مصائر متقاطعة تجمع زعماء وفلاسفة، كتابًا ونقادًا هتلر وفتغنشتاين، زميلا دراسة.. وكافكا وصديقه الخائن ماكس برود.. وهايدغر وآرندت: الحب المضطرب

مصائر متقاطعة تجمع زعماء وفلاسفة، كتابًا ونقادًا

هتلر وفتغنشتاين، زميلا دراسة.. وكافكا وصديقه الخائن ماكس برود.. وهايدغر وآرندت: الحب المضطرب

يحفل التاريخ الأدبي والفني والجمالي بغير قليل من الثنائيات الأدبية المشهورة، مثل الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر ورفيقة دربه سيمون دي بوفوار، كما يحتفظ السجل الشعري بالعلاقة المتوترة بين آرثر رامبو وبول فرلين والخارجة عن المألوف، كما لا تخفى علاقة لو أندريا سالومي بكل من نيتشه وراينر ماريا ريلكه، وغيرهم من أعلام الأدب والفكر والسينما الذين تقاطعت مصائرهم فعلًا، وجمعتهم علاقات حب أو مصلحة أو نشبت بينهم العداوة والغيرة، مثلما أن هناك علاقات وليدة المصادفة، قاسمها المشترك الوحيد هو الانتماء إلى البلد أو العصر عينه. هنا رصد لبعض الوشائج التي نسجت خيوطها مصادفة الدراسة بالمكان نفسه كما هي حال الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين ورجل الدولة الألماني أدولف هتلر، وأخرى كان فيها لتقدير المصلحة على الأمانة أثر لم يدر بخَلَد صاحب رواية «التحول» الذي أوصى بحرق كتبه لكن صديقه ماكس برود كان له رأي آخر، أو علاقة الحب المتكدر بين هرمين من أهرام الفكر والفلسفة في القرن العشرين، مارتن هايدغر وحنة آرندت.

أدولف هتلر ولودفيغ فتغنشتاين

غزافيي موميجون

في الموسم الدراسي 1903-1904م كان أدولف هتلر ولودفيغ فتغنشتاين يدرسان بمدرسة ريالشوله بمدينة لينز. وجهان لا يجمع بينهما أدنى شبه سوف يَسِمانِ القرن العشرين جذريًّا.

بداية الموسم الدراسي لعام 1903م استقبلت الريالشوله بمدينة لينز طفلًا استثنائيًّا. ولد يوم 26 إبريل 1889م، بعد ستة أيام من مولد أدولف هتلر. لودفيغ جوزيف يوهان ابن كارل فتغنشتاين، رجل أعمال محتال، على رأس ثروة هائلة، محب للفنون مثل حرمه ليوبولدين. من معارف الزوج هناك فليكس مندلصون، يوهانس برامس، غوستاف ماهلر، ويرعى غوستاف كليمت. إن شهرة آل فتغنشتاين تجعل منها إحدى الأسر اليهودية التي يشار إليها بالبنان في مدينة فيينا إبَّان حكم آل هابسبورغ.

ولعل هيئة التدريس تساءلت: لماذا حُرِم لودفيغ من معلميه الخاصين وألحِق بمدرسة تكوين المهن التقنية؟ أما ألُوِيس هتلر فقد سجل ابنه فيها حتى يبعده من هواياته: منذ كان يبلغ اثنتي عشرة سنة من عمره والفتى أدولف يحلم بأن يصبح رسَّامًا. لم يُظهر لودفيغ أي ميلٍ إلى الفنون بخلاف أخَويه هانس وبول، الموسيقين المرموقين. لكنه يحب العمل اليدوي. في سن العاشرة، اخترع لودفيغ آلة للخياطة تعمل بشكل جيد. وقد سُرَّ أبوه في نهاية المطاف بأن رأى من بين أبنائه الخمسة مَن يمكنه تولي المقاولة العائلية مِن بعده. أما هانس ورودولف فقد كانا يفضلان الموت على العمل بالكارتل العائلي. ولج لودفيغ الريالشوله عن اختيار، أما أدولف هتلر فقد سجل بها مكرَها. رسب مرَّتين وكان له مشاكل تتعلق بالسلوك والانضباط. أما لودفيغ فقد كان يحترم أساتذته ويكلم زملاءه من دون رفع الكلفة مما لم يسهم في شعبيته بين أترابه. في كتاب «كفاحي» يقول هتلر: «تعرفت في الريالشوله إلى فتى يهودي كنا نأخذ الحذر منه جميعًا، فقط لأن حوادث كثيرة دفعتنا إلى أن نرى في تكتمه علامة على الثقة المحدودة». لا شيء يدل على أنه كان يقصد لودفيغ فتغنشتاين.

