الرواية التاريخية الحديثة: من تسريد التاريخ إلى تأريخ السرد دراسة في الثالوث الروائي للموريتاني أحمدو بن عبدالقادر

الرواية التاريخية الحديثة: من تسريد التاريخ إلى تأريخ السرد

دراسة في الثالوث الروائي للموريتاني أحمدو بن عبدالقادر

لقد صار من الوارد جدًّا في الدراسات السردية الحديثة التساؤل عن مصادر المؤلف الروائي وتقنيته في بناء شخصياته النمطية وملء «السديم» الروائي بالأحداث والمتواليات الدرامية، وتحريك دمى الرواية في مربعات موزعة بعناية دقيقة على مفاصل السرد وتذبذباته المتداخلة. وفي هذا الأفق النقدي تطمح هذه المقالة إلى الإبانة عن المصادر التي استند إليها الروائي أحمدو ولد عبدالقادر في إنتاج ثالوثه الروائي، كما ينظر أيضًا في أفق الاستقبال إلى ما يمكن أن تحكم حوارية القارئ مع هذه المادة السردية.

أولًا: التاريخ الروائي: الدلالة والاصطلاح

هناك أدبيات كثيرة حاولت التنظير لعلاقة الرواية بالتاريخ من جهة، وبالواقع من جهة أخرى. وفي هذا السياق يحاول ميشال فانوستيز أن يوضح بعض الأبعاد المنهجية والنقدية على مستوى هذه العلاقة الشائكة: «يمكن أن نعتبر الرواية التاريخية (…) المحل الأفضال(…) الذي تجد ﻓﻴﻪ جدلية الواقع والممكن أنسب مجال للتحقق،  ويمكن أن تثار ﻓﻴﻪ ﺤركة النوسان هذه بين الاعتقاد وعدم الاعتقاد، كما يكون ممكن الرواية مهددًا ﻋﻠﻰ الدوام بالذوبان ﻓﻲ واﻗﻊ ضروب خطاب المعرفة، بين مصادرتين فإما أن يثبت أنه ﻗﺼﺔ متخيلة، أو أن ينتفي ﻋﻠﻰ  نحو ما حتى ينكتب ﻓﻲ ظل الواقع، أي ﻓﻲ ظل النماذج القائمة» .لقد هيمن المنحى التاريخي على الروايات العربية في مبتدأ نشأتها، فوظفته كما يرى جميل حمداوي في أربعة أشكال:

– رواية التوثيق التاريخي: (وزير غرناطة لعبدالهادي بوطالب نموذجًا).

– رواية التشويق الفني للتاريخ: ( روايات جورجي زيدان ).

– روايات التخييل التاريخي: (الزيني بركات لجمال الغيطاني، ومجنون الحكم والعلامة لبنسالم حميش، وجارات أبي موسى لأحمد توفيق، وثلاثية غرناطة لرضوى عاشور).

  الرواية ذات البعد التاريخي: (كل الروايات العربية ذات الطرح التاريخي ﻋﻠﻰ المستوى المرجعي كرِوايات عبدالكريم ﻏﻼب  وبخاصة دﻓﻨﺎ الماضي، وروايات نبيل سليمان، وروايات نجيب محفوظ).

هاني الراهب

ورجوعًا إلى إشكالية تخريج مصادر المادة الروائية، نقرر أن معالجتها تتطلب الاشتغال على ثنائية الكتابة/ التلقي، كمرجع موثوق لتشريح جسم العمل الروائي والبحث في مصادره وتناصاته المتعددة الروافد. ومنطلقنا في ذلك عَدّ الروائي قارئًا قبل أن يكون منتجًا/ كاتبًا، يسائل التاريخ، ويحاول بعث كائناته وأزمنته من جديد، وإعادة بناء حلقات هرمه المفقود. إنه يقوم بحفريات شبه كرونولوجية في مقاطع محددة من العصور التاريخية. ويمارس القارئ هو الآخر الحفريات نفسها في بنى المتن السردي، بوصفها معادلًا للواقع الذي تشتغل عليه الرواية، فيقوم بلملمة أطراف منعطفاته المتتالية، وإعادة تركيب شذراته المبعثرة، لوضع يده في النهاية، على مخرجاته المختلفة. وهنا أجد في نفسي حاجة لمسايرة عرف دأب عليه منظرو الرواية، المولعون بالتقسيمات المنطقية لمكونات النص الروائي، وتتمثل في اقتراح عنونة تفكيكية لتجليات البعد التاريخي في المدونة الروائية قيد الدرس، وذلك على الرغم من تحفظي على جدوى المردودية العلمية لهذه التفريعات؛ لأنها تبقى غالبًا مجرد عناوين طافية على سطح الخطاب التنظيري، ومن دون امتدادات تطبيقية، ذات قيمة إجرائية وجيهة.

وستتمحور هذه التفريعات حول إشكالية العلاقة بين الرواية وبين التاريخ، وحول تقنيات التوظيف والاستحضار… إلخ.

