جاك شيراك الرجل ذو اليد السحرية لم ير في اكتشاف أميركا لحظة تاريخية عظيمة وعد كولومبوس مجرد قاتل

جاك شيراك الرجل ذو اليد السحرية

لم ير في اكتشاف أميركا لحظة تاريخية عظيمة وعد كولومبوس مجرد قاتل

في الثلاثين من سبتمبر الماضي، ودعت فرنسا رئيسها الأسبق جاك شيراك (1932- 2019م). سياسي «ملأ الدنيا وشغل الناس» طوال أكثر من نصف قرن: عارَض غزو العراق، وأخرَج السوريين من لبنان، وتحدى الجنود الإسرائيليين في أحياء القدس القديمة… من هذا الرجل الذي كان يقرأ الشعر في السر، وخرج من قصر الإليزيه وأسهمُه في الحضيض، وأصبح في خريف حياته أكثر السياسيين شعبية في فرنسا!

اليد التي…

يد تلوّح من سيارة تبتعد ببطء من قصر الإليزيه. المراسيم رسمية. سياسيون وعسكريون وموظفون سامون يهزون أيديهم في وداع أخير. السيارة سوداء، والتأثر بالغ على الوجوه. بعضٌ يصفق وآخرون يمسحون الدموع، على إيقاع موسيقا عسكرية… إنها جنازة جاك شيراك الأولى: في 16 مايو 2007م، دُفن شيراك السياسي، بعد خمسين سنة كاملة تنقل فيها بين أعلى المناصب في الجمهورية الفرنسية، اثنتا عشرة سنة رئيسًا للبلاد (1995- 2007م)، وأربع سنوات في رئاسة الوزراء، سنتان في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان (1974- 1976م) ومثلهما في ولاية الرئيس فرانسوا ميتران (1986- 1988م)، وسبع عشرة سنة في رئاسة بلدية باريس (1977- 1995م) وما تبقى برلمانيًّا عن دائرة كوريز، بلدة أجداده، وزعيمًا لحزب اليمين التقليدي، الذي غيّر أسمه أكثر من مرة.

ولعل أكثر ما سيبقى في أذهان الفرنسيين من جاك شيراك هي اليد التي ودعتهم في ذلك الأربعاء البعيد، وتركتهم بين يدي رئيس آخر، بأسلوب مختلف، نيكولا ساركوزي (2007- 2012م)، الذي سرعان ما تخلوا عنه بعد خمس سنوات. قوة شيراك السياسية كانت في تلك اليد السحرية، التي تشتبك بحرارة مع أيدي الآخرين، أيًّا كان لونها أو عرقها أو العروق الناتئة منها. الرئيس الراحل، قضى حياته يصافح البسطاء في الشوارع والساحات والبلدات الصغيرة والعواصم البعيدة، لم يكن يتردد في الالتحام بالحشود، سواء في بلدته كوريز أو الرباط أو بيروت أو القدس أو الجزائر أو داكار أو نيامي أو باماكو… يمد يده ويصافح الناس بعفوية وحماس. باليد نفسها، كان يربِّتُ على ظهر بقرة أو حصان في معرض الزراعة، وابتسامة طفل على محياه. معرض الزراعة في فرنسا، ليس مجرد حدث تجاري أو استعراضي، بل رهان سياسي يختبر فيه المتنافسون شعبيتهم. امتحان حقيقي يجعل السياسيين مجبرين على التجول بين أروقة المعرض لساعات عدة، أمام وسائل الإعلام؛ كي يعطوا الانطباع بأنهم قريبون من الفلاحين، الذين يشكلون كتلة ناخبة لا يستهان بها. في هذا الامتحان العسير كان شيراك يتقدم على كل منافسيه؛ لأنه كان عفويًّا، يحب الأكل والشرب ومصافحة الناس الحقيقيين. السر في اليد. تلك اليد السحرية ذاتها التي ضربت بقوة على الطاولة عام 2003م لتعلن رفض فرنسا غزو العراق.