يوم 3 يناير توفي ألويس هتلر جراء أزمة قلبية؛ عشرة أعوام بعد ذلك، يوم 20 يناير سوف يموت كارل فتغنشتاين جراء إصابة بالسرطان. عام 1904م يظهر ابن كل واحد منهما في صورة جماعية. أدولف يقف شابكًا ذراعيه وهو يحدّ النظر في المصوِّر، وفي الصف الذي أسفله، الثالث من اليمين، يظهر لودفيغ بوجهه الجميل ونظرته الحالمة. ويبدو أن كلًّا منهما نسخة من الآخر. طُرد هتلر من المدرسة وبات يكسب رزقه من رسم البطاقات البريدية. ترك لودفيغ الريالشوله عام 1906، وشرع في دراسة الهندسة بمدينة برلين. عام 1908م عام حاسم بالنسبة لهما معًا. أخفق هتلر في اجتياز مسابقة الفنون الجميلة، أما لودفيغ فذهب إلى جامعة مانشستر حيث سيطلع على مبادئ برتراند راسل وألفرد وايتهيد في الرياضيات ويصبح فيلسوفًا، ولن يصير هتلر رسَّاما أبدًا.

عام 1913م ورث لودفيغ ثروة لم يرغب فيها بينما كان هتلر يرجو الظفر بالـ819 كورونة من تركة أبيه. في العام اللاحق أقام في ميونيخ هربًا من واجباته العسكرية مجازفًا بإدانته بالتهرب من الخدمة العسكرية.

اندلعت الحرب. انخرط فتغنشتاين وهتلر في الجيش النمساوي. عُيِّن المهندس الشاب بادئ الأمر في معمل لأسلحة المدفعية بعيدًا من الجبهة. كتب طلبات كثيرة للانتقال إلى ميدان المعارك ونُقل عام 1916م إلى الشرق قرب الحدود الرومانية، وتطوع لموقع الرصد، المعرَّض للنيران على نحو خاص. خلال الهجوم المسمى بروسيلوف أُوصِيَ بتوسيمه وحصل على قلادة الشجاعة الفضية. لما انضم هتلر إلى صفّ المشاة شارك في المواجهات الدامية لمنطقة إيبر. بعد تعيينه ساعيًا برز نجمه لشجاعته وقُلِّدَ مرَّتين بوسام الصليب الحديدي. مع نهاية الحرب، كانت خسارة عائلة فتغنشتاين ثقيلة جدًّا. أثناء الهجوم على بولونيا بُتِرت الذراع اليمنى لعازف البيانو بول. شهر نوفمبر من عام 1918م، عند سماع خبر الهزيمة أطلق أخوه كورت رصاصة على رأسه، وسُجن لودفيغ على يد الجيش الإيطالي.

نحو عام 1920م كان لكتابين أثر الضجة في الأذهان. أحدث كتاب «الرسالة المنطقية الفلسفية» ثورة في المنطق، بينما جعل كتاب «كفاحي» من نقيض العقل أيديولوجيا سياسية. عام 1937م رجع فتغنشتاين إلى فيينا لقضاء عطلة أعياد الميلاد وسط العائلة، وكتبت أخته هِرْمِين في مذكراتها: «كان أجمل عيد قضيناه، بل تحدثنا عن عيد السنة القابلة». في العام اللاحق استحوذ هتلر على النمسا وذهب بول إلى سويسرا، بينما رفضت أختاهما هِرمِين وهيلين الرحيل واشترتا سلامتهما بثمن غال وذلك بتحويل جزء من الثروة العائلية إلى الرايشبنك، وصار هتلر مصرفيًّا لزميله القديم في الدراسة.

