عبدالعزيز الدخيل:  لا توجد ليبراليّة عربية أو ليبراليّة أميركيّة؛ توجد ليبرالية فقط.. وهي انعتاق العقل من القيد وقدرته على التفكير مفكر سعودي يرى أن الدول التي لديها قاعدة اجتماعية  جيدة ستتغلب على كورونا

عبدالعزيز الدخيل: لا توجد ليبراليّة عربية أو ليبراليّة أميركيّة؛ توجد ليبرالية فقط.. وهي انعتاق العقل من القيد وقدرته على التفكير

مفكر سعودي يرى أن الدول التي لديها قاعدة اجتماعية جيدة ستتغلب على كورونا

هل يمكن الحديث عن «أنسنة الاقتصاد»؟ وكيف يكون الإنسان هو القيمة العليا في ظلّ نظام عالمي معولم تطغى عليه هواجس الربح والنجاعة الماديّة؟ كيف ينبغي أن يكون التلازم بين أشكال الإصلاح من جهة ومجالاته من جهة أخرى ضروريًّا حتّى لا نصل إلى إصلاح مبتور ومنقوص قد يصل إلى نتائج عكسيّة؟ كيف ينبغي أن يكون الفرد قيمة أساسيّة، وكيف يجب أن يكون العقل هو المركز والأداة لكلّ عمليّة إصلاحيّة شاملة؟ ما دور النخب السياسيّة والفكريّة في التحوّلات السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة؟ وكيف يمكن للخطاب الإصلاحيّ الحقّ أن يصل إلى الفضاء العام؟ لماذا بقي الخوف من الحريّة موجودًا؟

شكّلت هذه القضايا وما يرتبط بها جوهر الحوار مع الدكتور عبدالعزيز محمّد الدخيل، الاقتصادي والمفكّر السعودي، وهو الحاصل بكالوريوس في الاقتصاد من جامعة الرياض، ثمّ على الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد من الولايات المتّحدة الأميركيّة. وقد شغل الدكتور الدخيل مناصب عدة بوزارة الماليّة والاقتصاد السعوديّة، وكذلك منصب رئيس مجلس الإدارة للعديد من الشركات والمؤسّسات الماليّة. وكان أيضًا أستاذًا زائرًا بعدد من الجامعات. وإضافة إلى مؤلّفاته في المجال الاقتصادي والمالي، فإنّه نشر عددًا كبيرًا من المقالات والآراء التي تتجاوز مجال اختصاصه لتربطه بالمجالات السياسيّة والفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة.

الفيصل حاورته حول القضايا التي تشغله وموضوعات أخرى.

● ننطلق في الحوار من اهتماماتك التي تنطلق من المسائل الاقتصاديّة، لكن هي ليست بعيدة من القضايا الإنسانيّة بالأساس، أقصد الإنسان بوصفه القيمة العليا، أليس كذلك؟

لأعيد تركيب الجملة التي ذكرتها، أقول: إنّ الاقتصاد هو الإنسان، وهو في فحوى نظريّاته الأساسيّة إنّما يتعامل مع سلوك الإنسان حتّى يجعله يؤدّي إلى تحقيق المنفعة العليا أو الفائدة الكبرى، ولذلك فهو في حقيقته يتعلّق بدراسة سلوك الإنسان، فعندما نتحدّث عن نظريّة العرض والطّلب فهي خطّ هندسي، ولكن ما الذي خلفه أي من الذي ينشئ هذا الطلب، إنّه تصرّف الإنسان الذي ندرسه ونقيّمه ونريد أن نجعله أفضل. ولا ننسى أنّ من صاغ النظريّة الاقتصاديّة بوضعها الحالي هو آدم سميث وكان أستاذ الأخلاق، وبالتالي فما أضيف للاقتصاد من عمليّات إحصائيّة ورياضيّة ما هي إلا أدوات وإنّما الجوهر هو الإنسان.

● تركّز في كتاباتك على أنّ العلاج الناجع والطريق السليم يبدأ قبل كل شيء ببناء الإنسان المواطن، وتحريره من ظلمات الجهل والتخلّف والفقر، الإصلاح ينبغي لديك أن يكون جوهريًّا وكليًّا وشاملًا وإلّا يكون مبتورًا؛ كيف ذلك؟

