المشهد الثقافي السعودي.. تحولات ولحظات مفصلية

المشهد الثقافي السعودي.. تحولات ولحظات مفصلية

ترتكز هذه الورقة على فرضية مفادها: أن كل مقاربة للمشهد السعودي، هي تنحصر بالضرورة في مسارين اثنين؛ أولهما يتحدد بالبعد الذاتي المرتبط بالمرجعيات المعرفية والثقافية للباحث نفسه، وما ينتج عن هذا الارتباط موقفه ورؤيته وأدواته التي يتناول بها موضوعه، وفي إطار هذا على سبيل المثال، فأنا كوني أزعم أنني أمتلك بعض الأدوات في المجال الأدبي والنقدي من جراء الاحتكاك المباشر بالمنجز النقدي والأدبي في ساحتنا الثقافية، فهذا يعطيني المبرر كي أدفع بالقول ما ينبغي أن يقال من خلال تأويلي للحظات المفصلية التي أراها كذلك. بينما المسار الآخر يتحدد بالأحداث الأكثر جذرية التي مرت بها المنطقة، وهذه أحداث لا يختلف على أهميتها أي باحث أو مراقب أو حتى عامة الناس؛ لذا أصبحت هذه الأحداث من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن تخطيها أو تجاوزها.

وهذا يعني فيما يعنيه، في مسار هذه الفرضية أنني لا أدعي الإلمام بكل التفاصيل الأخرى التي أثرت من العمق بتحولات المشهد السعودي، فالمسرح والموسيقا حتى الفن التشكيلي والدراما كان لها دورها المخفي والمضمر. لكن كوني لا أملك الأدوات ولا الخبرة ولا الذاكرة فأنا أقدم خلاصة تجربتي خلف ستار من الرؤية التأويلية للمشهد بشكل عام.

للوهلة الأولى يبدو للباحث أن «المشهد الثقافي السعودي» من الصعوبة بمكان حصره في مسار واضح وبسيط من التناول والتحليل، أو إدراجه ضمن كتلة واحدة من الصفات التي لا تتمايز أو لا ينفك بعضها عن بعض. المشهد برمته نوع من الفسيفساء الذي لا يقبل اختزاله تحت أي مصطلح أو مفهوم، ولا يقبل أيضًا الركون أو الاستسلام إلى النظرة الثابتة التي لا ترى فيه سوى مجموعة من الخصائص المتوارثة والمتعالية على التاريخ، فيما هو في حراك مستمر يستجيب للتحولات التاريخية بالقدر الذي يحقق فيه أفراده تحولاتهم النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ناهيك عن أن مصطلح الثقافة نفسه فضفاض وواسع، ويحتمل الكثير من الدلالات والمعاني بمثل ما لا يحتمله غيره من المصطلحات.

يضاف إلى ذلك كله، عطف كلمة الثقافي على السعودي هو بمعنى من المعاني عطف الثقافي على السياسي بمعناها الواسع أو اتصاله على الأقل بالأحداث الكبرى، أو بعبارة أدق: ارتباط المجال الثقافي بالمجال السياسي والتأثير المتبادل بينهما هو الإطار وهو المرجع القائم على جل التغيرات التي طالت المجتمع والدولة منذ ما يقارب أكثر من خمسة عقود مضت.

والسؤال هنا: ما الذي يفضي به القول حين نفكك العنوان بهذه الطريقة، وما المقصد منه؟

أولًا– يفضي إلى وضوح المقصد، فالمشهد الثقافي عندما يريد أي باحث تحليله أو وصفه سواء على مستوى الخطابات اللغوية أو الظواهر الفكرية والاجتماعية والسياسية لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار، من جهة، مسألة التنوع القبلي والطائفي والمناطقي، ومن جهة أخرى الدور التفاعلي لهذا التنوع في رسم الشخصية الثقافية وتعدد مساراتها في الإنتاج والعلاقات والتفكير والسلوك.