ثانيًا: الرواية والتاريخ: من إشكالية العلاقة إلى تقنيات التوظيف

لقد كانت الكتابة الروائية حدثًا فنيًّا في الساحة الأدبية العربية، مكن الأديب العربي من أن يشهر قلمه ويغمسه في بركة مجتمعه الراكدة، بالطريقة التي يراها مناسبة له، متحررًا من وصاية المرجع الخام ليعيد تشكيله وفق رؤية جديدة، مستلهمًا التاريخ من أجل تحيينه وإعادة بنائه رمزًا دالًّا ومحملًا بمرسلات متفاوتة التشفير، لاستدراج القارئ ليكون طرفًا في «لعبة تدليل» لا تاريخية، وهذا ما حاول قاسم عبده قاسم التعبير عنه في النص التالي:

«وهكذا كانت الرواية، في نشأتها، تجسيدًا لعقلانية الاستنارة التي انبنى عليها مشروع النهضة في محاولة تأصيل الوعي المدني وإشاعته بين أبناء الأمة، وفي سعيه إلى استبدال وعي المدينة الحديثة، متعددة الجنسيات والثقافات والاتجاهات، بوعي المدينة القديمة المنغلقة على نفسها في نفورها من الآخر. وبالقدر نفسه كانت الرواية مقترنة بالتسامح الذي يواجه التعصب، والعقل الذي يواجه النقل، والابتداع الذي يواجه الاتباع، والمستقبل الواعد الذي يواجه ثوابت الحاضر، فكانت دعوة إلى التغيير وتمثيلًا له بحثًا عن سر التقدم وتأكيدًا له، وكشفًا عن عناصر التخلف القمعية ومواجهة لها في مستوياتها المتعددة وتجلياتها المتباينة».

ويمكن القول: إن تراكمات الإبداع العربي في مجال الرواية التاريخية بتوجهاتها المختلفة باتت تشكل مدونة مرجعية، تسمح للأجيال اللاحقة من التناص معها في مستوياتها الفنية المختلفة، وقد ظهرت هذه الرواية في وقت مبكر من العصر العربي الحديث، كما تشهد به هذه الأسماء التي أوردناها على سبيل التمثيل لا الحصر الموزعة بين خارطة العالم العربي، مثل مارون عبود من لبنان في خواطره، ويحيى حقي من مصر في فولكلورياته، وإميل حبيبي من فلسطين، في استخداماته التراثية، وهاني الراهب من سوريا، في تقاطعاته مع ألف ليلة، ومحمود المسعدي من تونس، في شبه مقاماته، والطاهر وطار من الجزائر في توصيف بيئته، وعبدالرحمن منيف من السعودية في أجيال مدن الملح وأرض السواد، وعبدالله العروي من المغرب الأقصى في الحس التاريخي للمجتمع، وغائب طعمة فرمان من العراق في روي الحركة الوطنية، ناهيكم عما استخدمه إدوارد الخراط وشكري عياد من مصر، وفؤاد التكرلي وعبدالرحمن مجيد الربيعي من العراق، ومؤنس الرزاز وموسى الأزرعي من الأردن، وأحمدو ولد عبدالقادر من موريتانيا، والطيب صالح من السودان وغيرهم من الذين كانت لهم رؤاهم عن تاريخ مستلهم لا مقروء.

لقد أدى ظهور المستعمر المفاجئ في ساحة الشناقطة إلى الدفع بالشعب الموريتاني إلى استقطاب غير مسبوق حول قضية الدفاع عن وجوده المهدد في كل أبعادة الدينية والثقافية والسياسية، وقد نجحت الرواية في جذب كل أصوات الطيف الاجتماعي إلى بؤرة ردة الفعل الجمعية تحت راية الجهاد/ المقاومة، قبل أن تسفر مخرجات المواجهة عن ولادة فضاء اجتماعي جديد، يتميز فيه البطل الروائي ببحثه عن هوية جديدة لحياته، تكون متساوقة مع النسق الحضاري للمجتمعات الحديثة، كإبدالية شبه قطائعية، وفق ما أبانت عنه البنية العامة التي قاد إليها تحليل المدونة الروائية في الباب الأول.

غائب طعمة فرمان

ولكن قد نتساءل كيف يحول الروائي المواقف الفردية إلى تاريخ له صفة التعميم على المقطع التاريخي الممارس، وبعبارة أخرى هل يمكن أن يصبح الفردي رمزًا وكناية عما هو جمعي، فأبطال الرواية وفي مقدمتهم سيفيل بوجناح وسميدع يجسدون ولادة نموذج إنساني جديد، يخترقه وعي الكاتب كتعبير عن تموقعه السياسي، وعن انتمائه لحركة الكادحين الطلائعية، وهذا ما يمنح الرواية شرعيتها الواقعية، رغم صدورها عن المتخيل والنسبي، فهذه الواقعية «المسرودة» هي سمة للعمل الروائي الملتزم فنيًّا وأيديولوجيًّا، كما كتب لوكاش:

«إن الحدث كملتقى لتلك الأفعال المتبادلة المتشابكة في ممارسة الإنسان، والصراع كشكل أساسي لهذه الأفعال المتبادلة الكفاحية والمليئة بالتناقض، يعكسان عبر التوازي والتضاد.. شكلين تمارس فيهما النوازع البشرية فعلها التآزري والتنازعي. كل هذه المبادئ الأساسية للتأليف الأدبي تعكس، في تركيز إنشائي، الأشكال الأساسية الأعم والأعمق ضرورة للحياة ذاتها. ولكن الأمر لا يتعلق بهذه الأشكال فحسب. إن الظواهر العامة النموذجية ينبغي أن تصير بذات الوقت إلى تصرفات خاصة، نوازع شخصية لأناس معينين، والفنان هو الذي يبتكر أوضاعًا ووسائل تعبير يمكن بواسطتها أن يظهر حسيًّا كيف تشتق هذه النوازع الفردية أطر العالم الفردي المحض. هنا يكمن سر النهوض بالفردية إلى مستوى النموذجي، من دون أن تسلب منها القسمات الفردية، بل بالتشديد على القسمات الفردية خاصة. إن هذا الوعي الملموس… يهب الفرد تفتحًا إنسانيًّا لقدراته الغافية فيه، التي لا يمتلكها في الحياة ذاتها إلا على نحو مشوه، والتي لا تتعدى فيها نطاق الرغبة والإمكان.

إن الحقيقة الأدبية لعكس الواقع الموضوعي ترتكز إلى أن ما يرتقي إلى واقع مصوغ أدبيًّا إنْ هو إلا ما ينطوي عليه الإنسان كإمكانية. إن التخطي الأدبي يقوم على إعطاء هذه الإمكانيات الغافية في الإنسان تفتحًا إنسانيًّا».

ويمكن القول: إن هذه الشخصيات/ القناع كانت ملتبسة بموقف الكاتب إزاء أحداث لحظته التاريخية التي كان فاعلًا فيها، فالعمل الروائي عند أحمدو ولد عبدالقادر يتنزل في سياق التناص والتفاعل مع روايات الرواد العرب في مجال السرد التاريخي، وهو ما يمكن تمثله في المقبوس التالي: «وكانت الروايات الواقعية الأخرى قد رصدت الشارع العربي والطبقة الشعبية بطموحاتها وآلامها وآمالها… وجاء (نجيب محفوظ) نموذجًا جيدًا في هذا المجال وقدم لنا تنويعات سردية معزوفة على أوتار قضايا الواقع الشعبي في مصر فإذا بنا نلتقي (التذكر والترجيع والترهين السردي والتواتر والتعاقب والتحول). وتغير موقع الكاتب من رواية إلى أخرى مما يشير إلى خط فني صاعد في البناء الروائي، ومن خلال بعض أعماله نتبين موقع وجهة النظر من خلال قياس المسافة بين الوجه (المؤلف) والقناع الراوي».

ومن كل ما تقدم، يتضح أن العمل هو إنتاج معقد يتطلب حشد مكونات فنية متنوعة، كخلق مسافات وجهة النظر عبر لعبة القناعات، والمواءمة بين الصوت ودوره الممثلي، واستحضار التاريخ وترهينه للحاضر.

ثالثًا: تقنيات استدعاء التاريخ الروائي

ويمكن بادئ بدء تلمس ثلاثة مستويات من حضور التاريخي في المدونة الروائية المدروسة في تقنيات «المحتمل»، و«القناع»، و«الحدث التاريخي».

فقد استخدم الكاتب تقنية «المحتمل» في روايتيه: «القبر المجهول» و«العيون الشاخصة»، فكانت هذه النصوص محاكاة ضمنية للقصة التاريخية القديمة في «وثائقيتها» من جهة، وتتناص مع سياقها التاريخي المعيش في «إحداثياته» من جهة أخرى، وما كان لها أن تنجح في هذا البناء السردي المتعدد الأوجه إلا بممارسة التجريد والترميز لمادتها الحكائية. وقد مارست هذا التجريد على مستويين؛ استحضار الشخصية القاعدية بحمولتها السيميوطيقية التواضعية، ومن ثم إسنادها، على مستوى البنية السطحية، إلى بنية الممثلين، ويتم بعد ذلك ربط هذه البنية الممثلية بأدوار تيماتيكية الفروسية، المرابطية، العشق، التمرد).

وتكمن أهمية الشخصية القاعدية القائمة على تجريد مجموعة من المميزات/ الثوابت الخاصة تاريخيًّا بفئة اجتماعية معينة، في قدرتها على مزج التاريخي بالمتخيل ضمن لعبة من التمفصلات، يُعَدّ القارئ طرفًا رئيسًا في تأسيسها عبر عمليات الذهاب والإياب، التي يقوم بها بين النص وسياقه التاريخي المحايث له، وبذلك تُربَط جمالية الكتابة بفاعلية التلقي المتجددة بإبدالاتها التاريخية، وهو ما أشار إليه قاسم عبده قاسم في نصه التالي: «هذا التداخل بين الأدب والتاريخ على صفحات الرواية التاريخية يستوجب المصالحة بين «الصدق الفني» و«الصدق التاريخي»، وكلما نجحت هذه المصالحة زاد نجاح الرواية التاريخية. وهذا هو الفضل المشكور للرواية التاريخية، كما جسدته الروايات التاريخية الحقيقية، وكما تجسده ظاهرة ازدهار الرواية التاريخية العربية الآن. فالرواية التاريخية تقدم التاريخ من خلال صورة فنية كلية تبث روحًا في الجسد الذي يصوره التاريخ جامدًا باردًا بفضل العناصر الفنية المتنوعة التي يستخدمها الروائي، ومن خلال السرد والحوار وغيرها من الأدوات الروائية. وهو ما يختلف عن الصرامة التي تتسم بها الدراسة التاريخية الأكاديمية. وإذا كانت وظيفة المؤرخ قد تحولت من «رواية ما حدث» إلى محاولة فهم السبب وراء ما حدث ومحاولة الإجابة عن السؤال الذي يقول: لماذا حدث ما حدث؟ فإن الروائي لم يكن مضطرًا إلى التفسير أو الإجابة عن أي أسئلة. وقد أدى تحول وظيفة المؤرخ على هذا النحو إلى النيل من «روائية التاريخ»، على حين بقيت للروائي ميزة الإفادة من التاريخ في بنيته الروائية».