عندما نتحدّث عن الإنسان، وقد اتّفقنا أنّ الإنسان هو مركز الدائرة في كلّ شيء في هذه الحياة، فهذا الإنسان لا يعيش في هذه الحياة بمفرده ولذلك يتعلّق بالقضايا الاجتماعيّة والقضايا السياسيّة والقضايا الاقتصاديّة، هي مجموعة من الأمور والقضايا التي تؤثّر في هذا الإنسان، وهي المحيط العام الذي يعمل به الإنسان، الآن النظريّة الاقتصاديّة عندما تركّز على بعض الجوانب الماديّة فهو تركيز محدّد أي عزل المواد الأخرى من أجل التركيز على مادّة معيّنة، لكن هذا من أجل النظر إلى حالة معيّنة أو متبدّل معيّن، أمَّا ما يتعلّق بالتنمية الشاملة وبالإنسان وبتطوّره فلا بدّ من وضع كلّ العوامل السياسيّة والاجتماعيّة بكلّ تفريعاتها الدينيّة وغير الدينيّة التي تؤثّر في هذا الإنسان، وتجعل منه إمّا منتجًا مبدعًا متطوّرًا خالقًا للحياة في هذه الدنيا أو أن يكون كسولًا مجرمًا قاتلًا… إلخ.

– في هذا السياق تحديدًا، أنت كثيرًا ما تعمد في جل ما تكتب إلى كتابة كلمة «الإنسان» بألف ولام التعريف، بكلّ ما يحيل عليه ذلك من ابتعاد من الهواجس الهوويّة المغلقة، وبالمناسبة يبدو واضحًا اليوم مثلًا في ظلّ انتشار فيروس كورونا، أنّ ذلك الانتشار درسٌ يكشف أنّ الإنسانيّة واحدة، وأنّ النظم الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتّبعة يجب أن تقف بجديّة أكثر من أيّ وقت مضى، على ما تعدُّه أنت وحدة البشرية ووحدة الإنسان ووحدة القيم الكونيّة.

– لا شكّ في أنّ الإنسان هو الإنسان، إلى الآن في جميع الدراسات الموجودة قديمًا وحديثًا، الإنسان في تكوينه الأساسي والفكري واحدٌ؛ الإنسان هو الإنسان بكلّ ألوانه وجوانبه، وما يلوّن الإنسان ويجعله مختلفًا عن الإنسان هو أفعاله والطريقة التي ينمو بها؛ لذلك في كتاباتي الأخيرة أبحث عن أسباب التخلف العربي، أي عن الأسباب التي أدّت بنا إلى التخلف، هل نحن بشر مختلفون عن بقية البشر؟ أم أنّ هنالك أسبابًا داعية إلى هذا التخلف العربي الطويل؟ ومن هذا المنطلق بدأت أبحث في أسباب التقدّم البشري في مراحله الأخيرة في أوربا الغربية بوصفها المحطة الأخيرة التي وصلت إليها الحضارة البشرية، فكوّنت في قيمها ومبادئها، هذه الحضارة والقيم التي سادت منذ القرن التاسع عشر والتي بدأت بالثورة الاقتصادية ثم الفكرية ثم الفلسفية،… إلخ، وتحوَّلت إلى قيم ومبادئ، ثم تحوّلت إلى واقع من خلال الثورات التي لوّنت الحياة السياسية والاجتماعية في تلك الدول، وأصبحت مكوّنًا حضاريًّا، وأصبح الإنسان محميًّا بالقانون وبالدستور إلى حدّ كبير.

لكن عندما جاء هؤلاء المتحضِّرون إلى الدول الأخرى استعمروا وقتلوا ونهبوا واقترفوا كل شيء مضادّ للقيم الحضاريّة التي أسّسوا لها في مجتمعاتهم. ولذلك أقول: إنّ تلك الحضارة الغربيّة عندما بدأت في مصر من طريق حملة نابليون جاءتنا على سنان الرماح، وجاءتنا بالاستعمار وجعلتنا نكره هذا الغرب المستعمر الذي يحمل في تاريخه شيئًا جميلًا جدًّا، ولكنّه عندما قدم لنا كان ذلك بالسوط والعصا والسجن، فالحضارة الغربيّة وقفت هناك ولم تتمدد بل مع شديد الأسف تحوّلت إلى قوّة عسكريّة اخترعت القنابل والأسلحة التي استخدمت ضد الإنسان؛ لذلك لا بدّ أن يكون في الفكر الغربي الداخلي تصحيح. طبعًا هذا بصورة عامّة، ولكن من دون شك هناك مفكرون وفلاسفة قد جاؤوا إلى الدول الأخرى وقدّموا شيئًا إيجابيًّا ولكن ظلّ ذلك على مستوى الأفراد. فلا بد لهذا الإنسان أن يتطوّر لكي نخلق هذه الحضارة الإنسانيّة ونصل إلى الأنسنة العالميّة.