ثانيًا- يفضي إلى تحديد المصطلح المرتبط بالثقافة. فلا يمكن أن نتحدث عن الثقافة بإطلاق، فالأنماط المتعددة لحضورها والمستمدة من حقل العلوم الاجتماعية، تستغرق كامل الحياة الإنسانية والفكر والمعرفة والتاريخ والدين.

وعليه أميل إلى حصر الكلمة في معنى يدل على الحركة والديناميكية وفق الوضعيات التي تتخذها الجماعات إزاء الأحداث الكبرى التي تمس وجودها الاجتماعي والهوياتي. وهنا أستعير مصطلح «تثاقف» أو «تثقف» culturation من العالم الاجتماعي والأنثروبولوجي الفرنسي روجي باستيد. الذي يعني عنده «كل ثقافة هي صيرورة دائمة من البناء والهدم وإعادة البناء، وما يختلف هو أهمية كل مرحلة تبعًا للوضعيات» («مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية» دنيس كوش، المنظمة العربية للترجمة 2007م، ص112).

بعد هذه المقدمة، ووفق التصور السابق، سأتحدث عن ثلاثة محاور؛ كل محور يتعلق بحدث أثّر بصورة عميقة في نسيج المجتمعات الخليجية والعربية، وأحدث بالتالي تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية ما زالت تفعل فعلها إلى اليوم. وسأختبر على وقع الارتدادات أو الهزات التي أوجدتها تلك الأحداث ردود الأفعال التي اتخذتها الجماعات أو الأفراد سواء على مستوى الخطابات أو مستوى السلوك الاجتماعي والثقافي.

وسوف يكون الاختبار ضمن الإجابة عن السؤال التالي: إلى أي درجة أثرت تلك الأحداث في بنية التفكير أو السلوك ومن ثم طورته سلبًا أو إيجابًا؟ وبالتالي في مرحلة لا حقة من التأثير، ما الذي جرى للهويات الفردية والجماعية داخل المجتمع في نظرتها لنفسها وللآخر والعالم؟

وهذه الأحداث الكبرى المتعلقة بتلك المحاور هي:

الأول: أيديولوجيا تصدير الثورة الإيرانية (1979م).

الثاني: حرب الخليج الثانية أو حرب تحرير الكويت (1990م).

الثالث: أحداث الربيع العربي (2011م).

(1)

لكن قبل الشروع في الحديث عنها أود الوقوف على جملة من العوامل التي ساعدت على إيجاد مسارات من عملية التثاقف في المشهد الثقافي السعودي، التي أفضت بها إلى ترسيخ فكرة الهدم والبناء الثقافي على مستوى الفرد وليس بالضرورة على مستوى الجماعات.

الدولة من خلال بيئة العمل المختلفة والمتنوعة ومؤسساتها التعليمية والثقافية ساهمت بالضرورة في إيجاد المناخ العام الذي تتكون داخله مختلف العلاقات الإنسانية للفرد على مستوى الخبرات العلمية والاجتماعية والانفتاح الثقافي وتمتين أواصر الذاكرة الجماعية. بيد أن هذا التماسّ بين الأفراد من جميع مناطق المملكة على اختلاف مرجعياتهم القبلية والطائفية والمناطقية عزز الرابطة التأسيسية في الانتماء بين الفرد والدولة، وأوجدت المصلحة الاقتصادية المتبادلة سببًا ضافيًا في تعزيز هذا الانتماء.

والسؤال هنا: متى جرى الانتقال بهذا الانتماء من مستواه الواقعي إلى مستواه الرمزي؟ وما الأسباب التي دفعته إلى ذلك؟ سأؤجل الإجابة إلى نهاية الورقة.

