عند سقوط الحجاب.. مذكرات أميركية في الحريم السعودي

عند سقوط الحجاب.. مذكرات أميركية في الحريم السعودي

«كانت لحظات صعبة، شعرت بالتوتر، وكنت خائفة أن يسقط الحجاب الذي أخفي وجهي خلفه، وأحاول أن أتأكد مرارًا أنه في مكانه الصحيح، مشينا باتجاه خيمة جلالة الملك، لقد قيل لنا إنه من التقدير أن نقبل يد الملك عند الدخول، تركنا أحذيتنا خارج الخيمة، كان جلالة الملك يجلس على كرسي كبير وفاخر، لكن كان من الصعوبة رؤيته حال دخولنا، لأن أشعة الشمس الساطعة خلفنا تخفي ملامح مَن بالداخل، حتى اقتربنا أكثر، وأنا أكرر لنفسي: تابعي ماذا يفعل الآخرون وافعلي مثلهم، وأرجو ألا يسقط حجابي أو أتعثر بعباءتي، وأحاول أن أستحضر الكلمات العربية التي أعرفها، لكن ماذا أعرف؟ لا أعرف سوى الحمدلله، إن شاء الله، شكرًا. دخلنا بالترتيب، أم زوجي أولًا، وأنا أخيرًا. ورغم غطاء وجهي إلا أنني انبهرت بطول الملك وعرض أكتافه، بملامحه القوية رغم عمره، وحين قبلت يده.. رأيت أضخم يد رأيتها في حياتي. وجودي داخل الخيمة، والسجاد ذو الزخارف العربية الذي يختلف مستوى ارتفاعه وانخفاضه بحسب الرمل الذي تحته، ومنظر الرجال وهم يرتدون ملابسهم التقليدية «الشماغ والعقال والبشت المذهب»، وعباءتي وإخفاء وجهي، يجعلني أتساءل هل كنت أستخدم مصباح علاء الدين لأكون هنا؟….، خرجت النساء بنفس الترتيب، وكنتُ آخر واحدة تهم بالخروج حتى سمعت صوت الملك يسألني: هل أنتِ الأميركية؟».

هكذا تصف ماريانا علي رضا أيامها الأولى في جدة، حينما زارت العائلة خيمة المؤسس الملك عبدالعزيز في سبتمبر ١٩٤٥م في شمال مكة، وقت الحج.

الحياة في أميركا: «ليلة زواجنا كرر «علي» كل الأمور التي يجب أن أعرفها عن البلد الذي سأذهب إليه وأعيش فيه، لا يوجد حفلات مختلطة، لا سينما ولا أفلام، لا تسوق ولا سير في الأزقة، كل حياتك ستكون في البيت، وليس أي بيت بل بيت الحريم، وهذا البيت ستشاركين فيه أمي وأخواتي وزوجة أخي وأطفالها. لقد كان واضحًا جدًّا، وما زلت أقدر وضوحه وشفافيته».

هذه اللاءات القاسية التي تنم عن وضوح وشفافية، كانت تنصت لها شابة أميركية عمرها ١٩ عامًا اسمها ماريانا، التي كانت تدرس اللغة الفرنسية والأسبانية وتحلم أن تسافر إلى أميركا الجنوبية، لكن هذا الحلم تغيرت بوصلته إلى منطقة لم تسمع بها من قبل، ولا يمكن لخيالاتها أن تشبعها، فلقد تعرفت على الشاب «علي» في جامعة كاليفورنيا حينما كان يدرس هندسة بترولية، وفي عام ١٩٤٣م تزوجته وأنجبت ابنة.

