجربة تعلُّم استثنائيّة، سواء أكان متفقًا معك أم غير متفق».

لقد خسر العالم سمير أمين مرّة، لكن العالم العربي خسره مرتين.

البريطاني بانكسي ضمير الناس العاديين رسوماته على الجدار الإسرائيلي تتحدى الاحتلال بأحلام الصغار وبالوناتهم

البريطاني بانكسي ضمير الناس العاديين رسوماته على الجدار الإسرائيلي تتحدى الاحتلال بأحلام الصغار وبالوناتهم

رغم أن من يعرفون الشخصية الحقيقية لـ(بانكسي) فنان غرافيتي الشوارع البريطاني الأهم يُعدون بالفعل على الأصابع، فإن أعماله تحولت إلى ما يشبه أيقونات تعبير بصري لاذع يتداولها الملايين في المعمورة، واقتحمت رسوماته عالم الفن المؤسسي الرسمي كعاصفة هوجاء، فأصبحت تُباع بأرقام فلكيّة في أشهر دور المزادات العالميّة، وسُجلت بالفعل حالات سرقة لحوائط قام بها معجبون أو لصوص فن معاصر بعد أن أعاد بانكسي تشكيل هويتها بالرسم عليها، وإعطائها ملامح وألوانًا لتصير خطابًا متمردًا يُقرأُ من على صفحة جدار.

من أعمال بانكسي

«الفن في عالمي هو ألَّا يُقبَض عليك» يقول بانكسي في مقابلة نادرة. ففن الغرافيتي رغم كثرة المعجبين، له أعداء كثر ويحرّمه القانون ويمكن أن ينتهي بصاحبه إلى السجن بتهمة تخريب الممتلكات العامّة. ولذا فكل عمل جديد لبانكسي أشبه ما يكون بمغامرة مثيرة، كأنها أمرٌ دُبِّر بليْل، لتستيقظ المدينة التي مرّ بها هذا الساحر الغامض وقد استعيد أحد حوائطها للملكيّة الشعبيّة من خلال تخطيطاته التي تقول أعقد الأفكار برموز بصريّة بليغة، ولتتحول مزارًا وتنتشر في العالم كله خلال ساعات. لا تعيش هذه الكميونات البانكسيّة طويلًا؛ إذ في الأغلب تُرسل السلطات سريعًا من يزيلها وهو أمر يدمي القلب فعلًا، إذ إن كثرة من أعماله تحولت إلى مجرد ذكريات قديمة في ذهن من شاهدها، أو التقطت لها بالكاد صور فوتوغرافيّة قبل إزالتها.

في لندن مثلًا، أُزيل أربعون من أصل ثلاث وخمسين لوحة جداريّة تأكد نسبها لبانكسي. لكنّ تصويتًا عامًّا أجراه مجلس المدينة في بريستول مسقط رأس بانكسي بشأن إزالة إحدى جدارياته التي رسمها بالقرب من مبنى المجلس انتهى إلى تأييد حاسم من الجمهور لمصلحة بقاء الجداريّة. لقد تحول بانكسي إلى ضمير الناس العاديين في مواجهة تغوّل السلطات وانفلات الرأسماليّة.

بانكسي ابن بريطانيا الربع الأخير من القرن العشرين. كانت تلك الحقبة باهتة لمجتمع مات قديمه الإمبراطوري المنتفخ ولمَّا يولَد جديده بعد. فانطلقت الصراعات الاجتماعيّة والإضرابات، وعاشت أحياء الطبقة العاملة مدة طويلة من الانحدار المديني والفقر. تلك الحقبة ذاتها شهدت انفجارًا غير مسبوق لظاهرة فن غرافيتي الجدران كوسيلة تعبير عن تمرد الجيل الجديد وأشواقه. بانكسي نفّذ أول أعماله في تلك الأجواء بأحد أحياء بريستول الفقيرة بعدما طُرد من المدرسة لارتكابه بعض المشكلات وهو حينها في الرابعة عشرة من العمر. ويبدو أن ذلك الولد الغاضب وجد في الغرافيتي نوعًا من خلاص وجوديّ، ما لبث أن تورط به ورطةً أبديّةً أوصلته إلى مكانةِ مَن يمكنه أن يدلو بدلوه في تشكيل فنون التعبير البصريّة المعاصرة، ودفعت بخبراء الدراسات الثقافيّة إلى إعادة النظر في ديناميكيّات الفنون الشعبيّة بمجملها.