ورغم طبيعة الاختلاف بين البيئات المتعددة للعمل، وطبيعة المؤسسات التعليمية والثقافية، ورغم أيضًا التباين الثقافي والاجتماعي بين الأفراد بحكم طبيعة التضاريس الجغرافية شبه القارية للمملكة من جهة، والعمق التاريخي الثقافي لمدنها من جهة أخرى، فإن مسار التنظيم المرتبط بهؤلاء داخل مؤسساتهم تحول إلى ما يمكن تسميته «ثقافة المؤسسة» بحيث يشتركون جميعًا في صنعها، وبالتالي هم يلتقون مع آخرين من مؤسسات أخرى في ذات الصنيع، والنتيجة تصب في منحى تعزيز الرابطة التأسيسية للانتماء.

قد يكون صحيحًا أن ثقافة المؤسسة تبقى بالدرجة الأولى وسيلة أو أداة لرصد التحولات الاقتصادية التي تصيب المؤسسة والسياق الذي توضع فيه، وبدرجة ثانية هي تنتج قيمها التي تفرضها تنظيميًّا على مختلف الذهنيات التي تنتمي لها. لكن الصحيح أيضًا «أن لا وجود لــ(ثقافة المؤسسة) خارج الأفراد المنتمين إليها ولا يمكنها أن تكون سابقة لهم، بل تُبنى من خلال تفاعلاتهم» (المرجع نفسه).

وعليه قد يبدو أن بين هذا وذاك، حدث نوع من المواءمة والانسجام؛ أدى إلى إنتاج ثقافات فرعية وروابط اجتماعية لا تنتمي إلى المؤسسة بقدر ارتباطها بأفرادها أنفسهم، وأقرب مثال عندنا هو شركة أرامكو التي امتد تأثيرها في النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لأجيال متلاحقة، رغم أن طبيعة العمل بعيدة كل البعد من هذا النسيج غير أن التأثير لا يمر إلا عبر مجسات الثقافة أو الاجتماع، وهذا أمر طبيعي في حالة تفاعل الإنسان مع من حوله في العالم.

وهناك أيضًا في المقابل مؤسسات أخرى مثل الأندية الأدبية قبل الانتقال إلى رؤية 2030 التي كان طبيعة عملها ثقافيًّا بالدرجة الأولى. لكنها لم تحقق هذه المواءمة التي أوجدتها شركة أرامكو بين الانسجام واختلاف المسارات، فأغلب الأفراد المنتمين إليها، وكونهم يصنفون كنخب ثقافية، لم ينتجوا من خلال ارتباطهم بالعمل الثقافي داخل أسوار الأندية ثقافات فرعية تعيد تصوراتهم عن أنفسهم وعن علاقاتهم بمن حولهم، بل التصلب والتخشب هو نتاج تمسكهم بروابط وعلاقات اجتماعية أكثر من كونها ثقافية أدت إلى ما أدت إليه في النظر إلى هؤلاء بالطريقة نفسها سواء كانوا داخل الأندية أو خارجها، فالارتباط الناتج عن الأثر والتأثير يكاد يكون معدومًا إلا القليل منهم، وأنا لا أضع جميع الأندية في سلة واحدة، فهناك من أضاف وعزز من فكرة الانتماء وفتح الباب على ثقافات فرعية وروابط اجتماعية تمس الحياة اليومية من العمق.

ولا أريد الاسترسال في ذكر العديد من المؤسسات المنتشرة في طول البلاد وعرضها. أكتفي بما قلت هنا؛ لأدلِّل بصورة موجزة عن المداخل المقترحة التي يمكن من خلالها تناول المشهد الثقافي السعودي بالدرس والنقد والتحليل.

(2)

مع الأحداث الكبرى التي زلزلت المنطقة من العمق، كان محتّمًا على المشهد الثقافي السعودي أن يمر بتحولات أيضًا عميقة، طالت الكثير من حياته ومواقفه الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية، وألقت به من ضفة إلى أخرى، ومن موقع إلى آخر، حيث ظلت أدواته ووسائله في التعبير عن هذه التحولات مشروطه بالدرجة الأولى بالأدب وفنونه ومن ثم مع تصاعد وتيرة الأحداث واختلاف أسبابها ونتائجها أطل الجانب الفكري برأسه، والسياسي أيضًا لكن على استحياء أو لأقل باهتمام أقل.

