ساتيا جيت راي… أفلام تنظر إلى واقعها، أو معنى أن تكون هنديًّا

ساتيا جيت راي… أفلام تنظر إلى واقعها، أو معنى أن تكون هنديًّا

بالنظر إلى مسيرته الإخراجية التي تجاوزت 30 فِلمًا، قلما نجد مخرجًا مارس مهنته بتحكم مطلق في كل مراحل صناعة الفِلم مثل «ساتيا جيت راي». لقد كان مهتمًّا بكل تفاصيل أفلامه؛ لم يمنعه تأثره بالواقعية، أن يجد طريقه الخاص للتعبير عن واقع يشغله، وتعلم أن الجمال لا يوجد بعيدًا، بل يكمن في كل تفصيل نراه ونعيشه.

السؤال الضمني في العديد من الأفلام الهندية هو «ماذا يعني أن تكون هنديًّا؟»، ليُجيب غاندي عن هذا السؤال، لجأ إلى التقليد حيث قال: «الهند تعيش في قُراها». تخيلَ غاندي الأمة بوصفها مجتمعًا في أوضح صورِه. شجعت حركة الصناعة المحلية (سواديشي) التي قادَها غاندي الهنودَ على مقاطعة السلَع الأجنبية وشراء المنتَجات المنزلية المصنوعة في القرى بدلًا منها؛ فقد كان ينظر إلى المدن الكبرى والتقنيات بشك وريبة عادًّا إياها موصلات خطيرة للحداثة التي سلبت الناس إنسانيتهم. وقد أدرك فالك، «أبو السينما الهندية»، أن تقنية السينما يُمكِن أن تكون أداة قوية لتغذية الشعور الوطني. يقول فالك: «أفلامي صناعة محلية؛ بمعنى أن رأس المال والمِلكية وفريق العمل والقصص كلها إنتاج محلي»[1]. وعلى الرغم من أن السينما الهندية التجارية استفادت من هذا التصور، فإن أفلام ساتيا جيت راي، كانت محدودة التأثير داخل الهند؛ لأنها تستدعي الواقع بطريقة مختلفة عن الفِلم الهندي. لقد نضج وهو يتأمل الواقع أمامه.

بالنسبة لساتيا جيت راي فالأمر أعمق من الوعي بالانتماء والانتساب إلى الهند، لقد نضج وهو يفكر فنيًّا في الواقع، وساعدته مصادفات كثيرة في وضعه على هذا الطريق. في طفولته (في عمر ست سنوات) زار بمرافقة والدته، شاعر الهند الأعظم طاغور الذي كان يبلغ الستين، الطفل أحضر معه دفتر مذكرات من أجل الحصول على توقيع، لكنه سيحظى بأكثر من ذلك، سيعيد له طاغور دفتر مذكراته في اليوم التالي مع قصيدة جميلة، من أبياتها:

«فشلت في الرؤية بعيني.. على بعد خطوتين فقط من منزلي..

في حزمة من حبوب الأرز، قطرة ندى.

يجذبنا ما هو واضح- الجبل أو المحيط

غالبًا ما نفشل في ملاحظة الجمال في المعتاد..»[2]

من غير الوارد أن يكون الطفل قد فهم معنى هذه الأبيات حينها، لكن معانيها كانت تكبر مع راي بمرور الوقت، معنى أن تفهم واقعك وتعبر عنه بطريقتك الخاصة؛ لذلك انتبه راي إلى الواقع المتغير أمامه بحرص شديد، كان يعلم أن خلف هذا الواقع المتبدل قصصًا وحكايات وعذابًا، أراد أن يعبر عن ذلك بطريقته التي تأثرت بواقعية غربية لكن مع الاحتفاظ بهويته الهندية. ثمة إشارة أخرى تحفزه على النظر إلى الواقع. يروي، في كتاب عن «السينما»، أن جان رينوار قال له ذات يوم في أثناء مساعدته في إيجاد أماكن تصوير فِلمه «النهر» (1951م)، في ضواحي كلكتا: «انظر إلى الزهور إنها غاية في الجمال». يجيب راي: «لكن أنت تحصل على زهور في أميركا، البوينسيتياس تنمو في برية كاليفورنيا، في حديقتي الخاصة حتى. لكن انظر إلى كتلة الموز، والبركة الخضراء عند سفحها. لا تحصل على ذلك في ولاية كاليفورنيا. يضيف رينوار، هذه هي البنغال، رائعة. رينوار استخدم المفردة الأخيرة كتعبير على الموافقة الصادقة».[3]

هذه الملاحظة التي التقطتها عين مخرج عظيم، كانت تشكل في الحقيقة عقيدة إبداعية لدى طاغور الشاعر العظيم، ومن بعده المخرج ساتيا جيت راي عبْر قصص ثم عبر أفلامه العظيمة. إنها الطريقة التي أدخلته قلوب البنغاليين مثلما حصل مع طاغور. ولا يمكن أن ننسى في هذا السياق تأثير فِلم «سارق الدراجة» (1948م) لفيتوريو دي سيكيا، الذي شاهده في لندن.

من الميلودراما الهندية إلى الفِلم الواقعي

قبل فِلم «أمنا الهند» (1957م) لمحبوب خان، الذي يُعَدّ علامة نضج للفِلم الهندي وأحد الأعمال التي صنعت العصر الذهبي للسينما الهندية، كانت الإنتاجات السينمائية محتارة بين الانحياز لواقعها الطافح بقصص وحكايات بعد توحيد الهند وظهور طبقات اجتماعية مختلفة… وبين رؤية أخرى تريد صناعة فِلم تجاري بدأ بتقليد أفلام هوليوود، ثم وجد طريقه عبر التعبير بمفاهيم جمالية خاصة. وضمن المجموعة القليلة التي كانت تريد أن تعبر عن هذا الواقع الجديد وفق تقاليد أخرى أوربية تحديدًا، تأتي تجربة المخرج «ساتيا جيت راي»، الاسم الذي جعل العالم ينتبه إلى السينما الهندية مثلما جعله كيروساوا ينتبه إلى السينما اليابانية.

لقد أخرج راي فِلم «أغنية الطريق الحزين» (Panther panchali) (1955م)، في وقت كانت فيه صناعة السينما في الهند تتبع نهج هوليوود في صناعة الأفلام بلمحة محلية، التي تحولت جميعها تقريبًا إلى تقليد لأسوأ أفلام هوليوود. ساعتها كان تصوير فِلم بالكامل في الهواء الطلق مع قطع المعدات المتوافرة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي فكرة غير واردة، لكنه تجرأ على تصوير فِلمه الأول في الهواء الطلق، في ريف البنغال، وهو الفِلم الذي سيعلن للعالم عن السينما الهندية.

