ضوء أبيض

ضوء أبيض

بلغنا الجزيرة وصعدنا إلى أرضها وماء البحر ينزلق على جسمينا ويقطر من أطراف أصابعنا. وقفنا تحت الشمس. راحت فاتن تعب الهواء على شهقات متلاحقة. ألقت برأسها إلى الخلف. مررت أصابعها في شعرها وبهزات من رأسها أخذت تنتر الماء منه. أخيرًا التفتت نحوي بابتسامة لا تخلو من لوم رقيق لأني جررتها إلى السباحة حتى الجزيرة هي التي لا تحسن العوم. ربَتُّ على رأسها وقلت لها بعيني: «ها قد وصلنا، ولم يكن لخوفك أي أساس». بالفعل لم يكن يساورني أي قلق حين دعوتها إلى السباحة حتى الجزيرة لأني طالما قطعت المسافة من الشاطئ إلى هناك حتى حفظت خطًّا مستقيمًا بعيدًا عن الدوامات والمياه العميقة. وقفت إلى جوار فاتن نملأ أعيننا من سطح البحر بلونه الفيروزي وذراته الدقيقة تموج بضوء متلالئ إلى أن قالت فاتن: «هيا»، وأومأت بذقنها ناحية الشاطئ. قلت لها: «سنرجع بنفس الطريقة التي جئنا بها. تسبحين على ظهرك، رأسك على استقامة جسمك، وتخبطين الماء بطرفي قدميك». هزت رأسها عدة مرات أنها تفهم. أمسكت بيدها وشرعنا نهبط من طرف الجزيرة. انزلقت فاتن إلى البحر ببطء وأنا بالقرب منها حتى بلغت المياه رقبتها فرفعت جسمها ورقدت على ظهرها وشعرها الأسود يطفو حول رأسها. طوقت صدرها من أعلاه لأسحبها معي، وجعلت ذراعي اليمنى على سطح الماء لأجدف بها. سبحنا مدة حتى بدا أننا قضينا وقتًا أطول من المعتاد، وأن الشاطئ رغم ذلك ما زال صورة بعيدة في الجو.

اختلست نظرات إلى وجه فاتن. كانت تغلق عينيها، تمسح دفق الموج عن وجهها، ثم تفتح عينيها. بعد قليل انتبهت إلى أن الريح تسوقنا يمينًا بعيدًا عن المسار الذي أحفظه. رفعت بصري إلى السماء. وجدتها قد تلبَّدت بكتل من الغيوم القاتمة. قررت أن أختبر عمق المياه حيث نسبح. فردت ساقي في المياه لأسفل، ومددت طرفي قدمي حتى النهاية، لكني لم ألامس أرضًا. أدركت أن الريح والأمواج قد حرفتنا عن الخط الذي أسبح عليه عادة. رفعت يدي اليمنى عاليًا ألوح بها بين الأمواج وأخذت أثب برأسي لعل شخصًا من الشاطئ يلمحنا، لكن الموج الذي كان يرتفع وينهار كالجدار فوقنا أخفانا عن الأنظار. استأنفت السباحة، وفاتن تشهق وتغص بالماء وتتخبط بين الأمواج الفيروزية وتغرز أظافرها في كتفي. كنت أسبح وأتملص منها وهي تخبط حولها بقدميها وذراعيها مفزوعة حتى لم أعد قادرًا على التقدم وجرّها معي. ارتفع الموج واشتدت لطماته على وجهينا. أحرقت الملوحة عيني، وتدفق الماء من فمي وأنفي إلى رئتي ولم يعد بمقدوري التنفس. ضربت الموج بجنون لعلنا نطفو ونتنشق الهواء. استولى الذعر على فاتن وسمعت صراخها وأنا لا أتبين ملامحها من الموج، ثم وجدتها تطوق عنقي وتشل حركتي، وأوشكت أن تغرقنا معًا. لم يعد ممكنًا أن نبقى على سطح الماء معًا وأن نتنفس في الوقت ذاته. غطست برأسي وكتفي وكتمت أنفاسي تحت الماء وأمسكت فاتن من خصرها ودفعتها بيدي الاثنتين إلى أعلى لتعب الهواء فوق الموج. في الأعماق كانت رئتاي تنبسطان وتتقلصان بشكل مؤلم وتوشكان على التمزق من حاجتي إلى الهواء. آن الأوان لآخذ دوري وأتنفس. جذبت فاتن إلى أسفل. قاومتني. صرخت. توترت عضلاتها وأنا أشدها لتحت. لكني طفوت لأعلى وضغطت بجماع قبضتي على رأسها ودفعتها بقوة إلى عمق المياه. طفوت ورحت أشب برأسي وكتفي وأعب الهواء في شهقات مجنونة وأنا أشعر بشدة يأسها واستنجادها من أظافرها المغروزة بقوة في ساقي تحت الماء. غطست إلى العمق وأطلقتها لأعلى وكنت قد فقدت أي أمل في أن ننجو. تبادلنا مواقعنا مرة بعد الأخرى إلى أن كفت فاتن في المرات الأخيرة عن تحريك ذراعيها وصار بدنها هامدًا ثقيلًا. لا أدري أي معجزة ساقتنا إلى الشاطئ، إلى ناحية أخرى غير التي كنا نجلس فيها. ما إن لمست قدماي الأرض حتى ارتميت على الرمل، وهوت فاتن من بين ذراعي وأطرافها ترتجف وهي تتنفس بصوت مثل زحير حيوان جريح وفي عينيها نظرة مشلولة.