قد تكون دراسة المشهد الثقافي من جهة ارتباطه بتلك الأحداث وتحليل الارتدادات التي صاحبت مسارها على الأذهان والخطابات والمواقف سواء على مستوى الأفراد والجماعات والنخب والمؤسسات لم تكن بما يكفي كي تعطينا صورة واضحة وقريبة عما نعنيه بالتحولات.

لقد ظلت الدراسات التي تناولت المشهد، منذ عقدين من الزمن، من طرف باحثين ونقاد سعوديين لا تخضع إلى الصرامة المنطقية أو الموضوعية، ولا إلى طرق منهجية تتصل بالحقل الأنثروبولوجي بوصفه الخيار المنهجي الأمثل في دراسة المشهد بطريقة مايكروسكوبية، ولم تخصص جامعاتنا وحدات بحثية خاصة، تشتغل على صناعة خطابات تنويرية حديثة حول جملة تلك التحولات، وبالتالي دمج هذه الخطابات بوسائل بيداغوجية متعددة في نظامنا التعليمي العام والجامعي، وهو ما يساعد كثيرًا الأجيال السابقة واللاحقة على تأويل ذواتهم بما يتناسب وتلك التحولات أولًا، وإفساح المجال لهم في إيجاد صيغة مناسبة للحوار والتواصل على خلفية ما تضخّه تلك الخطابات من تنوير ثانيًا.

لكن للأسف جاء المسار مختلفًا. بعض الباحثين ركز في مقاربته للمشهد على تأصيل فكرة الحداثة في المجتمع السعودي من دون أن يؤصل الفكرة ذاتها كمفهوم أو يستخلصها كتجربة من سياقها التاريخي، فالناقد والقاص علي الشدوي في كتابه «الحداثة والمجتمع السعودي من عام 1924- 1953م» الصادر عام 2009م، حدَّد مسبقًا فكرة الحداثة، ثم أخذ يبحث عن ريادتها فكريًّا ثم أدبيًّا، حيث كانت الانطلاقة من المجتمع الحجازي، بالتحديد عند الأديب والشاعر محمد حسن عواد من خلال كتابه «خواطر مُصَرَّحة».

لكن قد يغيب عن مثل هذه المقاربة أن فكرة الحداثة مرتبطة عضويًّا بتحديث الدولة من جهة والمجتمع من جهة أخرى، ونهوض العنصر الأخير (المجتمع) من دون العنصر الأول (الدولة) لا يسمح لنا بتحرير المصطلح وفق تصوراتنا، خصوصًا أن الدولة السعودية في بداية تشكلها إبّان دخول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الحجاز. يضاف إلى ذلك أن ارتباط الحداثة بالمجتمع تحت وحدة الدولة السعودية يفرض على الباحث أن يضع تحت المجهر النقدي فكرة الريادة بما يتلاءم والإرث الكبير لمنطقة الجزيرة العربية والخليج.

قد يكون صحيحًا أن الحجاز بروَّادها من الأدباء والمتعلمين كانوا في طليعة الجيل الأول الذين تأسست وقامت على أيديهم مؤسسات الدولة الفتية. لكن اعتماد الأدب وفنونه بوصفه التعبير الأصدق عن تلك الريادة ينفي فكرة الريادة من الأساس؛ بسبب الإرث الأدبي الكبير الذي تركته تلك البيئات خلفها سواء نظرنا إلى امتداد هذا الإرث من داخل الدولة أو خارجها.

وفي التوجه ذاته تأتي مقاربة الناقد حسين بافقيه في كتابه «إطلالة على المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية» الصادر عن المجلة العربية، في ربيع الآخر 2005م حيث الحجاز هي رائدة الوعي في النهضة الفكرية والأدبية تزامنًا مع تأسيس الدولة الوطنية.

