رهاب الكورونا الكوني: مقاربة نفسانية إنها لمفارقة أن يكون متناهي الصغر يُهدِّد جِدِّيًّا متناهي الكبر والسطوة

رهاب الكورونا الكوني: مقاربة نفسانية

إنها لمفارقة أن يكون متناهي الصغر يُهدِّد جِدِّيًّا متناهي الكبر والسطوة

إنه الوباء مالئ الدنيا وشاغل الناس قولًا وفعلًا، لا يترك غنيًّا ولا فقيرًا، ولا بلدًا متقدمًا أو متخلفًا، حتى إنه يتحدى القوى العظمى وأكثر البلاد تقدمًا تقنيًّا وطبيًّا. إنه ذلك الكائن فائق المجهرية الذي لا يكاد يكون حيًّا، كما يقرر العارفون. واللافت هو انتشاره في أكثر المدن تقدمًا وريادية في التقنية كما في سواها من مثل: يوهان الصينية، وميلانو الإيطالية، ونيويورك الأميركية، وهي المدن الأكثر ازدحامًا بالسكان والحركة الاقتصادية. ولقد أصبح يهدد أعتى مراكز رأس المال وأسواقها التي تتربع على عرش السيطرة الكونية. وإنها لمفارقة أن يكون متناهي الصغر يهدد جِدِّيًّا متناهي الكبر والسطوة.

على كل حال ليس هذا هو موضوع هذه المقالة، وإنما سنتاول بالبحث ردود الأفعال النفسية والسلوكية لدى الجمهور مع تفجر ألوان الهلع والقلق والتحوط، وهو ما يشجع علماء النفس على تشغيل عدتهم التحليلية التشخيصية النفسية التي تلقي بعض الأضواء على المحركات النفسية لردود الأفعال تجاه الكورونا، التي تتجاوز النظرة الموضوعية العقلانية إلى هذا الوباء، وقواعد التعامل معه، وقاية ومجابهة وعلاجًا.

ولا بد قبل التوقف عند ردود أفعال الجمهور وتحولها إلى نوع من العصاب الرهابي الجمعي، من الحديث عن دور الإعلام المرئي ومواقع التواصل الاجتماعي على تنوعها؛ إذ لأول مرة في التاريخ البشري يصبح الكل متواصلا مع الكل، والكل متابعًا لأخبار الكل، في نسفٍ لحدود الزمان والمكان، أي في الآن واللحظة.

لقد تحول هذا الإعلام واسع الانتشار والحضور إلى الأداة الكبرى للترويج لأخبار الفيروس ووقائعه على مدى الساحة الكونية. إضافة إلى دور التوعية المهمة للجمهور بطبيعة هذا الفيروس وكيفية نقله وانتشاره وإجراءات الوقاية منه وعلاجه من خلال قائمة طويلة من ظهور الخبراء على الشاشة وتكرار الخصائص وآليات الانتشار وإجراءات التعامل، وهو ما يشكل دورًا فائق الأهمية للتعامل مع هذه الآفة وتثقيف الجماهير بصددها، في بروز نوع من الذكاء المعرفي الجمعي على مدى الساحة الكونية.

إضافة إلى هذا الدور المحوري فإن الإعلام من ناحية التعريف يبحث عن الإثارة ويذكي نارها بغية جذب المزيد من جمهور المشاهدين والمتابعين. لقد تحول الإعلام إلى عملية قصف على مدار الساعة للمشاهدين بأخبار الكورونا وتفشيها بمنزلة الوجبة الإعلامية الأساس. ويصاحبها تشغيل كل مبادئ التضخيم والتهويل والتكرار وعرض الوقائع بمنظورات مختلفة، وصولًا إلى ما يسمى «إدارة الإدراك» الشائعة في الحرب النفسية ومبدئها المعروف بجعل الآخر يفكر كما نريد، في نوع من أسر اهتمام الجمهور من خلال الإثارة المتزايدة للهواجس والمخاوف.

بذلك يعدُّ الإعلام أنه نجح مهنيًّا تبعًا للمبدأ القائل: إن «الخبر الأكثر إثارة وجذبًا هو الخبر الأكثر أهمية». تزداد ساعات المشاهدة ومعها استلاب الجمهور بالشاشات. ويتحول الأمر إلى استغلال قلق الجمهور وهواجسه لتحقيق أكبر قدر من المشاهدة والمتابعة، ومعها الربح بالطبع، إذا تذكرنا أن جل الإعلام العربي تجاري يبتغي الربح في الأساس، بعد أن تراجعت ثقة الجمهور بالإعلام الرسمي.

