«نزوى» تحتفل بثلاثين عامًا من الإنجاز الثقافي

«نزوى» تحتفل بثلاثين عامًا من الإنجاز الثقافي

أعادت مجلة نزوى، في الأيام القليلة الماضية، السجال حول أهمية المجلات الثقافية، وضرورة وجود مجلات تتسم بالرصانة، وتنفتح على أسئلة الراهن الثقافي العربي والإنساني. مجلة نزوى التي احتفلت بثلاثين عامًا من الإنجاز الثقافي، وهو تاريخ انطلاقتها في عام 1994م، فتحت باب النقاش على أحوال المجلات الثقافية اليوم، وما تواجهه هذه المجلات من انسحاب من المشهد الثقافي، لأسباب كثيرة، ليس أقلها انعدام الدعم واكتساح الثقافة السائلة مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا النقاش أكد أن المجلات الجادة لا تزال تحظى بالاهتمام، من قطاع واسع من المثقفين والمهتمين، وأن هذا النوع من المجلات لا بد أن يبقى، ويواصل حضوره، ما دام هنالك حراك ثقافي وحيوية أدبية وإبداعية. لقد تحولت احتفالية نزوى، التي نظمتها وزارة الإعلام العمانية واستمرت يومين وشارك فيها عدد من الكتاب والمهتمين، إلى منبر للنقاش الحيوي، واستعادة لافتة لمجلات طبعت المشهد الثقافي العربي، طوال حقبة مهمة، بطابعها وخصوصيتها. كما جرى الكلام حول رؤساء تحرير، ارتبطت أسماؤهم ارتباطًا عميقًا وجوهريًّا بالمجلات التي أسسوها، وطوروها وحافظوا على انتظام صدورها، وكانت أشبه بجواز عبور للكتاب إلى شريحة واسعة من القراء عربيًّا.

تطرقت الاحتفالية إلى قضايا مثل الدعم وصحافة المؤسسات، والدور الريادي الذي لعبته المجلات طوال تاريخها ولا تزال تلعبه، فضلًا عن موضوعات تخص مجلة نزوى والأدوار التي لعبتها، على الصعيدين العماني أو العربي. مرور ثلاثين عامًا على انطلاق مجلة نزوى، بدا حدثًا ثقافيًّا يستحق فعلًا الاحتفاء، في خضم موجة الاختفاء للمنابر الثقافية الرصينة أو تعثرها. فأن تثابر مجلة ثقافية رصينة على حضورها، وانتظام صدورها من دون انقطاع، مع المحافظة على قوة المادة وعمقها وتنوعها، مقاومة كل عوامل الاندثار، وفي مواجهة محتدمة للسيولة الثقافية، التي تطبع معظم المنابر الثقافية اليوم؛ لَهُوَ إنجازٌ حقيقيّ يجب صونه بالمحافظة عليه، واتخاذه أنموذجًا لا يتكرر كثيرًا هذه الأيام.

 في الوقت الذي انطلقت فيه مجلة نزوى كان المشهد الثقافي العربي يعرف مجلات ثقافية مهمة ورصينة، تواصل حضورها، إلا أن نزوى استطاعت أن توجد لنفسها مكانة مميزة منذ أول عدد صدر منها، وبقيت تحافظ على هذه المكانة، في أثناء العقود التي مضت وشهدت مراحل من التطوير، سعيًا إلى مواكبة المشهد وتعزيز وجود مادة حيوية ومتنوعة وجادة، بتوقيع عدد من أبرز الكتاب والمترجمين والنقاد والفنانين والمبدعين. وبلا شك شكلت افتتاحية رئيس التحرير الشاعر الكبير سيف الرحبي، أحد أهم مواضيع العدد ومن أكثرها متعةً ومعرفةً، وتطوافًا حرًّا في فضاءات وحالات وثقافات وأمكنة واستدعاء أشخاص وشظايا من حكايات إنسانية منسية وحاضرة، وطرح أسئلة وتساؤلات، على مقدار من الأهمية، فيما يخص الشعر والتاريخ والكتابة والوجود ومأزق الإنسان المعاصر. افتتاحية تذكر بكبار شعراء العالم، الذي يجيدون كتابة النص الشعري المتجاوز، إضافة إلى الكتابة الحرة المتفلسفة والمتأملة في أحوال الانسان ومأساته المعاصرة.

