«الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر» لعزت القمحاوي.. حول العلاقة بين الكتابة والطبخ

«الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر» لعزت القمحاوي.. حول العلاقة بين الكتابة والطبخ

يفاجئنا الكاتب المصري عزت القمحاوي بوضع ما يمكن تسميته بنظرية عن الكتابة الجيدة، تلك التي سعى للتأكيد والتدليل عليها من خلال عشرات النصوص ومئات المشاهد والحكايات والقصص، مستلهمًا مبادئها الأساسية من عالم الطهو، وباحثًا عن شواهدها في عالم الرواية، وذلك من خلال كتابه الجديد «الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر» الصادر مؤخرًا من الدار المصرية اللبنانية.

ومن العنوان قد نعتقد أننا أمام عمل خفيف يخاطب القارئ البسيط الباحث عن حكايات أشهر الطهاة والأكلات وعادات الشعوب وتقاليدها الغريبة، رابطًا ذلك بحكايات الكُتاب وقصصهم عن الطعام، لكن ما إن ندخل إلى مقالات الكتاب التي تصل إلى 26 مقالًا حتى نكتشف أننا أمام حالة من النقد الثقافي، حيث يؤسس الكاتب من مقالته الأولى «مصافحة» للعلاقة بين الكتابة والطعام منذ فجر التاريخ «بالحكاية والطبخ تمكن البشر من استئناس بعضهم بعضًا».

مؤكدًا أن الرافد الأساس لنهر الرواية ليس ثرثرة الأصدقاء والمعارف، لكنها روح الكاتب التي تمنح كل شخصية لديه جزءًا من أفكاره وذكرياته وأحلامه. ويظل مجهوده الأهم هو إخفاء أي أثر لوجوده داخل النص. ومن ثم فالكاتب يقتل نفسه في نصه، أما الطاهي فيقتل النباتات والحيوانات والطيور التي يستخدمها عناصر في وجبته. وكلما أجاد الكاتب التخفي بين نصوصه كان كاتبًا كبيرًا، مثل نجيب محفوظ ونيكوس كازانتزاكيس، لكن هناك كتاب، مثل مارسيل بروست، لم يتخفوا ولم ينتحروا وقدموا سيرهم الذاتية في نصوصهم، وعلى الرغم من ذلك ظلوا كتابًا كبارًا. ونظرًا لارتباط فعل الحكي بأعمال، كالطهو والخبز، فإن القمحاوي يعتقد أن الكتابة فعل أنثوي، ويعتمد تعريف كارول م. كونيهان للعائلة بأنها جماعة من الناس تتشارك موقدًا، ويذهب القمحاوي إلى أن الكاتب يحتاج، مثل الطاهي، إلى الصبر والحيلة وعدم الخجل من الهشاشة في العمل، كما يحتاج إلى الصبر والحيلة وابتكار ما يدفع بالكتابة إلى آفاق أبعد.

وحدد القمحاوي عددًا من العناصر المهمة التي قد تحتاجها أي طبخة جيدة، سواء في الكتابة أو الطعام؛ أولها «الانسجام» الذي يعتمد على التوازن والتكامل والحركة التي تعتمد في الطعام الانتقال من المذاق المالح إلى الحامض، أو من عديم الطعم إلى الحلو أو الحار. لكنها في الكتابة تعتمد على النقائض التي تعزز بعضها بعضًا في النص، كما تحتاج الروح أو النفَس، فالأصناف التي تدخل في الأكلة قد تكون هي نفسها في أي مكان، لكن مذاقها يختلف بسبب ما يعرف باسم نفَس الطاهي، ولا يختلف الأمر عن ذلك في الكتابة، فموضوعات الفن لا تزيد على 37 موضوعًا بحسب النقاد، لكن معالجتها تختلف من كاتب لآخر بحسب خبرته والبهارات التي يضيفها والنار التي يستخدمها.

حكمة الشكل

وعلى الرغم من أهمية الروح في تكوين العمل الروائي، فإن القمحاوي يتوقف أمام ما أسماه «بحكمة الشكل» الذي يرى أنه يمنح الرواية جوهرها. لكن يجب ألّا يطغى على المضمون، فتطور بناء ألف ليلة وليلة كان درسًا في الحكمة الخفية للشكل. ولا يقل حضور اللغة أهمية عن حضور الشكل وحكمته. فإذا كان الطاهي لديه العديد من العناصر التي يظهر من خلالها طبخته، فإن الروائي ليس لديه سوى اللغة والعناية بها، وذلك من خلال الاهتمام بالبناء اللغوي الخاص بكل شخصية وعالمها. ولا توجد، بحسب القمحاوي، رواية عربية حققت طموح تعدد لغاتها مثلما حدث في رواية «الحرافيش» لنجيب محفوظ، «ببنائها الذي مدد فضاء الحارة وجعلها مكانًا مناسبًا لملحمة، وجعل من فتواتها البسطاء شخصيات أسطورية دون أن يتيهوا في البحر أو يخوضوا حروبًا مع وحوش في الظلام».

عزت القمحاوي

ويبدي القمحاوي في وصفته الروائية عناية خاصة بـ«حسن المطالع» ضاربًا المثل ببداية رائعة خوان رولفو «بدرو بارامو» التي تقول: «جئت إلى كومالا لأنهم قالوا لي: إن أبي يعيش هنا، إنه شخص يدعى بدرو بارامو، أمي قالت لي ذلك، وقد وعدتها أن أحضر لمقابلته عندما تموت». ويؤكد القمحاوي أن إحدى المهارات المهمة لدى الطاهي هي ترتيب إضافة السوائل والجوامد، أو ما يعرف في الكتابة بـ«الاستباق والإرجاء»، بالإضافة إلى «حكمة الخفاء» أو عدم إظهار المكونات، فذلك يجعلها لغزًا يسعى القارئ إلى فكه طيلة النص، وهو ما يسهم في إقامة شراكة بينه وبين الكاتب. فرواية «حضرة المحترم» لنجيب محفوظ تعد مثالًا جيدًا لحكمة إخفاء العناصر؛ إذ يعتقد كثيرون أنها سيرة لمنافق جديد، لكن المخفي الذي تبرزه اللغة هو أن الموظف عثمان بيومي لم يكن يسعى إلا لأن يكون إلهًا على الأرض. وقد تشارك في هذا المنحى نجيب محفوظ مع دستويفسكي في روايته «الجريمة والعقاب» على الرغم من فارق الصفحات الذي وصل في «الجريمة والعقاب» إلى 600 صفحة، بينما لم يَتعدَّ في حضرة المحترم مئتي صفحة.

يضيف القمحاوي عنصرًا مهمًّا في نظريته عن الطبخة الجيدة أسماه «الشيء في الشيء»، حيث يحتوي الطعام من الخارج على نوع، ومن الداخل على نوع آخر، والانتقال بين النوعين هو ما يخلق الدهشة واللذة. وهو الأمر نفسه الذي يتكرر في الكتابة، فقد لعبت «ألف ليلة»، في مجمل حكاياتها، على هذا المبدأ. حيث تحتوي كل حكاية على حكايات أخرى، وهو ما يجعل القارئ منتبهًا ومتشوقًا لمعرفة ما ستنتهي إليه الحكاية الأم. لكن القمحاوي لا يتوقف كثيرًا في هذا المبدأ أمام «ألف ليلة» بقدر ما يتوقف أمام رواية «فردوس» لمحمد البساطي، حيث اللغط الذي أثير عن التشابه بينها وبين رواية «مديح الخالة» لماريو فارغاس يوسا. دافع القمحاوي عن أصالة عمل البساطي، موضحًا أن تاريخ الأدب عرف العديد من الأعمال التي حملت ما يعرف بالحب المحرم، بدءًا من قصة الأخوين في الأدب المصري القديم. وإذا كان البساطي متهمًا بالتناص مع «مديح الخالة»، فإن الأخيرة اعتمدت في بنائها على لوحات تشكيلية إيروتيكية رُسمت كترجمة لحكايات أسطورية، ومن ثم انطوت «مديح الخالة» (الشيء) على (شيء آخر)، وهو ما زاد من ثراء العمل وطبقاته.