لكنه لا يبني هذه الريادة على رؤية البعد التفاعلي بين تكوين الدولة من جهة وبين المجتمع وتحولاته من أثر هذا التفاعل من جهة أخرى، لقد اكتفى في كتابه بالخط السردي البانورامي وكأن ما يقرره هو إحدى المُسَلَّمات في المشهد الثقافي السعودي. لكن الدكتور جمعان عبدالكريم الغامدي في كتابه «الثقافة السعودية– مقاربات في تأريخ الأدب وتحليل الخطاب» الصادر عام 2013م يثير الشك في مسألة الريادة، وليس أدب الحجاز عنده سوى ظل لأدب مصر والمهجر. لكنه لا يقدم تحليلًا تاريخيًّا يعمق مسألة الشكوك عنده، بل ظل هاجسه الأكبر هو تطبيق النظرية النقدية ومقولات الخطاب بما يتوافق وفكرته عن نفي الريادة الحجازية مسبقًا؛ لذلك لم تقدم عنده مقولة النموذج الثقافي الحجازي تفسيرًا كافيًا عن هيمنة هذا النموذج وتواطُئِهِ مع النموذج الديني عن بقية النماذج الثقافية الأخرى في المنطقة.

والغريب في الأمر أن تلك المقاربات صدرت جميعها في الألفية الثانية، وهذا يعني أن المشهد الثقافي السعودي قد وصل في تحولاته إلى ما يشبه الذروة، وهذا بدوره يفرض على الباحث المهتم بالشأن الثقافي السعودي أن يعيد قراءة المشهد من زاوية مختلفة، بحيث يضع في اعتباره بالدرجة الأولى أن تاريخ الأفكار حول أي قضية أو مسألة يتطور بتطور الأحداث والوقائع التاريخية التي تتصل بسياقاته المختلفة بطريقة أو بأخرى. وعليه ففكرة الريادة أو الحداثة أو التحولات لا تنغلق دلالاتها ومعانيها وقيمها على نفسها ما دام العالم في حراك مستمر، وما دام الاجتماع الإنساني والمعرفي متجدديْنِ دائمًا أيضًا، وخصوصًا إذا كان الحراك يمس منطقتنا من العمق.

وما زاد الطين بِلَّة في هذا الموضوع، حين رُهِنَ المشهد واختُزِلَ في صراعات وسجالات باسم الصحوة الإسلامية تارة، وباسم الحداثيين تارة أخرى. ولكني لا أريد الدخول في تفاصيل هذه السردية الكبرى، فالكل يعرفها، والكل تطرق إليها سواء من بعيد أو قريب. لكن ما يلفت نظري بهذا الخصوص، هو قلة الباحثين –حسب حدود اطلاعي- الذين تناولوا تاريخ الصراع بين التيارين محاولين ربطه بالتطورات التاريخية التي سبقته والتطورات اللاحقة عليه.

فمثلًا كان المد القومي في الخمسينيات قد طغى على المجال الثقافي والأدبي، وكان الحماس للأفكار القومية قد تغلغل في فكر الكثير من الأدباء والنقاد بحيث برز واضحًا من خلال مواقفهم عن الأدب والشعر والطرق النقدية بانتقالهم من الجانب الرومانسي إلى الجانب الواقعي مثل: عبدالله بن إدريس، أو عبدالله عبدالجبار، أو محمد حسن عواد، أو طاهر زمخشري وغيرهم. لكن سرعان ما رأينا أن بعضًا من هؤلاء غيَّر أفكاره وتوجهاته، وذلك حينما طغت في الستينيات من القرن المنصرم فكرة التضامن الإسلامي.