التراكم والانفتاح والتنوع

تناولت الاحتفالية التراكم والانفتاح والتنوع، ومجلة نزوى والفلسفة، علاقة التفكير والتأثير، واللغة وأثرها في تلقي الثقافات. ومحور الترجمات والأدب في مجلة نزوى: وجهة نظر من ناحية التنوع والفكر. ومحور الدراسات التاريخية: وجهة نظر في التأثير والتلقي. ومحور مجلة نزوى: المستقبل والمأمول. وتحدث المشاركون في عدد من الجلسات عن الدور المحوري الذي لعبته مجلة نزوى في أثناء مسيرتها الحافلة طيلة السنوات الماضية في خدمة الثقافة. وأكد المشاركون أن مجلة نزوى فتحت أبوابًا من الأسئلة في الفلسفة والتواصل البشري.

وناقشت الجلسات دور المجلات الثقافية بوصفها فكرًا بشريًّا حاول التصدي لكثيرٍ من الأفكار والتحولات في المجتمع العربي. فمشروعها التنويري أهّلها لأنْ تواكبَ كل المراحل والتطورات التي يمر بها الشارع العربي وسياقاته المختلفة، بدءًا من الحياة اليومية والتفكير الجمعي لبعض القضايا، ومناقشاتها معضلات التراجع الذي يظهر على السطح بين حين وآخر.

وناقش المشاركون أيضا أثر وسائل التواصل الاجتماعي في إيجاد جيل مختلف، مع تأكيد إيجاد مسار حقيقي للتعامل معه بالطرائق التي توجد تواصلًا حقيقيًّا بين الأجيال وفي زمان مختلف ومغاير، يختلف كليًّا عما كان عليه المثقف والقارئ في سنوات سابقة. وتوقف المشاركون عند تراجع المجلات الثقافية، بسبب هيمنة مفردات التقنية، أو انحسار فعل القراءة، إضافة إلى تأكيد الحاجة إلى المجلات الثقافية؛ لكونها مرتبطة بديمومة حاجتنا للتفكير والسجال والكتابة. وأكد المشاركون أن ازدهار المجلات الثقافية يعود إلى الوعي بأهميتها من المشتغلين عليها أو أصحاب القرار على وجه الخصوص. وناقش المشاركون عدم صمود أغلبية المجلات العربية، وطرحوا جملة من الأسئلة ومقترحات من شأنها، إذا تُبُنِّيَتْ، أن تخرج الثقافة من طابعها المهمش إلى الصدارة مجدّدًا.

وزير الإعلام العماني الدكتور عبدالله الحراصي، الذي نشرت له نزوى مواضيع وترجمات منذ أول أعدادها، شاء ألا يتحدث في كلمته بصفته وزيرًا فحسب، إنما بصفته أحد كتاب المجلة، التي تحولت في رأيه منارة عربية ثقافية. وتحدث الدكتور الحراصي عن بداياته مع نزوى، كما أشار إلى الدور الطليعي الذي اضطلعت به، منوها بـ«كتاب نزوى»، مستعرضًا أهم التحديات التي تواجه المجلات، وتوقف عند الخطوات التطويرية التي بدأت نزوى فعلًا في اتخاذها، في مواكبة للمستجدات، ومنها «الإنتاج المرئي الضخم؛ إذ دشنت مؤخرًا الجزء الأول من سلسلة أفلام «بيت العجائب» مع الشركة العالمية دي ماكس، يستعرض الحضور العماني في شرق إفريقيا».

