ما الفرضية المثلى لانتحار فان غوخ؟ حين تعاطف أنطونان أرتو مع صاحب كرسي غوغان

ما الفرضية المثلى لانتحار فان غوخ؟

حين تعاطف أنطونان أرتو مع صاحب كرسي غوغان

أصدرت دار نشر أليا (Allia) طبعة جديدة وأنيقة عام 2019م لكتاب أنطونان أرتو «فان غوخ المنتحر بسبب المجتمع» الذي سبق نشره عام 1947م مرفقًا بتصويبات بخط يده، ومتضمنًا ست لوحات لفان غوخ. اعتمد الناشر أليا على النسخة المثبتة في الأعمال الكاملة الصادرة عن دار نشر كالميار عام 1974م، منقحًا ما اعتراها من أخطاء مطبعية، ومضيفًا إليها اثنتي عشرة لوحة زيتية.

ما زال الكتاب محافظًا على راهنيته بحكم التعاطف الذي أبداه أنطونان أرتو-الذي عانى التجربة النفسية عينها- حيال فنان كبير لم يجد -في عصره- السند اللازم مما أدى إلى تهميشه، وكساد لوحاته، وتشاؤمه من الحياة. ومن الموضوعات الأثيرة في الكتاب موضوع «الانتحار» الذي ما فتئ يسيل مزيدًا من المداد ليس لمعرفة أسبابه، وإنما للتوقف عند الموت نفسه: آنتحر فان غوخ عن سبق إصرار، أم أن المجتمع هو الذي دفعه إلى الانتحار أم أنه مات برصاصة طائشة؟

***

بعث منظم المعارض وبائع التحف الفنية بيير لويب في شهر يناير من عام 1947م إلى أنطونان أرتو صفحة من الجريدة الأسبوعية «الفن» لإطلاعه على مقالات تُعنى بتجربة فان غوخ التشكيلية، وعلى تنظيم معرض للوحاته بأورنجري Orangerie في باريس، وعلى صدور كتاب «حول شيطان فان غوخ» في مدينة نيس عام 1945م، لفرنسوا جواشيم بير الذي أنجز تقريرًا طبيًّا عن الحالة النفسية لفان غوخ، بوصفه مريضًا نفسيًّا ومختلًّا عقليًّا. عانى أنطونان أرتو الحالةَ النفسيةَ نفسها؛ إذ قضى ما يربو على تسع سنوات في المصحة النفسية إلى أن أنهكته الصدمات الكهربائية، وعجَّلت بموته بعد سنة من مغادرة المصحة. وهذا ما جعله- قيد حياته- يتعاطف مع فان غوخ، ويضع جنونه في إطاره الحقيقي ليس بصفته لوثة عقلية وإنما طاقة خلاقة للإلهام والإبداع، ويصدر كتابًا « فان غوخ المنتحر بسبب المجتمع» عام 1947م مفندًا نعته بالجنون الذي أفضى به إلى قطع أذنه اليسرى ليهديها إلى إحدى المومسات، وحار المحللون النفسانيون والأطباء في تحديد طبيعة المرض الذي كان يعانيه، ومبينًا أن هؤلاء -عوض معالجته والتخفيف من معاناته النفسية- أسهموا أيضًا في تأزيم وضعيته، وحفزه على وضع حد لحياته.

إن فان غوخ -بهذه الرؤية الجديدة- يعدّ ضحية مجتمع لم يقدر إبداعاته حق قدرها، ولم يستوعب -حينئذ- ما خطه بفرشاته، ولم يقبل على شراء لوحاته (باستثناء لوحة «الكرمة الحمراء»)، ولم يجد أدنى اهتمام من لدن النقاد.