نتحول الآن إلى بحث ردود أفعال الجمهور تجاه الكورونا، وهي تتفاوت ما بين حالات عدة، من حيث الشدة ودرجة التأزم، كما تتفاوت من حيث المنحى وما يحتاجه من إجراءات. هناك بادئ ذي بدأ فئة اللامباليين الذين لا يأخذون خطورة العدوى على محمل الجِدِّ، أو هم إذا فعلوا فإن هذه الخطورة تظل نظرية. ويندرج ضمن هؤلاء فئتان: الأولى تقدر خطورة العدوى إلا أنها بإزاء مأزق معيشي يحتم على أفرادها الخروج من العزل الاختياري وتجنب الاختلاط سعيًا وراء الرزق، من مثل العمال المُيَاومين الذين يكسبون قوت يومهم يومًا بيوم. ولذلك فهم مضطرون للمخاطرة التي يقدرونها، ولكنهم يتحملونها كي يؤمنوا قوت عيالهم.

يتعين أن تسارع السلطات وهيئات المجتمع المدني إلى توفير صناديق الدعم لهذه الشريحة لتأمين موارد العيش ليس من باب الصدقة والإحسان وإنما لحمايتهم وحماية المجتمع من العدوى وتفشي الإصابات وكلفتها العالية، واحترام لكرامة الإنسان، المواطن في المقام الأول.

أما الفئة الأخرى فتصرُّ على عدم الالتزام بالحجر الذاتي وبمقادير متفاوتة، ومن دون أن تكون مضطرة للخروج من الحجر الذاتي. إنها تستهين بالخطر تمسكًا بنمط حياتها المعتاد. يبقى خطر الإصابة لدى هذه الفئة نظريًّا وتظل روادعه غير فاعلة.

التنكر للخطر الفعلي

نحن هنا بإزاء حالة التنكر للخطر الفعلي في نوع من وهم الحصانة الذاتية: «العدوى تصيب الآخرين وليس نحن»، تمامًا كعدم تقدير خطورة التهور في قيادة السيارة، حيث يرى الواحد من هؤلاء أن الحادث الخطير أو المميت يصيب الآخرين. إننا هنا بإزاء التنكر للإصابة أو الموت الذاتي. وهي آلية نفسية معروفة تحمي صاحبها من الوقوع في براثن القلق الذي يشكل السلوك.

تحتاج هذه الشريحة إلى ممارسة السلطات للردع الحازم حفاظًا على السلامة العامة والوقاية من تفشي العدوى. وهناك في المقابل عدد من الحالات ذات ردود الأفعال التي تدخل ضمن الاضطراب النفسي لجهة الهلع والوساوس والقلق وفرط التحوط. في حالات الهلع يحس الشخص أن الخطر أصبح داهمًا وأنه سيصاب بالعدوى وآثارها المميتيْنِ لا محالة. فالهلع هو حالة من الذعر الذي يَشَلُّ تصرف الشخص ويشعره بفقدان السيطرة الكلية على الموقف. إنها نوبة من القلق المرضي الحاد تجتاح الشخص؛ إذ تتضخم الأخطار التي تصبح داهمة بشكل يتجاوز كثيرًا تقدير الخطورة الفعلية.

تَشَلُّ حياة الواحد من هؤلاء، دافعة إياه إلى اتخاذ احتياطات حماية من كل شيء حوله، ومن تجنب أي صلة، في حالة من سوء التقدير الموضوعي لما يصادفه، حتى يمكن أن يصادفه. نحن هنا بصدد اضطراب نفسي يتطلب التدخل العلاجي العاجل، ويشكل العلاج المعرفي السلوكي CBT إحدى الطرائق الناجعة على هذا الصعيد.

حالة الهلع هذه تكون ذات أسباب نفسية كامنة، لا يفعل خطر العدوى الواقعي سوى تفجيرها وإسقاط المخاوف المصاحبة لها على هذا الخطر الخارجي.

إضافة إلى رهاب العدوى هناك ردود أفعال نفسية أخرى ذات أصل نفسي جُوَّانِيّ تفجرها أخطار العدوى والإصابة. وهنا يتخذ الأمر حالة اضطراب وسواسي قهري OCD المتعارف عليه في الدليل الإحصائي التشخيصي المعروف عالميًّا تحت اسم ASMD الذي طوَّرته الرابطة الأميركية للطب العقلي الأميركي. وانطلاقًا من هذه الفئة الوسواسية القهرية أطلقت من جانبي على هذه الحالة تسمية COD أي اضطراب الكورونا الوسواسي.