تجربة مكثفة بالزمن والمعرفة

في كلمته قال رئيس التحرير الشاعر الكبير سيف الرحبي: «ثلاثون عامًا مضت ونحن الآن مع نفر من طليعي أهل الثقافة والفكر، مع الأصدقاء الذين شرفونا من أنحاء مختلفة من العالم ومن عُمان؛ لنتأمل جوانب من هذه التجربة المكثفة بالزمن والمعرفة بتجلياتها المختلفة، ونصغي ونسمع منهم ليضيئوا بعض ما خفي من سؤال معرفي وثقافي قد طرحته المجلة منذ بداياتها مشتبكًا مع أسئلة المعرفة بشمولها…». أما الناقد السعودي الدكتور معجب الزهراني، الذي تلا كلمة الضيوف، فعاد إلى الثمانينيات الميلادية، عندما التقى سيف الرحبي في باريس، متوقفًا عند الدور الذي قامت به المجلة، وأحد وجوه هذا الدور «تصدير الأدب العماني إلى الخارج بعدما ذاع صيت المجلة على مستوى العالم العربي». ولفت الدكتور معجب إلى الخلط الحاصل بين الثقافة العابرة والثقافة التي تصنع الفكر، مؤكدًا أن نزوى مجلة ثقافية تصنع الفكر؛ لذلك يجب الحفاظ عليها».

في حين استعرض الأكاديمي العماني الدكتور محسن الكندي، ثلاثة أجيال من الشعراء العمانيين، أفردت نزوى مساحة جيدة لنصوصهم وكتاباتهم. وتحدثت الروائية هدى حمد، مدير تحرير مجلة نزوى، في كلمة لها عن الانفتاح الذي تتوسله نزوى منذ أعدادها الأولى، على حقولٍ شاسعةٍ من الدراساتِ والآدابِ والفنون، «متمتعةً برؤيةٍ ثاقبةٍ من رئيسِ تحريرِها الذي خاضَ المغامرةَ في غمرةِ ظروفٍ لم تكن مُواتية». الروائي والناقد المغربي الدكتور أحمد المديني، تناول في ورقة رصينة المشروع الفكري والنقدي والإبداعي للمجلة، من ناحية المفاهيم والأنساق والأدوات، إلى جانب التبلورات التدريجية التي حصلت على مدى ثلاثة عقود، وذلك في إطار المرجعيات الثابتة لسلطنة عُمان، وطموح نخبها للتجديد في المجال الثقافي ضمن الفضاء الثقافي العربي الشامل.

أما الناقدة الدكتورة فاطمة الشيدي، فتطرقت في ورقة بعنوان: «الشعر العماني في مجلة نزوى الملامح والثيمات.. قراءة أسلوبية»، إلى حضور النص الشعري في نزوى من ناحية الكم والكيف، خلال ثلاثين عامًا من عمر المجلة، ملاحظة أن نزوى لا تزال الحاضنة الأهم للنص الشعري الجديد في عُمان. وتحدث الدكتور أحمد برقاوي عن الأنا وسلطة الآخر، الفلسفة التي استوعبتها نزوى ضمن مواضيعها، واصفًا المجلة بأنها أرشيف العقل العربي في صوره المختلفة؛ الأدبية والنقدية والفكرية والفلسفية. وقدم عبدالرحمن المسكري ورقة بعنوان: «مقاربات التراث العربي في مجلة نزوى.. الشعر أنموذجًا».

فكر عربي ذهب إلى العولمة

أما الشاعرة الإماراتية ظبية خميس، فقالت: إن نزوى نتاجُ فكرٍ عربيّ ذهب إلى العولمة ولم تأتِ إليه، واشتغال مثقفين ذهبوا إلى الآخر ليدهشوا بما لديه ويأتوا بالتجديد. وأضافت قائلة: «قبل 30 سنة زرت عمان وكان الوسط الثقافي ينظر إلى مجلة نزوى نظرة فيها نوع من السخط، ولسان حالهم يقول: ما هذا النوع من الأدب الغريب، وبعد 30 عامًا أثبتت المجلة القدرة على الاستمرارية على نفس الروح، وعليها أن تتواصل مع الجيل الجديد مقارنة بما كان حديثًا قبل 30 عامًا». في حين رأى الروائي الجزائري أمين الزاوي أن مجلة نزوى «قامت بعمل مثير؛ انفتحت على الأجيال الجديدة في المغرب الكبير بل في العالم الآخر الغربي، وقامت بلملمة أطراف هذا العالم الواسع. المجلة اليوم منارة عربية ومنبر مفتوح، حافظت على الحداثة والكلاسيكية في آنٍ، على الفلسفة والدين، وغيرها من المجالات، هذا ما صنع القوة في مجلة نزوى».