صدر كتاب أرتو عام 1947م عن الناشر « K éditeur» بباريس، وحصل بعد شهر على جائزة سانت بوف. ولم تمضِ إلا شهور معدودات حتى لقي حتفه في ظروف غامضة. وكل من يقرأ الكتاب -رغم صغر حجمه- ينبهر بشاعرية اللغة وكثافتها وعمقها الإنساني، وقدرتها على اختراق لا شعور اللوحات كالسكين الحاد.. كلما توغل أكثر في الأحشاء كلما انكشفت آلام فان غوخ وتباريح حياته، وتماهى القارئ مع حالته كما لو عاشها على وجه الحقيقة («العدوى» بلغة إريك لاندوفسكي).

اعتمد الناشر أليا (Allia) على النسخة المثبتة في الأعمال الكاملة لأنطونان أرتو الصادرة عن دار النشر «كالميار» عام 1974م، محتفظًا ببعض الصيغ الإملائية الأصلية (مثلًا، يضع Psychiâtrie محل اللفظ المتداول Psychiatrie)، ومتفاديًا الأخطاء المطبعية، ومضيفًا لوحات زيتية تناسب محتويات الكتاب (ثماني عشرة لوحة). وتظل النسخة الأصلية الصادرة عام 1947م محافظة على أصالتها لاحتوائها على تصويبات وتعليقات بخط يد أرتو حرصًا منه على تيسير مقروئيتها، وخلوها من الأخطاء المطبعية.

يعالج أرتو في الكتاب موضوع الانتحار محاولًا إيجاد التعليلات المنطقية التي أفضت إليه بمنأى عن الأحكام المسبقة والمتسرعة. ما الحافز الذي قاده إلى الانتحار؟ أهو الجنون الأعمى الذي فقد -على إثره- بوصلة الحياة، وحرضه على تصويب المسدس إلى صدره يوم 27 يوليو من عام 1890م، وبعد يومين من عناية الطبيب والصديق بول فرديناند كاشي (Paul Ferdinand Gachet) بحالته الصحية الحرجة فارق الحياة أم المجتمع الذي همشه، واستبعده من حضنه، ولفظه إلى الأقاصي هائمًا على وجهه، فأسهم- بذلك- في تضييق الخناق عليه إلى أن أظلمت الدنيا في عينيه؟

يدافع أرتو عن الحالة الذهنية السوية لفان غوخ. فما صدرت عنه من حماقات لا يقل فظاعة عما يُرتكب في عالم ينزع أكثر إلى الفوضى والهذيان والجنون والخمول البورجوازي والإقصاء. ولهذا ابتكر المجتمع التحليل النفسي ليقاوم ويصد الاكتشافات المبهرة التي تصدر عن كفاءات بشرية فذة، واضطر -أيضًا- إلى إبعاد المجانين والحمقى إلى مصحات وملاجئ للتخلص منهم. «ضيق المجتمع الخناق في مصحات نفسية على كل من ارتأى التخلص منه أو اتقاء شره بدعوى أنه لم يسغ أن يكون متواطئًا معه في استفحال مظاهر الشناعة» ص14.

لم يكن جيرار دو نرفال مجنونًا إنما ألصقت به هذه التهمة استخفافًا بإبداعاته التي باشرها. علاوة على ذلك سددت له ضربة قوية على رأسه حتى يفقد ذاكرته، ويتعذر عليه تذكر ما ارتكب في حقه من فظاعات. وأسوة به، «لم يكن فان غوخ مجنونًا، بل كانت رسوماته نيرانًا إغريقية، وقنابل ذرية، تحظى فيها زاوية النظر -على غرار الرسومات التي كانت سائدة يومئذ- بالقدرة على خلخلة المحافظة الجنينية للبورجوازية في ظل الإمبراطورية الثانية» ص10.