التخلف مرتبط بسلوكنا

● ما تقوله مهمّ فعلًا؛ لأنّه يحمّل المسؤولية الجانبين على حدّ سواء: المجتمعات العربية والإسلامية بصورة عامّة، وتحميل الغرب لمسؤوليته الإنسانية في الآن نفسه، طبعًا الغرب له هذه المسؤولية لأنّه لم يسعَ إلى نشر القيم التي أسّسها هو في مجتمعاته إلى المجتمعات العربيّة التي احتلها واستعمرها وخالف فيها قيمه التي دافع عنها هو أيضًا فكريًّا، ولكن أيضًا تقع علينا المسؤولية الأولى ويجب أن نتحمّل مسؤوليتنا ومن ضمنها ما تدعو إليه أنت مرارًا وتكرارًا فيما تكتبه، أقصد مسألة التعليم، ما رأيك؟

أوّلًا عندما قلت: إن الغربيّين نقلوا إلينا الحضارة على أسنّة الرماح فقد أشرت إلى ملاحظة تتعلّق بقراءة التاريخ لا أكثر ولا أقلّ، أمّا المسؤوليّة في التخلّف فهي مرتبطة بنا وبسلوكنا وبتاريخنا وبكلّ ما يتعلّق بنا. وإذا أراد الإنسان أن يوجد تغييرًا حقيقيًّا في ذاته أو في مجتمعه فلا بدّ أن يبدأ بنفسه. وفي عمليّة التعليم أقول: إنّ الإنسان في تكوينه المحرّك الأساسي له كإنسان هو العقل، ومن هنا أبدأ؛ لأنّ العقل هو الأداة التي نتصرّف بها وهو الخزانة لمعلوماتنا، وإذا أردنا أن نبني هذا الإنسان، فالعقل هو الأساس الذي نبدأ منه. فإذا أردت أن تبني بيتًا فلا بد أن تبني له أساسًا، وينبغي الوعي بأنّ هنالك علاقة تناسبيّة بين الأساس وطول البناء، فكلما أردت أن تبني بناءً عظيمًا عاليًا عليك أن تؤسسه في الأرض بعمق كبير جدًّا يحتمله هذا الارتفاع. ولكن ما هي مكونات هذا العقل؟ إذا نظرنا في الجانب العضوي من عمليّة تكوين العقل فهو لدى البشرية كلّها واحد، فهناك نظريات تقول: إنّ التكوين الطبيعي العضوي للعقل في غرفه الموجودة فيه هو واحد في جميع البشرية من ناحية التكوين الطبيعي.

ولكن ما يميّز عقلي عن عقلك، إذا كان القالب واحدًا في مكوّنه، هو ما بداخل هذا القالب من مادّة، وهذه المادّة تعني العلم والتعليم بفروعه المختلفة من تعليم دينيّ وتراثيّ ومدرسيّ، وكلّما كان هذا التعليم منفتحًا وإنسانيًّا ومتطوّرًا كان له أثر أكبر في حركة الإنسان. فالإنسان يتحرّك بموجب ما في عقله، عقله هو الذي يوجّهه، إذا كان هو قد تعلم أن الكذب والجريمة هما وسائل للعيش فبالتالي يمشي في هذا الاتجاه. وللتعليم علاقة بمستوى التحضر والتمدن الموجود. في أيّام أجدادنا كان التعليم يعني من يقرأ ويكتب، وبالتالي كان يعني ما نسميه «فكّ الحرف» فما دام هو يقرأ ويكتب فهو كان عالمنا في هذه القرية، ويقتصر دوره على قراءة رسالة تصل من ابن متغرّب إلى أهله. وعندما تطورت الحضارة المادية بشكل سريع تطلب الأمر من مستوى هذا التعليم أن يتطوّر ولذلك أن أشدّد على أنّ التعليم في الوقت الحاضر يجب أن يؤكّد على التعليم العلمي والرياضي، فقد أصبحت هذه العلوم الصحيحة من الأساسيّات ولم تكن كذلك في الماضي البعيد، حيث كان المطلوب أن تحفظ الشعر والأدب والعلوم الفقهية، وتلك هي بضاعة ذلك الوقت التي يمكن أن تباع. أما بضاعة اليوم فهي الإنتاجيّة وهي تعتمد على المعرفة العلميّة والرياضيّة وبالتالي فلا بدّ أن يكون في التعليم توازن وأن يكون متحرّكًا مع واقع الأشياء الماديّة والاقتصادية التي يتطلّبها المجتمع. انظر الآن إلى حالتنا اليوم، فما هي العقول التي في المختبرات الموجودة في العالم المتقدّم، هذه المختبرات تحديدًا هي التي سينقذ من خلالها العلماء جزءًا من البشريّة، وهؤلاء علماء متخصّصون في البيولوجيا وليس في الشعر كما لدينا نحن، الشعر جميل ولكنّه لا يستطيع إنقاذنا في هذا العصر.