شيراك العربي

في منتصف الخمسينيات، جُنِّدَ الشاب جاك ضابطًا في الفيلق الثالث لقناصة إفريقيا المرابط بألمانيا، بعد أن أنهى دراسته في «المدرسة الوطنية للإدارة»، مصنع النخبة الحاكمة في فرنسا، ومباشرة بعد زواجه من زميلته في الدراسة بيرنارديت شودغون دو كورسال، التي سترافقه طوال العمر، ذهب إلى الجزائر حيث كانت تقرع طبول الحرب بين فرنسا وجبهة التحرير. في مذكراته، التي صدرت في جزأين، يعترف شيراك أن أكثر ذكرى هزت كيانه خلال حرب الجزائر، هي «عندما مات بين يديه شاب مسلم لا يتجاوز الخامسة عشرة من العمر»؛ بسبب انفجار لغم بالقرب منه، «عندما فتحت قميصه اكتشفت ثقبًا أحمر في صدره: شظية لا مرئيّة اخترقت جسده واستقرت في القلب»، ويضيف شيراك: «بكثير من الارتباك، حاولت أن أسعفه وأن أعيد إليه الحياة، لكن الأوان كان قد فات». رغم أن موقفه كان مساندًا لبقاء الجزائر تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي، فإن سلوكه العسكري كان مشرفًا. عندما عاد إلى الجزائر المستقلة عام 2003م، في زيارة رسمية، قرأ له الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة فقرة تخصه ضمن مذكرات أحد قادة جبهة التحرير، أيام الحرب: «كان هناك في ولاية وهران وحدة يقودها شخص اسمه شيراك، ولا يسعني إلا أن أشيد بهذا الضابط الفرنسي، الذي كان يعامل الناس معاملة حسنة».

كانت لشيراك نزعة إنسانية رفيعة، تجعله يميل تلقائيًّا إلى الأضعف، وهو ما جعله يتخذ مواقف بوَّأته مكانة مرموقة على المستوى الدولي. مع شارل دوغول (1958- 1969م)، يعدّ شيراك أكثر الرؤساء الفرنسيين شعبية في العالم العربي. سواء في موقفه مِن الصراع العربي الإسرائيلي، أو انخراطه الكامل في الدوامة اللبنانية، أو في علاقته مع الدول المغاربية وبلدان الخليج… كان يبدو دائمًا قريبًا من العرب، حريصًا على السلام والاستقرار في المنطقة، على الطرف النقيض من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين. ولعل ذروة شعبيته سجلت عام 2003م، عندما رفض -بكل ما يملك من حكمة- غزو العراق، محذرًا من عواقب ذلك على المنطقة، واتهم الأميركيين بـ«تغليب القوة على القانون»، مهددًا باستعمال حق النقض في مجلس الأمن. وقتها، قدم دومينيك دوفيلبان، وزير الخارجية وأحد أقرب المقربين من شيراك، مرافعة تاريخية على منصة الأمم المتحدة، بصوته الجهوري وقريحته الاستثنائية، مستهلًّا خطابه بهذه العبارات: «إن بلدًا قديمًا، هو فرنسا، وقارة قديمة، هي قارتي، من يخاطبونكم اليوم»… هكذا وجدت فرنسا نفسها جنب ألمانيا وروسيا ضد الولايات المتحدة وبريطانيا، وأعادت الاعتبار للإرث الديغولي في السياسة الخارجية. ارتفعت شعبية شيراك في الشارع العربي، حتى أصبح يسمى بـ«شيراك العربي»، (وهو عنوان كتاب ألفه إيريك أيشيمان وكريستوف بولتانسكي: «شيراك العربي، سراب سياسة فرنسية»، دار غراسي، 2006م).

سنوات قبل موقفه من حرب العراق، كان شيراك قد كسب ودّ العرب بمناسبة زيارته التاريخية إلى الأراضي الفلسطينية عام 1996م. لم يكن رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها سوى بينيامين نتنياهو. أصر شيراك على زيارة أحياء القدس القديمة، الخاضعة للاحتلال، من أجل ممارسة هوايته المفضلة؛ مصافحة الناس البسطاء. لم يستطع نتنياهو أن يمنعه، لكنه بذل جهدًا كبيرًا لإفشال جولته بين حارات المدينة العتيقة. كان الجنود الإسرائيليون يلاحقون الرئيس الفرنسي والوفد المرافق له في كل مكان، ولا يترددون في تعنيف الصحافيين الذين يغطون الزيارة، وهو ما أثار حنق الرئيس. عندما وصل شيراك إلى كنيسة «القديسة آن»، واكتشف أن كتيبة من الجنود الإسرائيليين تنتشر حولها، وقف أمام الباب وصاح فيهم غاضبًا، باللغة الإنجليزية: «تريدون أن أركب طائرتي وأعود؟ هذا ليس أمنًا هذا استفزاز»… ولعلها من أشهر العبارات التي بقيت عالقة في أذهان الإسرائيليين، الذين اضطروا على مضض إلى سحب جنودهم من أحياء القدس القديمة، بأمر من نتنياهو!