طرق التاريخ أبواب بيت ماريانا وعلي برسالة من جلالة الملك عبدالعزيز تتضمن أن يكون «علي» مندوبًا لمؤتمر السلام في سان فرانسيسكو ٢٥ أبريل ١٩٤٥م. استأذن «علي» من عميد كليته عن الأيام التي سيغيب فيها، وسافر إلى سان فرانسيسكو والتقى هناك الأمير فيصل بن عبدالعزيز بوصفه ممثلاً عن الملك عبدالعزيز لحضور تأسيس منظمة الأمم المتحدة، والتوقيع على انضمام المملكة لها. لم تشارك ماريانا في أي اجتماع رسمي، لقد بقيت كامرأة عربية في الخلف على حد تعبيرها، ولكنها كانت تستمتع وهي تتابع تعليقات الآخرين في كل مكان عن هذا المؤتمر، وخصوصًا عن حضور السعوديين المؤتمر، الذين لا يخطر على بالهم أنها زوجة أحدهم. لقد كانت النساء يتجمعن في بهو الفندق لرؤية الأمراء الشباب بأزيائهم العربية التقليدية (الأمير فيصل وابنه الأمير عبدالله، الأمير محمد، الأمير خالد، والأمير نواف كان عمره تسع سنوات حينها). تقول ماريانا: المؤتمر ضم كثيرًا من الدول، ولكن كل الأعين كانت باتجاه الوفد السعودي، تحديدًا باتجاه الشباب الفتية بأزيائهم التقليدية الذين يطمحون إلى بناء دولة حديثة.

تتذكر ماريانا ارتباكها حينما عاد زوجها من المؤتمر وقال لها: سيزورنا الأمير فيصل ومعه الشيخ إبراهيم سليمان الدويش وبعض حاشيته، لقد كانت خائفة، ماذا عليها أن تطبخ؟ كيف عليها أن تتحدث؟ وكان زوجها يقول لها: كوني كما أنتِ. تقول ماريانا: الحارس الشخصي كان يمسك ابنتي بيده اليمنى، وتحت يده اليسرى خنجر مرصع بالأحجار الكريمة. سألنا الأمير فيصل: كيف عقدتم الزواج؟ قلنا له: زواجًا مدنيًّا، قال: من الأفضل أن يكون إسلاميًّا. فعقد لنا العقد الإسلامي أحد المرافقين وهو الشيخ خليل الرواف، مع شاهدين من حاشيته تحت إشراف الأمير فيصل، وسأل ما مهرها؟ لم يكن هناك إلا سنت على الطاولة مده «علي» إلي. لم أكن أتخيل أن الليلة التي ابتدأت بسنت نحاسي ستنتهي بهدية كريمة من الأمير فيصل وهو عقد ملكي مرصع بالأحجار الكريمة، كان مناسبًا أن ترتديه كوليوباترا.

***

بعد أيام عدة اتصل زوجها من نيويورك حيث كان في مهمة مع الأمير فيصل، وقال لها بأسرع وقت تعالي إلى نيويورك سنذهب إلى جدة، حيث طلب الأمير فيصل أن يعمل «علي» دبلوماسيًّا معه، وبذلك تغيرت بوصلة العائلة تمامًا ولم يعد «علي» إلى جامعته أبدًا، وبدأ حياته العملية مع الأمير فيصل. عاشت ماريانا أيامًا عصيبة وهي تنهي عقد الشقة، تبيع السيارة، تنهي كل الالتزامات، تودع أهلها، والأهم تهيئ نفسها للانتقال إلى مكان آخر، مكان لم تستطع حتى تخيله. تقول ماريانا: «لقد كنت أجعل الحماس لما أعرفه، يفوق التخوف مما لا أعرفه، لذلك كنت قادرة على خوض هذه التجربة». وسافرت ماريانا مع زوجها بالطائرة الملكية التي كانت مهداة من الشركة الكاليفورنية -العربية للبترول آنذاك إلى لندن، ثم القاهرة، ثم جدة.

وفي لندن استقبلتهم سيارات حكومية بريطانية لنقلهم إلى الفندق، وعقدت اجتماعات دبلوماسية عدة، ولعل أهم ما حدث لماريانا خلال إقامتهم في لندن هو إعلان إيقاف الحرب الأميركية مع اليابان، وفي اليوم الذي يليه استدعاها الأمير فيصل ليبارك لها نهاية الحرب ويرجو أن يعود أخوها العسكري الذي يعمل في البحرية الأميركية إلى عائلته قريبًا. كان لهذه المباركة لمسة لطيفة وعميقة داخل قلب ماريانا وهي في طريقها إلى العالم العربي.