فهذا التجريد هو أساس التمفصل بين أطراف الثالوث الركنية: الكاتب/ النص/ المتلقي، حسب ما حاول لويس مجرون أن ينظر له في النص التالي:

«إن المشاعر والأفكار لم يعد لها من دور إلا أن تمثل مشاعر وأفكار الجماعة. كما أن الأفراد صاروا مجرد نماذج، وهم في الأساس نماذج تاريخية. وهكذا فإن العجوز «سيدريك» في «إفانوي» لم يعد شخصية خاصة. فهو لا يحضر إلا لتجسيد الحقد الأعمى لكل ما هو «نورماند»، ليمثل حقبة بكاملها من التاريخ الاجتماعي لإنجلترا. فكل شخصية ليس لها من المصالح أو العواطف أو المشاعر إلا ما هو خاص بفئتها الاجتماعية. وبذلك يصبح مجتمع بكامله حاضرًا أمام أعيننا «بمجموعاته الخاصة ومميزاته الفاصلة». وهكذا يجري الاجتياح من قبل أولئك الذين ظلت الرواية تقصيهم: البسطاء والمتواضعون».

الطاهر وطار

ويمكن على سبيل التمثيل، إسقاط بعض متضمنات المقبوس أعلاه على عناصر من مضامين المدونة محل النظر، ففي رواية «القبر المجهول» يمثل الأمير المحارب «شكرود» سيمياء الفارس النبيل في فئة حسان، أما «ديلول» فيمثل عبر مشاعره وأحلامه الحقد المكبوت لدى كل أفراد مجموعته (الزناقة) على فئات حسان والزوايا، بينما نهض الإمام سلامى، من خلال طموحه ومشاعره، بدور المجسد لسلوك المرابط الزاوي وسماته الدينية المميزة. وهكذا يمكن القول، إن هذه الرواية تمكنت من جعلنا نعيش حقبة من حياة المجتمع الموريتاني القديم بكل طيفه الاجتماعي.

ومما تقدم، تظهر القيمة الإجرائية الواسعة لتقنية «المحتمل» في تمفصل السرد الروائي بين البعد الجمالي الفني وبين الخطاب التاريخي، فمن خلاله يتحرر الكاتب من عبء الواقعة التاريخية ليؤسس عالمًا تتشابك عبره أبعاد مختلفة؛ أيديولوجية، وجمالية، وتاريخية، وبذلك يمكن القول: إن تقنية المحتمل ليست إلا محاولة لكتابة التاريخ «المغمور» بمنطق وعقلانية جديدة، تتجاوز الواقع في تجزئته لتكوين رؤية متعددة المداخل عن بنيته الاجتماعية، في حركيتها الداخلية وعواملها المحركة وعلائقيتها الاجتماعية.

أما تقنية القناع فيلجأ إليها الكاتب كلما كان النص متشابكًا مع سياقه السياسي، وبعبارة أخرى، عندما تصبح الأيديولوجيا مؤسسة لما قبليات النص الروائي، وتهيمن على مسارها السردي العام، كما هو الأمر في رواية «الأسماء المتغيرة»، فهذا القناع يحاول أن يخلق مسافة بين الكاتب وروايته، وبين الرواية في بعدها الفني الإبداعي وبين التاريخ في حرفيته وإستاتيكيته، ويرى بعض أن لجوء الكاتب إلى تقنية القناع للفرار من تزييف الواقع يأتي بنتائج عكسية؛ لأنه حين يوغل في رمزيته (باستخدام رموز تاريخية قديمة) يقوده ذلك إلى تشويه هذا الواقع وإفراغه من رسالته الإيجابية المباشرة، والدينامية المتولدة من صدمة حداثته.. وإلى جانب هذا المفهوم/ القناع، يستخدم بعضٌ مصطلح المرآة كمعادل لمفهوم القناع، وفي هذا السياق، يعدِّد إحسان عبَّاس أنواعًا من المرايا، من أكثرها شيوعًا:

– «مرايا الشخصيات التاريخية: زيد بن علي، وزرياب، والحجاج، ومعاوية، ووضاح اليمن، وأبو العلاء.