 الدكتور ديفيد هيرش أمين مكتبة فخري في جامعة كاليفورنيا، المهتم بالأدب العربي، قال: «وصول مجلة نزوى إلى مكتبة جامعة كاليفورنيا كان له الأثر الكبير في التعريف بالأدب العماني والعربي، وعكست مدى اهتمامها بالترجمة والاطلاع على الأدب الآخر. حقيقة هي من المجلات القليلة التي كانت تصلنا من الخليج العربي مقارنة بما يصلنا من الشام ومصر، ولكنها كانت ذات طلب عال من قبل الطلاب العمانيين والعرب والأجانب». ويرى الروائي اليمني الدكتور حبيب سروري أن نزوى لعبت دورًا كبيرًا في التعريف بالآخر والتعريف بنفسها، ممثلة بالأدب العماني والعربي، ويقول: إنها حققت هدف الانتشار بين أوساط البسطاء.

ويذكر الأنثروبولوجي الفرنسي الدكتور فرانك ميرميه أن نزوى، بمنزلة مختبر في العديد من المجالات، بما في ذلك الترجمة. والترجمة المحكمة، في رأيه، «هي نتيجة عمل تراكمي بخبرة طويلة تفتح أفق المترجم على الثقافات الأخرى والمصطلحات والمجازات والتشبيهات؛ حتى تصل إلى المتلقي الآخر كما أراد كاتبها الأصلي». الدكتور ميرميه يرى أن مجلة نزوى قامت بهذا الدور في بناء العمل الترجمي، «وهذا المختبر دفعني حقيقة لكي أخوض في مجال ترجمة العلومِ الاجتماعيةِ العربيةِ خاصةً إلى الفرنسية، ومما لفت انتباهي أن المجلة زادت من إدراك المتلقي بأهمية الأدب المهمش، مثل الأدب البوسني، وغيره من الآداب».

وتحدث كل من عبده وازن، الشاعر والروائي اللبناني، والدكتورة بروين حبيب، الشاعرة البحرينية، وأحمد زين، الروائي اليمني، ومنصورة عز الدين، الروائية المصرية، وهدى حمد، الروائية العمانية، وبدر الحمود، من منصة معنى، وريم الكمالي، الروائية الإماراتية، ولوركا سبيتي، الشاعرة اللبنانية، عن المجلات الثقافية والدور التنويري والمعرفي الذي لعبته في مجتمعات تموج فيها أطياف من الردة الظلامية. وتطرق المشاركون إلى ما تمر به المجلات الثقافية في الوطن العربي من أحداث وتوجهات شتى، بما فيها الخاصة والرسمية، وكيفية تعاملها مع الأزمات التي عصفت بالثقافة والمثقف في آنٍ واحد.

مسقط ترسخ نفسها عاصمة المؤتلف الإنساني

مسقط ترسخ نفسها عاصمة المؤتلف الإنساني

حتى قبل أن تخرج من مطار مسقط الدولي، يخالجك شعور أنك تقتحم مدينة جديدة، تشهد نهضة عمرانية وثقافية إضافة إلى حضارة ضاربة في العمق. بدا المطار بصالاته وبواباته وممراته وردهاته الأنيقة وهندسته التي تمزج بين الأصالة والحداثة المعمارية، بوابة لعالم جديد وضعت للتو لمساته الأخيرة، عالم شيد بأناة ومثابرة وعزم ومن دون تعجل، ولا شعور يداخل صُنَّاعه أنهم في مسابقة دولية، للأطول أو للأكبر أو الأضخم.