لأول مرة تنتقل ماريانا خارج حدود ولايتها كاليفورنيا، ولكن ليس لأي اتجاه قريب بل إلى أرض لم تكن تسمع بها قبل سنوات قريبة أو تعرفها، وقبل نزولها من الطائرة، تأملت المطار من النافذة، فرأت أنه لا توجد أي مبانٍ، لم يكن إلا أرض مسطحة تنزل بها طائرات محدودة، ارتدت العباءة وغطاء الوجه لأول مرة في حياتها، لقد كانت تشعر حينها كأنها امرأة في الشهر التاسع وعلى وشك الولادة وتود الآن التخلي عن الفكرة تمامًا، من الخوف.

الحياة الجديدة والعتيقة جدًّا

تذكر ماريانا لحظتها الأولى حينما وصلت البيت الكبير، احتضنتها أم زوجها والتي تسميها في الكتاب «أمنا» وقالت لها: أحبك كما أحب ابني. لم تر زوجها «علي» إلا دقائق عدة، وذهب مع الرجال إلى مكان آخر. امتلأ البيت بالنساء للسلام عليها، لم يكن هناك مولد كهربائي، فشعرت ماريانا بمشاعر غريبة، فالإضاءة الخافتة من الفوانيس، وملابس النساء التقليدية المذهبة، والوجوه التي بلا مكياج، عيون مكحلة فحسب، والنساء اللاتي يتكلمن كلهن في ذات الوقت، ورائحة البهارات القوية، كل شيء بدأ يشعرها أن هذا المكان يبعد مئات السنوات عنها.

وفي يومها الأول أهدتها أم زوجها ساعة مرصعة بالألماس وثماني أساور من الذهب مؤكدة لها أهميتها، إذ إن هذه وصية الجدة – رحمها الله – أن تكون هذه الأساور هدية لزوجة «علي»، وعلى رغم صغر حجمهن وصعوبة إدخالها في يدها إلا أنه كان عليها أن ترتديها تلبية للوصية، ولم يكن لها أن تملأ ذراعها اليمنى بها إلا بعد محاولات عديدة باستخدام الصابون والماء، أما أخوه الأكبر فأهداها عقدًا من اللؤلؤ، وزوجته «حياة» أهدتها بروش ألماس، هذه الهدايا أربكت ماريانا فشعرت بالتباس وتذبذب بين الحياة الفاخرة المليئة بالذهب والألماس والبريق، وبين الشعور بالحر والرطوبة والذباب الذي يملأ المكان.

بعد وصولهم إلى جدة مباشرة، سافر زوجها «علي» مع الأمراء إلى الرياض، قائلاً لها سأسافر لأربعة أيام، ولكنه غاب فيها ثمانية عشر يومًا، ولم يكن التواصل حينها سهلاً، فلم تكن تعلم متى سيعود؟ فواجهت ماريانا الحياة الجديدة وحدها، وفي كل موقف جديد وغريب عليها تقول: ماذا لو كان «علي» معي؟ لقد عاشت مع عائلة أصبحت فجأة عائلتها، ولا تستطيع تبادل الحديث معهم إلا من خلال صبي صغير يعرف بعض الإنجليزية. تذكر ماريانا تفاصيل أيامها الأولى، فبعد وصولها بيومين قررت العائلة الانتقال إلى الطائف، تفاجأت بالاستعدادات الكثيرة لهذه الرحلة القريبة، كأنهم يستعدون لرحلة بعيدة جدًّا، لكن قياسات المسافات تختلف ما بين هنا وهناك، لذلك كانت تتعلم من التجربة، فالطرق كانت برية وغير معبدة وخالية، ولذلك غرزت السيارة في الرمال عدة مرات، فاستغرقت الرحلة إحدى عشرة ساعة، كما أنهم اتخذوا طريقًا آخر لا يمر بمكة لكونها مسيحية.