نقد المسلمات التراثية

● في مقال مهم، شأن جل ما تكتبه وأتابعه باهتمام، وكان بعنوان «الليبرالي والفقيه»، تحدثت عن أن الأساس هو العقل، وقد أكّدت أنّ هذا العقل الليبرالي ليس بالمعنى الليبرالي الضيق بل في ارتباطه بالحريّة. وفي دعوتك إلى الحريّة محاولة للتمييز بين ما أصبح ضروريًّا أي العلوم العقليّة والعلوم النقليّة التي صحيح أنها لم تفقد أهميتها بالنسبة إلى مجتمعاتنا الهووية ولكن ينبغي أيضًا أن تطعم هذه العلوم النقلية وأن تكون مستندة أيضًا هي إلى العقل. هل نقول: إنك تقلب المعادلة اليوم بين المجتمعات ذات البنية الذهنية القديمة المرتكزة على النقل قبل العقل ليصبح العقل هو الأساس في مقابل ما ورثناه من علوم نقلية؟

نعم، أبدأ بمفهوم الليبراليّة الذي يعلق عليه بعض الناس اليافطة السياسية فقط ويقابلون بين يميني وليبرالي ووسطي، أنا مفهومي لليبرالية هو مفهوم فلسفي يتعلّق بأنّ الإنسان في ولادته ليبرالي وأنه خُلق ليبراليًّا؛ بمعنى أن ليس هنالك من الشوائب والقيود التي تقيده في ذلك الوقت، ووُلد لا يعلم شيئًا وهذه أمور في حد ذاتها ليبرالية لا علم ولا قيد، ولكن عندما يبدأ التعلم تنمو القيود التراثية. وفي عالمنا العربي أو في جزء كبير جدًّا منه فإنّ تراثنا فيه من القيود ما عاق هذا الفكرَ العربي وأبعده من الليبرالية الطبيعيّة في الفكر، وجعله تحت وطأة الموروث التراثي والديني. فالليبرالية هي حريّة الرأي والتفكير وهي القدرة على نقد المسلّمات التراثية أو الفقهية.

● ماذا تعني بالنقد هنا؟

النقد هنا لا يعني التجريح ولا السباب ولا التنقيص من القيمة الإنسانية أو غيرها، بل يعني حرية الفكر وحرية النقد. والنقد الحقيقي هو الذي يغوص في المعاني ويفككها ويبحث عن يقين يستطيع به أن يؤمن بهذا الخطاب، هذا اليقين يمكن أن يكون يقينًا منطقيًّا أي بالمنطق، أو يقينًا إحصائيًّا أو رياضيًّا، فلذلك أنا أعود إلى مفهوم الليبرالية وربطه بعملية النقل والعقل وأقول: إن جزءًا كبيرًا من تراثنا فيه نقل. وإذا ما أخذنا مثلًا موضوع الفقه، فتراثنا العربي والإسلامي يشكل الجانب الديني جزءًا كبيرًا جدًّا منه، وإذا نظرنا إلى الدين الإسلامي نجد أن الفقه يشكل فيه جزءًا كبيرًا ومهمًّا من تعاليمه. الفقه هو قول فقيه، ومن تفقهوا هم علماء أفاضل خصّصوا سنين طويلة من عمرهم للبحث والتفقه في الدين، وأعطونا رسائل وأحكامًا في الدين، جازاهم الله خيرًا، لكن في هذا الزمان لست ملزمًا كمفكّر أو  كرجل عاديٍّ، أن أنقل هذا التراث الفقهي وأسقطه على مجتمعي إسقاطًا إلزاميًّا يقيّد من حركتي وحركة التطور التي أنا فيها.

أنا أقول: إنّني أعتز بهذا الفقه لأنه جزء من تراثي وأنقده وألج إلى مكوناته وآخذ منه ما أراه مناسبًا للمصلحة العامة وللأمة في هذا الزمان والمكان الذي يختلف عن الماضي، وأترك ما لا يصلح لنا في هذا الزمان، وهذا منحى من مناحي الليبرالية. فلماذا أنت تعود اليوم إلى أقوال ابن تيميّة أو أحمد بن حنبل أو
مالك أو غيرهم أو الأشاعرة، وتصبّها عليَّ في قالب منزل منزلة القيد الذي عليَّ أن ألتزم به، ويصبح هذا هو الشغل الشاغل للكثيرين مع الأسف بدلًا من أن ننقد هذه الأمور ونتركها. وأقول: إنّ أيّ مفكّر أو عالم ديني في هذا الوقت لا بدّ أن يدرس الدين، ولكن على المفكّر التخلّص من قيد الفقه القديم؛ لأن مع الأسف معظم علمائنا تجده أولًا مكبلًا بذلك الفقه، وبالتالي فإنّ الحكم لديه مسبق.