الطبخة المدهشة

في مقال «شربة البيض وكمأة الطفل بوذا» يؤكد القمحاوي أهمية الدهشة والغرائبية في مفاجأة القارئ. وفي «خفة الأحلام» يقيد هذا المبدأ موضحًا أن الإنسان في الحلم يتحرك كما يريد في كل مكان، لكن الأمر مختلف في عالم الواقع. وكذلك في الكتابة، لا بد من وضع قدم على الأرض، ومراعاة بعض المنطق في صناعة الفانتازيا، كي لا تكون محض تحليق في الفراغ. أما عنصر السخرية أو «المزحة» فيعتبره القمحاوي لا يقل أهمية عن الخيالي في الطبخة المدهشة، فالفانتازيا والسخرية يتطابقان في الإخلال بالنسب المتعارف عليها في قوانين الطبيعة «ولكي يكون الكاتب الجيد مقنعًا يجب أن يظل على صلة بالأصل الواقعي». ص166. وأبرز ما أسماه بـ«المزاح مع التاريخ» من خلال حضور شخصيات مثل هارون الرشيد وجعفر البرمكي في «ألف ليلة»، لكن حضورها، على الرغم مما به من انحراف عن الواقع، ظل مستندًا على أحداث حقيقية تاريخيًّا.

وإذا كان للبهارات والتوابل تاريخ طويل قامت خلاله من أجلهما حروب وأساطير، فإن الكتابة لا تخلو مما أسماه القمحاوي بـ«بهارات الدهشة»، تلك التي تتمثل في التضمين الشعري والتضمين المعرفي والشخصية الفرعية التي يمكن الاستغناء عنها. وهي عناصر تحتاج إلى دقة في التعامل معها كي لا تحيل الكتابة إلى «كيتش» أو زيف ورداءة. وقد شن القمحاوي هجومًا شديدًا على ما أسماه بـ«سحر الكيتش»، أو الكتابة التي تزيد من التوابل ومكسبات الطعم والرائحة من أجل مغازلة قارئ يؤمن بالحجم والشكل، على نحو ما يفعل الشيف بوراك في أطعمته. أو كارلوس زافون في «مقبرة الأعمال المنسية».

في مقاله «تذوق الأذى» يضعنا أمام قارئ أو آكل يرغب في تذوق الرديء من الطعام، وهو عادة من الطبقة المرفهة التي ترغب في تجريب هذا النوع من الأطعمة. لكن متذوقي الأذى في الكتابة هم نوع من القراء غير المحترفين أو المنشغلين بالقراءة الجادة، يبحثون عن اللقطة أو الصورة مع ما هو منتشر. في المقابل يوجد ما أسماه بـ«مطبخ العظمة» حيث الموائد والأطعمة التي لدى الأمراء والسلاطين، والتي حضرت في «ألف ليلة وليلة» مقابل أطعمة الفقراء التي جاء أغلبها من السمك، ربما لأنه لا يحتاج إلى جهد استخراجه، بقدر ما يحتاج إلى صبر وحظ.

وعلى نقيض وضوح الأذى والعظمة تجيء «متاهة المذاقات»، حيث المذاق الذي ينقلنا إلى عوالم مختلفة ويجعلنا ننسى واقعنا وهمومنا كما فعل مارسيل بروست في وصفه لملعقة العسل المحتوية على بسكويت المندولين في رائعته «البحث عن الزمن المفقود». أما النوع الرابع فهو بقايا الأطعمة التي أطلق عليها القمحاوي اسم «البابيا». وعلى نقيض ما نتوقع يفاجئنا بقوله: «ومن المصادفات العجيبة أن طاهي البابيا الأول ليس عربيًّا ولا إسبانيًّا، لكنه الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي تخصص في تقديم طبقه الأدبي الشهير من بقايا الطبخات الأدبية السابقة، مستلهمًا آداب العالم داخل نفسه، وبينها التراث الشعري والفلسفي القصصي العربي» ص243.

يختتم القمحاوي عمله بما أطلق عليه «الطبخة غير المنتهية»، موضحًا أن كل الطبخات تنتهي، وكل الروايات تنتهي، مهما كان حجمها، فيما عدا «ألف ليلة وليلة»، تلك التي ما كان لها أن تنتهي لولا ظهور الطباعة وانقضاء عصر الحكاء الشفاهي. فطول الحكايات وابتكارها رهن برغبة السارد في استثارة فضول السامع، ورغبة الأخير في الاستزادة، وربما هو العامل الذي لعبت عليه شهرزاد طيلة الحكايات، ولعب عليه الحكاء الشفاهي وهو يحكي لمستمعيه، ومن ثم تتعدد طبعات «ألف ليلة»، وتتعدد رواياتها، وتتباين من القاهرة إلى بغداد إلى دمشق، بحسب الطول والترتيب والحجم، فألف ليلة في نظر القمحاوي هي الطبخة التي لا تنتهي.

كيف نستعيد ثقافة الوقف لإحداث نهضة ثقافية شاملة ودعم المشروعات الأدبية والفكرية الكبرى؟

كيف نستعيد ثقافة الوقف لإحداث نهضة ثقافية شاملة ودعم المشروعات الأدبية والفكرية الكبرى؟

لعبت ثقافة الوقف في الحضارة الإسلامية دورًا كبيرًا في رعاية المؤسسات العامة، تلك التي كان الأثرياء يوقفون عليها أموالهم لصيانتها ورعاية المستفيدين منها؛ بدءًا من المساجد، مرورًا بالتكايا والأضرحة والأسبلة وغيرها، وصولًا إلى الجامعات والمدارس التي طالما تبرع الأثرياء لتطويرها ورعايتها، حتى إن بعضهم كان يوقف ماله لرعاية كرسيّ أو اختصاص فيها، إلا أن منظومة الوقف التي كانت بمنزلة حجر الأساس الأول في فكرة مؤسسات المجتمع المدني لم تعد موجودة الآن إلا في بلدان قليلة، وعلى الرغم من أن القوانين في البلدان الإسلامية لا تمنعها، فإن الثقافة التي كانت تقف خلفها اختفت.