من أعمال بانكسي

يقول بانكسي: إنه بدأ مثل كل فناني غرافيتي الشوارع، يحمل علبة رش ألوان ويحاول ضمن مجموعات من الشبان أن يغافل العيون ليترك رسمًا على جدار مبنى أو عربة قطار. في إحدى تلك التجارب الأولية حضرت سيارة الشرطة بسرعة إلى محطة القطارات العامة؛ لذا ركض الفنانون الصغار هربًا، لكن بانكسي تأخر عنهم، فاضطر إلى رمي نفسه تحت إحدى الشاحنات المتوقفة جانبًا التي لسوء حظه كانت تقطِّر زيتًا، فملأت وجهه وثيابه. مع ذلك فإن تلك اللحظات الطويلة من الترقب كانت حاسمة في المسار الفني التقني لبانكسي؛ إذ تيقّن حينها أنه بحاجة لاختراع طريقة تسرّع تنفيذ العمل الجداري بمقدار النصف على الأقل، إن هو رغب في تجنب اعتقاله من السلطات. كانت الشاحنة التي استلقى تحتها قد رشت بعض قطعها بألوان مستحدثة؛ لذا فقد قرر من وقتها أن يوظّف تقنية الرش بالإستنسل لتنفيذ رسوماته الجدارية بدلًا من الرش مباشرة على الجدار، ولتتحول تلك الطريقة تحديدًا – بحكم الأيام – إلى بصمة فنيّة طبعت أغلب أعماله.

في تلك البدايات، انتحل بانكسي بداية اسم روبن بانكس (الذي يمكن أن يقرأ على أنه سارق بنوك)، لكنه لاحقًا تخلى عن روبن، واكتفى بتوقيع جدارياته الجريئة ببانكسي، الأسهل للتذكّر. وبالفعل أصبح ذاك التوقيع كافيًا لتحويل أي عمل له إلى قيمة ماليّة عالية تجاوز بعضها نصف مليون جنيه إسترليني، واختارته مجلة التايم الأميركيّة بوصفه إحدى الشخصيات المئة الأكثر تأثيرًا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى جانب أمثال باراك أوباما وستيف جوبس والليدي غاغا. لكنّه كعهده دائمًا استمر في إخفاء شخصيته الحقيقيّة بعناية، وأرسل إلى التايم صورة له وقد لبس على رأسه كيسًا من ورق يمكن إعادة تدويره.

جداريات في مدن العالم

من أعمال بانكسي

بعد البدايات في بريستول، يبدو أن بانكسي انتقل للعيش في الجنوب الشرقي من إنجلترا، وبدأت أعماله تتوالى تباعًا في شوارع لندن منذ عام 1999م وأحيانًا في برايتون. لكنه بأدوات تعبيره العبقريّة ترك جداريّات له في مدن عدة: سان فرانسيسكو، وديترويت، وفيينا، وباريس، وبرشلونة، وبيت لحم. بالطبع فإن نجاحًا مثل هذا يشجع محاولات التقليد أو التزوير، لذا أَطلقَ منظمة خاصة به أسماها هيئة مكافحة الحشرات تتولى تأكيد أعماله وتوثيقها، وتعمل على حمايته من المتطفلين والفضوليين وأعداء فن الغرافيتي. بانكسي لذلك ربما يكون أكثر فناني العالم اليوم تحكمًا بسرديته عن ذاته. في عام 2001م نظم بانكسي ورفاقه من فناني غرافيتي الشوارع ما أسموه بمعرض فني لهم. لم يكن ذلك معرضًا تقليديًّا، بل استعراضًا لجداريات داخل نفق مهجور بالقرب من إحدى حانات لندن الفقيرة. ومع أن (المعرض) كان شديد الارتجال ولم يعلن عنه بشكل تجاري، فقد حظي بإقبال مميّز وزاره مئات الأشخاص. لكن الأهم أن بانكسي اكتشف فائدة المعرض كفضاء أكثر حريّة لقول ما يريد، أقلّه مقارنة بجداريّات الشوارع التي إن تجاوزت حدود الكلام المباح أزالتها السلطات قبل انقضاء اليوم، لذا فنظَّم بعدها معرضه الأشهر إلى اليوم في هاكني بلندن عام 2003م بعنوان: «حروب الحدود»، الذي أصاب المشهد الثقافي والفني للعاصمة بالإبهار سواء من حيث قوة الرموز في الأعمال المطروحة أو من حيث حرفية الإنتاج التقني للعمل، وهو ما أثار جدالات واسعة.