أمّا ما يتعلّق بمسألة النقل والعقل فهذا المنقول له احترامه وتاريخه ولكن على علمائنا ومفكّرينا في الجانب الديني الذي يشكل الفقه نسبة كبيرة منه أن يقوموا بنقده وتفكيكه. هنالك ثوابت في الإسلام مثل القرآن الكريم وهذه أمور ثابتة ولو وجدت أن أحكام الدين في القرآن والأساسيات قليلة جدًّا، ولو نظرت في الأحاديث أيضًا تجد الثابت منها قليلًا جدًّا، وبالتالي فكل شيء خارج عن القرآن الكريم وعن الثابت من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، هو فقه يجوز نقده وتطويره وتحديثه.

● ربّما كلامك هنا يندرج في خطّ وضعته مشاريع كبرى نعرفها في المجتمعات العربية والإسلاميّة ترتبط بنقد التراث ومسألة التمييز بين الدين والتديّن مثلًا، وما هو ثابت في الدين وما هو متحول اجتماعيًّا، وينبغي إعادة النظر فيه، وهذا الكلام يطرح في ذهني الكثير من الأسئلة المتشابكة التي تتعلق بثلاثة مستويات، ربما ستجيب عنها واحدة فواحدة، ولكنني أطرحها أمامك لترتبها بالشكل الذي تراه، وأولها يتعلق بمفهوم الليبرالية الذي يرتبط بمفهوم الحرية وهو مفهوم فلسفي في الأساس كما تفضلتم، ولكن هناك في المجال العربي من يتحدث عن ليبرالية عربية أو ليبراليين عرب، ولكن الليبراليّة العربيّة كما تسمّى أحيانًا اكتفت غالبًا بالتغني بالحرية ولم تستطع تنزيلها إلى المجتمع أي أن تصبح أمرًا واقعًا اجتماعيًّا، وهذا يقود إلى مسألة موالية وهي على من تقع مسؤوليّة الإصلاح اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية التي نعيش فيها؟ وثالثًا أي المستوى الثالث المهم أيضًا وأنت تدعو إلى النقد والمراجعة الجذرية، ما العوائق الأساسية أمام هذا النقد الذي هو نقد مؤلم في الحقيقة؟

أمَّا الليبرالية العربية، ففي تفكيري لا توجد ليبراليّة عربية أو ليبراليّة أميركيّة، توجد ليبرالية فقط، وهي انعتاق العقل من القيد وقدرته على التفكير وعلى البحث عن الحقيقة والمنطق وما يسعد الإنسان، ونحن نتكلم عن الإنسان ليس بوصفه إنسانًا مجردًا أو آلة، وإنما انطلاقًا من التساؤل عن هدف الإنسان في الحياة، أي السعادة. ولكن ما السعادة؛ هل هي سعادتي الذاتية الأنانية؟ أم هي سعادة المجتمع؟ ومن هنا نصل إلى أن من مهام الإنسان في هذه الدنيا البحث عن السعادة وعن الحقيقة التي تؤدي إلى سعادة الإنسان، وبالتالي فالليبرالي يكره الحروب والقتل ويميل إلى الاشتراكية ليس في نظامها السياسي ولكن في مشاركة الأمّة والناس والمجتمع في أحزانه وأفراحه من خلال قيمة التضامن، وما نجده الآن في إشكاليتنا الحالية المتعلقة بالكورونا أن الدول التي عندها القاعدة الاجتماعية الجيدة هي التي تستطيع أن تتغلب على هذا الإشكال. على سبيل المثال أميركا الآن في ورطة داخلية لأن نظامها الصحّي لم يُبْنَ على نظام اجتماعي كما هو النظام في بريطانيا أو في فرنسا أو في ألمانيا، هذه الدول قاعدتها الاجتماعية أفضل.

وبالتالي السعادة ليست في الرأسمالية المتوحشة أو المادية المتوحشة، وإنما هي في كيفيّة أن يجد الإنسان سعادته في سعادة المجتمع. ولذلك أقول: إنّ الليبرالية هي إنسانية، ولا يوجد ليبرالي عربي وليبرالي أميركي، وإنما توجد هموم عربية وقيود على الليبرالية.