فمن أين نشأت فكرة الوقف، وكيف تطورت عبر التاريخ، ولمَ توقفت في العصر الحديث، وهل يمكن استعادتها من جديد وتوسيع مفهومها لتشمل الإنفاق على مشروعات ثقافية وفكرية وأدبية كبرى؟

محمد عفيفي: لا نحتاج إلا لتشريع مناسب

ثمة رأيان في نشأة الوقف؛ الأول يقول: إنه موجود في كل الديانات الوثنية بأشكال مختلفة، ودليل ذلك أرض المعابد المصرية والرومانية واليونانية قديمًا، وكذلك أرض الأديرة والكنائس، ومن ثم فكل المجتمعات عرفته على مختلف العصور، أما الرأي الثاني فيقول: إن الوقف ظاهرة إسلامية، جاءت من حديث للرسول صلى الله عليه وسلم حين جاءه رجل يريد أن يتصدق ببستان أو نخلتين، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. ومن ثم فمفهوم الوقف هو حبس الأصل والتصدق بالفرع، حيث يكون التصدق بنتاجه لرعاية أمر أو جماعة ما، لكن الوقف تطور ولم يعد يشمل المسلمين فقط، فقد انتقل إلى المسيحيين واليهود وغيرهم، وما كان ظاهرة إسلامية أصبح ظاهرة إنسانية عامة.

لكن طوال التاريخ كانت ثمة مشكلة للدولة مع الوقف؛ لأنه معفي من الخراج، ومع الوقت تحول إلى مؤسسة تنطوي تحتها مساحات شاسعة من الأراضي لا تؤخذ منها ضريبة الخراج، فقد توسع الوقف وقلت ضرائب الدولة، ونشأت جماعات مصالح تستفيد منه، فحاولت كل دولة أن تقلل من مساحات الوقف، أو تفرض عليها أنواعًا أخرى من الضرائب، حتى وصلنا إلى عصر محمد علي الذي أدخل كل الأوقاف تحت سلطة الدولة، ثم عادت الأوقاف من جديد مع عصر إسماعيل، فاستمرت حتى ثورة يوليو، تلك التي وضعت يدها على الأوقاف وعوضت أصحابها.

ورصدت السينما في فِلْم مثل «العتبة الخضرا» نهاية الوقف الأهلي، حين قال إسماعيل ياسين لأحمد مظهر: إنه جاءه خطاب من وزارة الأوقاف بحل الوقف الأهلي وتعويضه بتسعين ألف جنيه. لكن هذا لا يعني أن الوقف انتهى تمامًا من الحياة الحديثة، فما زالت هناك دول تسمح بنظام الوقف، من بينها الكويت وتركيا، ففي تركيا هناك بنك اسمه بنك الأوقاف، تُستثمَر أموال الأوقاف، وهي عديدة ومتنوعة، فهناك مثلًا وقف التاريخ التركي، حيث يوقف من خلاله أناس جانبًا من ثرواتهم لرعاية المؤرخين والأبحاث التاريخية.

أعتقد أنه يمكن استعادة ثقافة الوقف من جديد في حياتنا الراهنة عبر تشريع قانوني جديد، وقد كنت وبعض الأصدقاء في مرحلة ما نسعى لعمل حملة رأي عام للمطالبة بهذا التشريع، بحيث يُوقَف مال أو عقار أو أرض لرعاية شيء ما تحت إشراف من الدولة، وثمة نماذج معمول بها في عدد من الدول، يمكن الاعتماد عليها والأخذ منها بما يتوافق مع مصلحة الدولة، لكن ثم تخوف الآن من استغلال التيارات الإسلامية للفكرة، لكن في حال صدور تشريع يضمن الإشراف الكامل للدولة فإن ذلك يضمن الشفافية، وأعتقد أن الأثرياء لن يتأخروا عن وقف جانب من ثرواتهم لرعاية العديد من الأنشطة والمؤسسات، آية ذلك أنه في حال حدوث أي زلزال أو غيره فإنهم يتبرعون، والقانون يتيح نسبة من الضرائب لصالح العمل الخدمي والأهلي، ومن ثم فلدينا الأرضية المؤهلة ولا نحتاج إلا إلى التشريع المناسب.

أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة

محمد المسعودي: الوقف شمل كل مناحي الحياة

شكل الوقف في الحضارة الإسلامية بابًا من أبواب الإنفاق فيما يعود على الناس، وعلى المجتمع بالخير، انطلاقًا من مبدأ التكافل، واستنادًا إلى أهمية حفظ الحياة والرقي بها. وتعلق الأمر من خلال الفعل الحضاري بغايات عدة تتمثل في العمل على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال؛ إذ حرص ذوو الأملاك والأغنياء على أن تعم أوقافهم كل مجالات الحياة، مثل: وقف المساجد والعناية بها، والكتاتيب القرآنية، ووقف المقابر والعناية بها. ووقف المستشفيات، وإطعام الطعام، وإيواء المحتاجين والمسنين. ووقف المدارس والجامعات، والمكتبات، ودفع مرتبات للقراء والدارسين من البلدان الأخرى، ووقف تشجيع البحث العلمي (مثل: العناية بالطيور والحيوانات/ دار بلارج (اللقلق)/ دار الطير… إلخ). ووقف المعاونة للمقبلين على الزواج، وكفالة اللقطاء واليتامى، وتطبيبهم ورعايتهم. وتخصيص أوقاف معنية بقرض المال من دون فائدة، أو ضمان المتلفات.

هذا فضلًا عن تحقيق التكافل الاجتماعي والتضامن بين أفراد المجتمع الواحد، فكان الوقف تجسيًدا حيًّا لقيم التكافل الاجتماعي التي تُميّز المجتمع المسلم. غير أن عصرنا الحاضر، وبعد دخول الاستعمار إلى بلادنا العربية والإسلامية، خلخل نظام هذه المؤسسة الاجتماعية الدينية والاقتصادية، كما خلخل عقلية الطبقة الموسرة، وبخاصة التي اغتنت بطرائق غير مشروعة، فلم تعد تهمها القربة إلى الله، ولا يعنيها المجتمع إلا فيما يخدم أغراضها ويسعفها على تراكم أموالها في البنوك الخارجية.

وبذلك نرى أن الوقف لم يعد له دور فاعل في مجتمعنا المعاصر، ولم يعد يهتم به أغلب الناس اللهم إلا عند فئات محدودة من الأثرياء لا تزال تؤمن بأهميته، لكنها تقصره على أداء أدوار محدودة، مثل بناء المساجد بمنح أراضيها لهذا الأمر، أو وقف أموالها ودكاكينها لتحقيق استمرار المسجد وضمان ما يجعله يؤدي وظيفته الدينية. أو المساهمة في توزيع المؤونة والزاد على المعوزين والفقراء في الأعياد الدينية والمواسم، ولم يعد يخطر في بال هؤلاء المساهمة في بناء الجامعات وتشجيع العلماء والأدباء والمفكرين والباحثين، وتخصيص قسط من أموالهم في تشجيع القراءة ونشر الوعي، وتشييد المكتبات والمختبرات العلمية والطبية.

وإذا كانت مجالات العلم والاهتمام بالفن والأدب، في مقدمة ما أولاه الأغنياء المسلمون كامل اهتمامهم ودعمهم في القديم، فكان المقتدرون يحبسون أموالهم لتشجيع الإقبال على العلم وتحصيله، والعناية بالأدب وتشجيع الأدباء، وتقريب الفنانين والإغداق عليهم، فإن هذا الأمر قد صار في خبر كان؛ لأن الطبقة الغنية الجديدة في مجتمعاتنا لا علاقة تصلها بالعلم والأدب والفن، ولا تهتم سوى بجمع الأموال والتنافس في شراء الكماليات والتفاخر بها.