لذلك وأنا أسوق هذا المثال أؤكد أن في المشهد ما ينبغي مقاربته، وما ينبغي وصله بتاريخه الثقافي والسياسي حتى لا نظل مرهونين لفهم ثنائي وقراءة أيديولوجية مقطوعة الصلة بالتطورات التاريخية للمشهد برمته منذ التأسيس للدولة وما قبلها.

(3)

الآن أصل إلى جوهر مقاربتي التي طرحتها في المقدمة، متوسلًا مثالًا، لا غير على كل حدث اعتبرته مفصليًّا في توجيه بوصلة التفاعل بين مركبات المشهد المختلفة: السياسية منها والفكرية والأدبية والاجتماعية. ما يتصل بالحدث الأول، فقد ارتبطت -على سبيل المثال- فكرة التعايش بين مختلف المذاهب في المجتمع الأحسائي باعتبارها سمة دالة عليه وميزة على اجتماعه الإنساني، منذ مدة ليست يسيرة من الزمن، وهناك ذاكرة شعبية شفهية ممتدة في التاريخ تحاكي تلك الفكرة، وإن كانت لا تطابقها تمامًا، كما سنُبين لاحقًا.

ما يهمنا هنا من هذه الفكرة هو أن تعبيراتها في تلك الذاكرة من قبيل القصص أو المرويات الشعبية والأسطورية أو الأشعار الشعبية والعربية الفصحى، قد تفصح عن أكثر مما تعنيه أو تدل عليه فكرة التعايش، فالكلمة لا أجد مدلولًا لها سوى التضايف، وهو قسر شيء بإضافته إلى شيء آخر، وكأن المعنى يفضي إلى أن ثمة حدودًا لا ينبغي تجاوزها في هذا النوع من العلاقات بين فئات المجتمع، بينما الحال يختلف تمامًا، فمن يدقق في موروث الذاكرة المشترك بين تلك الطوائف يجد سمة أساسية أسلوبية في السرد، وهي المحاكاة الساخرة، التي من أهم وظائفها ليس التعبير عن الانفتاح على الآخر فقط، وإنما تجاوز ضيق الهويات الثقافية أيضًا عن وعي مسبق؛ أي الوعي المشروط بسياقة التاريخي. وما يعزِّز ذلك، هو الإرث الذي تركه لنا الرحالة الذين أرَّخوا للمنطقة عند مرورهم.

حتى لا نخرج عن موضوعنا، لا حاجة هنا للتعريج أو الاستشهاد ببعضهم.

ما يهمنا هنا هو أن تلك الخصائص انعكست في الكثير من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، وكادت أن تصل إلى المصاهرة والنسب في فترات تاريخية محددة. وقد يظن بعض أني أحاول أن أعطي صورة وردية مثالية عن هذا المجتمع، قد يبدو الأمر كذلك من جهة ما. لكن تركيب صورة سردية اجتهادية من خلال معطى متوافر من المصادر الرافدة المختلفة، لا تخلو من وجاهة في التحليل والنظر. لكنها تبقى بالتالي رؤية سردية تأويلية قابلة للدحض والمساءلة.

لكن السؤال هنا ما الذي حدث؟

في فبراير من عام 1979م جاءت الثورة الإيرانية، ثم أعقبها تصدير أيديولوجيتها لدول الجوار التي زعزعت الأمن والاستقرار وأدت إلى انقسام طائفي حاد، ثم سرعان ما بدأت بوادر التحول تطول التركيبة الاجتماعية. حيث بدأ الناس يستعيدون تدينهم المتشدد من خلال استحضار هوياتهم الطائفية بشكل يومي، على اعتبار أن الهوية هي موضع ثقافتهم التي تتحقق فيها ذواتهم بلا تمايز أو اختلاف. والأمر في الاستحضار ينطبق على الجميع. لكن وقعها على الطائفة الشيعية أشد بحكم الروابط التاريخية للمذهب؛ إذ بدأت ثقافة الأرض والمكان تخلي مكانها لأدبيات المذهب ومفرداته التي امتلأت بمزيج من التدين الشعبي والسياسة البسيطة المؤدلجة.