بعدما حاز كرسي الفلسفة بكمبردج عام 1939م، لم يعد لودفيغ يتحمل التدريس تحت وابل طائرات اللوفتهاف التي تدكّ مدينة لندن. عام 1942م غادر منصبه وأصبح مساعدًا بمستشفى غييس. وفي الثانية والأربعين من عمره كان يعمل في قلب بليز براتب مقداره ثمانية وعشرون شيلينغ في الأسبوع. ورغم متاعب الخدمة كان يجد الوقت لتدقيق وتشخيص «الصدمة»، واخترع جهازًا لقياس نبضات القلب. في العام اللاحق، يوم 20 يناير 1942م، خلال مؤتمر فانسي الذي جمع بعض الوجهاء النازيين جعل هتلر من القتل الجماعي مبدأ.

هنا تتوقف أوجه الشبه. في «أبحاثه الفلسفية» يقول فتغنشتاين: إن الأشياء هي كما هي وإن من واجبنا إيجاد شبه كاشف حتى نفهم كيف هي. وتبدو الريالشوله بلينز كأنها تلك الصورة التي فتنت الفيلسوف، التي يمكن النظر إليها مثل إوزة أو أرنب. ليس الرسم هو ما يتغيّر وإنما تمثلنا هو ما يتغير. حسب وجهة النظر، فإن الريالشوله كانت مدرسة تكوَّن فيها الأسوأ والأفضل. إن المدرسة تُعِدّ المستقبل لكنها لا تقول أي مستقبل هو.

في‭ ‬قفص‭ ‬الاتهام‭ ‬ينتفض‭ ‬بْرُودْ‭: ‬إذا‭ ‬كنتَ‭ ‬راغبًا‭ ‬في‭ ‬حرق‭ ‬أعمالك،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليك‭ ‬سوى‭ ‬حرقها‭ ‬بنفسك‭. ‬لماذا‭ ‬طلبت‭ ‬مني‭ ‬ذلك؟‭ ‬هنا‭ ‬تناقَش‭ ‬شجاعتي، ولا‭ ‬تناقش‭ ‬شجاعتك‭ ‬أبدًا‭! ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬المتهم‭ ‬قد‭ ‬سجل‭ ‬هدفًا،‭ ‬لكن‭ ‬كافكا‭ ‬رد‭ ‬عليه‭ ‬بصوت‭ ‬هادئ‭ ‬من‭ ‬مغنية‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها‭: ‬‮«‬حياتي‭ ‬وأعمالي‭ ‬كانت‭ ‬موسومة‭ ‬بميسم‭ ‬عدم‭ ‬الاكتمال‭. ‬حينما‭ ‬نشرت‭ ‬أعمالي،‭ ‬أنهيتني، أنا‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬مجرد‭ ‬شذرات‭ ‬متفرقة‭. ‬لطالما‭ ‬قلتُ‭ ‬إن‭ ‬الكتابة‭ ‬أجرة‭ ‬للشيطان،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عليك‭ ‬أنت‭ ‬بالتأكيد‭ ‬أن‭ ‬تصرفها‭ ‬نقودًا‭ ‬معدنية‭ ‬صغيرة‭. ‬والأدهى‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬بممارسة‭ ‬الرقابة‭ ‬علي‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬مصالحك‮»‬‭. ‬سُمع‭ ‬التصفيق‭ ‬في‭ ‬القاعة‭ ‬أوقفه‭ ‬الرئيس‭ ‬سليمان‭ ‬في‭ ‬الحال‭. ‬مالَ‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو‭ ‬نحو‭ ‬أذن‭ ‬سارتر‭ ‬وهمَس‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬بالضبط‭ ‬ما‭ ‬كنتَ‭ ‬تقوله‭. ‬أقتبس‭ ‬منك‭: ‬في‭ ‬العمق،‭ ‬لا‭ ‬ندفع‭ ‬أجرًا‭ ‬للكاتب،‭ ‬إننا‭ ‬نُطعمه،‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬حسن‭ ‬أو‭ ‬سيئ‭ ‬حسب‭ ‬العصور‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬للأمور‭ ‬أن‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬السير‭ ‬لأن‭ ‬نشاطه‭ ‬لا‭ ‬نفع‭ ‬له،‭ ‬إنه‭ ‬غير‭ ‬ذي‭ ‬نفع‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬المؤذي‭ ‬أن‭ ‬يعي المجتمع‭ ‬نفسه‮»‬‭.‬