فقدان الحرية وعوائق المراجعة

● هذه القيود هي التي تؤدي بنا إلى الجزء الثاني من سؤالي المركّب، وهي عوائق النقد والمراجعة، بِمَ ترتبط؟

عوائق النقد والمراجعة مرتبطة حسب رأيي بفقدان الحرية، فعندما يكون الإنسان مكبَّلًا ومقيَّدًا وممنوعًا من النقد والحركة ومن إبداء الرأي فهذا هو العائق الأساسي. لذلك لو نظرنا في تاريخنا العربي الإسلامي منذ الدولة الأموية ثم العباسية ثم التركية ثم المماليك… إلى يومنا الحاضر، سنلاحظ أنّ ما يشكّل ذلك التاريخ هو عبارة عن أنظمة لا تشجّع على الرأي بل هي مقيِّدة لحرية الرأي. انظر إلى ما فعل الأمويون بالعباسيين وما فعل العباسيون بالأمويين. فكم من فقهاء وعلماء قتلوا وسجنوا. ومسؤولية الإصلاح تقع على الإنسان المؤمن بقيم الحريّة. المسؤوليّة تقع على عاتق من نسميه بالمثقف. ولذلك كثيرًا ما يطرح السؤال حول مسؤولية المثقف العربي، وأنا أرى أن كل إنسان مؤمن بهذه القيم ومطبق لها على ذاته يتحمل تلك المسؤولية، ومن هنا فعلى المفكرين والليبراليين والذين ينشدون تقدم الأمة وتطورها تحمّل مسؤوليّاتهم.

ولو نعود قليلًا إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما بدأ ما يسمونه النهضة العربية الأولى، التي بدأت بالتأثر بالغرب الذي ذهب إليه مثقفونا ونقلوا منه وانبهروا به كما قال محمد عبده: وجدت مسلمين من دون إسلام، وقد مثّل ذلك رؤية الأمة وهذا شيء جميل جدًّا. ولكنّ هؤلاء المفكرين عندما عادوا لم يستطيعوا النجاح نظرًا إلى أنّه لم تكن هنالك إرادة سياسية فاعلة.

● لذلك أنت ترى في إحدى مقالاتك: «هل السقوط في الهاوية أمر محتوم؟» «إن الإصلاح السياسي هو القاعدة الأساسيّة والأرضيّة الصلبة التي يجب أن يبنى عليها كل إصلاح»، وهذا ما يعني أنّ دور النخبة المثقفة أكيد، ولكن أيضًا هناك إصلاح سياسي ضروري لتكامل الطرفين، أليس كذلك؟

لا يستطيع المفكّر أو الليبرالي أن يصنع شيئًا أكثر من نشر فكره إن سُمح له، وإن لم يُسمح له فإنه يكتبه وينتظر زمنًا أفضل من زماننا لعلّه يأتي ليقرأ القادمون ما فكر فيه. أما الإصلاح فلا بدّ أن يبنى أساسًا على إصلاح سياسي يقوم على قناعة السياسي وبخاصّة أن النظام السياسي في عالمنا العربي هو عبارة عن نظام يملكه شخص أو مجموعة أشخاص، سواء كان رئيسًا أو ملكًا أو غيره، فهو نظام فردي إما ملكي أو جمهوري، هكذا كانت الوراثة وهكذا كان تسلسل التاريخ وهذا على العموم بداية من الدولة الأموية. فمنطلق الإصلاح السياسي هو أن يصل السياسي صاحب القرار  إلى قناعة ويدرك أن الإصلاح السياسي سيكون في مصلحة الأمة وفي مصلحته؛ لأنّه إذا صلحت الأمة واستطاع أن يرشّد القرار ويضع الأمور والأموال في مكانها يتحول المجتمع إلى مجتمع منتج. ولكن ذلك يتطلب أن يكون هذا الحاكم مستشرفًا ويجد في نفسه أن من الأفضل له أن يجري الإصلاح السياسي، الذي هو عملية نظام يرشّد القرار. لذلك فالإصلاح السياسي هو القاعدة الأساسية التي يتم على أساسها الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وغير ذلك. هذه هي الطريقة التي نتبناها، فدور المواطنين والمثقفين هو أن يساعدوا أو يكونوا أمناء غير خائفين أو مرتعبين لأنهم لا ينشدون غير الإصلاح، والحقيقة أن الإصلاح للحاكم والمحكوم، فعليهم أن يكونوا أمناء في تقديم النّصح للحاكم، وإذا تعذر عليهم ذلك عليهم أن يصمتوا ولكن الأسوأ في هذا الأمر أن يكون هنالك مثقف متعلم يتزلّف ويشيد بقرارات الحاكم بصرف النظر عن صلاحها أو عدم صلاحها وإنما فقط لإرضائه.