ظهرت مسقط كمثيل للسلطنة بكاملها، ترميز لما يحدو هذا البلد من تقدم وازدهار ومساحة يتعايش فيها الجميع. في الطريق من المطار، الذي افتتح في عام 2018م إلى معرض مسقط الدولي للكتاب، أو إلى أي مكان يقصده الزائر، وأينما يولي وجهه فسيرى البلد فيما يشبه الورشة الهائلة؛ بنايات جديدة، ومراكز تجارية ضخمة في طور الانتهاء، وطرق فسيحة تؤدِّي إلى مدن مختلفة، ترنو كلُّها إلى عهد جديد يُتمِّم مكارم التعايش، ويكمل ما بدأ منذ عقود من مشاريع وسبل للرفاه.

أما معرض مسقط الدولي، الذي تأخر يومين عن موعد افتتاحه الرسمي، بسبب الحداد على رحيل باني عمان الجديدة وزعيمها التاريخي السلطان قابوس، فيقام في مركز عمان للمؤتمرات والمعارض الذي لم يمضِ على تدشينه سوى أعوام قليلة، وبدا جديدًا بإمكانات هائلة، تتيح الدخول إليه والخروج منه بسلاسة، مهما كان الازدحام. وجاء معرض الكتاب، الذي رعا حفلة افتتاحه السيد شهاب بن طارق آل سعيد مستشار جلالة السلطان، أشبه بمنصة للأفكار والثقافة والتعايش والسلام في هذا البلد. زوار المعرض، الذي يشهد مشاركة 946 دار نشر من 32 دولة، جُلُّهم من المواطنين وشريحة لا بأس بها من المقيمين العرب، جاؤوا ليقتنوا كتبهم المفضلة ويشاركوا في حضور الفعاليات التي تضمنها البرنامج الثقافي المصاحب للمعرض، ويصنعوا حراكًا ثقافيًّا استمر طوال عشرة أيام.

ولا عجب أن يأتي تصنيف معرض مسقط، الذي يحتفي بيوبيله الفضي، ما يشكل، بالنسبة للمتابعين، فارقًا جوهريًّا في الاحتفاء بالكتاب، وإبراز الجانب الثقافي في أهم الفعاليات التي تحتضنها السلطنة سنويًّا، لا عجب أن يأتي ضمن أفضل ثلاثة معارض على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، حسب تصنيف الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، واحتل المعرض المركز الثاني ضمن أفضل المعارض من ناحية القوة الشرائية الفردية والإقبال الجماهيري، وتقديم الامتيازات والتسهيلات للمشاركين، وفقًا لاتحاد الناشرين العرب.

أمام كل جناح سيجد الزائر نفسه يصغي لحوار ثقافي فريد من نوعه بين زوار عمانيين، وأصحاب دور النشر، حوار الكتب الجديدة في مختلف الحقول والمجالات، وحول ما يمور به المشهد الثقافي العماني والعربي من مخاضات، وسينصت للتمنيات أن المقبل سيكون جميلًا أيضًا، وأن مسقط مدينة تستحق أن تكون عاصمة للثقافة والمؤتلف الإنساني. في المعرض سيلتقي الزوار كُتَّابهم المفضلين من الأدباء والكتاب العمانيين، الذين يأتون بدورهم إما لتوقيع كتبهم الجديدة، أو لزيارة المعرض واقتناء ما يرغبون فيه من إصدارات جديدة، أو لالتقاء بعضهم بعضًا؛ إذ إن مثل هذه الفعاليات الكبرى تعد مناسبة لأن يلتقي المثقفون بعضهم بعضًا. في ردهات المعرض ينتشر شباب وشابات يلبسون زيًّا مميزًا، يقدمون خدماتهم الإلكترونية بلا كلل، لمن يطلبها من الزوار، ممن يسأل عن دار نشر أو مؤسسة ثقافية مشاركة أو عناوين معينة.