– مرايا شخصيات غير محددة بزمان أو مكان: الطاغية، والسياف، ورجل يروي، والفقير والسلطان، والممثل المستور، وفارس الرفض، وشاهد مقتل الحسين.

– مرايا شخصيات رمزية: عائشة.

– مرايا شخصيات معاصرة: خالدة.

– مرايا المجسدات: رأس الحسين، وحسد العاشق.

– مرايا زمانية: الحاضر، والوقت، والزمان المكسور، والحلم، والتاريخ، والقرن العشرون، وجثة الخريف، و(العين) والزمن؛

– مرايا مكانية: مسجد الحسين، وبيروت، والطريق، والأرض.

– مرايا الأشياء: الكرسي، والغيوم، والزلاجة السوداء.

– مرايا مجردات: السؤال، والطواف، والنوم.

– مرايا أسطورية: أوفيوس.

وتتميز رواية «الأسماء المتغيرة» بأنها تنشطر إلى مرحلتين متداخلتين ومختلفتين؛ يهيمن على المرحلة الأولى تقنية المحتمل، أما الرحلة الثانية فيسودها تقنية القناع. كما تتميز أيضًا بأن السارد هو إحدى شخصيات قسمها الثاني، أو بمصطلح ج. جينت: ويبرز فيها على مستوى شخصياتها خطان سرديان مختلفان؛ أحدهما تستقطبه شخصية سفيل بوجناح، وهو شخصية متخيلة، وقد ساعد ذلك الكاتب على حرية المناورة، وعلى أن يسند لها أدوارًا مختلفة، وأن تعكس ثيمات إنسانية غنية بدلالاتها الرمزية (المعاناة، والتمرد، والإنسانية…)، وهو ما جعلها ناظمًا محوريًّا، تتمفصل حوله مختلف التحولات الاجتماعية والسياسية والتاريخية، التي عكستها الرواية في مسارها المتعدد التعاريج، أما الخط السردي الثاني فقد تمحور حول الشخصيات/ القناع (الطيب، بوعمامه، عالي شيخو…) المشدودة إلى أدوارها السياسية، فشكلت إطلالاتها السردية بؤرًا تاريخية، تتحدث عبر كرونولوجية الحدث السياسي (الصراع النقابي والحركي مع شركة مافيرما والحكومة…)، وبذلك يطغى التاريخ على أدبية الرواية، فيصبح طافيًا على السطح، ذا دلالة أحادية قائمة على الواقعة وموقعها الزمني الإحداثي. وهو ما يحيلنا عليه المسرودات المتعلقة بحوار المتدربين: «افتحوا الراديو لنسمع نشرة الأخبار المسائية…»، وكذلك عرض البرنامج السياسي للحركة: «إن الخاصية الأولى للثورة التي نحن بصددها، أو بصدد نوعية الجماهير بعبارة أصح، فهي: أن حركتنا تختلف جذريًّا عن حركات المجاهدين والحرمويين»، كما يندرج فيه بداية الفقرة المتعلقة ببوعمامة: «نزل أبو عمامة من شاحنة واقفة في مركز نواكشوط (لكصر) بعد رحلة استغرقت شهورًا في الولايات الشرقية من موريتانيا».

من المؤكد، أن تحكم التاريخ «التوثيقي» في المسار السردي يحد من قدرة الكاتب على تحرير النص من هيمنته، ومن تركه ينمو وفق لعبة المحتمل والممكن، التي تقوم على كسر خطية الزمن القصصي، وفتح الحدث على كل احتمالاته الممكنة، بينما يقف السرد الوقائعي عائقًا؛ بسبب التصاقه بالحدث التاريخي، في وجه هذه المرونة الخلاقة، التي تسمح للراوي بالانزياح عن موقع الكاتب، ومن ثم تتحرر الشخصية الروائية من هيمنتهما معًا، فإذا بها تتحدى سلطة الكاتب الأيديولوجية وما قبليات الكتابة، وتفصح مع تجربة التلقي عن رؤى ودلالات غير متوقعة، وتفضي في تجربتها الروائية إلى نتائج مغايرة لمواقف الكاتب البدئية الافتراضية.

ولتوضيح أبعاد هذه العلاقة الإشكالية، تفيدنا نماذج الرواية العربية ذات المنحى التاريخي، أن الكاتب الروائي والمسرحي يتمتع بعدة خيارات في صناعة شخصياته؛ فإما أن تكون هذه الشخصيات تعيينات متخيلة في هويتها «الاسمية»، حاملة لسمات اجتماعية تاريخية واقعية (كشخصيات البنية الممثلية في روايتي القبر المجهول والعيون الشاخصة)، وإما أن تكون شخصيات واقعية ولكنها تحمل أسماء مموهة (كالشخصيات القناع: الطيب وأبو عمامة… في رواية الأسماء المتغيرة)، وقد تكون شخصية تاريخية أو أسطورية يسند لها الكاتب أدوارًا تخييلية (كالسندباد عند نجيب محفوظ، وحدث أبو هريرة قال عند المسعدي…)، وهذا النمط غائب في روايات المدونة، باستثناء شخصية «ديلول» في «القبر المجهول».