اليوم،‭ ‬يخلط‭ ‬قراء‭ ‬كافكا‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬أورويل‭. ‬إنه‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك‭. ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يحلم‭ ‬بشيء‭ ‬سوى‭ ‬الانضباط‭ ‬والمازوخية‭ ‬والمثلية‭ ‬الجنسية‭ ‬الكامنة. وهذا‭ ‬الفظ‭ ‬برود‭ ‬الذي‭ ‬سوف‭ ‬يترك‭ ‬مخطوطات‭ ‬صديقه‭ ‬لكاتبته‭ ‬وعشيقته،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬مخطوط‭ ‬‮«‬المحاكمة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬باعته‭ ‬دون‭ ‬عناية‭ ‬والذي‭ ‬تطالب‭ ‬الدولة‭ ‬العبرية‭ ‬بنصيبها‭ ‬منه؛‭ ‬برود‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬كافكا‭ ‬يعاني‭ ‬العجز،‭ ‬ينشر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬بذرته‭ ‬الأدبية،‭ ‬وينشر‭ ‬كتبًا‭ ‬ومقالات‭ ‬بدفعات‭ ‬متواصلة،‭ ‬هذا‭ ‬الصديق‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬فرانز‭ ‬يحبه‭. ‬يقول،‭ ‬إذن،‭ ‬أجل،‭ ‬فلتكن‭ ‬إدانتنا‭ ‬لماكس‭ ‬برود‭ ‬بأن‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬الحجة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الآلة‭ ‬الأبوية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تعمل‭.‬

الصديق المفضل والوفي لكاتب «التحول».. هل حمل معه خيانته إلى النعيم؟

آرنو فيفيان

نحن بتاريخ 20 ديسمبر 1968م بالقدس، الجو صحو لكن لا أهمية لذلك حيث لن نمكث هناك إلا كي نشهد ماكس برود وهو في رمقه الأخير. إنه كاتب مشهور ليس بفضل الكتب التي نشرها وإنما للصداقة التي جمعته وكافكا حتى وفاة هذا الأخير عام 1924م في سن الأربعين من عمره. يوم 25 يونيو 1984م مات ميشيل فوكو بدوره. قبل ذلك أسرَّ إلى مقربيه: «لا تصنعوا بي ما فعله ماكس برود». أدرك الجميع قصده. لا منشورات بعد وفاته. وسوف نرى أنه صُنِعَ به ما خشيه إذ في عام 2018م نُشِر المجلد الرابع، غير المكتمل من كتابه «تاريخ الجنس». «آه يا أصدقائي…» لما صعدت نفسه إلى الملأ الأعلى حدثت ضجة كبيرة. أضحت محاكمته على أهبة الانطلاق. يحكى أن k المسكين ينتظر ذلك منذ الأزل. يجب ألَّا تظل خيانة صديقه له دون عقاب. يجب أن يصدر الحكم. هنا تذكير مختصر بالأحداث: في رسالة بتاريخ 20 نوفمبر 1922م، لما ظن أن ساعته قد دنت، طلب فرانز من ماكس أن يحرق جميع كتبه. أما النصوص التي نُشرت وهو على قيد الحياة، من بينها «التحول» فينبغي ألَّا يعاد نشرها.