لكن من جهة أخرى بروز الهوية الطائفية على السطح لم يكن يؤدي للاحتراب والتنازع بين الطوائف الأخرى بالأحساء، فقد ظلت مفاعيلها في حدود التعاطف لا التسييس، وكان التمسك بطقوس المذهب والحرص على إحيائها يمثل ذروة هذا التعاطف، ولا يعني أن قبل الحدث، لم يكن هناك تمسك أو حرص عليها. لكن طريقة النظر إلى تلك الطقوس أصبحت تعاد برمجتها في الأذهان وفق أدبيات تلك المرحلة من عمر الثورة في النصف الأول من عقد الثمانينيات.

في المقابل كان الحدث الذي نجم عن دخول جهيمان الحرم في 20 من نوفمبر 1979م، وتولد عنه خطاب الافتراق أو أتاح الفرصة له؛ كي يأخذ مداه وتأثيره في الفضاء الاجتماعي العام بالأحساء. فقد جرت العودة إلى السجالات التراثية حول قضايا المهدي المنتظر، في الأحاديث الجانبية والمسامرات والمجالس، وأصبحت مادة يُتكأ عليها لتعزيز خطاب الافتراق، بينما انسحبت شيئًا فشيئًا المحاكاة الساخرة التي كان يستمدها الناس من الذاكرة الشعبية. تزامن ذلك مع المد الصحوي الإسلامي وانتشاره بقوة في جميع مناطق المملكة، حيث تعمق الشرخ واستطال مؤثرًا بذلك فيما سوف نراه في المستقبل من أحداث.

أما حدث حرب الخليج الثانية أو حرب تحرير الكويت بكل تبعاته وتفاصيله وتداعياته، فإنه حدث مفصليّ احتلت ظلاله كامل عقد التسعينيات؛ إذ شهد الخطابان الرئيسان: الإسلامي والحداثي في المملكة تحولات فكرية أكثر ما ارتبطت بالوجود الأميركي في أرض الجزيرة العربية بالنسبة للخطاب الإسلامي الصحوي، وبالرهان على التنوير الفكري الفلسفي بوصفه الرد –أولًا- على الإفرازات التي ولدتها صراعات وسجلات فترة الثمانينيات التي خاضها الحداثيون ضد الإسلاميين، والهروب ثانيًا من مواجهات الوضع السياسي المأزوم بالمنطقة، بالنسبة للخطاب الحداثي.

بيد أننا من الصعوبة بمكان التسليم أو الاعتقاد أن تلك المتغيرات الناتجة من تداعيات الحرب تنحصر فقط في هذين الخطابين. ناهيك عن النظر إليهما ككتلة واحدة وإن بصورة إجرائية. لكن كونهما يمتلكان أدوات تعبيرية نافذة مدعومة بسلطة الإعلام والصحف بالنسبة للحداثيين، والمنابر والجمعيات والإعلام الدعوي الاجتماعي بالنسبة للإسلاميين. فإن ذلك يعطي مؤشرًا على واقع الحال. وعليه فعندما كان الرهان في الثمانينيات على الأدب بوجه عام والشعر والسرد والمسرح على وجه الخصوص اشتغالًا وكتابة وسجالًا من سمات الخطاب الحداثي، كانت مواقف الخطاب الصحوي في الفترة ذاتها تتسم بالتشدد في جُلِّ المسائل العَقَدية والفقهية. كانت بوصلة تلك الخطابات فترة التسعينيات صعودًا إلى الألفية الثالثة قد ركزت على تداول أبرز النظريات الحديثة في النقد والفكر والفلسفة، وأصبحت مجلة «علامات» على سبيل المثال التي يصدرها نادي أدبي جدة علامة فارقة على جدة الطرح على مستوى الوطن العربي، بينما كشف الخطاب الصحوي -رغم تشظيه في اتجاهات متعددة- عن مراجعات نتج عنها تحولات في بعض المسائل، فمثلًا مسألة الولاء والبراء «فقد قضت مراجعة الشيخ سلمان العودة لمفهوم البراء بقصر العداء على المحارب دون غيره من الكافرين» («خطاب الصحوة السعودية» د. محمد بوهلال 2014م، ص21).