صحيح أن الأعمال التي حملت اسم راي إلى العالم، والحديث هنا عن ثلاثية «أبو»، كانت واقعية وهو تأثير مباشر بالواقعية الأوربية، السينما الإيطالية تحديدًا عبر الفِلم التحفة «سارق الدراجة» لفيتوريو دي سيكا، لكن الواقعية كانت تتخذ معه بعدًا تأمليًّا خاصًّا بالبيئة التي تعبر عنها. فإيقاع أفلامه الذي يرتهن إلى التوافق التام بين الصور والأصوات وحركة الشخصيات يتدفق مثل أي قطعة حياة في البنغال؛ لذلك فأسلوبه خاص جدًّا. هذه الخاصية بالضبط أذهلت مارتن سكورسيزي، الذي تحدث عن أسلوب راي في مقال تكريمي عنه: «لقد كنت مندهشًا. تلك الصورة المقربة الرائعة لعين «أبو» في «أغنية النهر» الطريقة التي يعمل بها القطع مع الاندفاع المفاجئ لموسيقا رافي شنكار بالنسبة لي، كانت تلك واحدة من لحظات الوحي الثمينة التي مررت بها في السينما، وكان لها تأثير عميق وتأثير دائم عليَّ كمخرج»[4]. حتى مع سير الشكل الفِلمي في أوربا نحو تيارات جديدة، أصبح معها الموضوع أحيانًا ذا قيمة ثانوية، كان راي يُبدي قلقه من إهمال الموضوع على حساب الشكل، المسألة لديه مختلفة تمامًا، يأتي الموضوع أولًا ثم الشكل؛ أفلامه تؤمن بالمشاعر الإنسانية وتدفقها، ثم تأتي مهمة التفكير في الشكل الأنسب لها.

وطوال حياته المهنية، أكد ساتيا جيت راي أن أفضل تقنية في صناعة الأفلام هي تلك التي لا تكون ملحوظة. لم تعجبه فكرة الفِلم الذي يثير الانتباه إلى أسلوبه بدلًا من موضوعه. هذا هو السبب في أن أفلامه تلامس الإنسان بوصفه وحيًا للفن. في الوقت نفسه، يكشف عن موقفه، وتعاطفه، ونظرته إلى العالم بطريقة خفية، من خلال التلميحات والاستعارات. لا توجد رسائل مباشرة في أفلامه، لكن معانيها واضحة بفضل التماسك الهيكلي لأفلامه.

شخصيات معذبة في واقع متغير

فِلموغرافيا راي الشخصيات منحوتة بعمق شديد، على الرغم من أن الممثلين كانوا في الأغلب أناسًا عاديين من غير محترفي التمثيل، كما هو الحال في ثلاثية «أبو». تتبع الشخصية وتحولاتها سمة مميزة لأسلوبه، كان هذا النهج يستفز المتفرج ويدعوه للبحث عن الأسباب وتفسير سواد الواقع وتغير أحوال الناس؛ لذلك تَبني أفلامه الظروف المحيطة بالشخصيات بعناية كبيرة، إيقاعها متمهل وحركة الكاميرا تفضل اللقطة، وغالبًا ينتهي فيها سياق الحكي بالموت أو الحرمان، ولفهمه الشديد لواقعه كان يحاكي ذلك بأن يضع كل أنواع الصعوبات في طريق شخصياته، استنادًا إلى واقع يُعذب الناس، كان من النادر أن تسلم شخصية ما في أفلامه من أمر جلل؛ هي إما معذبة أو شاهدة على عذابات شخصيات أخرى. يخرج عن هذا الاستثناء أفلامه التلفزية ومسلسلاته الموجهة للأطفال.

في ثلاثيته الشهيرة «ثلاثية أبو» نشاهد صراع عائلة بنغالية من أجل البقاء، في الجزء الأول، «أغنية الطريق الحزين» (1955م)، يضطر الأب -على الرغم من موهبته الفنية- إلى كسب لقمة العيش من أجل طفله وزوجته، في العمل محصل إيجارات. لقد كافح مدة طويلة من أجل تربية الأسرة في منزل العائلة، بعد وفاة أخت أبو، تنتقل العائلة للعيش في مدينة بيناريس. في ثاني أفلام الثلاثية «الذي لا يقهر» (1956م) يعود أبو ووالدته إلى قريته في البنغال ويحصل على فرصة تعليم جيدة، ويصبح طالبًا واعدًا، ثم ينتقل إلى كلكتا لمتابعة تعليمه، ثم يحاول قطع صلاته بجذوره وبأمه، وبعد موت والدته يعيش وحيدًا. وفي آخر أفلام الثلاثية «عالم أبو» (1959م) يحاول أبو أن يكتب رواية، تُلقي به تقاليد محلية إلى تعويض ابن عمه في الزواج بعد أن تبين أنه مختل، تموت زوجته يوم الولادة، يهرب من طفله محملًا إياه وفاة أمه، يجول في الهند قبل أن يقرر العودة إلى ابنه ويعودا معًا إلى كلكتا، ليس كأب وابنه، بل كأب وصديق.

لا تختلف الكيفية كثيرًا في ثلاثيته الثانية «كلكتا». في «العدو» (1970م) مثلًا، يضع شخصية «سيدهارتا» أمام قدَر تندر معه فرص النجاة، يضطر للتنازل عن دراسة الطب بسبب وفاة والده، فيبحث عن عمل، في أثناء مقابلة عمل وحيدة، يُطلب منه أن يذكر أهم حدث عالمي في السنوات العشر الماضية. كان متوقعًا أن يذكر بلوغ رجل إلى القمر، لكنه بدل ذلك ذكر الشجاعة الفيتنامية في حرب الفيتنام. لا يحصل على العمل. وتتفكك علاقته بأخيه وأخته، وعندما يقع في حب فتاة يحصل على عمل بعيد منها…

وفي «شركة محدودة» (1970م)، مع الإقلاع الاقتصادي ودخول الشركات الأجنبية إلى الهند، أصبحت مدينته من دون هوية وصار الإنسان مهددًا في قيمه، عادات جديدة ظهرت، ونمط الاستهلاك جلب معه الصراع الطبقي. تدور الأحداث حول مندوب مبيعات «شايمال»، الذي عُرف بطموحه وسعيه نحو الترقي، لكنه كان مستعدًّا للتنازل عن أي شيء كي يبلغ غايته. أما «الوسيط» (1976م)، آخر أفلام ثلاثيته، وأكثرها سوادًا، يبدو الفساد مستفحلًا أكثر من ذي قبل. نتعرف إلى شخصية أخرى «سوماناث» متعلم ولا يجد وظيفة، ثم يتحول إلى وسيط يعمل لحسابه الخاص، يتطور به الحال إلى أن يصير وسيط جنس، يطلب منه زبون فتاة، وعندما يستقدمها بمساعدة وسيط آخر يكتشف أنها أخت صديقه، عندما يكشفان بعضهما يصير الأمر حصة عذاب نفسي لهما.. تبحث هذه الأفلام عن الاتجاه الذي كانت تتطور فيه الهند، الواقع الجديد الذي يعوض فيه المال كل شيء آخر. إنها صرخة في وجه الواقع ما زالت تثبت صدقها حتى الآن.