● إذا وقع الخوف من الإصلاح الحقيقي والجذري فإنه ربما سيكون عدم الإصلاح مدخلًا يفسح المجال لكل أنواع التطرف لأن تجد بابًا إلى المجتمع تنفذ منه، ما تعليقك؟

الحريّة؛ أي حريّة الرأي، وحريّة الفكر هي جزء من الإصلاح السياسي، فعندما يأتي الإصلاح السياسي يفتح الباب لكل الأفكار وتُفتح المنابر لكل أصحاب الرأي، ولكل أن يدلي بدلوه في وضح النهار حتى إذا ظهر النور وأصبحت المنابر مفتوحة يتكلم المتطرف وغير المتطرف إنما عندما يعم الظلام فلن يستطيع أصحاب المنابر الحرة والآراء السليمة الكلام ويجد أصحاب التطرف والظلام فرصتهم لأنهم هم من يعيشون في الظلام ويستطيعون أن ينفذوا أعمالهم؛ لذلك أؤكد أن حرية الرأي هي من أهم أسس الإصلاح السياسي.

● هنالك محاولات لهذا الإصلاح في بعض البلدان العربية والإسلامية التي ننتمي إليها ولكن ربما هذا التعميم في تجارب الإصلاح لا بد من تنسيبه؛ لأنّه ربما في تقديري الشخصي هنالك تفاوت بين البلدان العربية والإسلامية في مستوى هذا الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفكري، أم أن هذه المجتمعات تتقاسم عدم الجرأة في خوض تجارب إصلاحية لا تتجاوز ما بدأته النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، فنسقط دائمًا في أنواع كثيرة من التلفيق والترميق التي عمقت الأزمات ولم تحلّها؟

هذا يقودني إلى ما ذكرته في مقال لي نشرته مؤخرًا وهو بعنوان «الدولة القُطْرية أساس للدولة الفيدرالية العربية»، وقد ذكرت أن الإطار القُطْري يبدو لي هو الإطار العملي والواقعي من أجل التنمية القُطْرية العربية التي يجب ألا تكون النهاية في حد ذاتها، وإنما هي عندما تنتمي إلى قطرك، فكل قُطر لديه الإمكانيات والمعرفة الذاتية بخصائصه، ولكن يبقى الهدف واحدًا وهو الحرية والديمقراطية. وكلمة ديمقراطية أصبحت مستعملة بشكل كبير، ولكن لنسمي الأشياء بأسمائها فالديمقراطية مجرد نظام الهدف منه هو حرية اختيار الحاكم، بمعنى أن الشعب والأمة والناس تساهم في اختيار الحاكم، الذي هو قرار، والترشيد يأتي من المجموعة، فكلما كان هناك توافق كبير سواء على المستوى العائلي أو مستوى مجلس الشورى، فهو توافق كل بقدر أو بحجم ما يستطيع كل شعب أن يهضمه من الحرية؛ لأنّ الحريّة هي «مضاد حيوي» قد ينقذ بعض الأجسام ويقتل أخرى، لذلك تختلف المستويات لدينا من دولة إلى أخرى، أي بين دولة قد تقدمت في هذا المجال فأصبح لديها أحزاب سياسية، وبين دولة لا تملك تجربة في هذا المجال، فلكل دولة خصوصيات ولا يوجد شيء ثابت، فكل شيء متحرك في هذه الحياة، وبالتالي فهذه الخصوصيات ليست ثابتة بمعنى أن كل دولة قُطرية تنمي نفسها بنفسها، ولا بد أن يكون ما يجمعنا من تاريخ وثقافة ودين مجالًا كبيرًا للتنسيق ولضرب الأمثلة، وعندما نصل إلى مستوى هذه الأقطار العربية نصل إلى مستوى أرفع مما نحن عليه ونستطيع أن نستجلي ونفهم على مستوى الشعوب أن في الوحدة إضافة للقوة والسعادة. هنا تبدأ تتكون الوحدة أو الاتحاد من منطلق الإيمان الفردي وليس كما كان في الثورات القديمة إيمان زعيم بزعيم فيجتمعان في الصباح ويعلنان الوحدة في اليوم التالي، والشعوب لا تدري شيئًا عن الأمر، لذلك فعندما تؤسس القُطرية تأسيسًا سليمًا، ويكون هناك تطور سياسي وعلمي واجتماعي ستصل الشعوب العربية كما وصلت الشعوب الأوربية وغيرها إلى المنطق السليم.