عندما أُعلنت وفاة جاك شيراك، كان لبنان البلد الوحيد في العالم الذي نكّست فيه الأعلام، حدادًا على «صديق لبنان الكبير»، وهو ما يعكس الدور المحوري الذي لعبه شيراك في بلد الأرز، خلال عقدين حرجين من تاريخه. كانت تربطه صداقة متينة برئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. في البداية، لم يكن شيراك ضد وصاية دمشق على بيروت، بل كان يعدّها عامل استقرار، لكن فرنسا كانت تحتضن على أراضيها أحد أشرس المناهضين للوجود السوري في لبنان، ميشال عون. حاول شيراك أن يحافظ على علاقات جيدة مع سوريا ولبنان في الوقت نفسه. كان الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر جنازة حافظ الأسد، واحتضن ابنه بشار. لكن إصرار دمشق على تمديد ولاية الرئيس إيميل لحود، أغضبت شيراك وجعلته يمضي قدمًا في استصدار القرار 1559، الذي ينهي الوجود السوري في لبنان، كان ذلك في سبتمبر 2004م، بتنسيق مع الأميركيين. وعندما اغتيل صديقه رفيق الحريري في فبراير 2005م، ضغط بقوة كي يجري تنفيذ القرار الأممي، كما نزل بثقله من أجل إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، تحت إشراف الأمم المتحدة، للوصول إلى القتلة. وعندما غادر شيراك قصر الإليزيه، استقر مدة في بيت باريسي تملكه عائلة الحريري. مع المغرب أيضًا كانت تربطه علاقة متينة مع الملك الراحل الحسن الثاني. تكريمًا لهذه الصداقة، دعاه لحضور العيد الوطني الفرنسي، في الرابع عشر من يوليو 1999م، أياما قليلة قبل وفاته. بعد ذلك ربطته علاقة خاصة أيضًا مع ابنه الملك محمد السادس. وكان يتردد كثيرًا على المغرب، لدرجة أن سكان مدينة تارودانت، جنوب المملكة، كانوا يرونه واحدًا منهم؛ لكثرة العطل التي كان يقضيها هناك في فندق «الغزالة الذهبية».

«الوعود لا تلزم إلا من يصدقها»

إذا كانت مواقف شيراك الدولية بوَّأته مكانة عالمية مرموقة، فإن حصيلته في مجال السياسة الداخلية لا تحظى بإجماع الفرنسيين. الوعود كانت كبيرة والإنجازات صغيرة، ولا غرابة في ذلك؛ لأن شيراك هو من أبدع مقولة ماكرة، استقرت في المعجم السياسي الفرنسي: «الوعود لا تلزم إلا من يصدقها».

كما أن مدة رئاسته الطويلة لبلدية باريس، تركت نقاطًا سوداء في سجله السياسي؛ إذ ظلت تطارده قضية فساد ترتبط بوظائف وهمية لفائدة أعضاء من حزبه، جعلت العدالة تدينه بسنتين حبسًا مع وقف التنفيذ عام 2011م، بعد ماراثون قضائي، أثر كثيرًا في صورته وسمعته. لكن، في النهاية، بعد أن انقشعت الحسابات والمناورات السياسية التي كانت تحجبه، انتصر العمق الإنساني لجاك شيراك وأصبح أكثر الشخصيات شعبية لدى الفرنسيين.

في الوقت الذي يتباهى فيه كثيرون بسعة ثقافتهم، كان شيراك يصنع العكس. وجدير بالتذكير أن عراب شيراك، الذي أدخله إلى المعترك السياسي، هو جورج بومبيدو (1927- 1974م). الرئيس الذي خلف شارل دوغول وتوفي قبل إتمام ولايته، كان يسمي الشاب جاك بـ«البلدوزر»، لقدرته على اكتساح المصاعب وتذليل العقبات. بومبيدو كان عاشقًا كبيرًا للشعر، لدرجة أنه ألف «أنطولوجيا الشعر الفرنسي» عام 1961م. وقد ظل شيراك وفيًّا لعرابه في كل شيء، حتى في شغفه بالأدب، لكنه حرص على إخفاء ذلك، كما حرص على كتم إعجابه بـ«الفنون الأولية» (Les arts premiers). كان يفضل أن يعطي نفسه صورة سياسي سطحي، يفضل تصفح مجلة إيروتيكية على كتاب أدبي!