ناقد وباحث مغربي

سعد إبراهيم الدراجي: عودة الوقف تتعارض مع القوانين الحديثة

موضوع الوقف طويل الذيل عميق السيل كما يقولون؛ لأن بداياته في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وهو استجابة لأمر الله -عز وجل- بالصدقة والإنفاق على الفقراء والمحتاجين، وضمان إدامة المنفعة على شريحة من المجتمع، وربما هو نوع من التكافل بين الأفراد. والذي يطلع على مجالات الوقف ومشروعاته في المدن الإسلامية الكبرى يدرك أهميته، وقد أصبح للوقف هيئة خاصة في العهد الأموي بعد أن كان الإشراف والإدارة بوساطة الأفراد، وفي العصر العباسي أصبحت للأوقاف إدارة مستقلة غير مرتبطة بالقضاء.

إن رعاية الحاكم وحمايته لأوقاف المسلمين على مر العصور، وضبط أحكام الوقف من الفقهاء من خلال مؤلفاتهم؛ ساهم في تطور مؤسسات الوقف، وأدى إلى قيام الوقف بدور كبير في التنمية الاجتماعية في كل البلاد الاسلامية، وكذلك رغبة بعض الأشخاص في إدامة ريع بعض الأملاك لأسرهم من بعدهم ساهم بشكل فاعل في تنمية الوقف وزيادة العمائر والمشروعات الخدمية الموقوفة، ولا سيما في العصرين المملوكي والعثماني؛ إذ جرت العادة أن يوقف رب الأسرة ربع أو ثلث أو نصف المنشآت على المؤسسات الدينية أو المشروعات الخيرية، ويبقى النصف الآخر لأولاده وأحفاده.

إن قلة من الحكام تجرؤوا على مصادرة الأوقاف في التاريخ الإسلامي، وقد توقف في عهد الدولة الحديثة التي صادرت الأوقاف وضمتها إلى مؤسسة أو وزارة واحدة، وأخذت تتصرف بها على غير الشروط التي نصها الواقف واشتراطها في وقفيته؛ لذلك أصبح قلة من الناس في زماننا يهبون أملاكهم إلى المؤسسة الحكومية، والحقيقة هي لم تتوقف تمامًا، فهناك أشخاص الآن يبنون منشآت خدمية وصحية وفي الغالب دينية، ويشرفون على إدارتها بقصد الأجر، وبعضهم يسلمها إلى وزارة الأوقاف لتشرف على إدارتها، وبخاصة المساجد.

يمكن استعادة نظام الوقف إذا عدنا به إلى التنظيمات التي سنها الفقهاء، وراعت الدولة ذلك، وهذا صعب جدًّا؛ لأنه يتعارض مع القوانين المدنية الحديثة، وسياسة الدول في السيطرة على المؤسسات وأموالها.

أستاذ التاريخ بجامعة بغداد

أحمد زكريا الشلق: نظام الوقف توارى لصالح مؤسسات الدولة

بدأ الوقف منذ العصور الوسطى، وازدهر بشكل كبير في العصر المملوكي، وهي فكرة أساسها ديني، حيث يوقف الإنسان جزءًا من أملاكه على عمل معين. ومن ثم فقد سعى كثير من الحكام والأثرياء إلى وقف جانب كبير من أملاكهم لرعاية أسبلة ومستوصفات ومساجد وتكايا وجامعات كما فعلت الأميرة فاطمة إسماعيل في جامعة القاهرة في العصر الحديث.

ومن ثم فالفكرة كانت أن يوقف شخص ما مصدرًا من مصادر رزقه بشكل رسمي لرعاية مؤسسة ما، ويتقدم بذلك بحجة رسمية إلى القاضي أو الدولة؛ كي تضمن الدولة تنفيذ وصيته أو وقفه، وبعضهم كان يضع شروطًا في الحجة، كأن يُعيّن خادمون للسبيل، أو أن يوجد قارئ قرآن به، أو أن تخصص وقفيته لرعاية قناديل الزيت بالمسجد، أو غيرها من الشروط، وقد أخذت فكرة الوقف تتوسع من الزوايا والمساجد والأسبلة إلى مختلف شؤون الحياة، حتى إن بعضهم كان يوقف وقفًا لرعاية طريق ما، أو إصلاح ترع وغيرها، وهو ما جعل الحكومات في الزمن الحديث تنشئ وزارات الأوقاف لتنظيم عمل الأوقاف، ففي مصر أنشئت وزارة الأوقاف عام 1912م.

لكن نظام الوقف توارى لصالح مؤسسات الدولة وهيمنتها على مصادر التمويل لعدة أسباب، منها الدور المركزي الذي لعبته الدولة، ومن ثم فقد أصبحت الدولة نفسها طرفًا مستغلًّا بديلًا لجماعات المصالح التي نشأت على ضفاف الوقف القديم، ومنها أيضًا أن أغنياء هذا العصر يختلفون عن الأغنياء قديمًا، ففي الماضي كانت الحالة الدينية أكثر قوة، ومن ثم كان الأثرياء يسعون لتأمين فكرة الصدقة الجارية على أرواحهم، مثلما سعوا لإنجاب وتعليم الولد الصالح الذي سيدعو لهم، أما الآن فالأثرياء يؤمنون إيمانًا مظهريًّا؛ لذا يقيمون موائد الرحمن أو غيرها من الأمور التي تجلب لهم الوجاهة.

أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس

سلطان الحويطي: الوقف أسهم في نهضة ثقافية وعلمية

لا شك أن للوقف دورًا مهمًّا في نهضة الأمة الإسلامية في شتى المجالات سواء فكرية أو علمية أو ثقافية، ولكن للأسف الشديد فقد أصاب ثقافة الوقف داء التقليد والتكرار والانسياق خلف قوالب مجهزة مسبقًا، فاقتصر دور الوقف على بناء المساجد ورعاية الأيتام، ولا شك أن هذه المناحي مهمة، إلا أن الجهل وعدم تثقيف العامة بدور الوقف المهم في بناء شخصية مسلمة واعية منتجة أدى للركود.

ولو عدنا إلى العصور الإسلامية الأولى لوجدنا الوقف يساهم في نهضة علمية وثقافية عادت على العالم أجمع بالمنفعة، فكانت المدن الإسلامية تعج بالمكتبات الوقفية العامة مثل مكتبة الحكمة ببغداد، ودار العلم بالموصل، ودار الحكمة بالقاهرة، وخزانة الكتب بحلب وغيرها، ولاستعادة دور الوقف بشكل يتناسب مع معطيات عصرنا الحاضر لا بد أولًا من رفع مستوى الوعي لدى المجتمع بأهمية تنوع مجالات الوقف، وتعزيز مفهوم التنمية الشاملة، ومن ثم قيام المؤسسات الوقفية بالنهوض بالفكر والثقافة والإبداع، ويكون ذلك بإنشاء مطابع ودور نشر تهتم بطباعة الكتب القيمة وترجمتها وتسويقها، وإنشاء مراكز للبحث العلمي توفر بيئة ملائمة للباحث، وإقامة ندوات ثقافية ومسابقات في شتى مجالات الإبداع.