تذكر ماريانا صعوبة هذه الأيام في الطائف، فالبيت الطيني العتيق جدًّا، والذي كان مملوكًا للعثمانيين، والبئر التي في غرفتها، والماء الذي ينقل في طاسات للاستحمام، والخدم الذين يقبلون يدها كل يوم، والنساء اللاتي يدخن بشراهة، حيث إنها لم تر سيجارة في حياتها من قبل، والناموس الذي ينهش جسدها، جعلها تشعر أنها تعيش في خيالات بعيدة، وكانت أم زوجها تود أن تخفف عليها فدعت بعض البدو الذين اشتروا منهم جبن الماعز، أن يقيموا عرضة راقصة في حوش البيت لإبهاجها، لكن تلك العرضة أدخلتها في حالة مرضية من الحرارة والتخيلات التي لا تجعلها تنام. تؤكد ماريانا أنه لا يمكن لها أن تستطيع تجاوز تلك الأيام الصعبة، والفوارق الثقافية والتاريخية، وجودة الحياة بين حياتها هناك وهنا، لولا الحب والاهتمام الذي عاشته مع العائلة. كان للأم دور كبير في اندماج ماريانا، وكذلك لزوجة الأخ الأكبر «حياة» التي شاركت معها تفاصيل الحياة اليومية، وكانت دليلها في هذا العالم الجديد.

***

عاشت ماريانا في بيت الحريم كما تسميه – أو البيت العائلي الكبير الواقع في منطقة الرويس- في جدة، اثني عشر عامًا منذ ١٩٤٥ حتى ١٩٥٧م، تتشارك مع الجميع الواجبات الاجتماعية تجاه بعضهم الآخر، قليلًا ما كان الرجال موجودين بسبب انشغالهم بالتجارة أو بالأعمال الدبلوماسية. كنّ يأكلن معًا، يلعبن الكيرم، يخيطن، يكتبن الرسائل، لكنهن لا يخرجن من البيت أبدًا إلا في زيارات الأقارب من باب البيت إلى باب البيت. تقول ماريانا إنه مر عام كامل لم تلمس بيدها ريالًا واحدًا، كان التسوق من مهمة الخادمات، حيث إن بعضهن مهمتهن الأساسية هي التسوق، وعليهن أن يعرفن ذوق نساء البيت جيدًا، لقد كن يذهبن للسوق مرات عدة حتى توافق النساء على المشتريات اللاتي اخترنها.

لم يكن للوقت والساعة أي قيمة لدى النساء، فما الذي سيفوتهن؟ لكن ماريانا أربكها أنها فقدت متابعة الأيام الميلادية، فلا يُعرف هنا إلا التقويم الهجري، وحينما تكتب رسالة سترسلها إلى أميركا تقول كيف سأدون التاريخ؟ بالتاريخ الهجري؟ سيعتقدون أنني أرسلتها منذ مئات السنين؟ ربما كان هذا صحيحًا.

وعلى رغم أن المكان بعيد ومختلف عما ألفته ماريانا، إلا أن أكثر ما افتقدته هو ما اعتادت أن تقوم به في أميركا بشكل مألوف، ربما غيابه هنا منحه قيمة لم تكن تدركها من قبل.

لقد كانت تأسف أنها قريبة من البحر الأحمر لكنها لا تستطيع السباحة فيه، تحققت أمنيتها بعد سنوات حينما أخذها زوجها مع أمه والأطفال بعيدًا من المنطقة السكانية، ليسبحن وهن لم يتخلين عن غطاء وجوههن وعباءاتهن مرفوعة إلى الكتف.

كما أن حنينها إلى قيادة السيارة ورغبتها في التجول في شوارع جدة، جعلها تقود السيارة مرة مع زوجها في آخر الليل وهي ترتدي الشماغ فوق رأسها، لكن هذه الفرص الصغيرة كانت تلهب حنينها لما فقدته، ولا ترويه.