لم تنتقد رسومات فان غوخ التقاليد السائدة فحسب، إنما المؤسسات أيضًا. ولم تسلم من النقد الطبيعة الخارجية بمناخها، ومدها وجزرها، وعواصفها. لم يمت فان غوخ بسبب حالة هذيان خاصة، إنما كان موضوعًا مشكلًا حارت في أمره البشرية منذ الأزل. إنه مشكل غلبة الجسد على الروح، أو غلبة الروح على الجسد أو غلبة الروح على الأرواح الأخرى. «أين تتموقع الذات البشرية في خضم الهذيان؟ حرص فان غوخ على البحث عن ذاته طوال حياته بإصرار وعزم شديدين. لم ينتحر من جراء حالة جنون ألمَّت به أو من جراء سمو روحاني لم يدركه. بل بالعكس أدركه في الأخير، وكشف عما كان عليه وما كانه عندما دفعه الوعي العام للمجتمع إلى الانتحار لمعاقبته على تشبثه به» ص17. اخترق المجتمع طويته، وطمس ما استوعبته من أوعاء غيبية شبيهة بـ«غريق الغربان السوداء في ألياف شجرته الداخلية» ص18. «لكن عوض أن يبث المجتمع الحياة فيه، قتله شر قتلة. إنه المنطق التشريحي للإنسان المعاصر بدعوى أنه لا يستطيع العيش أو التفكير في العيش إلا بصفته مهووسًا» ص18.

لم تعرض جميع رسومات فان غوخ في معرض أورنجري. لكن توجد عينة منها، ومن ضمنها: حقول القمح التي تحلق الغربان فوقها، وسنابل القمح، وكرسي غوغان، وبورتريه فان غوخ، وعباد الشمس، وحقل أشجار الزيتون. وما يثير في لوحاته أنها قبل أن تلجأ إلى السرد، والدراما، والحدث المصور، والأحدوثة تستهويها الطبيعة والأشياء إلى درجة تضاهي قصص إدغار ألان بو وهرمان ملفيل وجيرار دو نرفال في التحدث عنها بتفصيل على المستوييْن النفسي والدرامي.

يعيد فان غوخ تأثيث الأشياء البسيطة على القماش محافظًا على صبغتها الواقعية. شمعدان مثبت فوق الكرسي، الكرسي من القش المجدول، كتاب فوق الكرسي… وهكذا يتضح الفارق بين فان غوخ وبول كوكان (Paul Gauguin,). كان هذا الأخير يراهن على الرمز، والرقي بالأشياء البسيطة إلى مستوى الأسطورة، في حين كان فان غوخ يميل إلى تقليص أسطورة الأشياء الأكثر ابتذالًا. ومع ذلك تحتاج هذه الأشياء المبتذلة المرصوصة بطريقة فنية إلى تأويل مغاير. وهذا ما يفضي بنا إلى الاعتراف أن مع فان غوخ بدأت «الواقعية الأسطورية» تتوطد شيئًا فشيئًا. «وهكذا يرنُّ الشمعدان، يرن ضوء الشمعدان المشتعل على كرسي القش الأخضر، كلما تنفس جسد عاشق أمام جسد مريض نائم، يرن كنقد غريب، كحلم عميق ومفاجئ» ص30.

لا تمثّل الأشباح في لوحات فان غوخ، كما لا توحي بمأساة ما. «نعاين الطبيعة العارية والخالصة كما تنكشف، عندما نعرف كيف نعاملها عن قرب» ص49. لم يكن فان غوخ في حاجة إلى وسائط (أدب وفلسفة) لتمثيل الطبيعة في تلقائيتها وصفائها، كان يثق بإمكاناته ومؤهلاته بصفته رسامًا. «رسامًا، لا شيء غير الرسم، استلهم فان غوخ الوسائل من الرسم الخالص، ولم يتجاوزها» ص60. وفي المنحى نفسه، ارتأى أرتو أن يتعامل مع عالَم فان غوخ بأحاسيسه من دون الاستعانة بواسطة أخرى. «في منأى عن الأدب، رأيت وجه فان غوخ، محمرًّا بالدم وسط انفجار المناظر، يدنو مني» ص61.