حكايات عن الحرمان

تسير أفلام ساتيا جيت راي نحو فرض سياقات تنتهي بالفقد والحرمان، وهو منحى قاسٍ يغلف ثلاثية «أبو» كلها: فقدان الأخت، ثم، الأب، فالأم والزوجة. إنها، إن شئنا، ثلاثية مميتة حرمت أبو من كل أفراد عائلته، جلعته يواجه العالم وحيدًا، ثم يتضح في أفلام ثلاثيته «كلكتا» حرمان الشخصيات من فرصها في النجاة، وتحقيق حلمها، يُحرم «سيدهارتا» من دراسة الطب أما في «شركة محدودة» فتتنازل «شايمال عن مبادئ» من أجل الترقي، ثم أخيرًا في «الوسيط» يصبح سوماناث وسيطًا في توفير كل شيء مقابل المال، ضد مبادئه. وفى «شارولاتا» (1963م) تعاني زوجة صحفي إهمالًا وسخرية زوجها، وعندما يقيم ابن عم زوجها معهما، تعود لها الحياة، لكنها تكتشف أن غايتها مستحيلة التحقق. في المدينة الكبيرة (1963م)، يعاني موظف بنك بعد أنْ أُغلِقَ البنكُ، فيصبح عاطلًا عن العمل فتضطر زوجته للعمل مندوبة مبيعات ويرفضها الجميع، حتى المتعلمون، منهم والد زوجها الذي قضى حياته في مهنة التدريس. وتتحول القصص إلى رحلة سيزيفية للشخصيات لا تنتهي محنتها إلا لتبدأ أخرى.

على الرغم من النجاح الباهر لسينما راي خارج الهند، فإن تأثيرها ظل محدودًا في الداخل باستثناءات قليلة. الطريق الذي اختاره لم يكن يسير سير السينما الهندية التي اكتمل فيها شكلها الخاص؛ ميلودراما وعاطفة، وغناء ورقص. إنها ملامح الفِلم الهندي التجاري؛ لذلك كانت أفلامه تخاطب، كغيرها من السينما المستقلة، جمهورًا محدودًا ونخبويًّا، كما أن ثلاثيته «أبو» قدمت صورة مختلفة ومنكسرة بين الابن وأمه، وهي صورة مرفوضة لدى كل من شاهد فِلم «أمنا الهند».


هوامش:

  1. «السينما العالمية من منظور الأنواع السينمائية»، ويليام ﭬﻲ كوستانزو، ترجمة زياد إبراهيم مراجعة مصطفى محمد فؤاد مؤسسة هنداوي للنشر، ص: 228.
  2. Understanding Satyajit Ray Through The Prism Of His Writings , t.ly/lZDK.
  3. Ray, Satyajit, et al. «NATIONAL STYLES IN CINEMA.» Satyajit Ray on Cinema, edited by Sandip Ray, Columbia University Press, 2011, p. 3.
  4. Martin Scorsese’s tribute to Satyajit Ray: ‘The Apu trilogy took my breath away’, indianexpress.com, t.ly/byzT.
أفلام الزومبي ولعنة الحياة المعاصرة

أفلام الزومبي ولعنة الحياة المعاصرة

منذ مطلع الألفية الثانية، شهدت الثقافة الشعبية «نهضة لسرديات الأحياء الأموات»، بدءًا من الأفلام ثمّ الكتب والتلفزيون وألعاب الفيديو والإنتاجات المسرحية، والآن عبر تطبيقات الهاتف والمقتنيات المختلفة. لقد صارت -في السينما خصوصًا- مجازات تجسّد القلق الثقافي الذي يحيط بالجنس البشري. إنها استعارات قوية ومتنوعة تمثل المخاوف من العدوى والعذاب والموت والعزلة والهجران، فضلًا عن جوانب مقلقة من القسوة الإنسانية التي يفرضها نمط الحياة المعاصرة؛ حيث أصبحت الإنسانية مهدّدة في وجودها وخصوصياتها.

عند العودة إلى تاريخ سينما الزومبي، يظل فِلم «ليلة الأحياء الأموات» 1968م لجورج روميرو العلامة البارزة… لكن مع كل فِلم كنا نشاهد اشتباكًا مع القضايا التي تواجهها الإنسانية؛ بقاء، أمراض، عزلة… وهو ما يجعلها استعارات كبرى للعبور بقضايا المجتمع عبورًا رمزيًّا، فهذا النوع لم يسر في اتجاه الترفيه المحض، الخالي من كل نقد للحياة المعاصرة. في هذا السياق يرى «كايل ويليام بيشوب» في كتابه «الزومبي الأميركي القوطي» أن تطور سمات النوع (سينما الزومبي) يتوافق مع مراحل الاضطرابات الاجتماعية والسياسية داخل الولايات المتحدة حيث تزامنت وتيرة إنتاج هذه الأفلام مع زيادة الاضطرابات المجتمعية. ويعود افتراض «بشوب» إلى فِلم «الزومبي الأبيض» 1932م، أي ارتباطها منذ البداية بمخاوف المجتمع وارتباطها بقضاياه.

ثقافة الاستهلاك المفرط

منذ فِلم روميرو، السابق، حتى آخر الأفلام التي قد نشاهدها مثل «جيش الأموات» (2021م)، يُصبح للمراكز التجارية حضور في كل فِلم. هذه المراكز تبدو شبه فارغة سوى بعض البشر الناجين، يأخذون ما يحتاجونه ويغادرون، أو قد يتخذون من هذه المراكز مأوى، في عكس لثقافة الاستهلاك وهوس رغبة الاقتناء، حيث تشبه حركة الناس وتدافعهم حول البضائع حركة الزومبي في سعيها للدم وأكل الأجساد، خصوصًا في أيام التخفيضات. فهؤلاء البشر هم أحياء بالأجساد فقط لكنهم منجذبون لسحر التسوق ولذته وهي نهاية الرأسمالية من منظور آخر. فالمراكز التجارية فارغة، القليل فقط من يزورها، ويمكن لأي كان الحصول على ملابس باهظة الثمن، ركوب سيارة فارهة، منتجات نادرة لا تساوي شيئًا، بل تصبح هذه المراكز فسحة للترفيه واللعب كما في «أرض الزومبي» أو «أنا أسطورة». تضعنا هذه الحالة أمام عطب كبير في آلة الرأسمالية فالعرض موجود لكن الطلب منعدم، ولا أولوية للاستهلاك إلا بمقدار الحاجة. يقدّم روميرو في فِلمه «زومبي» (1978م) آخر ثلاثيته عن الزومبي، الشخصيات الأربع الناجية وهي تعبث بالمنتجات وترتدي أزياءً باهظة الثمن، بطرائق مضحكة، كأنها تلمح أنها مجرد ثياب في نهاية المطاف!