لكن السؤال المطروح ضمن هذا السياق: هل قادت تلك المراجعات من طرف، وتلك المراهنات من طرف آخر إلى تغيير في بنية التفكير لكلا الخطابين؟ لا أظن ذلك. صحيح أن بوصلة الخطابات استجابت لمتغيرات الأحداث. لكنها لم تؤدِّ في الغالب إلى انقطاعات في النظر والعمل بحيث تفضي بدورها إلى أسئلة جديدة تنتمي إلى اللحظة ذاتها التي تحدث فيها تلك التحولات، فقد ظلت أسئلة التراث تهيمن على التطبيقات الحديثة للمناهج التي تنتمي إلى الحقول المتعددة للعلوم الإنسانية في الخطاب الحداثي، بينما ارتهن الخطاب الصحوي إلى إستراتيجيات الدفاع بوصفها آلة متجذرة في أرض التفكير عند هؤلاء مهما تجددت صيغة الأسئلة المطروحة أمام الأزمات ومآلاتها.

بيد أن اللافت للنظر هو دخول لاعب جديد في الساحة، آواخر عقد التسعينيات وبدايات الألفية الثالثة، وهو الخطاب الروائي باعتباره خطابًا لم يتخذ موقعًا، لا على مستوى السجال الثقافي، ولا على مستوى التلقي عند الجمهور، رغم ما أنجزه الروائيون طوال أربعة عقود من اشتغالات ومقاربات وإصدارات. لكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، سرَّعَتْ من وتيرة صعود الخطاب إلى الواجهة، وأصبحت الرواية موضع اهتمام عند كل الأطراف والتوجهات. وبدأنا نشهد ظواهر روائية مع جيل آخر، لا يحمل في ذاكرته أثر تداعيات الحرب بقدر ما كانت تداعيات الحادي عشر من سبتمبر مركزية في التأثير المباشر في الرواية من جهة والروائي نفسه من جهة أخرى، سواء على مستوى القيمة أو التلقي.

وسوف تتمدد مركزية هذا التأثير على طول العقد الأول من الألفية الثالثة وصولًا إلى أحداث الربيع العربي 2011م، حيث أصبحت الرواية لاعبًا أساسيًّا في الدفاع عن الحرية الفردية والتعبير الأكثر مواءمة للأحداث بوصفها نشدانًا للحرية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية التي جاء بها الربيع العربي، وكذلك بوصفها تعبيرًا عن كل ما هو مسكوت عنه في المجتمع.

لذلك عندما نتساءل في نهاية التحليل عن أي من التحولات التي واكبها المجتمع السعودي وساعدته في العبور من الرابطة التأسيسية للانتماء الواقعي إلى مصافّ الانتماء الرمزي، هي مرحلة الربيع العربي المشروطة تاريخيًّا بما تراكم من قبلها من أحداث، وما حققته من تداعيات طالت وما زالت أفق المستقبل، فمخيلة الرواية محورية في إرساء هذا الجانب من البعد الرمزي للانتماء، ومحورية أيضًا في تحقيق البعد الفردي في تحقيقه للعقلانية في التفكير والحرية الفردية والمسؤولية، ومحورية أيضًا للخروج من مأزق علاقة المجتمع والدولة بالآخر والعالم من خلال صناعة هوية إبداعية مفتوحة للحوار والتواصل بديلًا من الهويات الضيقة، وهذا في ظني أحد أهم الجوانب الإصلاحية التي تعتمدها رؤية المملكة 2030 على يد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله.

مقتطفات من ورقة قُدِّمت في منتدى الثلاثاء.