تلفتُّ حولي، وللمرة الأولى رأيت الموت. كان جالسًا بهدوء تحت شمسية قريبة في ثوب أسود منسدل براق، منشغلًا بالنظر إلى الأرض بحثًا عن شيء. حدقت به مأخوذًا، فأشاح بوجهه إلى الناحية الأخرى ثم نهض، نفض ذرات الرمل عن ثوبه بضربات خفيفة من يده. تطلع إلى السماء، رفرف ثوبه في الهواء لحظة، ثم غاب في شعاع ساطع.

* * *

انقطع الموت ثم ظهر فجأة صباح أحد الأيام وأنا في مصرف لأسحب مبلغًا ماليًّا. كنت جالسًا على مقعد في سلسلة متجاورة من مقاعد ينتظر الزبائن عليها. دخلت سيدة تجاوزت الأربعين في فستان أزرق تحمل على ذراعيها طفلًا يتلفت برأسه يمينًا ويسارًا. كان جسم الولد لطفل في السادسة إلا أنه كان نحيفًا وهزيلًا. جلست إلى جواري وأقعدت الولد على فخذيها وهي سارحة بفكرها وبصرها. راح الصبي يجذب ذقنها بأصابعه، ثم يفلتها، يقرص وجنتها ويرتد برأسه ضاحكًا، يهمس في أذنها بشيء ثم يفتح عينيه فيها بسرور مترقبًا استجابتها، لكنها كانت تكتفي بالنظر إليه مع نصف ابتسامة منطفئة. فجأة كَفَّ الولد عن اللعب. تنهَّد يقول لها: «ماما.. أنا تعبتُ جدًّا من الحقن. متى يأخذني ربنا إلى فوق لأستريح؟». روَّعتْني الكلمات. اختلست نظرة إلى الصبي ورأيت في وجهه الاصفرار الذي يشيعه المرض الخبيث. تبادلت وأمه نظرة سريعة. عادت أمه ببصرها إلى الولد تقول: «لا يا أدهم يا حبيبي، أنت ستبقى معنا ومع نوارة أختك التي تحبها». حلَّ عليَّ رعب بارد. نظرت إليه وقلت له: «أنت جميل قوي يا أدهم. كمان لطيف جدًّا». نظر إليَّ وقال متحيرًا: «بس أنا يا عمو شعري وقع.. لم أعد لطيفًا كما كنت»، وغشت عينيه سحابة من الدمع والعجز عن الفهم. أردت أن أجزم له أنه جميل جدًّا، بشعر أو من دون شعر، فمددت يدي نحوه لأشد على يده. بسط ذراعه النحيلة تجاهي فبانت كلها مزرقة من وخز الحقن. طبعت قبلة على كفه الناعمة وقلت له: «صدقني أنت جميل يا أدهم». عوج رقبته ناحية أمه وابتسم. شدها من ذقنها: «يقول إني جميل يا ماما». قالت له: «طبعًا يا حبيبي». وألقت الأم عليَّ نظرة امتنان. نهضت من مكاني، فقال لي: «ادعُ لي يا عمو ليعود شعري طويلًا ثانية». قلت له: «ناس كثيرون جدًّا سيدعون لك». باعد ما بين ذراعيه ومطّ شفته السفلى غير مصدق. لوَّحتُ له بيدي فلوَّح لي. استلمت المبلغ من الصراف وأنا أكاد لا أبصر ما أتسلمه. اتجهت إلى باب الخروج وساقاي ترتجفان. رأيت الموت للمرة الثانية. شاهدته يدفع الباب بقبضته وينسلّ من المبنى. لمحت نصف وجهه فقط وومض النظرة الحادة.