لقد كانت ماريانا تستغرب مواقف كثيرة من الكرم العربي، ولا تستطيع أحيانًا فهمه، كما أنه كان لديها لبس في مفهوم الملكية للبيت، فهل تقول بيتي؟ بيتهم؟ بيتنا؟ هل هو بيتي وهم معي جميعًا؟ وهذه الحساسية من الملكية عائدة إلى كونها قادمة من مجتمع رأسمالي إلى مجتمع عائلي وقبلي، لذلك كانت تستغرب كيف أن البدو يزورون بيتهم، ويقفون عند الباب للارتواء من المياه التي لديهم، مع ماشيتهم بلا مقابل. وعلى رغم أن عائلة «علي رضا» عائلة ثرية، ولكن مهما كان ثراؤها فهي في وسط بيئة وإمكانيات ضعيفة، تذكر حينما أحضر أخو زوجها الثلاجة، ووضعها في المجلس، وقال لها: هذه الثلاجة مسؤوليتك لأنك تعرفينها، فكرت.. وما الصعوبة في استخدام الثلاجة؟ نفتح الباب ونغلقه؟ لكنها انتبهت أنه لا توجد لديهم كهرباء، إلا مولد ضعيف يعمل أحيانًا في الليل وفي المناسبات الكبيرة.

هذه الثلاجة تعمل بغاز الكيروسين وعليها تغيير الثلج بداخلها، حيث سيحضر عامل الثلج كل يوم، حينما رأت الآلة التي مع الرجل الذي يحضر الثلج، قالت له ببهجة: تستطيع أن تصنع آيس كريم! شرحت له الطريقة.. وأكلت هي والعائلة لأول مرة آيس كريم في جدة. كما أنها أعدت شايًا مثلجًا رأته مناسبًا في هذه الأجواء أكثر من الشاي الحار، ولكن المشروبات الباردة لم تعجبهم.

كل عام احتفلت العائلة معها بالكريسمس والإيستر، حتى كبار العائلة يمرون للسلام عليها في هذين اليومين، ويؤكدون لها كل مرة أن المسلمين بعد ذكر اسم عيسى يقولون «عليه السلام». كانت شجرة الكريسمس أحيانًا غصنًا يابسًا من الصحراء، وتبدأ هي والأطفال جميعًا بتزيينها، ولكن في الخمسينيات بدأت بعض التغيرات الاقتصادية تظهر، فأسواق جدة تمتلئ بالبضائع الأميركية لتزيينها. لم يسألها أحد يومًا ما لماذا لا تغيرين دينك؟ كان دائمًا هناك احترام لاختلافها.

شعرت ماريانا أن العائلة تحتاج إلى بهجات أخرى غير عيد الفطر والأضحى، يكسر الروتين اليومي، لذلك اتفقت مع نساء البيت ما عدا «أمنا» أن يجهزن لها عيدًا مفاجئًا في عيد الأم، يحتفلون بها، صنعن الكعك، وخبزن الخبز، واحتفل الأطفال ومنحوها الهدايا.

دائمًا ما كان البيت يستضيف الحفلات والولائم، لم يكن للنساء حضور المناسبات الرجالية، يجتمعن جميعًا مع الأطفال في غرفة «أمنا» ويطلون من البلكونة للأسفل لتأمل الاحتفالات، وقد رفضت ماريانا غاضبة أن تأكل من بقايا أكل الرجال بعد عزيمة فاخرة، واستجابت العائلة لها، وأمر زوجها الخدم أن يجهزوا دائمًا سفرتين. ولم يسمح لها بالحضور إلا إذا كانت الحفلة مختلطة وأغلبهم أجانب، وكانت المرأة الوحيدة التي يسمح لها بذلك.

الرحلات خارج جدة

تنقلت ماريانا مع زوجها في رحلاته الدبلوماسية إلى مصر، وبريطانيا، وفرنسا وأميركا. ولم تكن الرحلات آنذاك بتلك السهولة، فمرة لم تجد لها ولطفلتها مقعدًا في الطائرة، فسافرت وحدها إلى بريطانيا بالباخرة، وهي تنقل معها كراتين فاكهة وموز، جهزتها فيما بعد داخل سلة خشبية هدية للأمير فيصل بن عبدالعزيز والذي أبهجته الهدية، ولذلك أرسل الوفد السعودي سلة فاكهة إلى قصر باكنغهام وأخرى إلى رئيس الوزراء كلمنت أتلي.