كاتب سعودي

«رواية ما بعد الحداثة» لعزت عمر.. وثالوث التجريب والتناص والتجاور

«رواية ما بعد الحداثة» لعزت عمر.. وثالوث التجريب والتناص والتجاور

جاءت ما بعد الحداثة كنوع من رد الفعل على الحداثة، تلك التي كانت تدعي الكمال في كل شيء، وهو ما جعل الأجيال الجديدة من الفلاسفة والمفكرين والمعماريين والأدباء والفنانين يوجهون انتقادهم إلى هذا اليقين بالكمال، ومن ثم أخذت كتاباتهم تؤسس للخروج عليه. ولم يكن إيهاب حسن الذي أصبح في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أهم منظري ما بعد الحداثة أول من تحدث عنها، فقد ورد المصطلح في أدبيات فلاسفة القرن التاسع عشر أمثال هيغل وماركس وهايدغر، وسرعان ما انتشر المصطلح بشكل أكبر في أعقاب الحرب العالمية الأولى والثانية، كنوع من رد الفعل على ما وصلت إليه قيم الحداثة من انهيار، فانتشرت الرغبة في تهشيم هذا النموذج القائم على الثنائية الواضحة بين الخير الشر، وراح رواد ما بعد الحداثة يبحثون عن التعدد والتجاور والتباين، ومن ثم راجت التفكيكية والبنيوية الجديدة.

وأصبح لما بعد الحداثة منظروها الذين سعوا إلى إبراز قيمها في الفنون والفكر والأدب، وكان إيهاب حسن أبرز هؤلاء المنظرين الذين تركوا إرثًا كبيرًا في البحث عن معالم ما بعد الحداثة ورصدها، وعلى نهجه سعى الكاتب والناقد السوري المقيم في دولة الإمارات العربية عزت عمر إلى تلمس معالم وتقنيات ما بعد الحداثة في كتابه «رواية ما بعد الحداثة: التناص، التجاور، التجريب» الصادر عن دار «الغد» في الإمارات.

تمثيلًا للمشهد الروائي العربي

في هذا الكتاب تعرض عزت عمر بالنقد لنحو ثلاثين عملًا روائيًّا، أعمال متباينة ومتنوعة وتصلح أن تكون تمثيلًا جيدًا لمجمل المشهد الروائي العربي الراهن، فيما عدا ثلاثة أعمال خصص لها الفصل الثاني تحت عنوان: «ريادة مبكرة لرواية ما بعد الحداثة»، وهي رواية «شتاء البحر اليابس» للسوري وليد إخلاصي، و«ذات» للمصري صنع الله إبراهيم، و«مالك الحزين» للمصري أيضًا إبراهيم أصلان.

وعلى الرغم من أن الروائيين الثلاثة ينتمون إلى جيل الستينيات، ومن مواليد عقد الثلاثينيات، فإن الأعمال الثلاثة صدرت في عقود مختلفة. وفي الوقت الذي اعتمدت فيه رواية إخلاصي، بحسب المؤلف، على توظيف تقنيات جديدة في شكل من أشكال المغامرة السردية التي خلت من التسلسل الزمني المعتاد، ومن الحدث المتصاعد، وهو ما أهلها لأن تكون أول عمل عربي رائد في كتابة ما بعد الحداثة، فإنه يرى أن رواية «ذات»: «يمكن اعتبارها نموذجًا فائضًا بالتجريب في تقنياته واجتراحاته الفنية، التجريب النابع من رغبته في مفارقة نمط الكتابة الكلاسيكية نحو شكل من الكتابة جمع ما بين الإبداعي السردي والوثيقة المستقاة من الصحافة اليومية».

عزت عمر

لكننا لا نعرف الأسباب التي اختار على أساسها رواية «مالك الحزين» كي تكون ضمن رواد الرواية في كتابة ما بعد الحداثة… حمل الفصل الثالث من كتاب عزت عمر، عنوان «ما بعد الحداثة كنظام تفكير» وهو الفصل الأكبر أو العمود الأساس في الكتاب كله، فمن قبله كانت مقدمة بسيطة عما بعد الحداثة التي سادت في العقود الأخيرة، وعن الرواية العربية التي بدأت من منتصف القرن التاسع عشر وتطورت إلى وقتنا الراهن. وتلى ذلك فصل الرواية، ثم جاء الفصل الأساس الذي من المفترض أن يقدم فيه الناقد طرحه عن الرواية العربية، وكيف أصبحت ما بعد الحداثة هي نموذج التفكير الأساس الذي تقوم عليه، وفي هذا السياق قدم ما يمكن تسميته بمجموعة من القراءات ما بعد الحداثية، لأعمال تسعة عشر كاتبًا، ولا يسمح المقال باستعراض كل القراءات، إنما بعضها.

فالناقد يبدأ هذا الفصل بقراءة عن «التجاور وفاعلية التخييل في رواية البدل» للكاتب السوري خليل الرز، الذي وصفه بأنه أحد رموز الحداثة وما بعدها في المشهد السوري المعاصر، وقدم له أيضًا قراءة في روايته «الحي الروسي» بعنوان: «استعادة لغة وخيال الطفولة الفطرية»، موضحًا أنها تمتعت بأسلوب التداعي العفوي والمصاحبات اللغوية والبصرية، وقدرة السارد على اتباع أسلوب التكرار المعتمد كتقنية خاصة بخليل الرز. ورصد صراع الهوامش في رواية «منتجع الساحرات» للكاتب السوداني أمير تاج السر، قائلًا: إنها تنهض على نمط سردي من الواقعية السحرية «وفق النهج الماركيزي، يمزج الواقعي مع الخيال الفانتازي لتقديم النص في سوية عالية من المفارقات المدهشة التي تحفل بها القارة الإفريقية من ضروب جمالية وحكايات خرافية».

ووصف عمر «قوس الرمل» للكاتبة الإماراتية لولوة المنصوري بأنها واقعية سحرية وبنية ما بعد حداثية، واستعرض مهارات توظيف الرموز في رواية «فهرس» للشاعر والكاتب العراقي سنان أنطوان. أما دراسته عن رواية «حوض الشهوات» للعماني محمد اليحيائي، فقال فيها: «والتجريب سيتجلى واضحًا بالنسبة للناقد والقارئ الحصيف منذ الإطلالة السردية الأولى، فالرواية هنا تحكي ذاتها من خلال ذلك التناغم الصوتي بين السارد والشخصيات، وبين الشخصيات الذين سيتحولون إلى رواة، بمعنى أن تحكي الرواية ذاتها بمعزل عن المؤثرات الأيديولوجية الخاصة بالمؤلف وسارده العليم».

شتات وآلام

وتوقف عند رواية «كلاب المناطق المحررة» للسوري زياد عبدالله، تلك الرواية التي رصد فيها أجواء الحرب الأهلية في سوريا، وما نجم عنها من شتات وآلام للكثيرين. أما رواية «جبل الزمرد» للمصرية منصورة عز الدين، فذكر أنها جاءت على غرار الكثير من الروايات التي سعت للتناص مع حكايات ألف ليلة وليلة، كرواية السوري هاني الراهب «ألف ليلة وليلتان»، ورواية واسيني الأعرج «فاجعة الليلة السابعة بعد الألف»، فضلًا عن رواية غوته «الليلة الثانية بعد الألف» التي تعد أول عمل عالمي تناص مع ألف ليلة وليلة.