السلطان الراحل قابوس بن سعيد، كان موضوعًا لعدد مهمّ من الندوات التي نفذت ضمن البرنامج الثقافي للمعرض، وتناولت فكر الراحل ومسيرة التنمية والتطوير التي شهدتهما البلاد في عهده. وجاء اختيار «محافظة مسندم» هذا العام لتكون ضيف شرف المعرض، وتعرف الزوار إلى لمحات من ثقافة هذه المحافظة وتاريخها، عبر عدد من الفعاليات التي شهدت حضورًا جيدًا. في هذه الدورة من المعرض كُرِّمَ عدد من الشخصيات مثل: آمنة الربيع عن إسهاماتها في مجال المسرح، وعبدالرحمن الهنائي عن تجربته في مجال التصوير الضوئي، ووفاء الشامسية عما قدمته في مجال أدب الطفل. وتوزعت فعاليات البرنامج الثقافي على أربع قاعات متكاملة في مركز عمان للمؤتمرات والمعارض، فيما خصصت قاعات لمناشط الطفل وفعالياته.

فكر السلطان الراحل

من الفعاليات التي ركزت على فكر السلطان الراحل ودوره في نهضة عمان، ندوة «مؤتلف السلطان قابوس الإنساني.. قيم التعايش والتفاهم والوئام» التي نظمتها وزارة الإعلام بالتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وشارك فيها الدكتور رضوان السيد من لبنان، والدكتور طارق متري من لبنان، والدكتور محمد الشيخ من المغرب، والدكتور سبيستيان جونثر من ألمانيا. وكانت سلطنة عمان أعلنت مبادرة المؤتلف الإنساني، خلال مشاركتها الاحتفال العالمي باليوم العالمي للتسامح في العاصمة الإندونيسية جاكرتا في نوفمبر الماضي.

رضوان السيد قال في ورقته: إن إعلان مؤتلف السلطان قابوس الإنساني يرى أن القيمة والحق مع التطور الإنساني يلتقيان أو يقترنان، أو هما في حالة تحقق مستمر وإنجاز مستديم. وتطرق الدكتور السيد إلى التجربة الطويلة للسلطان الراحل في الحوار التوسطي، وقال: «فلننظر لنشهد هذا الوعي المتوافر في إعلان المؤتلف للحياة الإنسانية المستقرة التي يريد لها أن تكونَ آمنةً بالعدالة والحرية وحكم القانون»، مشيرًا إلى أهمية هذه المبادرة التي تعد تجربة جديدة لمعالجة التأزم والاختلال في الوضع الإنساني. وفي ختام ورقته تحدث الدكتور رضوان عن مجلة «التفاهم» التي يعمل فيها مستشارًا للتحرير، وقد كان يطلق عليها مجلة «التسامح» إلا أن السلطان الراحل طلب تغيير اسمها إلى التفاهم حين بلغت عددها الثلاثين.

في حين توقف الدكتور طارق متري عند جدلية التماثل والفرادة وممارسة الحرية في الاختلاف وقبول التنوع، طارحًا أمثلة عن هيئات نشأت وهي لا تحترم سياسات الدول؛ أبرزها منظمة التجارة العالمية. وركز طارق متري في حديثه على  مجالين هما: الظاهرة الدينية التي تنمو نتيجة العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وانتشار الأديان في كل مكان، وتحدث كذلك عن المؤتلف الذي يقدم أولوية الوحدة الإنسانية، وينتقد الغلو. أما الدكتور محمد الشيخ فتناول ما يجمع بين الحضارات أكثر مما يفرقها. وعبر الشيخ عن خشيته «أن يمسي المؤتلف الإنساني فينا نادرًا، والمختلف الإنساني فينا شائعًا»، بينما تحدث الدكتور سبيستيان جونثر عن «القيم الإنسانية المشتركة بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة وحاجتنا للتعلم والحوار للمساهمة في المؤتلف الإنساني». ودعا جونثر إلى  إنعاش الحوار بين مختلف الجماعات والمعتقدات، من خلال تقوية فكرة احترام الاختلافات وتقدير التنوع الثقافي والتعدد التي لم تكن يومًا من أسباب الفرقة والشقاق.