تتمثل أبرز تجلياتها في هوس النظافة والتعقيم المتكرر لليدين والجسم وكل أدوات المنزل ومقابض الشبابيك والأبواب أكثر من مرة يوميًّا. وبعد كل مرة يعتقد الواحد من هؤلاء أن هناك شيئًا قد أفلت من التعقيم، أو هو تعرض للتلوث من جديد لأي سبب كان. وتستحوذ هذه العملية على نشاطه اليومي في المنزل خصوصًا من دون أن يرتاح أو يطمئن.

الجحيم هو الآخر

وقد يندرج وسواس العدوى ضمن هذه الحالة، ويؤدي إلى سلوكات تجنب للآخرين، إضافة إلى وسواس النظافة والتعقيم، بوصفهم مصدر خطر عدوى داهم. وهنا تبرز سلوكات الارتياب الذي قد يصل حدًّا هذيانيًّا اضطهاديًّا. ويقع الواحد من هؤلاء في قولة سارتر: «الجحيم هو الآخر»، وهو ما يدفع به إلى العزلة وعدم الخروج والاحتكاك بالناس، وإن اضطر للخروج فإنه يتسلح بكل عدة الحماية من العدوى، ويظل رغمًا عنه يخشى الأذى.

وهنا قد نصل إلى حالة رهاب الفسيح الذي يطلق عند المريض من هؤلاء حالة ذعر شديدة تدفع به إلى المسارعة إلى الاختباء في المنزل، أو هو يخشى الخروج منه تجنبًا لنوبة الهلع هذه. مختلف هذه الحالات هي بدورها مجرد إسقاطات نفسية على الكورونا وخطر عدواها، إذا بلغت هذا المستوى من الاضطراب. يكون لدى الواحد من هؤلاء صراعات نفسية مزمنة تظل كامنة في الحالات العادية ويأتي خطر العدوى بالكورونا، وهو خطر واقعي إجمالًا كي يفجرها في حالتها المرضية والمبالغ فيها هذه.

وهي تحتاج إلى تدخل نفسي علاجي. تمثل فنية إيقاف التفكير المتلازمة مع الاسترخاء وسيلة مجدية في هذه الحالة. وبمعزل عن هذه الحالات النفسية المرضية، تنتشر مشاعر الضغوطات النفسية لدى شريحة من الناس بسبب القلق على الذات والأسرة والآخرين، وكذلك بسبب، ما تحمله عمليات التهويل الإعلامي، وما ينجم عن الحجر المنزلي الاختياري من تعطيل للمصالح ونمط الحياة المعتاد. وتعرف الضغوط النفسية بأنها تلك الحالة التي تتجاوز فيها الشدائد المادية والموضوعية قدرة الشخص على التعامل معها والسيطرة عليها.

وكلما اختلَّت معادلة الشدائد في مواجهة القدرة على السيطرة ازدادت درجة الضغوط، والعكس صحيح. تتمثل خطورة الضغوط في إفراز هرمون الكورتيزول وهو الهرمون الذي يفرزه الجهاز الهرموني لمقاومة الأخطار. ولكن في حالتنا هذه يؤدي هذا الهرمون إلى تدني قوة جهاز المناعة الذي يمثل خط الدفاع الأول والأقوى ضد الفيروسات وسواها من الآفات. وبالتالي فانخفاض قوة المناعة ستجعل الفيروس يتفشى ويسرح ويمرح. ولذلك ينصح خبراء الصحة في هذه الحالة بتقوية جهاز المناعة بالوصفات المعروفة. على الصعيد النفسي تشكل تدخلات التنفس العميق والاسترخاء والتأمل وحسن التغذية والنوم الجيد والرياضة وتنشيط الدورة الدموية وسائل وقاية وحماية فاعلة؛ لأنها كلها تقوي جهاز المناعة، ويعززها جميعًا مشاعر الإيمان وكل ما يدخل السكينة والطمأنينة إلى النفس. وكلها يتعين أن تصاحب بالضرورة اتخاذ الاحتياطات الوقائية الواقعية القائمة على الأسس الصحية الموضوعية.

حالة السجين

يؤدي الحجر المنزلي الطوعي كما المفروض بحثًا عن التباعد في الاحتكاك الذي قد يحمل العدوى، إلى بروز مختلف حالات الضيق التي تتكاثر فيها شكوى الناس العاديين من الناشطين اجتماعيًّا، والتي قد تصل في بعض الحالات إلى المعاناة من حالة السجين.

تنتج هذه المعاناة من اختلال جدلية «الحميمية – الانطلاق» التي تعمل على توازن وتائر الوجود الإنساني. يُراوِح الوجود المتوازن في توزع أنشطته ما بين هذين القطبين. في الانطلاق يخرج الإنسان من قوقعته إلى العالم الخارجي الرحب فيخوض غمار أنشطة الدنيا وتحدياتها ومجابهاتها وإنجازاتها، كما خيباتها. إنه قطب التوسع والنماء والامتلاء وتحقيق الذات وبناء المكانة، وتوسيع العلاقات والتفاعلات والاستكشاف وتجريب الجديد والدخول في تحدياته وبناء العالم الذاتي. ويندرج في هذا المحور كل من السفر والسياحة والمغامرة والتعرف إلى الدنيا الواسعة.