* * *

اختفى الموت ومضت حياتي بهدوء. لم أره. لم أتوقعه. نسيته تقريبًا. لكنه برز فجأة وأنا واقف في شارع صلاح سالم أعتزم العبور إلى الجهة الأخرى. ثبت بصري على الناحية التي تتدفق منها السيارات، وعندما حانت لحظة مناسبة أخذت أقطع الطريق. لم يكن قد بقي بيني وبين الرصيف الذي يتوسط قسمي الشارع سوى متر واحد، متر واحد فقط، حين ظهرت سيارة –لم أستطع حتى رؤيتها– من بين حافة الرصيف وبين سيارة أخرى. من ذلك الشريط الضيق جاءت السيارة التي لم أرها. لم ألحق. لم أدرك. لم أستوعب، إلا وأنا مُلْقًى على الأسفلت بجوار الرصيف، ساقي اليمنى مفرودة أمامي، ومن حولي حشد من الناس يعرض مساعدتي. لم أشعر بالوجع، كان ذهولي أكبر من الألم الذي حطم قدمي ولا أحسه. لم أعرف ماذا حدث، أو كيف حدث، ولم يكن لديَّ ما أتذكره مما جرى سوى ومضة سريعة مثل فلاش الكاميرات، أعقبها صورتي وأنا على الأسفلت، رأسي يدور، زائغ البصر، مذهولًا. تلفتُّ حولي، ورأيته واقفًا على الرصيف، صامتًا، بين جمهرة من الناس. اختلس نظرة غريبة، ثم استدار ودفع الواقفين من حوله وأفسح لنفسه طريقًا واختفى.

* * *

وصلتني أخباره بعد ذلك بشكل متقطع. سمعت أنه أقام وليمة ضخمة في سفينة غارقة، وأنه مكث مدة في غابات تحترق، وعاش سنوات في خرائب حرب، إلى أن لمحته ذات يوم وأنا راجع من عملي. كان جالسًا في مقهى ملاصق لعمارتنا، يشرب من قدح بيده، وقد وضع ساقًا على ساق. تجمدتُ مكاني أنظر إليه لكنه لم يُعِرْني اهتمامًا كأن ظهوره هنا مصادفة. ساورني القلق. صعدت إلى البيت وأكلت الطعام من دون تسخين. وعندما حاولت أن أنعس في المساء شعرت بظل أسود في جو الحجرة. سمعت صوت تنفس ثقيل. رفعت رقبتي من على الوسادة وفتحت عيني أحدج في الغبشة، ورأيته واقفًا مستندًا بكفه على عارضة السرير وكتفاه محنيتان لأسفل تجاهي. حدق بي بنظرة لم يكن فيها حتى القسوة، نظرة من فراغ شاسع تدور فيه ذرات تراب. أنزلت بصري أتفادى عينيه، فغمر الحجرة ضوء أبيض هادئ، وبرقت من طفولتي صورتي وأنا في الخامسة أصعد سلم بيتنا، أنظر إلى الدرجة العليا، أرفع قدمي إليها في صندل أحمر، لكني لا أطول الدرجة، أنزل قدمي وأرفعها ثانية، وأمي ورائي تسند ظهري، فأحاول الصعود ثانية، أترنّح، فتمدّ أمي كفيها تمسك بي، وتربت عليَّ بحنان.

سمعت طقطقة عارضة السرير، ومن جديد عمت الحجرة ظلمة قاتمة، ثم طواني الفراغ الشاسع.