وشهد البرنامج الثقافي للمعرض حوارًا إعلاميًّا حول السلطان الراحل، شاركت فيه شخصيات التقت السلطان قابوس في أوقات مختلفة، وهؤلاء هم: الصحافية الأميركية جوديث ميلر، والصحافي الروسي سيرجي بليخانوف صاحب كتاب «مصلح على العرش»، والفنان المصري سمير صبري. جوديث ميلر قالت: إن السلطان الراحل كان رجلًا يعرف ما يريد حق المعرفة.. رجلًا يعرف كيف يخطط للنجاح.. كرَّس نفسه لخدمة شعبه ووطنه» كاشفة أن السلطان الراحل في أول مقابلة أجرتها معه، شرح لها خطته في إدارة البلاد من أجل النهوض بها. فيما تطرق الصحافي الروسي إلى لقائه السلطان قابوس، فقال: «جلست مع السلطان الراحل حيث استقبلني في سيح البركات، وسألته عددًا من الأسئلة المتعلقة بكتابي آنذاك، وتحدثنا عن طفولته ولقائه جَدَّه في مومباي، مؤكدًا أن السلطان بهره عندما تحدث معه عن طفولته وشغفه المبكر بالموسيقا، وعن ثقافته الواسعة في مجال الموسيقا: حدثني عن أشهر موسيقيي الغرب ومقطوعاتهم وهو يحب الموسيقا الأندلسية والهندية والإفريقية، ويعرف الكثير عنها إضافة إلى الموسيقا العربية». وأشار الفنان المصري سمير صبري إلى اللقاء الذي جمعه بالراحل، واصفًا إياه بالشخصية الفريدة من نوعها، وبالموسوعية في مجالات مختلفة. وقال صبري: إن لقاءه الراحل كان في حقبة مبكرة جدًّا من النهضة العمانية؛ لذلك كان حديثه مع السلطان الراحل حول أحلامه بالنهوض وبمدارس وجامعات في كل أنحاء عمان. ويضيف صبري أنه زار عمان بعد ذلك بأعوام طويلة، فوجد أن كل ما كان يحلم به السلطان قد تحقق.

وسلط يوسف بن علوي، وزير الشؤون الخارجية، الضوء، في ندوة أخرى، على نشأة السلطان قابوس و طفولته التي كانت محاطة بفكرة السلام، متطرقًا إلى بعض المحطات في حياة السلطان الراحل وتأثير فكرة السلام القائمة على الحقيقة والعدالة في المنهج الذي اختطه الراحل الذي على أساسه قاد نهضة حضارية وعصرية شاملة غطت ربوع عمان. وذكر ابن علوي أن السلام لا يعني الهروب من القضايا أو الابتعاد منها، إنما هو دعم للحق والعدالة والبحث عن الحقيقة دائمًا.

احتفال بعالمية جوخة الحارثي

ومن الندوات التي شهدها المعرض ندوة نظمتها جامعة السلطان قابوس حول تجربة الكاتبة العمانية جوخة الحارثي، التي فازت بجائزة مان بوكر البريطانية عن روايتها «سيدات القمر»، وأدار الندوة القاصّ والكاتب محمد اليحيائي. شاهد الحضور عرضًا مرئيًّا حول الكاتبة. وتطرقت الندوة لما لقيته الكاتبة الحارثي من حفاوة نقدية بعد فوزها، كما تحدثت هي عن رواياتها، مؤكدة أنها كتبت بعض رواياتها تقديرًا لأمها وتعاطفًا مع قضايا المرأة، في خضم التحولات بين الماضي والحاضر التي شهدها المجتمع العماني. كما تطرقت إلى جهد المترجمة مارلين بوث في ترجمة «سيدات القمر»، التي ترجمت إلى عدد من اللغات منذ فوزها. وعدت جوخة الحارثي فوزها بجائزة عالمية، هو فوز لبلادها ولثقافتها؛ إذ فتحت الجائزة نافذة لثقافة بلادها وكتابها على العالم.