حينما هاجر ماكس برود عام 1939م إلى فلسطين التي كانت تحت سلطة الانتداب البريطاني آنذاك، حمل معه مخطوطات كافكا. ولن يكتفي بنشر الروايات الثلاث الكبرى غير المكتملة ألا وهي المحاكمة والقلعة وأميركا فحسب، بل سينشر كذلك الكتابات الحميمة والمراسلات وصفحات من يومياته. في الكتاب الذي نشره عن صديقه عام 1945م «فرانز كافكا، ذكريات ووثائق» يتخلَّص من وزر خيانته في بضعة أسطر إذ يكتب: «حينما لاحظت أن كافكا واصل الاشتغال على نصوصه في أيامه الأخيرة، فإن عدّ تلك الإرادة المنصبة نحو الحياة منحني الشجاعة بألَّا آخذ بمنعه نشر كتبه بعد موته، وهو منع كان قد خطَّه بيده قبل ذلك الأوان بكثير».

الشجاعة! كلمة سوف تُعرَض للنقاش والتحليل كثيرًا أثناء المحاكمة. في طبعة لابلياد لأعمال كافكا الكاملة، يكتب كلود دافيد بدوره ما يأتي: «عقوق لا جدال فيه، حتى إن لم يعد اليوم موضعًا للسؤال، مُنِحَت الأجيال القابلة كل تلك النصوص التي كانت منذورة للنسيان. ما الذي كان سيخطر ببال فرانز كافكا، من باب أولى، لو أمكنه أن يعلم أن ليس فحسب أعماله الخيالية بل حتى الوثائق حول حياته الأشد سرية وحميمية سوف يتعرف إليها ذات يوم الجمهور الواسع؟ لقد سمح مرة واحدة فقط بقراءة يومياته من طرف مِلينا جِسِينْسكا، وكانت تلك علامة فريدة على الصداقة القائمة بينهما؛ بل يبدو أن ماكس برود نفسه لم يعلم بذلك إلا بعد وفاة كافكا. وعلى الأرجح أن هذا الأخير استشعر الأذى الذي لحق وقاره أو إنه تعجب من أن تعطى كل العناية لحياةٍ تشبث بها قليلًا واعتبر أنه أخلف الموعد معها. «هذا العقوق الذي لا جدال فيه هو ما سوف نعاين محاكمته».

ولأن الوقائع نادرة في نهاية المطاف فيما بعد الموت، سوف يهب الناس للجلسة. بحضور كتَّاب كبار: فلوبير، فالزر، موزيل، غومبروفيتش، سارتر، ريلكه، وولف،… إلخ. وتهمس الشفاه بأن شكسبير نفسه حاضر هناك، وبما أن لا أحد يعرف وجهه على التقريب… ذلك أن الأمر لا يتعلق بمحاكمة عادية لشهادة زور عن صديق إنما بمحاكمة من حيث المضمون لفكرة الأدب نفسها. لماذا يصلح الأدب؟ حينما تقدمت نفْس «كاف» الغائمة للإدلاء بشهادتها عمَّ الصمت المكان. قال بنبرة أهل براغ الشديدة: «لقد تعرَّضت للخيانة. جراء هذه الكتابات المنشورة بعد الوفاة، وُصِفْتُ بأني يهودي يعاني العصابَ، متدين، زاهد، أو يهودي يمقت ذاته، مسيحي مستتر، بل مُصاب بالعَمَه، ناطق باسم مذهب ضد الأبوية في التحليل النفسي الفرويدي، بل وصفتُ بالماركسي! وجُعِلت أعمالي خلاصة للوجودية، نبوءة بالكليانية أو بالهلوكوست. صرتُ أيقونة المذهب الطليعي، الوجه الثقافي الأشد حربائية في القرن العشرين. حتى اسمي جُعِلتْ منه صفة تؤذيني، تستعمل كما اتفق لقول أشياء لا أهمية لها. كما لو أن الخزي عاش بعدي».