من أعمال بانكسي

استمر بانكسي بعدها في رفع مستوى التحدي لكل سلطة بما فيها مؤسسة الفن الرسمي. وهو لذلك لم يكتفِ بغزوات الشوارع الليليّة، بل شنّ متخفِّيًا جولات له على متاحف عالميّة في عواصم مختلفة – منها اللُّوفر باريس، وتيت لندن، وميتروبوليتان نيويورك – مضيفًا على حوائطها لوحات من أعماله المستفزّة التي تسخر من اللوحات الفنيّة المشهورة باستخدام نسخ منها أفسدها بملصقات يوميّة تافهة. لكن شهرة بانكسي العالميّة بدأت فعليًّا منذ عام 2005م عندما سافر إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة ورسم أعمالًا عدة على الجدار الإسرائيلي العازل تتحدى الاحتلال بأحلام الصغار وبالوناتهم، بل رسم صبيانًا فلسطينيين وقد نقبوا الجدار، فبدا خلفه مشهد من جنّة مفقودة. وانتقل إلى الضفة الغربيّة أخيرًا لينظم حفل شاي بريطانيًّا ساخرًا للأطفال الفلسطينيين نقل فيه رسالة منحولة من اعتذار ملكة بريطانيا لهم عن وعد بلفور عشيّة مئوية ذلك الوعد المشؤوم. بِيعت أعمال لبانكسي في مزاد علني عام 2008م بمئات الألوف لكل منها، اقتنتها شخصيات معروفة في مجالات المال والأعمال والفنون والتمثيل بمن فيهم حفيد جيه بول غيتي الذي دفع 650 ألف دولار لإحدى اللوحات. وأنجز بانكسي فلمًا وثائقيًّا عن فن الغرافيتي رُشِّح لإحدى جوائز الأوسكار في فئته. وقد أطلق بعضهم وصف (تأثير بانكسي) على قدرته المدهشة على منح الفن المديني الشعبي مزيدًا من الشرعيّة كمنتج ثقافي، وإكسابه الصلاحيّة لتوليد القيمة الماليّة في أجواء المتاجرة بالفنون. هذا التأثير تحديدًا يثير على مستوى آخر انتقادات حادة تستهدف بانكسي من اليمين ومن اليسار على حد سواء. فهو عند نقادٍ مهرج يتربح من الرأسماليّة التي يهجو، وممثل فوضوي يعيش رفاهيّة باذخة من خلال تسويق بضاعة التمرد على المنظومة التي تحتفي به، ومدَّعٍ يخفي شخصيته بتكلفة عالية لا خوفًا من رجال البلديّة بل لخلق مزيد من الهالة التسويقيّة لأعماله. وقد وصفه أحدهم بـ«اشتراكي حفلات الشمبانيا الأممي»، ولا سيّما أنه يتنقل عند تنفيذ أعماله الغاضبة بسيارة فارهة يقودها سائق خاص!

لا شك أن في هذه الانتقادات شيئًا من الواقعيّة. حتى بانكسي نفسه لا ينكرها، فهو كتب على موقعه على الإنترنت بعدما بِيعت واحدة من لوحاته بأكثر من نصف مليون جنيه إسترليني: «لا أصدّق أن أحدًا ما يمكن أن يشتري هذا الهراء»، وقد نقل عنه قوله مثلًا: «أنا بالفعل معجب بقدرة الرأسماليّة على استيعاب الجميع من أجل الأرباح حتى أعدائها»، وهو يقرّ بأنه يكسب الملايين الآن من بيع أعماله وكتبه عنها (أصدر أربعة منها إلى الآن – بعناوين لافتة كعهده دومًا – بيع منها ما يزيد على المليون نسخة)، لكنّه في الوقت ذاته يمنح معظم أعماله من دون مقابل، ويرفض تنفيذ أعمال تسويقيّة للعلامات التجاريّة الكبرى رغم العروض المجنونة والإغراءات التي يستمر في تلقيها، ويوفر نسخًا عالية الجودة من معظم أعماله الجديدة على موقعه الإلكتروني لتحميلها من دون مقابل، ويُنفق كثيرًا من مكاسبه لدعم منظمات المجتمع المدني في الأحياء المهمشة من مدن بريطانيا. وإن عالميّتة المفرطة لا شك تمنحه شعور الانتشاء بالشهرة من دون موبقاتها – حتى إن والديه ما زالا يعتقدان أنه يعمل دهانًا للبيوت والمكاتب – لكنّه يخاطر دومًا بإمكان تبخّر جزء كبير من هالته إذا كشف عن شخصيته لسبب أو لآخر. ويبدو أن هناك كثيرين يسعون لتحقيق هذا السبق الصحافي، وقد دفع أحدهم مئات من الدولارات لشراء علبة بيتزا فارغة قيل: إن بانكسي التهم محتوياتها بينما كان يعمل على إحدى لوحاته في لوس أنجلس بالولايات المتحدة، وقد اشتراها فيما يبدو من مزاد على الإنترنت ليرسلها إلى مختبر علَّه يكشف له عن البصمة الوراثيّة لبانكسي بطريقة أو بأخرى. لكن بغض النظر عن الرجل الذي هو وراء الشخصيّة، فإن المنظومة الرأسماليّة لا شك أنها تتساهل مع متمردين من طراز بانكسي، حيث تمردهم لا عُنفي، يعتمد أدوات بصريّة تثير العقول لكن لا تدفع للفعل وتحقق في النهاية أرباحًا طائلة.