وكتب عن رواية السوري إسلام أبو شكير «زجاج مطحون»، قائلًا: إنها تنفتح على إمكانية التأويل لأكثر من وجهة دلالية تبعًا لزاوية القارئ، وهذا مؤشر على إشكاليتها وإمكانيتها في إثارة الأسئلة. أما رواية «ستيمر بوينت» لليمني أحمد زين فقد وصفها بأنها «رواية التفاصيل والإحالات الدلالية»، موضحًا أن بناء الرواية يقوم على شخصيتين هما: «الخادم والمخدوم اللذان يتواجهان للمرة الأولى أمام مرآة بانورامية، كما لو أنهما على خشبة مسرح، ومن زاوية قريبة يتابعهما السارد العليم الذي قام بتقديمها بتسليط الإضاءة على كل منهما للكشف عما يعتمل في الداخل من أفكار وهواجس».

وذكر أن رواية الليبي إبراهيم الكوني «فرسان الأحلام القتيلة»، تقوم على «التناص وبنية الاسترجاع». ووصف عزت عمر رواية «ملك الهند» للبناني «جبور الدويهي» بأنها «سفر في الذات الاجتماعية»، لافتًا إلى أنها تحكي عن مغترب لبناني غادر بلاده في الحرب الأهلية، ثم عاد إليها في أيامنا الحالية لتكتشف جثته بعد أيام من عودته على مبعدة يسيرة من مسقط رأسه، لتبدأ الأحداث وتتسع وتتشابك الخيوط والأفكار والمعارف.

«الكتابة والزمن» جديد أحمد بوقري دراسات مفتوحة على التأمل الفكري والنقدي

«الكتابة والزمن» جديد أحمد بوقري

دراسات مفتوحة على التأمل الفكري والنقدي

عدد من الأسئلة يضعنا أمامها كِتاب القاص والناقد أحمد بوقري «الكتابة والزمن- في الراهن واليومي واللحظي»، الصادر مؤخرًا عن دار «خطوط وظلال» الأردنية، الذي قسمه كما يتبدى من العنوان إلى ثلاثة أقسام هي (الراهن واليومي واللحظي)، هذا التقسيم الزمني لم يكن مطلقًا بقدر ما كان محددًا بفعل الكتابة ذاته، ومن ثم كان لابد أن يتوقف بوقري أمام فكرة الزمن وتقسيماتها عندما قرر أن يضع عنوانًا لكتابه. ويبدو أن هذا التوقف جعله ينتج واحدًا من أبدع الفصول النقدية والفكرية في الكتاب، فمن النادر أن توجد في الثقافة العربية كتابات تأملية حول فعل الزمن وعلاقته بالكتابة، يقول بوقري: «طرأت في ذهني فكرة البحث عن معنى الزمن في الكتابة وأنا بصدد وضع عنوان لكتابي النقدي هذا، حينها غمرني فيض الزمن.. فيض الوجود، وتصدعات الكينونة المتماسكة، ولفحتني موجة جافة من الغياب أحدثت خدوشًا في الذاكرة، فانسابت التأملات والتداعيات الفكرية كما لم تَنْسَبْ من قبل، وأخذ الزمن يعلن ثقله الماثل على لوحة الكتابة الباسقة».

أحمد بوقري

وضع بوقري إطارًا جامعًا لشتات الدراسات التي جمعها بين دفتي كتابه، تلك التي تباينت ما بين دراسات نقدية وشهادات إبداعية وأخرى عملية وتأملات فكرية وحوارات صحفية، التي وُزّعت على أقسام الزمن التي حددها في العنوان. في هذا الكتاب نجد أنفسنا أمام نوع جديد من الكتابة وذكاء شخصي من الكاتب؛ حيث إننا أمام كتابة مفتوحة على التأمل الفكري والنقدي، أكثر منها قراءة لنصوص أدبية سواء لدى درويش أو الدميني أو فوزية أبو خالد أو محمد علوان أو غيرهم، وهي الكتابة التي تنحو تجاه الرؤية الفلسفية التي عز وجودها في واقعنا العربي.

في المقدمة النظرية التي أعدها بوقري عن الكتابة والزمن تساءل إن كانت الكتابة تشيخ أم لا، وتوصل إلى أن هناك كتابات خالدة لا تشيخ مهما تقدم بها الزمن؛ لأنها تحمل من غزارة اللغة والمعنى ما يجعلها قادرة على تخطي حدود الزمن النفسي والزمن المعيش مدة كتابتها، مشيرًا إلى أن هناك كتابات يستنفدها الزمن سريعًا؛ لأن ما تحمله من لغة ومعنى لا يتجاوز زمن كتابتها. وقسم بوقري لعبة الزمن مع الكتابة إلى ثلاثة أزمنة؛ الأول هو الزمن النفسي الذي يستحضره الكاتب سواء من الماضي أو من المستقبل، والزمن المعيش الذي يكتب فيه نصه، والزمن التاريخي الذي تعيش فيه الكتابة باحثةً عن خلودها، لكن ذلك، كما يذكر، لا يتوافر إلا للكتابات صاحبة المكونات الغزيرة في اللغة والمعني، وهو ما يجعلها تتجاوز المدة التي كتبت فيها إلى مُدَد وأجيال قادمة، وقد تصبح كتابة خالدة مثل الإلياذة والأوديسة.

لم ينسَ بوقري أن يكشف عن مفهومه لحلقات الزمن التي حددها في عنوان الكتاب قائلًا: «عند قولي بالراهن فأعني اختزاله لليومي واللحظي والماضي القريب، وعند قولي باليومي فإني عنيت به ألا أنظر لا إلى الماضي ولا إلى المستقبل، فأجزئه في ساعات قليلة تحتفي بها الكتابة في سيرورتها، ففي الكتابة يتم تقطيع الزمن إلى أزمنة متعددة لا تخلو أبعادها من لحظات التقاطع والتجاذب والتنافر والتصارع». ولكن بوقري أفرد المساحة الكبرى في كتابه لما سمّاه بالراهن، ربما لانشغاله بمعالجة كوابح النهضة العربية الراهنة؛ حيث أفرد جانبًا كبيرًا من هذا القسم للحديث عن رؤيته الفلسفية لواقعنا الفكري والنقدي.

كتب بوقري في الزمن الراهن عن الفارق بين الفكر والنقد في حياتنا، ذاهبًا إلى أنه من الصعب القول بأننا كانت لدينا حركة فكرية متماسكة كي نقول أنها توقفت، ولكن كانت هناك جهود فردية لمفكرين وباحثين تماسوا نقديًّا مع بداية الحركات الإبداعية الجديدة، ومما يزيد الأمر صعوبة هو غياب دور الجامعات، فمن الصعب الحديث عن وجود مناخات مناسبة لطرح حركات فكرية وبحثية كبيرة، وبخاصة في ظل غياب العلوم الإنسانية، وهيمنة السلطة الثقافية والدينية على الخطاب المجتمعي.

المثقف والمعرفة

يرى بوقري في سياق بحثة في راهن الثقافة العربية أن أهم أسباب تخلف الحركة الفكرية في بلاده، هو غياب الليبرالية وهيمنة الفكر التقليدي الذي يرى أن التفكير خطيئة، وهو ما جعل المجتمع يضع الحركات الإبداعية الجديدة في إطار الاتهام والإدانة، واستعدى السلطة السياسية على الحراك الإبداعي والثقافي، ومن ثم سرعان ما انطفأت الحداثة الشعرية والقصصية التي توهّجت في ثمانينيات القرن الماضي بسبب هذه الاتهامات، وإن كانت لم تمت.