ومن الملاحظ أن الشخصية الرمزية (التاريخية والأسطورية) هي مزيج من التاريخي والمتخيل، وهو ما يسمح للروائي أن يتوكأ على حمولتها السميوطيقية الذاكروية لمنحها وظيفة جديدة تربطها بالحاضر، وتفتح دلالتها الرمزية هامشًا واسعًا أمام المتلقي لإعادة إنتاج دلاليتها ومنحها أبعادًا جديدة. ويكون من الضروري الاحتفاظ باسمها كقادح سميوطيقي لذاكرة القارئ، بينما لم تتجاوز «المعالجة التاريخية» الرمزية لشخصيات «الأسماء المتغيرة» تقنيع أسمائها، ومزجها بعناصر مستمدة من الشخصيات التخييلية. فلو وقع أيضًا تبديل في أدوارها التاريخية لتحولت بالكامل إلى شخصية تخييلية، تستمد هويتها من السياق السردي.

وفي أفق هذه «المسرحة المؤرخنة» لشخصيات الرواية، فقد كان من الممكن بالنسبة لشخصية سيفيل بوجناح التخييلية أن تنتهي إلى مصير مختلف عن ذلك الذي انتهت به، وأن تتبنى مواقف غير تلك التي انحازت إليها، لكن تلك المرونة بالغة الصعوبة مع الشخصيات/ القناع بسبب تقديمها عبر أدوار واقعية تاريخيًّا، مرتبطة بمواقفها السياسية، وأي تغيير في دور أحدها سيسري إلى باقي هذه الشخصيات، وهو ما سيحدث عنه انقلابات في حبكات النص الروائي ومحصلة الدلالة النهائية المتولدة عن ذلك التحول والتبدل في ماهية الشخصيات الروائية. ويمكن تلمس الاختلافات الدلالية بين الشخصية/ المحتمل والشخصية/ التاريخية في الترسيمات التالية:

الشخصية/ المحتمل: دال1 + مدلول1 = دلالة1 مفتوحة، فتصير هذه الدلالة الأخيرة دالًّا جديدًا: دلالة1 (دال2) + مدلول2 = دلالة2… هكذا يستمر التوالد الدلالي بمعانيه الحافة المفتوحة.

أما حالة الشخصية التاريخية فإن الدلالة تصبح أحادية على النحو التالي:

دال1 + مدلول1 = دلالة1 (مغلقة).

فالدلالة في المعادلة الأولى تستند إلى تأويلات بعدية مبنية، تفتح أفقًا قرائيًّا خصبًا أمام المتلقي، يستمد مواردها التأويلية بالتعاون بين السياق الداخلي والسياق الخارجي، ومن زمنية النص بتغذيتها الراجعة، وتراكم المحمولات المتعلقة بشخصيات النص. كما هو الشأن مع شخصية سيفيل بوجناح؛ إذ لا تتضح معالم هذه الشخصية إلا بعد استعراض فصول عديدة من الرواية.

وفي حالة المعادلة الثانية تنهض دلالة الشخصيات/ القناع على معطيات قبلية ذاكروية، يعيد النص الروائي إنتاجها، وهو ما يجعل القارئ بمنزلة حكم يحدّ من حرية الكاتب في الخروج على نصية الخبر المسرود. وهو ما ينطبق على الشخصيات القناع التي يشبكها سياقها التاريخي بذاكرة القارئ، فتصبح لعبة التأليف والتفكيك، في سياق الهيمنة المسبقة للمعطى التاريخي، مندرجة في تحصيل الحاصل. ومن هنا كان الإخبار التاريخي بمنزلة ضرب من التصوير الفوتوغرافي للواقع، فلا يضيف في الغالب إلا معرفة علمية تسجيلية بواقع معين، وهو ما يبرز الحد الفاصل بين علمية التاريخ وفنية الرواية.

وقد رفض غولدمان أن تكون علاقة الأثر الأدبي بسياقه الاجتماعي قائمة على هذه العلاقة الجامدة، بل يراها علاقة تناظر بين البنيتين، وتترك هامشًا واسعًا للإبداع وإعادة تشكيل المادة الخام وفق متطلبات الكتابة ومقاصد المؤلف.

ومن هذه المساجلة الضمنية بين الواقع والنص نخلص إلى التساؤل حول قدرة كل من المحتمل والتاريخي على تكوينية النص السردي؛ إذ يعمل التاريخي على طمس قسمات أدبيته، بينما قد تفضي تقنية المحتمل التخييلي إلى خطر تزييف هويته الاجتماعية الواقعية وتهميشها. فكل من الوجهين يضع النص السردي في رهان إشكالي عند تناصّه مع التاريخ، إشكالية العلم والسرد، فحسب منظور ريكور للمسألة يمكن بسط المسألة على النحو التالي: «كما أنه (ريكور) لم يرضَ بالحلّ الوسط الذي يقترحه ميشال دوسارتو وأتباعه بأن يكون للتاريخ وجهان أحدهما علمي والآخر سردي، فالتاريخ عنده عبارة عن سرد، لكنه سرد من نوع خاص وسردية التاريخ لا تلغي وظيفته المزدوجة، فهو معرفة علمية لأنه ينتج حقائق حول واقع ما، وخيال سردي لأنه نتاج وظائف معقدة».