انعتاق وكسر للقيود

● هذا التأسيس القُطْري مهمٌّ جدًّا لتأسيس أكبر وأوسع وأشمل، وهذا ما نطمح إليه ولكن إذا انطلقنا من هذا التأسيس القطري كما جاء في إجابتك، وبما أنّ أهل مكّة أدرى بشعابها وأنت أدرى بشعاب بلدك الذي تنتمي إليه، ولذلك أودّ أن أسأل عن التحوّلات الفكريّة والثقافيّة التي ربّما تعرفها المملكة منذ مدّة، وأريد أن أستجلي رأيك في دور النخب السعوديّة بالأساس في هذه التحوّلات، وهل لها فعلًا دور ملموس في تلك التحوّلات أم أنّها لا تزال قاصرة وتحتاج إلى جهد أكبر؟

هذا من أصعب الأسئلة التي أواجهها، فإذا كان سؤالك عن دور النخب وما تقوم به، فلا شكّ أنه إذا نظرت إلى وضع المملكة الآن من النواحي الاجتماعيّة والعلميّة والثقافيّة، تجد أن أن ما حدث -من الناحية الاجتماعيّة- خلال الحقبة التي مضت من انعتاق وكسر للقيد الاجتماعي الذي كان على المرأة بشكل خاصّ وعلى المجتمع بشكل عامّ مهمّ جدًّا، فكسر هذا القيد لأي سبب كان هو أساسيّ، فأنا تهمّني النتيجة إذ إنّه أطلق روحًا جديدة، وهناك أثر أحسّه المجتمع بشكل مباشر، وذلك يعود لطول مدة السجن؛ لأنّ هذه المرأة وهذا المجتمع بشكل عام كان مسجونًا اجتماعيًّا لسنين طويلة مقارنة بالشعوب العربية والإسلامية الأخرى.

ولكنْ هنالك فكر فقهي أو سياسي أدى إلى عدم قدرة على اتخاذ القرار، وقد جاء القرار وهذه النقلة وهذا الانفتاح الاجتماعي الذي بدأ بقوة وبعنفوان وخصوصًا تجاه المرأة وقيادتها للسيارة بوصفها علامة على التحرّر والعمل، ومن هنا صار في السنتين الأخيرتين نقلة اجتماعيّة كان يمكن أن تأخذ سنين طويلة، وهذا يمكن لصاحب القرار السياسي أن يأخذ منه عبرة عندما انفك القيد صارت هناك إبداعات رائعة وإنتاج على المستوى الفني والثقافي، فظهر مطربون ومطربات وممثّلات،… إلخ، وهو يمثّل مخزونًا بشريًّا هائلًا موجودًا، وفي الوقت نفسه، من الجميل في هذا العصر الحديث أنّ الإنسان أصبح يستطيع حتى وإن كان مسجونًا أن يتعلم عن بُعد، فكان النساء يتعلّمن عن بعد في سجنهنّ الاجتماعي، وبالتالي عندما فتح المجال اندفعن بقوة، فتجدهنّ الآن يعملن ويشتغلن.

وهذا لا يعني أن المرأة وصلت وحقّقت ما تريد تمامًا، فلا تزال هناك قيود، ولكن القيد الكبير كُسر والباب فتح وخرج الناس. وهذا ممكن أن يعطي درسًا لصاحب القرار السياسي، وهو أن هذه الحريّة التي كان يخشى منها في السابق ويقال: لا تفتحوا هذا الأمر لأن الناس ستقوم ضدّه، وإنه سيؤدي إلى كوارث. ولكن الأمر لم يؤدِّ إلى كوارث بل بالعكس، فقد تحسّن الوضع الاجتماعي، وأصبح الرجل يستحيي من نفسه ويخجل أن يعمل أشياء لا تجوز أمام المرأة، وأصبح لا يتأخر في عمله حتى لا تأتي المرأة قبله.

وبالتالي أدت الحريّة إلى أشياء إيجابيّة، وهذه الحرية يمكن أن تطبق في مجالات أخرى، وستؤدّي إلى إبداعات وإلى ترشيد القرار الحكومي وغير الحكومي، والفردي والاجتماعي، وسيخلق منابر حرّة تقدّم استشارات للدولة وللحكومة من دون مقابل.

● إذن فالحل هو في القضاء على الخوف من الحريّة، وهذا ما ننتهي إليه؟

هذا ما يجب أن ننتهي إليه، فلا بد أن نبدأ من الحرية وننتهي إليها.