خلال هذه الرحلات الصعبة، والتنقلات المفاجئة لزوجها، كانت ماريانا تعيش دور المرأة العربية التي تكون في الخلف كما تقول، فلم يكن لها أي ظهور أو وجود رسمي، على رغم أنها كانت أحيانًا تساعده في كتابة الخطابات أو تجهيز الاجتماعات.

حينما تزداد الحرارة في الصيف تنتقل العائلة هروبًا من جو جدة الحار إلى بلد بارد، كفرنسا أو لبنان، أو حتى إلى منطقة جبلية اسمها أسمرة في أريتيريا، تذكر ماريانا القصر الفاخر الذي سكنوا فيه، ذا حديقة خلفية واسعة، وكان مملوكًا للجيش الإيطالي، كان رجال العائلة يذهبون معهم بداية الرحلة، ثم يتركون النساء والأطفال ويعودون إلى جدة أو إلى أي جهة أخرى فيها أعمالهم التجارية والدبلوماسية. تصف ماريانا رحلتها إلى أريتيريا بالمبهجة وخصوصًا في التسوق، لقد كن مبتهجات أنهن يستطعن أن يرين كل الألوان وأن يخترن بأنفسهن، ويلامسن الأقمشة.

لقد أنجبت ماريانا خمسة أطفال، وعاشت حياتها متنقلة ما بين أميركا وجدة.

***

«عند سقوط الحجاب»، أي حجاب تقصد ماريانا؟

لقد صدر الكتاب باللغة الإنجليزية عام ١٩٧١م، وترجم إلى اللغة الألمانية والبلغارية، ولا توجد أي نسخة عربية، ثم طبع مرة أخرى عام ١٩٩١م وأضافت ماريانا مقدمة للكتاب، ذكرت فيها التغير الاقتصادي السريع للمملكة الذي انعكس على شكل المدن، وطرقها وخطوطها الجوية بشكل مذهل، والتغيرات في الهوية إذ كانت الهوية أقرب للمناطقية ولكنها الآن أمة واحدة، ويبدو ذلك جليًّا حينما استخدمت ماريانا في الكتاب دائمًا لفظ (العربية- آرابيا) في دلالة على المملكة العربية السعودية، في حين أنها رمزت لها بالعربية السعودية من خلال المقدمة التي أضيفت لاحقًا. كما أن غلاف الكتاب الأول كان العنوان الفرعي فتاة كاليفورنية في الحريم العربي، في حين تغير العنوان الفرعي إلى فتاة أميركية في الحريم السعودي في النسخة الأخيرة.

أكدت ماريانا أن الإسلام منح المرأة حقوقًا قبل أن تمنحها حضارات أخرى، ولكن الثقافة السائدة جعلت الرجل هو المسيطر في المجتمع، لذلك يبدو مجتمعًا ذكوريًّا. أما الإسلام الذي عرفته في الأربعينيات والخمسينيات فكان بسيطًا وثابتًا، أقرب أن يكون دينًا يوميًّا وشخصيًّا وليس وعظيًّا، كما أنه ليس كالإسلام الذي تراه الآن – تقصد التسعينيات- متذبذبًا.

الناس هنا يقولون لي: «كم هو مدهش أنكِ استطعتِ أن تعيشي هناك بسلام وتصالح، ولكنني أقول لهم: المدهش هو الحب والاحترام الذي منحته العائلة، لامرأة مسيحية ومختلفة عنهم في مجتمع متجانس ومتشابه. لو كان لي الخيار أن أعيد التجربة مرة أخرى هل سأفعل؟ بلا شك، لا يمكن أن أجعل هذه التجربة تفوتني».