ورصد أحمد بوقري في مقالته الثانية العلاقة بين كل من المثقف والسلطة، موضحًا أنها دائمًا ما كانت توصف بأنها علاقة صراع وتناقض، فالمثقف المتمرد يرتاب في كل ما ينتج عن المؤسسة، وذلك على نقيض المثقف التقليدي الذي يتماهى مع كل ما تطرحه السلطة من مفاهيم ورؤى. وفي كتابه يطرح بوقري مفهوم المثقف العملي بديلًا من مفهوم المثقف العضوي لدي غرامشي، موضحًا أن المثقف الجديد بات يمتلك كلًّا من الوعي المعرفي التقني والروح الانتقادية في آنٍ واحد، وهو ما جعله بعيدًا من الأيديولوجيا المنتجة للوعي الزائف.

وأكد الكاتب السعودي أن ما يعيشه المثقف في الحياة الراهنة هو الوصاية الكاملة؛ إذ إن السلطة التعليمية والثقافية تعدان المصدر المغذي لعقول الشباب بالنمطية والأحادية المنحازة للتراث الحضاري، من دون الدعوة لإعادة النظر في هذا التراث، ومن ثم لا بد، في رأيه، أن تقوم هذه المؤسسات بتقديم التراث عبر آليات عصرية مقبولة، ووضعه في سياق أنه حلقة من حلقات تكوين الوعي والفكر الحاضر. ووضح بوقري أن مواجهة التطرف لا تكون من خلال معطياته، ولكن من خلال ثقافة العصر الراهن وروحه. كما أكد في سياق تساؤله عن موقعنا في مجتمع المعرفة الحديث، أن المجتمعات العربية ما زالت تعاني اتساع الهوة الرقمية المعلوماتية، ومن ثم فإنها تتعثر بشكل بائس في السباق الحضاري المعاصر حسبما قال نبيل علي في كتابه «العقل العربي ومجتمع المعرفة»، هذا الكتاب الذي أفرد له بوقري صفحات لقراءته نقديًّا.

مستقبل اليسار العربي

وفي سياق بحث بوقري عن معوقات النهضة في الواقع العربي الراهن تساءل عن اليسار العربي ومستقبله، وذهب إلى أنه لم يبقَ لنا إلا اليسار الثقافي الذي يجب أن نتمسك بمهمته التنويريه، تلك التي يستحوذ فيها على قضايا التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، وهي القضايا الحيوية لدى أي مواطن عربي، وليست حكرًا على فئة أو جماعة بعينها، ولا خلاف فيها إلا على طريقة العمل الثقافي والسياسي التي تحقق دولة المؤسسات والقانون، وهذا ما طرحه المفكر اللبناني كريم مروة في كتابه «نحو نهوض جديد لليسار في العالم العربي»، الذي قدم من خلاله مشروعًا ثقافيًّا سلميًّا بمضامين سياسية لا يختلف أحد عليها، ومن ثم عَدَّ بوقري رؤية مروة مشروعًا تجديديًّا ينفخ الروح في طائر الفينيق/ اليسار العربي من جديد.

ما كان لبوقري في سياق دراسته للمشاريع الفكرية العربية، الباحثة عن نهضة العقل العربي، أن يغفل الحديث عن دور المفكر المصري فؤاد زكريا، وبخاصة في كتابه «التفكير العلمي»، فأفرد له فصلًا خاصًّا بعنوان: «فؤاد زكريا بين التفكير العلمي والتفكير السياسي»، متوقفًا أمام مشروع زكريا الفكري الذي استهله في بداية شبابه بكتاب عن الفيلسوف الهولندي «إسبينوزا»، نال عنه جائزة الدولة التشجيعية في منتصف الستينيات، ثم ما لبث أن أنجز مؤلفًا آخر عن الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه»، ولم يكن قد أنهى زكريا الثلاثينيات من العمر. وذكر بوقري أن زكريا تنبأ في كتابه عن «الصحوة الإسلامية» بالثورة والتغيير، لكن القدر لم يمهله حتى يرى ثورة 25 يناير التي حلم بها في كتاباته. وكان فؤاد ذكريا، بحسب بوقري، وضح في كتابه قدر الزيف الذي اشتملت عليه هذه الصحوة، وما بها من عداء للإنسان والتاريخ ونزوع للعنف والإرهاب.

لم يكن باراك أوباما بمنأى عن رؤى أحمد بوقري النقدية، فقد كتب عن حماسه له وتفاؤله به آن مجيئه، وذلك في كتابه «السيف والندى»، لكنّ رجاءه فيه سرعان ما أصيب بالخيبة، فلم يتحلّ أوباما بالجرأة المأمولة فيه سياسيًّا لقيادة العالم نحو عالم آمن ومستقر، وسرعان ما خضع لمخططات الأجهزة الأميركية العتيدة في تفتيت منطقتنا العربية وإضفاء مزيد من الظلام عليها. وفي مقال عن نكسة 1967م، كتب موضحًا أن الهزيمة ما زالت قائمة في وعينا وأعيننا، وأنها على مرمى بصر منا. وكتب في مقال آخر عن التحولات الثقافية التي تعيشها المملكة العربية السعودية الآن، وذلك في سياق رؤيتها لعام 2030م، ويرى بوقري أنها ليست بعيدة مما طرحه طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي وضع التعليم في قلب العملية الثقافية. وذهب بوقري إلى أن السعودية هيّأت الشرط الاجتماعي المطلوب لإحداث تغيير ثقافي قادر على جذب المثقف نحو التفكير الجديد، والمشاركة الواعية بأهمية إحداث نقلة نوعية في الحياة الثقافية والفنية. وأهم معوقات السياسات الثقافية في مجتمعاتنا الراهنة، بحسب بوقري، هي الدائرة المغلقة التي يقبع فيها المثقف العربي، والمتمثلة في رؤيته الأحادية لقضايا الدين والمرأة والمجتمع، فضلًا عن معوقات السلطة الأبوية للمؤسسة الثقافية التي تمارس استعلاءها ووصايتها على الفكر.

فيما هو عملي واجتماعي

في القسم الثاني «اليومي: فيما هو عملي واجتماعي» قدّم بوقري مجموعة من الدراسات عن نماذج قدمت منجزًا مهمًّا في المجتمع، في مقدمتها غازي القصيبي الذي وصفه بالاستثنائي في حياته وعمله الإداري، ثم إياد مدني الذي وصفه بأنه مثقف ومجدد ومفكر، كما كتب عن «الخطاب السياسي حين يخلو من ضميره ـ إسرائيل نموذجًا»، وعن «أدواء ثقافية لا براء منها»، في مقدمتها الصورة الزائفة عن الذات التي تصيب صاحبها بتعالٍ لا مَحَلَّ له، وهو ما سمّاه بوقري التورمَ الذاتيَّ، وكذلك متلازمة الأكاديمية، وكأن المثقف لا بد أن يكون أكاديميًّا، كما قدم تأمله الخاص في «الخيط الرفيع بين كرة القدم والأخلاق»، وخواطره الخاطفة عن «كأس العالم». أما في الزمن الأخير «اللحظي فيما هو شخصي وحميمي»، فقد قدم شهادة مطولة عن الشاعرة فوزية أبو خالد، وأخرى عن الشاعر علي الدميني، وثالثة عن شركة أرامكو التي عمل بها نحو ثلاثين عامًا، ويرى أنها نموذجًا جيدًا في الثقافة والإدارة والاعتماد على الأداء العلمي.