مجتمع السرعة

منذ أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، هناك تقديم لمخلوقات الزومبي بشكل فني مختلف وتغييرات جذرية في بناء الفِلم، حيث تتقاطع أغلب الأفلام مع الكوميديا والحركة والرومانسية، وظهور نسخة جديدة من كائنات الزومبي سريعة وقوية ومبدعة في طرق الوصول إلى البشر. يمكن أن نلمح هذه التوجه بدءًا من الفِلم الساخر «عودة الموتى الأحياء» (1985م) لدان أوبانون، وتعزّز ظهور «الزومبي السريع» مع فِلم «بعد 28 يومًا» (2002م)، واستمرت هذه الخصائص في أفلام تالية أكثر شعبية وانتشارًا مثل سلسلة أفلام «الشر المقيم» الذي جعل البشر منعزلين في جزر أو بنايات عالية، أو سفن حربية، وفِلم «أرض الزومبي»، في جزأين: (2009م، و 2019م)، الذي قدّم أسرع نسخة من مخلوقات الزومبي، أما «حرب الزومبي العالمية» وهو فِلم في جزأين أيضًا، فقد قدّم التهديد الأكبر لمخلوقات الزومبي بسبب قدرتها السريعة على الحركة والتنقل حتى أرغمت البشر على خوض حرب بقاء.

كل هذه الأفلام هي مشروعات ضخمة؛ انتشرت وحققت نجاحات كبيرة. وهي من الناحية الرمزية محاكاة لما تبدو عليه ثقافة السرعة لما بعد الحداثة، وسرعة انتشار الفكر الرأسمالي، والقيم المحيطة به، إنها صرخة ضد مفهوم السرعة الذي يغطي كل جزء من الحياة في عصر التقنية والمعلومة والتغيير الاجتماعي السريع والمتبدّل.

من عبودية قديمة إلى عبودية حديثة

تشاء الصدف، وقد يكون الأمر أكثر من صدف، أنّ الفِلم الأول لسينما الأحياء الأموات، وهو بعنوان «الزومبي الأبيض» (1932م) كان الجوهر فيه هو استعباد مجموعة من البشر لتحويلهم إلى زومبي يعملون في معامل السُّكَّر، من خلال الشعوذة التي يقوم بها كاهن الفودو، فتتحكم في الإرادة البشرية قوى خارقةٌ للطبيعة، وهي فكرة لم تتكرّر في أفلام أخرى بالطريقة نفسها، لكن رمزيتها لم تغب قط؛ بداية بعمال المصانع الذين يقضون أكثر من نصف حياتهم داخل المعامل ليلًا ونهارًا دون توقّف، ثم حركتهم وهو يغادرون المصانع تشبه حركة الزومبي، إنهم منزوعو الإرادة وفاقدو الهوية، ثم تتسع هذه الفرضية لتشمل جيوش الناس السائرين ووجوههم مدفونة في هواتفهم، لا حياة لهم خارجها في استعادة لمفهوم الاستعباد وفقدان الهوية. وهناك مخاوف جديدة تثيرها أفلام الزومبي وهي القضاء على كل شيء مختلف، فجحافل الزومبي يطاردون الأحياء المختلفين ويصيبونهم ويحولونهم إلى حشد يشبههم. هنا تكتمل المهمة، ولا يقتصر التهديد على فقدان الذات الفردية فحسب، بل يكمن أيضًا في إمكانية إبادة الهويات الثقافية.

تقدم أفلام الزومبي مفهومًا متناقضًا للذات والجماعة، الزومبي هم أفراد غير أحياء ولكن في الوقت نفسه يعتمدون على المجموعة ويستمدون منها قوتهم، هم ضعفاء كأفراد وأقوياء كمجوعة فيطورون آليات بقائهم كجماعات. إنّها سمات الجماهير كما نظّر لها غوستاف لوبون، الذي يرى أن سمات الفرد تتلاشى وسط الجمهور، فتختفي قدراته كفرد من ذكاء وعلم وثقافة في اتّخاذ قرارات منطقية ومختلفة عن الجماعة. فالفرد حينما يصبح جزءًا من جمهور ما فهو يتحمّس لأفكار بسيطة نتيجة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، وقد يفعل أمورًا لا يمكن أن يفعلها إن كان وحيدًا، كالتحطيم والقتل، والتضحية في سبيل الهدف من دون خوف من الموت.

أخطاء التقنية

كثير من أفلام الزومبي تربط بين ظهور هذه الأمراض وبين أخطاء تقنية وبشرية تكون مسؤولة عن تفشي الوباء. هي استدعاء لطرح «أولريش بيك» في كتابه «مجتمع المخاطر» المهدّد دائمًا بسبب الحرب أو السياسة أو البيئة، ودائمًا بسبب الإنسان. فقصص هذه الأفلام تجتمع حول المخاوف ذاتها، وبخاصة أخطاء التقنية كما هي الحال في فِلم «ليلة الأحياء الأموات»؛ بسبب مسبار إشعاعي أو بسبب إطلاق فيروس شديد العدوى مصمم اجتماعيًّا كفِلم «أرض الأحياء الأموات» و «28 يومًا لاحقًا» و «الشر المقيم». فكارثة الزومبي دائمًا تكون من أصل بشري، وهو ما يجعل العالم يعيش وسط مخاوف متكررة عاشت البشرية فصولًا لها مع وباء (كوفيد 19) بسيناريو يقترب كثيرًا مما شاهدناه. فالإصابة بعضّة زومبي كافية، لجعل الفرد يفقد كل ما يربطه بعالم الأحياء، لن يميّزه شيء بعدها، ينبذه المجتمع الذي قد يكون دافع عنه إلى آخر رمق، قد يقتل الزوج زوجته مثل «جيش الأموات»، وقد يقتل الأخ أخاه بعد إصابته، حتى إن قتلهم يكون مصاحبًا بلذة التخلص من خطر محدق، من دون الشعور بأية مسؤولية أخلاقية؛ فقتلهم ليس مطلوبًا فقط بل هو ضروري. فالإصابة وصمة عار وانقلاب في ميزان المشاعر بين الناس، هو سيناريو يقرب دائمًا بما حصل في أثناء انتشار وباء الكوفيد. لقد انتبهت بعض الأفلام إلى ضرورة أخذ القصص إلى بعد آخر: ماذا لو كان بالإمكان إعادة المصابين إلى عالم الأحياء؟ كأن تكون الإصابة مؤقتة ثم يتعافى المريض؟