فهذا الوجه السردي لحكاية التاريخ أو التاريخ كحكاية هو ما يسمح للرواية أن تتمفصل مع التاريخ تضمينًا واستيحاءً. ولكن المشكلة تنبع من تلاشي الحدود الفاصلة بينهما، فلا يمكن لنا أن نتصور كينونة النص السردي من دون أدبيته القائمة على الإبداع التخييلي، التي هي لعب مفتوح على الممكن والمحتمل، وإعادة ترتيب نظام الأشياء، بما فيها التاريخ، بحرية خلَّاقة غير محدودة.

وقد تداخلت هذه الثنائية التاريخ المحض/ السرد التاريخي الفني بثنائية تحديدية، يحاول أحد طرفيها أن يعرف القصة بموضوعها، بينما يعرفها الطرف الآخر بأسلوبها الفني (كنوع أدبي قائم بذاته)، وفي هذا السياق يعرف بول ريكور الحكاية كمتوالية من الوقائع، متجاهلًا القسمة الفنية التي تموقعها بين الحكي الخالص والدراما. وهو ما رفضه جيرارد جينت الذي أصر على أن خصوصية النص السردي كامنة في أسلوبيته وليس في موضوعه، الذي يمكن أن يُمثَّل دراميًّا، أو رسمًا، أو بأي شكل آخر.

ومن كل ما سبق، تتضح المزالق التي قد تترتب على استخدام تقنية القناع؛ إذ تضيق المسافة بين الكاتب والنص، خصوصًا عندما تكون تلك الأقنعة/ المرايا لشخصيات واقعية لها علاقة بأحداث القصة الروائية؛ إذ تقوم بترهين السرد لحكي السيرة والاستعادة المحايدة لأحداث الماضي، وهي وإن ساهمت في تكوينية جسم الرواية زمنيًّا ووقائعيًّا، فإنها تفرغه من بعده الأيديولوجي، كرؤيا إنسانية عميقة حول سيرورة الماضي، وترهين ذلك كله للتأثير الإيجابي في كل من الحاضر والمستقبل.

وغير بعيد عن توظيف لعبة القناع في كتابة النص الروائي، تبرز تقنية استدعاء الحدث التاريخي (الإحالات التاريخية المباشرة) كومضات إحداثية كرونولوجية في سياق السرد ذي الطابع الإخباري، وتعمل، هي الأخرى، على «تشذيب» امتدادات الدلالة «الأدبية»، والحد من خصوبة تأويلها النصي، وهو ما يؤدي إلى تسطيح البعد الرمزي في الرواية التاريخية، وطغيان الخطاب التاريخي على فنية الرواية، فظهورها المفاجئ في مجرى النص يحدث انقطاعًا عارضًا في التعالق العضوي لمسارات السرد الروائي، وذلك على الرغم من دورها في ربط الأثر الأدبي باجتماعيته الخارجية، فذلك لا يتم إلا على حساب أدبيته واستعلاء خطابيته التاريخية. وإذا كانت هذه التقنية شبه غائبة عن روايتي «القبر المجهول» و«العيون الشاخصة»، فإنها طغت على رواية «الأسماء المتغيرة»، فهذه الأخيرة جمعت بين مستويات مختلفة من تقنيات السرد (على مستوى هوية الراوي، ومسافة وجهة النظر…)، ومن أنماط استحضار التاريخ (التخييلي والواقعي). ويتجلى ذلك في حضور وقائع معروفة (حرب المقاومة، وشخصيات وأحزاب معروفة في الساحة الموريتانية).

ومهما يكن، فإنه يمكن القول: إن هذه «الجرعات التاريخية» منحت النص الروائي تمرجعًا أكثر واقعية والتحامًا بفضائه التاريخي.

رابعًا: التحقيب التاريخي لروايات المدونة

توطئة

قد يكون من الضروري للتحديق عن كثب في تكوينية المدونة الروائية، من خلال مراجعة السرد الروائي في سياقه التاريخي، أن نقوم بتحقيب المادة الحكائية للنص وفق خطين متوازيين؛ هما الزمن الداخلي للرواية بمتواليات أحداثه وحبكاته المتداخلة، والزمن الخارجي الذي يخترق النص بومضاته الإحالية الواقعية، ويتناظر مع البنية التاريخية العامة للمدونة المدروسة. وتحقيقًا لذلك، سنقوم بالتفريع «المنطقي» لمقاطع السرد الزمنية (الفترات التي يفترض أن الروايات تغطيها)، منطلقين من مصادرة الجنس الأدبي التي تصنف أعمال أحمدو ولد عبدالقادر السردية في خانة الرواية التاريخية والرواية الاجتماعية. وسنستخدم لهذا العمل مصطلح المجال الرياضي بحالاته المعروفة (+ – مغلق، + – مفتوح).