في قفص الاتهام ينتفض بْرُودْ: إذا كنتَ راغبًا في حرق أعمالك، ما كان عليك سوى حرقها بنفسك. لماذا طلبت مني ذلك؟ هنا تناقَش شجاعتي، ولا تناقش شجاعتك أبدًا! يبدو أن المتهم قد سجل هدفًا، لكن كافكا رد عليه بصوت هادئ من مغنية لا قيمة لها: «حياتي وأعمالي كانت موسومة بميسم عدم الاكتمال. حينما نشرت أعمالي، أنهيتني، أنا الذي كنت مجرد شذرات متفرقة. لطالما قلتُ إن الكتابة أجرة للشيطان، لكن لم يكن عليك أنت بالتأكيد أن تصرفها نقودًا معدنية صغيرة. والأدهى من ذلك، بممارسة الرقابة علي بما يخدم مصالحك». سُمع التصفيق في القاعة أوقفه الرئيس سليمان في الحال. مالَ ميشيل فوكو نحو أذن سارتر وهمَس: «هذا بالضبط ما كنتَ تقوله. أقتبس منك: في العمق، لا ندفع أجرًا للكاتب، إننا نُطعمه، على وجه حسن أو سيئ حسب العصور. ولا يمكن للأمور أن تسير على غير ذلك السير لأن نشاطه لا نفع له، إنه غير ذي نفع على الإطلاق، أحيانًا من المؤذي أن يعي المجتمع نفسه».

اليوم، يخلط قراء كافكا بينه وبين أورويل. إنه خلاف ذلك. كان لا يحلم بشيء سوى الانضباط والمازوخية والمثلية الجنسية الكامنة. وهذا الفظ برود الذي سوف يترك مخطوطات صديقه لكاتبته وعشيقته، من بينها مخطوط «المحاكمة» الذي باعته دون عناية والذي تطالب الدولة العبرية بنصيبها منه؛ برود هذا الذي بينما كان كافكا يعاني العجز، ينشر في كل مكان بذرته الأدبية، وينشر كتبًا ومقالات بدفعات متواصلة، هذا الصديق لا يريد أن يرى أن فرانز يحبه. يقول، إذن، أجل، فلتكن إدانتنا لماكس برود بأن يقدم لنا الحجة على أن الآلة الأبوية لا تزال تعمل.

حنة‭ ‬آرندت‭ ‬ومارتن‭ ‬هايدغر‭: ‬الحب‭ ‬المضطرب

آلان‭ ‬دريفيس

حب محيّر بين المفكرة اليهودية المعادية للحكم الشمولي والفيلسوف الذي لوثته النازية كان قد بلغ من العمر ثماني عشرة سنة. يتذكر الفيلسوف هانس جورج غادامر «فتاة بكسوة خضراء لا تخطئها العين». في شهر نوفمبر 1924م، تحضر حنة آرندت إلى جامعة ماربورغ لمتابعة ندوة مارتن هايدغر عن كتاب أفلاطون «السفسطائي». إنه الحب من النظرة الأولى الصاعقة بين البروفيسور، النجم الصاعد في سماء الفلسفة الألمانية والسيدة الشابة الجميلة المتقدة ذكاء وذات الملمح الساحر الغريب أيضًا، ثمرة مزيج من الحماسة والخجل. هو متزوج، يبلغ من العمر ضعف سِنِي عمرها، يكتب إليها العميد المقبل لجامعة فريبورغ في إحدى الرسائل الملتهبة، التي تتخللها الأشعار في الغالب، المجموعة في كتاب مراسلاتهما: «بغتة، تصير الكينونة صاعقة/ ترصدنا، نُجِلُّها/ فلنرقص».

هذا الحب بين أميرة الفكر المعاصر اليهودية، عالمة حفريات الأنظمة الشمولية وفيلسوف واسع الانتشار، لكنه تواطأ مع النظام النازي يطرح الكثير من الأسئلة؛ إذ بغض النظر عن الانجذاب المتبادل، كيف صمدت هذه العلاقة بل تعززت رغم النقطة العمياء للحل النهائي التي لم يرغب صاحب «الكينونة والزمن» أخذها في الحسبان. تقدم لنا مراسلاتهما بداية توضيح لكنها تفتقد التوازن. أولًا لأن رسائل هايدغر كثيرة جدًّا. الظاهر أن الفيلسوف أو ورثته لم يحتفظوا من بين رسائل حنة إلا بتلك الأشد «لياقة» وبعدد قليل جدًّا منها. علاوة على ذلك فإن كتاب المراسلات الذي يبتدئ عام 1925م ويختتم عام 1975م، شهورًا معدودة قبل وفاة حنة آرندت وعامًا قبل وفاة هايدغر، تخترقه عشرون سنة من الصمت: لا شيء بين عامي 1933م و1950م، السنة التي تواصلا فيها بعد انقطاع، وضمَّا في رسائلهما ولقاءاتهما إلفريد، زوجة مارتن، وهي عضو سابق في الحزب النازي التي لم تتنكر يومًا لمواقفها المعادية لليهود.