التمايز الطبقي

في مسلسل «الموتى السائرون»، تبدأ عدوى الزومبي في الأحياء المكتظة والكثيفة، حيث لا يفصل بين الأجساد الحية وأجساد المصابين حواجز، فتكون نسب الإصابة أقل في أحياء أخرى غنية. هي إشارة إلى التمايز الطبقي في الإصابة وطرق التحصن منها. شخصية مثل «فيكتور ستراند» في المسلسل ذاته، تمتلك بيتًا محصنًا على الشاطئ وتعتقد أن الوجود فيه ينجي من الإصابة. في هذا الخط السردي نفسه يُفصح الكثير من الأفلام عن قدرة الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء في تجنب الإصابة كما هو الحال في فِلم «أرض الزومبي» حيث يمتلك بيل موراي بيتًا محاطًا بسور في منطقة هوليود هيلز، يُبقيه في منأى عن جيوش المصابين، مع رفاهية تخزين ما يكفي من طعام من دون الحاجة إلى المغادرة. بينما يقدّم فِلم «حرب الزومبي العالمية» مثالًا أكثر قسوة عن الطبقية، فسفن النجاة مخصّصة لنخبة خاصة، وبقاء أسرة «جيري لين» من ضمنها مقرونة بتضحيته بحياته من أجل البحث عن علاج، شخصيات أخرى تعيش في مبانٍ شاهقة، أو داخل محميات يمنع الدخول إليها. وهو تناول لجحيم الحدود وإحاطة المدن بالأسوار، والحواجز. الأمثلة قد لا تنتهي، عن تقاطعات أفلام الزومبي مع حياتنا، وهو تقاطع مستمر عبر قصص تتفاعل مع الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، في عالم أصبح مطابقًا تمامًا لما عاشه المشاهدون خلال الاضطرابات المدنية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بداية ازدهار سينما الزومبي. يستمر هذا النوع في التكيف مع التغييرات الاجتماعية والقلق الثقافي بمرور الوقت، وهو ما يجعلها تعبيرات رمزية وانتقادًا للمجتمعات التي نشأت فيها وكتوضيحات مجازية للعنة الحياة المعاصرة.

الربيع العربي وقلق السينما.. تأمل في مسارات الحكي والتعبير

الربيع العربي وقلق السينما.. تأمل في مسارات الحكي والتعبير

في (17 ديسمبر 2010م) تناقلت وسائل الإعلام في العالم حادثًا مأساويًّا لشاب تونسي يحرق نفسه بعد مصادرة السلطة لبضاعته، يخرج التونسيون إلى الشارع، وتصل أصوات الصارخين إلى مصر، وسوريا، والمغرب، وليبيا، كما لم يحصل من قبل. فتطلق وسائل الإعلام على هذا الحراك تسمية الربيع العربي، فتتّسع آفاق الحلم ويظهر نور الديمقراطية في نهاية النفق كان يجب أن نصل إلى نهايته فقط! الآن بعد مرور ما يقرب من العقد تسترجع الشعوب العربية الحلم، لكنها تسترجع معه إحساسًا غير واضح يختلط فيه الحزن والندم واليأس من دون أن يستقر على شعور واحد، بعدما صار بالإمكان الوقوف على المكتسبات وعدّ الخسائر.

مدخل

صار اليوم النظر إلى الربيع العربي نظرة تقيسه بمكاسبه وخسائره، من خلال هذا المنظور، فقد تطرق المنتدى الإستراتيجي العربي من خلال تقرير له بعنوان خسائر الربيع العربي إلى رقم مهول فقد حدّد الخسائر التي تكبدتها البلدان التي شهدت ثورات بين عامي 2010م و2014م بلغت نحو 833.7 بليون دولار أميركي، إضافةً إلى مليون و340 ألف قتيل وجريح، نتيجة للحروب، وهو تقرير شمل تسعة محاور منها الناتج المحلي والبنية التحتية وأسواق الأسهم والاستثمارات والسياحة، إضافة إلى كلفة إيواء اللاجئين. هذا ما جعل الكلام الآن عن نتائج الربيع العربي هو عكس الحماس الذي صاحب ميلاده وتلا أحداثه. القليل جدًّا من لا يزال على موقفه الذي يرى ضرورة النزول إلى الشارع من أجل التغيير، هذا أمر يعكسه الخفوت الكبير في الكتابة عن الربيع العربي وما يجب أن تصير عليه الأمور بعده، حتى عبارة الربيع العربي صارت تُذكر بعبارات لصيقة بها مثل «ما سمي بالربيع العربي» تأكيدًا لعدم تماشيها مع واقع الحال، ومثلما وُصفت الانتفاضات بالربيع فهناك من وصفها بالخريف. لكن التاريخ رغم ذلك سجّل أن الثورات تأخذ وقتًا، وشدّد على ضرورة أن تُسبق بثورة ثقافية. لكن المهم أن أمر التغيير متروك للزمن وقياس مدى استعداد المجتمعات العربية للتغير وتشبثها به أمر متروك لفهم معاني التغيير والاتفاق بشأنها. لكن ما يهمنا ونحن نلملم التفاصيل والمضامين الثاوية في الأعمال السينمائية أننا نتوقف على مرحلة مهمة من تاريخ السينما العربية ومآلات الربيع العربي التي خلّفت إنتاجًا أدبيًّا وفنيًّا مهمًّا يستدعي الدراسة.