المفهوم الغرامشي لتطبيقات الهيمنة

من أعمال بانكسي

تمثِّل أعمال بانكسي في مجملها تطورًا مثيرًا للجدل يُقوي المفهوم الغرامشي لتطبيقات (الهيمنة) في إطار الثقافة الجماهيريّة الشعبيّة تحديدًا. فأنطونيو غرامشي يرى في الهيمنة نتاجًا لتفاوض يحدث بين طرفي الصراع الطبقي: المجموعات المسيطرة في المجتمع، وتلك التابعة كميزان قوى متحرك بين الطرفين، وليس نوعًا من السيطرة التامة. ولا شك أن أعمال بانكسي تحديدًا تبدو أفضل مثالٍ على ذلك النوع من (التفاوض) في منتجات الفن المعاصر من دون أن يُسمح لها بالطبع أن تتحدى الأسس الاقتصاديّة للسلطة، وهي تعيد تعريف التمرد، وتسهّل مهمة إعادة تعليبه في سياقات من استهلاك عابر، وأفعال من القراءات المنفصمة في الأغلب لم تكن مقصودة، وربما غير متوقعة من مبدعها، تمامًا كما في مثال رولان بارت الشهير عن تجارة الرأسماليّة بشخصيّة تشي غيفارا، التي حولته إلى أيقونة تجاريّة لبيع منتجات جانبيّة تستهوي المراهقين المتمردين مع نزع كينونة الثائر الأممي تمامًا من سياقها الأصلي. لا ينخرط بانكسي مطلقًا في أية نقاشات مثل هذه، لكنّه يعلّق عليها من خلال أعمال تتزايد بقدرتها البلاغيّة الهائلة على التعبير عن أفكار شديدة التعقيد والعمق من خلال مساحات لونيّة بسيطة وكلمات أكثر بساطة توصل الرسائل للجميع من دون عناء بينما هم منخرطون في صراعاتهم اليوميّة من أجل لقمة العيش. عند بانكسي، إن فن غرافيتي الشوارع – المتمرد والثائر والخارج عن القانون – هو أرقى الفنون جميعًا، وتأتي كلّها دونه في قيمتها الأدبيّة وأقل مكانة عند الناس، وإنه أفضل رفيق لثورة الإنترنت التي كسرت احتكار البرجوازية للفنون، ودفعت به إلى الطبقات الشعبيّة في شوارع مدنها الفقيرة، رغم أنّه مثل الإنترنت تمامًا: متخم بالسفاهات، لكنه مع ذلك يضم جواهر في غاية النُّدرة.

ليس منتقدو بانكسي مجرد مثقفين يكتبون نصوصًا لهم على الفضاء الافتراضي أو أعمدة الصحف فحسب، بل إن هنالك منافسين أشداء، ومنتحلي صفات، ورجال شرطة لديهم أصفاد ترافقها أوامر باعتقال كل من يُقبض عليه مُتلبسًا بتنفيذ أعمال غرافيتي شوارع بغض النظر عن شهرتهم. لكن أشد أعداء بانكسي على الإطلاق هم موظفو بلديّات المدن الذين ينفقون سنويًّا ملايين الجنيهات على عمليات إزالة اللوحات الجداريّة من الشوارع وعن الجسور العامة والقاطرات. هؤلاء يعدُّون فن جداريّات الشوارع وباءً ينبغي استئصاله وبانكسي تحديدًا كمُلْهِمٍ لفوضويي المدينة ومراهقيها في تعديهم على الفضاء العام. يواجههم بانكسي بحلمه الدائم الاشتعال: مدينة لناسها، وفن غرافيتي الشوارع فيها مباح، وتحمل جدرانها مليون لوحة ولوحة في غابة من الألوان والتعليقات اللمّاحة التي تتغيّر مع حلول الليل لتُقرأ متجددة مع إشراقة كل يوم. ربما يبدو حلمه يوتوبيًّا اليوم، لكن إن حدث وتحقق، فإن سكان تلك المدينة لا شك سيصوِّتون بالإجماع تقريبًا لإعادة تسمية مدينتهم بـ«بانكسي سيتي».