«أراك في الجنة» لمحمد الفخراني.. فنتازيا الأسئلة الوجودية

«أراك في الجنة» لمحمد الفخراني.. فنتازيا الأسئلة الوجودية

أسئلة وجودية اعتنت بها الرواية الجديدة للكاتب المصري محمد الفخراني «أراك في الجنة» الصادرة أخيرًا عن الدار المصرية اللبنانية. أسئلة أصرت على مناقشتها على مدار 127 صفحة من قطع الجيب، وذلك عبر قصة حب بين كاتب ومعلمة، قصة حب بها كثير من الفنتازيا المناسبة لطرح أسئلة فيزيقية عن الجنة والنار وإنكار الإله وإثبات وجوده، قصة حب تدور ما بين الجنة والجحيم، وما بين الواقع في الحياة الأولى والمتخيل في الحياة الثانية، قصة حب يربطها من بدئها حتى نهايتها علاقة رومانسية بين آدم وحواء الجديدين، آدم هو الشاب الوسيم الذي اتُّفِقَ على أن يكون اسمه نقار الخشب رغم أنه أقل وسامة منه، والمعلمة التي كلما سألها الشاب عن شيء أجابته بكلمة: «تخيل؟»، فمنحتها هذه الكلمة اسمًا لها، الشاب العلماني الرافض للأساطير الكبرى أو ما يعرف بالديانات، والفتاة المؤمنة بالإله الخالق المدبر لكل شيء، وعلى مدار صفحات الرواية نجد هذا الحوار الطويل بين نقار الخشب وتخيل عن الإله والجنة والنار وجدوى ذلك من عدمه، عن الإيمان وعدم الإيمان ودلائله، حتى بدا النص كما لو أنه استعادة بشكل ما لقصة حي بن يقظان، والوصول إلى الله باليقين وليس بالتسليم، والإيمان بأهمية الشك من أجل الوصول وليس الشك لأجل الشك.

وكعادته في مجموعة أعماله الأخيرة بدءًا من خيال حر وغيرها تمتعت رواية الفخراني بصغر الحجم وقصر الفصول وعوالم الفنتازيا واللغة الشاعرية، ويمكن القول: إنه تمكن من بث طاقة شعرية مهولة في لغة هذه الرواية، حتى بدت في مجملها كما لو أنها قصيدة شعر متعددة المقاطع، وبدت عوالمها الشعرية مدهشة وجميلة، وانتقالاتها بسيطة وتلقائية رغم تغيرات الزمان والمكان، حتى إننا لا نشعر بوجود الزمان والمكان فيها من الأساس، ونتحرك مع النص كلوحات متوالية، منشغلين بشاعرية الأسئلة والإجابات، وبالرومانسية التي شملت كل صفحة وسطر فيها.

محمد الفخراني

حوار طويل

تعد الرواية في مجملها حوارًا طويلًا بين الشاب والفتاة، وروح اليقين والمحبة اللذين سربهما الفخراني إلى نصه، وكأننا أمام حال وَجْدٍ صوفيٍّ تقطعت على لوحات، لينتهي العمل بأن يثبت الإله للإنسان أنه أكثر حبًّا لعباده منه، فيعفو عن كل من في الجحيم كي يدخلوا الجنة ويعيشوا بسلام، الإنسان الذي سعى الفخراني لجعله محور النص عبر طرائق شتى، في مقدمتها الرواية التي كتبها نقار الخشب، التي ضاق منها ومزقها، والتي قامت حبيبته تخيل بجمعها مرة أخرى على نحو جمع إيزيس لأشلاء أوزوريس، وقامت بطبعها بعد موته بنحو خمسين عامًا، الإنسان الذي استحق أن يطلق عليه الكاتب «أجمل فكرة في العالم»، لتتحول في لحظة غضبه عليه إلى «الإنسان أحقر فكرة في العالم»؛ ذلك لأنه لم يتوقف عن الفساد والقتل.

يتبنى الفخراني طيلة النص موقفًا دينيًّا يتسم بالمرونة، فيمكنه أن يناقش أفكار العلمانيين واللادينيين، ويقدم مزاعمهم في رفض الإله على لسان نقار الخشب، بينما تقوم تخيل بالرد وتوضيح مدى فشل وجهة نظرهم، ليأخذنا النص في سيناريو شبه محكم إلى القول في النهاية بوجود الإله، وأن الحب هو السر الذي يمكننا من خلاله أن نراه، وأن هذا الإله ليس قاتلًا ولا دمويًّا ولا معذبًّا كما يتصور بعض، وأن الجنة ليست سوى حياة أخرى يستحقها الجميع، وبخاصة هؤلاء الفقراء والمستضعفون الذين كانوا حطبًا لصراعات أكبر منهم، وأن كل شيء يسير بحكمة كبرى لا نستطيع أن نفهمها لأننا لا نرى غير جزء بسيط من الرواية الكلية، الرواية التي يمكن فهم ما فيها من خلال تحليلنا للجزء الذي علمناه منها، لكنها ستظل رؤية كلية لا يحيط بتفاصيلها وأبعادها سوى الإله نفسه، هكذا نجد أنفسنا أمام نص ديني متطور، يعنى بإعادة إنتاج الأفكار القديمة التي طرحها أصحاب علم الكلام، ولكن عبر صيغة روائية تتفق مع الزمن الحديث، معتمدة منهج الشك وصولًا لليقين وليس الشك للشك فقط.

أجواء متخيلة لعوالم الجنة والجحيم

أصعب ما قامت عليه الرواية هو الأجواء المتخيلة لعوالم الجنة والجحيم، ولقاءات ما بين نقار الخشب وبين أهل الجنة والجحيم، وكأننا أمام الفردوس المفقود لدانتي أليجيري، لكن أغلب مشاهد الرواية، التي استفادت كثيرًا من لغة السينما وتقنياتها وخبرات مشاهدتها، اعتمد على مشاهد سينمائية ظهرت في بعض أفلام الخيال العلمي، كالشاشة الفضية التي تظهر منها «تخيل» لـ«نقار الخشب» كلما طلب رؤيتها، وكأن يمدد يده من خلال هذه الشاشة ليقبض على يد حبيبته، وهو أمر يمكن تفهمه في إطار الرغبة في تنمية الخيال، وبخاصة أن الفرضيات التي انطلق منها الفخراني صعبة ولا توجد خبرات سابقة لها سوى ما ورد في كتب الأثر أو إبداعات الفلاسفة والأدباء، أو ما قدمته السينما الغربية بتقنياتها المدهشة وقدراتها المهولة على تحويل الفنتازيا إلى واقع في أفلام الخيال العلمي.

النص في مُجمَلِهِ عمل مدهش وبسيط، يتمتع بسلاسة مفرطة ورؤية شعرية كبيرة، وهو ينتمي إلى عالم النوفيلا وليس الرواية في معناها الكلاسيكي وبنائها الكتدرائي الكبير، تمكن فيه الفخراني من أن يطرح أسئلة يصعب طرحها من دون السقوط في مأزق المؤاخذات، لكن لأنه من الصفحة الأولى خلق حال من الشاعرية والفنتازيا، وجعل من الحديث اللاهوتي سؤالًا فلسفيًّا وليس حديثًا في الدين، وفي الوقت الذي يناقش فيه موقف الأساطير القديمة خلَق أسطورةً جديدة محورُها الإنسانُ، كما في الوجودية، لكنه الإنسان الذي يعيش ويتأمل ويحلم بعالم آخر.