سينما ما بعد الربيع العربي

هناك مأزق يترصّد الحديث عن الربيع العربي أو عن الثورة عمومًا في الأدب والفن على حد سواء؛ إذ يعترضنا إشكال متى يمكن للمبدع أن ينجز عملًا عظيمًا عن الثورة أو حراك شعبي ما؟ هل ينجزه وهو يعيش مخاضها ويتتبع تفاصيلها ويعيشها، أو أن يرجئ ذلك إلى ما بعد الثورة، أي إلى حين هدوء عواصفها، وصفاء سمائها، حيث يصبح بإمكانه استرجاعها بتروٍّ يمكِّن في النهاية من عمل يستشرف المستقبل ولا يكتفي بوصف ما حدث فقط. هل يشغل مفهوم الزمن هنا الإلزام؟ هل يمكننا أن نعتبر أن أخذ مسافة زمنية، مع ما جرى من أحداث هو قدر وطريق يجب سَلْكُه؟ في هذا الصّدد علينا أن نُذكِّر بتجربة نجيب محفوظ الذي توقّف عن الكتابة ستّ سنوات عقب ثورة 52، ومن بين تفسيرات كثيرة لصمْتِه كان هناك تفسير رائج، أن حرصه على الابتعاد كان بدافع إيجاد مسافة مع هذا الحدث العظيم(1)، حتى يتعامل معه أدبيًّا بالطريقة المثلى، وهكذا ظهرت الثورة في الكثير من أعماله مثل: (ثرثرة فوق النيل، وبداية ونهاية، واللص والكلاب…) كما أنّ علاء الأسواني الذي انتهى مؤخرًا من روايته «جمهورية كأن» واستغرق زمنًا في كتابتها، وأخذ أيضًا مسافة مع أحداث الثورة المصرية.

يبدو من هذه الناحية أن رؤية المبدع لعمله الفني هي المتدخِّلة بشكل أساسي في المدّة الفاصلة بين إنجاز العمل، لا أن يكون مبدأ اتخاذ مسافة شرطًا مسبقًا وحاسمًا يؤدي احترامه إلى جودة مثلما يؤدي خرقه إلى قبح أو رداءة! حتى الآن فالمدة التي تفصلنا عن الربيع العربي الذي اندلع في تونس ومن بعدها في مصر وسوريا والمغرب…لم تتجاوز العقد ومع ذلك فقد شاهدنا أعمالًا سينمائية قدّمت رؤى مختلفة فيما جرى من أحداث، دراما، سينما…لكن هل قدّمت هذه الأعمال منجزًا سينمائيًّا يُشكّل ما يمكن أن نطلق عليه تيارًا؟ الأكيد أن الأعمال التي أعقبت الثورة تفتقد إلى بناء فلمي واضح وإلى تصورات جمالية خاصة بها، صحيح أنها استطاعت أن تنتزع وسائل تعبيرية كثيرة لكن ما زال الوقت مبكرًا على الحديث عن فلم متمكن من وسائله ومطوّع للحدث لصالحه وليس العكس، أن يكون الإنسان فيها هو مركز الفلم.

كيف عبرت السينما بعد الربيع العربي؟

الصورة، كانت أوّل سند للثورة، عن طريقها وصل إلى العالم ما كان يحدث في الشارع، وصار بإمكان العالم أن يتابع ما يحدث في شارع بورقيبة وميدان التحرير. كما كانت كاميرا الفيديو فعالة في تصوير ما يقع بسرعة فائقة، الصورة إذن ساهمت في التغيير وكانت فاعلة فيه. وهذا كان منطلق السينما في الوصول إلى المشاهد ونقل وجهات نظرها في الربيع العربي. إن الانطلاق من الإشكال التالي: كيف عبّرت السينما بعد الربيع العربي؟ كفيل بأن يفتح أفقنا على ما نريده من هذا الموضوع.

مساحة حرية مع نسمات الربيع: كانت أغلبية الأسئلة المثارة حول سينما ما بعد الربيع العربي متعلقة بهامش الحرية التي قد يربحها الفن السابع سيرًا على مطلب الشارع، السينما العربية كان لها الحلم المشروع بالحريّة، بحيث يمكننا اختزال الكلام عن الحرية في إنهاء عهد الرقابة وسلطتها وكذلك اتساع مجال الاشتغال في كل الموضوعات المسكوت عنها والانفتاح على كل الموضوعات السياسية خاصّة، هذه -قد تكون-هي مطالب سينما ما بعد الربيع العربي التي يمكن أن ندرجها تحت عنوان الحريّة، لكن هل يكون تحقيق هذا المطلب سهلًا للسينما؟ الأمر أصعب لأن الحديث عن الحرية في السينما هو تقريبًا مقياس لمدى سير الشعوب في درب المصالحة، كما أن للمسألة جانبًا أهم وأقوى وهو الجانب المادي الذي يرتهن له إنتاج الأفلام وتداولها.

مشكل الدعم

مبدئيًّا إن تصريف موضوعات فكرية وفنية تنتصر لرؤية المخرج صعب في ظل صناديق الدعم التي تدعم ما تراه مناسبًا من أفكار وتقصي ما تراه مشاكسًا أو خارجًا عن إطار رؤيتها. أمام هذا الواقع كان على السينما أن تبحث عن منافذ دعم أخرى منها صناديق دعم غربية أوربية تحديدًا. ولم يكن يمكن أن نتحدث عن فلم «الشتا اللي فات» شكّلت تجربة فريدة في إنتاج أفلام بميزانيات قليلة، يحكي الممثل عمرو واكد عن هذا الفلم أنّ إنتاجه كان بدعم ذاتي وبمشاركة من ممثلين منتصرين للثورة. ويُعد فلم «الشتا اللي فات» للمخرج إبراهيم البطوط نموذجًا للموجة السينمائية الجديدة، وشارك في كتابته أربعة مؤلفين، هم ياسر نعيم وحابي سعود وأحمد عامر، إضافة إلى مُخرِجه. واشتركت في إنتاجه شركات مستقلة يملكها بطلاه عمرو واكد وصلاح الحنفي ومخرجه إبراهيم البطوط، وشارك في بطولته عدد كبير من الوجوه الجديدة وعدد من صناع السينما المستقلة الذين عملوا في الفلم بالمجان دعمًا لصناعه»(2). هل كان بإمكان السينما المصرية أو غيرها أن تنتج أفلامًا بقدر كبير من الحرية في اختيار شكل التعبير المناسب ومضمون تعبير مناسب يتجاوز مشكل الدعم في ظل مجموعة من الظروف المفروضة على السينما، فهي ملزمة بتخطي دعم الدول والحكومات، وهذا يقتضي بحثًا مضنيًا عن بديل أجنبي. وهو ما سيفتح باب نار آخر عندما ستوصف أعمال مدعومة من الخارج بأنها قد تحمل أفكارًا تهدّد الداخل! كما يمكننا ملاحظة الحماس الكبير في إنتاج الأفلام بعد السنتين الأوليين للثورة وخفوته بعدهما، هل ستتحمس صناديق الدعم لأفلام لا تقدم بالضرورة أفلامًا عن الثورة بمباشرة نمطية بل بتأمل عميق في الأسباب والنتائج ومصاير الناس؟ لكل هذه الأسباب يجب أن يتسع النقاش عن الحرية حدود التعبير إلى كل هذه الجوانب.