هذه سيرة ماريانا التي دونت فيها حياتها ما بين ١٩٤٣م – ١٩٦٣م، وإن كانت ماريانا كتبتها على شكل سيرة ذاتية إلا أنها سيرة مجتمعية مهمة لمعرفة مرحلة مهمة في تاريخ العائلات السعودية، وتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ووضع المرأة السعودية وواجباتها داخل العائلة. ربما لم تدون ماريانا كثيرًا من التفاصيل خارج إطار البيت الكبير نظرًا لعدم قدرتها على السير في أزقة المدن، فلقد ذكرت مثلًا أنها كانت تتمنى لو أنها تستكشف الطائف وتمشي في شوارعها، ولكن ليس في ذاكرتها إلا بيت عتيق، وقردة، وشح في المياه. وبسبب قرب العائلة الدبلوماسي من العائلة المالكة، فلقد شهدت العائلة مواقف مهمة في تاريخ المملكة، ولذلك دونت ماريانا كثيرًا من هذه المواقف، مثل الاحتفالات المذهلة بالملك سعود إبان تنصيبه ملكًا في بيتهم، التي لم يكن لها إلا كالعادة إلا أن تطل من أعلى البلكونة لترى كمتفرجة، كما أنها ذكرت تفاصيل العلاقات الوثيقة التي ربطت العائلة بالملك فيصل وعائلته، ومعها بشكل خاص.

في هذا الكتاب وصف دقيق لأشكال البيوت، والأزياء، ونوع الأغذية وطرق الحصول عليها، والتعامل اللطيف مع الخدم أو المملوكات، وطبيعة العلاقات الإنسانية في تلك المرحلة.

على الرغم من أن ماريانا تزوجت رجلًا من عائلة ثرية، وكان ذلك واضحًا من نمط الحياة الذي عاشته، فكان التعليم واللغتين الإنجليزية والفرنسية مهمتين لأطفال هذه العائلة منذ صغرهم، والسفر جزء من ثقافتها والاطلاع على ثقافات الآخرين وتقبلها، إلا أن العائلة لم تستطع أن تخرج من الإطار الاجتماعي الصارم في المنطقة، وثرائها لم يستطع أن يجود حياتها بشكل تام ومكتمل، بل كانت تعيش في تذبذب بين الحياة العتيقة، والحياة الفاخرة في الوقت نفسه.

كامرأة من هذا المجتمع، لا أتخيل نفسي أعود للوراء سنوات عدة ليست بالبعيدة لأعيش حياتها، على رغم تلاشي حاجز اللغة والدين الذي كان لدى ماريانا.  ماريانا استطاعت أن تنجح في تكوين أسرتها في مرحلة بدايات نشوء المملكة، كان دافعها الحب وربما أيضًا المغامرة.

من المبهج والداعي للفخر أن نرى كيف تغيرت المملكة بشكل متسارع وحضاري منذ دونت ماريانا شكل البيوت المتواضعة والتي لا تمتلك أيسر مقومات جودة الحياة، والشوارع البرية غير المعبدة، والمطارات التي بلا مبانٍ وبلا مواعيد، كما دونت دموعها وخوفها عند مرض أطفالها ولا توجد إلا عيادة طبية واحدة في جدة، وكيف أصبحت البنية التحتية للمملكة الآن. والمهم أيضًا هو التغير الاجتماعي الذي رافق التغير الاقتصادي للمرأة السعودية منذ بداية تعليمها حتى دخولها سوق العمل، والتطورات الأخيرة في حقوقها وقيادتها السيارة ومناصبها القيادية.

إن سيرة ماريانا في بدايات تكون المملكة مرجع لنقطة تاريخية مهمة انطلقت من بعدها المملكة دولةً فتيةً وطموحة، وكيف تغيرت مسيرة المرأة السعودية، ويمكننا أن نرى في السنوات الأخيرة كيف حرقت المسافات. كما أنه مرجعية لمرحلة تعكس بساطة الناس في تعاملهم الديني مع الآخر، ومقدرتهم العالية على التقبل والاحترام والمشاركة دون الخوف من المساس بدينهم.