لن نعثر في القسم الأول (1925ـ 1933م) على كثير من التفاصيل حول حياتهما الغرامية. لا شك أنها، كما جاء فيما كتبته أورسولا لودز في الخاتمة، «بكونها شهادات عن ثقافة حياة حميمة من زمن مغاير، تحكمها نماذج الحياء قد تبدو غريبة بالنسبة للأجيال التي تربت في عصر الثورة الجنسية». ومع ذلك، في شتاء عام 1933م، بينما كانت حنة قد فرَّت من ألمانيا إلى فرنسا، يجيبها هايدغر عن الاتهامات الموجهة إليه بمعاداة السَّامية التي سمعت بها بحجج نافية، يدعمها بأمثلة لأساتذة جامعيين يهود قام بحمايتهم. ذلك لم يمنعه من الانخراط في الحزب، ومبايعة هتلر حيث حصل في العام نفسه على منصب عميد جامعة فريبورغ (1933ـ 1934م)، كما أنه قام بعد سَنِّ القوانين المعادية للسامية بإغلاق أبواب خزانة الجامعة في وجه من كان أستاذًا له، الظاهراتي إدموند راسل.

لعل هايدغر الذي لم تتوقف سمعته في الانتشار تعرض في بلاده مبكرًا لحملات تتهم انحرافاته القوميةـ الاشتراكية. ولم تكف حنة آرندت طوال حياتها عن الدفاع عنه مساهمة بعملها ذلك في إضفاء الاحترام على أعمال من «علَّمني كيف أفكر» كما قالت. إلى أي حد وصل دعم حنة؟ بالنسبة للباحث إمانويل فاي، وصل ذلك حدًّا بعيدًا؛ إذ يقوم في كتابه «التطهير النازي وتدمير الفكر» بتحليل أشهر نص من نصوص حنة آرندت، «إيكمان في أورشليم»، حيث بغية بسط نظريتها «ابتذال الشر»، ترسم صورة للآمر الرئيس بالمحرقة على هيئة موظف صغير لا نفوذ له. ويخالف إمانويل فاي هذه الرؤية المقيِّدة للوَجِيه السامي النازي ويتهم حنة آرندت، بسبب نقدها الشرس للمجالس اليهودية إبَّان وضع الحل النهائي، بكونها تجعل على قدم المساواة الضحايا والجلادين ولا تحسم في أمرهم، وبالتالي تبرئ هايدغر من كل ذنب. بل يذهب الباحث أبعد من ذلك بكشفه في مدوَّنة كتابات حنة آرندت كل الآثار المُعْدِية لمُعلِّمها، الذي أسهمت في انتشاره على الصعيد الكوني، كما يقول. وفضلًا عن أنه يجبرنا على إعادة النظر من خلال هذا المنظور في أعمال حنة آرندت التي لا تزال ذات تأثير كبير، فإن كتابه المرافعة ذاك يدعونا على نحو غير مباشر إلى التشكيك في كل الذين نهلوا من معين أعمال الفيلسوف المجند القديم والذين يتخذون أسماء ليفيناس، ودريدا، ولاكان وفوكو من ضمن أسماء أخرى.


المصدر‭:‬

– Le nouveau magazine littéraire‭, ‬n°19‭ – ‬20‭, ‬juillet‭ – ‬Août 2019

– Le nouveau magazine littéraire‭, ‬n°19‭ – ‬20‭, ‬juillet‭ – ‬Août‭, ‬2019