وفي كلا الروحين (روح فان غوخ وروح أنطونان أرتو) يتضح أن كليهما يحمل على كاهله الحياة كلها، وأنهما -على نحو نظرائهم وأمثالهم- يعانون الفظاعةَ والفقرَ والكراهية والقرف، ويشعرون أن السم الزعاف قد سرى في عروقهم. وأمثال هؤلاء يؤمنون بسرمدية العيش والمتعة، لكن المجتمع يحرمهم منها. «يأتي يوم يقول فيه منفذو الإعدام كما قاله أمثالهم لجيرار دو نرفال، ولبودلير، ولإدغار ألان بو ولوتريامون: والآن عليك أن تُبقيَ لا نهاية حياتك في القبر، لقد أرَّقتنا عبقريتك الفائقة واللانهائية» ص74.

لا يمكن لفان غوخ أن يبحث عن اللانهاية لأنه مات. شوهد وهو مكره على الاختناق بسبب الفقر المدقع. علاوة على ذلك «لا يمكن أن ننتحر وحدنا، لا أحد ولد وحده، ولا أحد يمكن أن يموت وحده. وفي حال الانتحار يستخدم سلاح من النوع الرديء ليحسم في الجسد ضد الطبيعة، وليحرم الشخص ذاته من الحياة. وأعتقد أنه يوجد -دومًا- شخص آخر في لحظة الموت الأقصى ليجردنا من حياتنا الخاصة» ص75.

ورغم جليل المساعدات التي تلقاها من أخيه تيودروس (Théodorus) (المعروف باسمه المُرخّم تيو Théo) ومن الدكتور الطبيب النفساني بول فرديناند كاشي (Paul Ferdinand Gachet,) فهما معا يتحملان جزءًا من مصيره المشؤوم. طرده أخوه من العالم عندما رزق ابنًا.. شعر فان غوخ أن الفم الصغير في أمس الحاجة إلى التهام مزيد من الطعام الذي لا توفره لوحاته البائرة، وفي المقابل نصحه الطبيب بالخلود إلى الراحة وبالعزلة، والتمس منه في اليوم المشؤوم أن يتفقد الحقول المجاورة ليرسم ما يخطر بباله، في حين كان يحتاج إلى الراحة والنوم.

ينهي أنطونان أرتو كتابه بهذه الفقرة الموحية: «ألم يقع في أمسية من الأيام التي نتحدث عنها سقوط حجرة ضخمة بيضاء في شارع دو لامادلين، وخاصة في زنقة دي ماتوران، كما لو قذفها بركان بوبوكاتبتبيل» ص79 (من البراكين النشيطة في المكسيك).

أراد أرتو بهذه الفقرة أن يضع حدًّا للجدل الذي أثير وما زال يثار حول موت فان غوخ؛ هل وضع حدًّا لحياته بمحض إرادته (هناك أدلة تغلب هذا الطرح بعد عثور فلاح على مسدس من طراز لوفوشو (Lefoucheux) عام 1960م، يُحتمل أن فان غوخ وضع به حدًّا لحياته، وعُرض بمعرض فان غوخ بأمستردام عام 2016م) أم إنه كان ضحية رصاصة طائشة اخترقت أحشاءه وهو يتجول بين الحقول، لكنه كتم السر لدفع التهمة عن مراهقيْنِ كانا وراء القتل الخطأ (وهو ما أثبته ستيفن نايف (Steven Naifeh) وجريغوري وايت سميث (Gregory White Smith) في كتابهما «سيرة فان غوخ» الصادر عام 1994م) أم إنه لقي حتفه حسرة على المجتمع الذي غبن حقه، ونقص قدْرَه، وخفَض من شأنه. وفي جميع الأحول يبقى الاحتمال الأفضل (ما توحي به الفقرة الأخيرة) هو أن لكل حياة نهاية محتومة، فلا يتأخر المرء عما كُتِبَ له ولا يَتقدم.