فلم «اشتباك»

المضامين الجديدة

أدّت الكثير من الظروف بعد الربيع العربي إلى دفع السينما العربية إلى أن تسلك مسارًا واقعيًّا صرفًا في اختيارها للمضامين، ويمكن اعتبار هذا المسلك عودة للواقعية بعدما شكلت تيارًا سينمائيًّا لمدة طويلة في الماضي، هذه العودة جاءت بعد سيادة مضامين جديدة مثل العنف والكوميديا وصلت حد الابتذال، لكن، لم يعد بمقدور الجمهور أن يشاهد الكوميديا وهو يعيش أسوأ الظروف، من فقر وتهميش وقهر، صحيح أن هذه الموضوعات كانت تنتشله أحيانًا من أزمته لكنها لم تعد قادرة على لعب الدور نفسه بعد موجة التكنولوجيا فسرعة متابعة الأخبار المصورة من خلال الهواتف النقالة ونقلها لعنف الشارع بشكل سريع ومتلاحق ويومي كان يذكِّر الجمهور أن الواقع أشد بؤسًا وأن القادم أسوأ من الحاضر. لكنّ هناك عاملًا موضوعيًّا في هذه المعادلة، فظروف الاضطراب والترقّب والخوف من مسارات الثورة، جمّدت وأجّلت تفكير الجمهور في السينما وأصبحت في نظره ترفًا وحاجة لا تلائم تفكيره في اليومي ومصاعبه، هذا الموقف انعكس في هجره لقاعات السينما، وعدم إقبال المنتجين على إنتاج أفلام نجوم وشباك تذاكر تفاديًا لفشل تجاري كان يطرق الأبواب، فالتقطت السينما البديلة هذه الإشارة، واعتبرتها فرصة مثالية، فتكاثفت شركات الإنتاج الصغرى والمستقلة ومعها أفراد ينتمون إلى مجال السينما، أغلبهم لم يكن يمانع بالعمل المجاني في فلم عن الثورة… وهكذا تحقّق تراكم سينمائي مهم، تميزه صفة الاستقلالية ويوحِّده اتخاذ موضوعات الثورة نفسها أحداثًا لأفلام سينمائية، وهنا يمكننا أن نتحدّث عن الكثير من الأعمال بين التسجيلي والروائي، كلّها كانت تدور في فلك الثورة، وتستلّ منها أحداثها ويمكن هنا أن نذكر: (الشتا اللي فات) 2011م إخراج إبراهيم البطوط، وفلم (18 يوم) 2011م وهو عبارة عن عشرة أفلام قصيرة تمثل عشر وجهات نظر عن الثورة، و(بعد الموقعة) 2011م إخراج يسري نصر الله، و(اشتباك) 2013م إخراج محمد دياب، و(قبل الربيع) لأحمد عاطف، و(على حلّة عيني) 2016م لليلى بوزيد، و(مانموتش) 2012م لنوري بوزيد…

الجماليات الجديدة وطرق التعبير

الجانب المهمل في سينما ما بعد الربيع العربي هو جانب التعبير وطرقه، ونقصد (الأساليب التي عبر بها الفلم وطرق الحكي وبناء القصّة) مع أن هذا الجانب قد يكون الأهم لأنه يخلق للسينما أفقًا جديدًا واختيارات متعدّدة، ولعل أبرز تيارات السينما وأشدها تأثيرًا في تاريخها جاءت بعد وقع أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية. من هنا يمكننا أن نختبر المنجز السينمائي العربي بعد الربيع العربي وبحث أساليب تعبيره الجديدة.

لا حدود بين الروائي والتسجيلي: لعلّ أول ما يسترعي الانتباه في منجز أفلام بعد الثورة إعادة رسمها للحدود الفاصلة بين الفلم التسجيلي والفلم الروائي، صحيح أن هناك أفلامًا روائية مثل (الشتا اللي فات – بعد الموقعة- اشتباك) وهي أفلام مصرية، و(مانموتش) وهو فلم تونسي، و(جوّع كلبك- وهم الكلاب..) وهي أفلام مغربية… لكن ملامح الفلم التسجيلي هي الصفة الطاغية التي يسهل أن نصل إليها في هذا المنجز، وهي الميزة التي تسم أفلام هذه المرحلة، ويمكن إرجاع أسبابها إلى المباشرة التي لعبتها أرشفة الأحداث ومحاولة حفظها، وكاميرا الهاتف والكاميرات المحمولة التي سهلت على المخرجين الشباب الانطلاق من اليومي لصناعة أفلامهم، «الوثائقيّ، سواء أكان تسجيليًّا أم سينمائيًّا أم تلفزيونيًّا، بدا الأسرع في التقاط نبض الشارع، وفي وضع ما يُمكن اعتباره «حجر الأساس» لنشاطٍ، يتّخذ من الصورة مادة فنية لمقاربة تجليات الواقع، في مراحله المختلفة، وتحولاته المختلفة، وأسئلته المختلفة»(3). لكن عندما نتحدث عن الفلم الروائي فلن يسهل علينا تلمس ملامحه الواضحة، بناء الفلم لم يجد بعد مخرجًا فنيًّا واضحًا يكون بداية لتأسيس فلم، وأن يطوع الأحداث والقصة لصالح شكل واضح، كما أن أفلامًا روائية كثيرة تراوغ الروائي لصالح الوثائقي رغم أنها تقدّم نفسها كأفلام روائية.

فلم «ما نموتش»

لذلك فالكثير من القلق يجب استحضاره ونحن نتحدث عن تجربة سينمائية حقيقية بعد الربيع العربي، فإنجاز أفلام عن الربيع العربي، أمر ليس بالسهولة التي قد تتبادر إلى الذهن، فالفلم الروائي «لا يزال، لغاية الآن، عاجزًا عن تحقيق التراكم الفني – الثقافي – الجمالي المطلوب، وعن تطوير أدوات تعبيره، وعن تثبيت لغة سينمائية في مقاربة الحكايات والحالات، إما لأن الحدث، بحدّ ذاته، يُنتج تبدّلاتٍ خطرة وغير محسوبة وسريعة وعنيفة، تستمرّ في إرباك اللحظة نفسها، وإشاعةِ مناخٍ غامضٍ حول كلّ شيء؛ وإما لأن سينمائيين عديدين يُفضِّلون إيجاد مسافة -زمنية وثقافية وتأملية- عن الراهن الآنيّ، قبل البدء بتحقيق أفلام تبني على الوقائع ما يُغذّي المخيلة في تشييد عمارة سينمائية صلبة المبنى، ومتينة الصنعة، تعالج المواضيع الجمّة، التي لا يزال الحراك يُفرزها، بحيوية إبداعية تحصّن اللغة السينمائية من كل شائبة ممكنة»(4). المدى الذي يمكن التوقف عنده مستقبلًا منفلت، والأوضاع السياسية لا تبشر بمستقبل فني يستطيع معه الفلم والمخرج الاطمئنان، ومزاج الداعمين في الداخل والخارج قد لا ينظر لسينما الربيع العربي بالحماس نفسه الذي نظر به إليها في الماضي، علينا إذن، استحضار كل هذه العقبات عند الحديث عن فلم روائي متكامل يحقق تراكمًا وبعده توجهًا ولِمَ لا تيارًا!