جوخة الحارثي ومحمد اليحيائي في إحدى فعاليات المعرض

مؤسسات عمانية

من المؤسسات العمانية التي كان لها حضور لافت في المعرض من خلال الأنشطة والإصدارات المميزة مؤسسة بيت الزبير، التي قدمت ندوات عدة حول السلطان الراحل، إضافة إلى عدد من الفعاليات التي تسهم من خلالها في مجالات الثقافة والفنون في البلاد. وتهدف فعاليات بيت الزبير، بحسب الدكتورة منى السليمية مديرة دائرة الفعاليات الثقافية والإعلام بالمؤسسة، إلى «مد جسور التواصل الثقافي العربي والعالمي، وإيجاد مناخات للحوار الثقافي الحضاري. وشاركت المؤسسة في المعرض بعدد من الإصدارات الجديدة، مثل كتاب «حكمة سام» للدكتور دانيال جوتليب، ترجمه المترجم حمدان الحجري، وهو أول نتاجات مشروع مختبر الترجمة ببيت الزبير. وكتاب «من مطلع الشمس»، وهو حصاد ندوة نقدية حول الشعر العُماني، أقامتها المؤسسة في المملكة المغربية.

ومن الفعاليات المهمة التي شهدها المعرض تدشين كتاب «عمان بعيون عربية» الذي شارك فيه ٢٥ باحثًا من الوطن العربي، وصدر عن دار روافد للطباعة والنشر، ورعا حفل تدشين الكتاب حاتم بن حمد الطائي عضو مجلس الدولة رئيس تحرير جريدة الرؤية، الذي أكد أهمية الكتاب والشهادات التي تضمنها وتناولت رؤية كتابها لما تشهده سلطنة عمان من نهضة.

وشهد المعرض تكريم جمعية التصوير الضوئي للفائزين في مسابقة اقرأ الدولية للتصوير الضوئي، التي تقام للعام الثالث برعاية الاتحاد الدولي لفن التصوير الضوئي (الفياب) ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، ووزارة الإعلام، ووزارة شؤون الفنون، واللجنة الرئيسية المنظمة لمعرض مسقط الدولي للكتاب. وقام الدكتور عبدالمنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام رئيس اللجنة الرئيسية المنظمة للمعرض، بتكريم عدد من الفنانين الفوتوغرافيين، من بينهم فنانون سعوديون.

عمان عبر الزمان

ومن الأحداث البارزة صدور موسوعة «عمان عبر الزمان»، التي تتكون من خمسة أجزاء. وتتناول الموسوعة، التي صدرت عن مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية، تاريخ عمان من عصور ما قبل التاريخ إلى آخر يوم في حياة فقيد عُمان والأمة السلطان قابوس الذي خُصص لعهده مجلد كامل. ودشن النادي الثقافي بجناحه في المعرض أربعة إصدارات: كتاب الأدب الساخر للمحرر يعقوب الخنبشي، وكتاب الشيخ سعيد بن جويد الصوري حياته وإنتاجه الفكري للمحرر حمود بن حمد الغيلاني، وكتاب النشاط البحري والثقافة المجتمعية في ولاية صحم قبل عام 1970 للمؤلف جمعة بن خميس الشيدي، وكتاب التنافس البريطاني الفرنسي في عمان المترجم للغة الإنجليزية للمؤلف
الدكتور محمد الشعيلي.

وقال الدكتور عبدالمنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام في كلمة له خلال حفل ختام المعرض: إن الدورة الـ25 من معرض مسقط الدولي للكتاب كانت دورة استثنائية، لكونها مناسبة للاحتفال باليوبيل الفضي للمعرض. الوزير، الذي كان حاضرًا جُلَّ الندوات المهمة في المعرض وبدا شخصًا متواضعًا من دون تكلُّف، حتى إنه نهض من مقعده في الصف الأول ليقدم زجاجة ماء بنفسه، لأحد المشاركين في إحدى الندوات، حين شعر الوزير بحاجة المحاضر للماء بينما كان يقرأ ورقته، هذه الوزير أضاف، أن ولاية صور ستكون ضيف شرف الدورة المقبلة للمعرض.