يروى عنه أنه كان يقرأ قصائد سان- جون بيرس في البرلمان، بعد أن يخفيها في مجلة «بلاي بوي» الفضائحية؛ كي يعطي انطباعًا خادعًا عن ثقافته. وعندما استقال من منصبه رئيسًا للوزراء عام 1976م، كانت عنده في المكتب خزنة سرية. حين فتحها وكان بصدد إفراغها قال مدير مكتبه ساخرًا: «أخيرًا سنتعرف إلى قراءات شيراك الإيروتيكية!» وكم كانت مفاجأته كبيرة عندما رَآه يخرج من الخزنة دواوين ومجلات تُعنَى بالشعر العالميِّ. شيراك قطع الطريق على أي تعليق: «صورتي، حتى أمام المقربين، لا تعطيني الحق في حب الشعراء»!

متحف الرئيس جاك شيراك، ساران، فرنسا

شيراك المتحف

ولعل هذه العلاقة السرية التي ربطها شيراك مع الشعر والفنون، هي ما كان يغذي نزعته الإنسانية، ويعطي لمواقفه بعدًا كونيًّا و«لمسة شعرية» في بعض الأحيان. حتى إن فقرات من خطبه أصبحت أقوالًا مأثورة. لا يمكن الحديث عن خطر التغير المناخي على الكوكب، من دون استحضار كلمته في «مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة» بجوهانسبرغ، في الثاني من سبتمبر 2002م، عندما صعد إلى المنصة وألقى بهذه العبارة المربكة: «بيتنا يحترق، ونحن ننظر في اتجاه آخر»!

كان شيراك راديكاليًّا في مناهضة النظرة المركزية الغربية، يؤمن بالإنسان، ولا يحب فلسفة الأنوار لأنه يراها واثقة من نفسها أكثر من اللازم. يرى أن الثقافات متساوية، لا تراتبية بينها، لكل واحدة خصوصيتها. الشعوب أيضًا. عام 1992م، عندما كان عمدة لباريس، اتصل به ملك إسبانيا خوان كارلوس؛ كي يشرك العاصمة الفرنسية في الاحتفالات بـ500 سنة على «اكتشاف العالم الجديد» من طرف الإسباني كريستوف كولومبوس، لكن شيراك ردّ عليه: «أما أنا، فهذه ليست لحظة تاريخية عظيمة»، وأضاف: «كريستوف كولومبوس مجرد قاتل» بدل الاحتفال بذكراه، سنخلد ذكرى حضارة «تانيوس»، التي أبادها الإسبان، رغم أنهم كانوا أول من استقبلهم في القارة الأميركية. «كانوا مليون شخص عندما وصل الإسبان، ومات آخرهم بعد ستين سنة». وفعلًا، عام 1994م، احتضن «القصر الصغير» في باريس معرضًا حول حضارة «تانيوس»، التي تعرضت للإبادة على أيدي الغزاة البيض. كما أشرف شيراك، إبان ولايته الرئاسية، على إنشاء جناح للفن الإسلامي في متحف «اللوفر»، الذي أصبح اليوم من أهم الأجنحة في المتحف الفرنسي العريق.

اليوم، جاك شيراك ليس شارعًا أو مطارًا أو بناية رسمية، إنه متحف: «كي برانلي، للفنون الأولية».

في «كي برانلي» -الذي افتتح عام 2005م وأصبح يحمل اسم متحف جاك شيراك ابتداءً من عام 2014م- لوحات ومنحوتات وقطع فنية من إبداع الشعوب الأصلية؛ من إفريقيا وآسيا وأميركا وأستراليا. كل الشعوب المبادة والمنسية والمضطهدة وجدت ملجأً في متحف شيراك، الذي كان إحدى آخر معاركه، النضال «من أجل أن تولد التحف الفنية حرة ومتساوية في العالم كله»!