ويعود الإنسان بعد خوض غمار الحياة وتحدياتها إلى قوقعته، منزله وركنه المحبب فيه، فأشيائه الخاصة وممارسته أشياءه المحببة، وطقوس حياته الحميمة، والتمتع بمشاعر الراحة والأمان والطمأنينة: إن له منزله وحياته الخاصة، كما يقول التعبير الفرنسي الشائع.

تجد الحياة توازنها من خلال تكامل جدلية الحميمية ـ الانطلاق هذه. كلنا عايش شوق العودة إلى الوطن والدار والركن الحميم بعد سفر يطول أو يقصر وبعد خروج إلى مجابهات الحياة، فيحط رحاله ويشعر بامتلاء وجوده. ولو لم يعد إلى داره وركنه الحميم وبقي على انطلاقه فسيتحول كيانه إلى حالة من الضياع على غرار الملاح التائه الفاقد للجذور والارتباط. وفي المقابل فهو إن قبع في داره لا يبرحها مرغمًا لأي سبب من الأسباب، ولم يخرج إلى الدنيا ويخوض غمارها فإنه سوف يعايش حالة السجين المهمش والممنوع من حياة الانطلاق. معظم الناس يخبرون ما بين الحين والآخر كلًّا من هاتين الحالتين.

يؤدي الحجر المنزلي الطوعي أو المفروض بسبب الكورونا إلى اختلال جدلية الوجود هذه: «الحميمية ـ الانطلاق». ومن هنا تتصاعد أحاسيس السجن أو شبيهة بها، ومعها تتصاعد مشاعر الملل والضيق وشكوى انحسار الوجود التي يعبر عنها الكثيرون من أصحاب الوجود المليء بالانطلاق وخوض غمار الدنيا. وتزداد هذه الحالة من الضيق والتبرم حتى تصل إلى الاكتئاب نظرًا إلى أن الحجر المنزلي يبدو أنه قد يطول، ويزداد تشددًا، وهو ما يفاقم حالة الاكتئاب التي تعبر عن اختلال جدلية الوجود.

يحتاج علاج حالات الضيق والاكتئاب إلى تعديل البرنامج الحياتي للحد من إثارة السلبية على الصحة النفسية، وبالتالي على قوة جهاز المناعة الأكثر تأثرًا بحالات الاكتئاب هذه.

على الإنسان أن يعيد تنظيم حياته ووتائرها كيما يتمكن من الصمود. وفيها على سبيل المثل ألّا يترك نفسه تقع ضحية التهويل الإعلامي الذي يقصف الجمهور على مدار الساعة. يكفيه أن يمارس الموضوعية العقلانية من خلال تطبيق إجراءات الحماية والوقاية التي أصبحت معروفة ولا يترك نفسه تقع ضحية التهويل. فالآفة معروفة وحدودها وطرائق التعامل معها معروفة، وأما التهويل وإثارة الهواجس فلا جدوى منها. يضاف إلى ذلك إعادة برمجة حياته وبرنامجه اليومي وملئها بأنشطة محببة تفرج الضيق، تبعًا لميول كل شخص واهتماماته.

ويمكن فوق ذلك تحقيق المزيد من الكسب الكياني بتحويل أزمة الحجر المنزلي إلى فرصة من خلال الانخراط في مشروع كان مستبعدًا لضيق الوقت. وخصوصًا أن إنسان العصر الرقمي أصبح موصولًا في الزمان والمكان بفضل الثورة الرقمية وإنجازاتها المدهشة.

إننا دخلنا في عصر الإنسان الموصول على مدار الساعة، بما يكسر عزلة الحجر المنزلي. وهناك الكثير غيرها التي تجعل الوجود مليئًا. على المرء أن يفتش عنها في عالمه. وهنا تحمل لنا معطيات علم النفس الإيجابي والتفكير الإيجابي الكثير من الإمكانات التي قد تكون خفية في عالمنا وتحتاج إلى التنقيب عنها واستثمارها. فالفرص موجودة دائمًا ولكنها خفية، فإذا نقَّبنا عنها وسلَّطنا أضواءنا الكاشفة على مكامنها الخفية فسنظفر بالعديد منها لا محالة.

علينا باختصار تحويل الأزمة إلى فرصة، كلٌّ منا، تبعًا لشَرْطِهِ الوجودي.