لكن، إذا تخلصنا من تصورنا المفترض عن كيفيات بناء الفلم وطرق اشتغاله ونظرنا إلى الأفلام الروائية المنجرة على قلّتها فهي تحرك أسئلة كثيرة. وإذا أردنا أن نحصر دائرة أفلام بعينها للخروج باستنتاجات يمكن إسقاطها على الكثير من الأفلام الأخرى، فيمكننا أن نسمي على سبيل الذكر لا الحصر ( الشتا اللي فات – بعد الموقعة- هم الكلاب – سلم إلى دمشق – اشتباك – 18 يوم).

قلق الكاميرا

إن أغلبية الأفلام هنا، تخلّت عن حيادية الكاميرا الثابتة، والتأطير الثابت يكاد يكون نادرًا، ثم تعويضه بكاميرا محمولة تقاذفها الأيدي كما الأحداث، تصاحب الفوضى، توجه عدستها في كل اتجاه وسرعة تقترب وتبتعد من دون ضرورات أحيانًا، لا يمكن النظر إلى هذا الجانب الجمالي نظرة سلبية؛ إذ إن مقاربة موضوعات الربيع العربي ورواية قصصه فرضت على المخرجين، أو هم من وضعوا صوب أعينهم نقل نبض الشارع وهو ما جعلهم ينحازون إلى خيار الكاميرا المحمولة، رغم أنهم بذلك كانوا ينحازون معها إلى الموضوع لا الشكل.

الشخصية على حساب الحدث: أفلام كثيرة لم تقنع بتقديم خطّ سردي لشخصية واحدة، تكون أساسية وتحاط بعد ذلك بما يؤثث الأحداث، أفلام فتحت مسارات لشخصيات مختلفة، لقصص متعدّدة ولمصاير متداخلة، حاول كل فلم على حدة وكل الأفلام مجتمعة أن تُسمع فائضًا في أصوات الناس، الحدث يستكين والإيقاع يهدأ ليفتح للشخصيات المجال للتعبير عن وجهة نظرها التي قد تختلف وقد تتفق حول الثورة، فكثرت أصوات الراوين الذين يقدمون أنفسهم ووجهات نظرهم في ما حصل. يمكن هنا أن نتحدث عن فلم «18 يوم»، المحسوب عمليًّا على الفلم القصير، بحيث يتضمن 10 وجهات نظر مختلفة حول الثورة، وفلم «الشتا اللي فات» أيضًا حتى «اشتباك».

المكان ووجهات النظر: أفلام كثيرة قدّمت تصورًا مختلفًا لبنية المكان وعلاقته بالسرد الفلمي، بدأ بـ«سلم إلى دمشق» لمحمد ملص وانتهاء بـ«اشتباك» لمحمد دياب و«18 يوم»، في كل هذه الأفلام جُمِعت شخصيات عديدة تحمل فكرًا مختلفًا داخل فضاء مغلق عليها، يكون هذا الفضاء رهينًا بما يقع خارجه، هكذا كانت هذه الأفلام تستطيع أن تمسك بالوطن كله في دائرة ضيقة، يصير معها الحوار ممكنًا بعد التعب والظلم الذي يلحق بالجميع، زجت هذه الأفلام بأطياف مختلفة منها رجل الشرطة نفسه الذي عذب وقتل وأحرق…مع ضحاياه السابقين في المكان الضيق نفسه (مخفر، بيت، مستشفى، سيارة شرطة…) ورغم عدم قدرتنا الآن على الأقل في الوقت الراهن، على إلحاق هذا الجانب بمظاهر جمالية ظهرت في سينما الربيع العربي، فلا يمكن أيضًا تجاوز تميزه وقدرته على أداء دور فني مناسب للقصص التي قدمته، مع استحضار شح ميزانيات الإنتاج التي فرضت على المخرجين عدم النظر إلى قصص مكلفة!

خلاصة

على السينما (مخرجين، منتجين، كتاب، نقاد…) أن تتجاوز التفكير في الربيع العربي كفترة تفرض نفسها بحالة معينة وجامدة، كأن تعود في كل لحظة إلى الحدث بعينه، هذا الأمر سيؤدي بها إلى الكثير من الادعاء، وسيؤدي بنا إلى مشاهدة الحدث نفسه مرارًا، لن تستطيع السينما مجاراة نشرات الأخبار في نقلها المباشر لما حدث. عليها إذن، أن تعود إلى حصونها العتيدة إلى اللغة السينمائية وإلى الإنسان، لا يجب أن تتملص الأفلام من الشكل الأنسب، الذي تختزله قاعدة بأية طريقة تحكي، السينما يجب أن تجد وسائل تعبير وأن تجتهد في الوصول إلى القصص، قصص الناس وليس حديث الثورة بالضرورة. لقد نجحت كتابات محفوظ لأنها ترصّدت واقع ما بعد الثورة، تتبعت الإنسان المصري المنهك الذي خرج من واقع مرير إلى واقع أكثر مرارة، وهذا المسار هو ما سيجعل السينما تعيد تأمل الواقع الذي يتبدّل باستمرار وتنكشف فيه حقائق وتغيب أخرى، وهنا يأتي دور السينما والسينمائيين.

______________________________________________________________________________________________________

الهوامش:

١) هناك‭ ‬تفسيرات‭ ‬أخرى‭ ‬لابتعاد‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة،‭ ‬منها‭ ‬أنه‭ ‬بعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬الثلاثية‭ ‬أراد‭ ‬أخذ‭ ‬مسافة‭ ‬مع‭ ‬الكتابة‭ ‬نفسها‭.‬

٢) السينما‭ ‬المصرية‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الواقعية‭  http‭://‬www.aljazeera.net‭/‬news/cultureandart .‬

٣) نديم‭ ‬جرجورة،‭ ‬أفلام‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭: ‬ارتباكٌ‭ ‬وجماليات  https‭://‬www.alaraby.co‭.‬uk/diffah/arts

٤) نديم‭ ‬جرجورة،‭ ‬أفلام‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭: ‬ارتباكٌ‭ ‬وجماليات  https‭://‬www.alaraby.co.uk/diffah/arts