4-1- حوارية الزمن الداخلي والزمن الخارجي

وفي هذا السياق، تبدو رواية القبر المجهول كمجال مفتوح: الفئات الاجتماعية النمطية السائدة في الحقبة الحسانية البادئة من القرن 16 الميلادي…، فالمجال هنا غير محدد في مجاله الزمني، رغم أنه محدد في مجموعته التطبيقية. ويتعلق الأمر بحقبة سابقة على المؤلف، ولا يتوافر له من مصادرها سوى كتابات شحيحة، وبعض الروايات الشفهية أو بعض أثرياتها التي لا تزال قائمة في عهده. وقد اعتمد أحمدو ولد عبدالقادر فيها على تقنية المحتمل التاريخي، فجاءت عملًا تخييليًّا خاليًا من الإحداثيات التاريخية الواقعية. وتتميز هذه الرواية بأنها تتحرك في حيز اجتماعي إستاتيكي، جُمِّدَ لبناء منظور أفقي في بنيته الاجتماعية النمطية، والتحول الذي حدث فيه عبارة عن إسناد الوظيفة نفسها لمجموعة جديدة، عن طريق الترقية بعامل الحرب.

وإذ اعتمدنا حياة المؤلف أحمدو ولد عبدالقادر مرجعًا لهذه القسمة، فإنه يمكن تلوين هذا المجال الزمني، بتسميته المرحلة السابقة والمباشرة لحقبة دخول المستعمر الفرنسي إلى موريتانيا.

أما الروايتان «الأسماء المتغيرة»، و«العيون الشاخصة»، فنرى في البداية من المفيد تقديم ملخصات للروايتين الممثلتين لحقبة الحداثة في مسار تاريخ المجتمع الموريتاني كما تتناولها المدونة الروائية المدروسة. ولتكن البداية مع رواية «الأسماء المتغيرة»، التي يمكن عدّ مجالها الكرونولوجي مجالًا مغلقًا: (تحولات المجتمع الموريتاني ما بين 1891م وبداية السبعينيات). كما يمكن بسط عناصر مجموعتها المحورية على النحو التالي: اختطاف بطل الرواية وبداية رحلة الضياع الطويلة- ظاهرة «السيبة»- المقاومة الوطنية المسلحة- المقاومة السياسية- ولادة المدن الموريتانية- ظهور أجيال جديدة من الشباب المثقف- ظاهرة الكادحين…

وقد استقى المؤلف مادتها من معاصرته لبعض أحداثها التي كان مشاركًا فيها، ومن قصص المقاومة الوطنية، ومن احتكاكه المباشر بحياة بعض الفئات النمطية الممثلة في شخصيات النص الروائي، بحكم التنشئة. قام الكاتب «بسردنة» مادة حكائية متعددة المصادر، مزج في نسجها بين التاريخي والمتخيل، وإذ اختار شخصيتها من شريحة الرقيق التي كانت تعيش خارج اهتمام الثقافة العالمة المكتوبة، وهي نزعة ملاحظة في الأعمال السردية الموريتانية، فقد جاء بطلها «سيفيل بوجناح» شخصية مصنوعة في كل مكوناتها الروائية، وهو ما منح السارد/ المؤلف مرونة وحرية أوسع في تحريكها داخل المسار العام للرواية، فقد جعلها تتقلب بين فضاءات زمنية ومكانية مختلفة، وتعكس صدى أحداث واقعية وتخييلية.

وتدور وقائع الرواية في حيز سردي دينامي، مليء بالتحولات والمفاجآت، انتقلت فيه الأدوار بين جيلين مختلفين في كل شيء، خصوصًا على مستوى موجهات السلوك والتفكير، يقول عنها الراوي على لسان سيفيل بوجناح (بطل الرواية): «إن لغة هؤلاء الشباب جديدة وكثير منها لا أفهمه، إنهم يختلفون عن الناس «الأولين» في اللغة أيضًا! علي ولد الشيخ أصبح يردد عبارات مثل: «إلى اللقاء»، «وشكرًا»، و«عفوًا» و«صديقي أحبه لأنه وطني». ويقول في ختام الرواية: «إنني أموت! إنه تغير الأسماء والعادات والأجيال!». وبهذا التحول تكون رواية الأسماء المتغيرة أول نص سردي يؤرخ لولادة موريتانيا الجديدة.

أما رواية «العيون الشاخصة» فتتموقع هي الأخرى في مجال تاريخي مغلق: (الأحداث والتحولات التي جرت بين نهاية السبعينيات ونهاية الثمانينيات)، ومجموعة عناصر المادة السردية البارزة: الجفاف الطويل الذي ضرب بلاد الساحل، تعرض المحاضر لمحنة الهجرة إلى المدن، الصراع والتحول في أسرة أهل الشيخ القائمين على المحضرة، ظاهرة الكزرة وأحداث مسلسل المسار الديمقراطي الجديد. ولا شك أن المؤلف استمد مادته الروائية من معايشته الدقيقة للمقطع التاريخي الذي تدور فيه أحداث الرواية. وهي كالرواية قبلها تعالج سياقًا يعيش تحت وطأة التحول والتغيير الثقافي والسياسي، وترصد ظواهر حضارية حديثة العهد بالمجتمع الموريتاني الجديد.

وعلى الرغم من أن التحولات التي تفضي إليها المعادلات السردية تمس في أغلبها، مصاير الأشخاص أكثر من الجماعات والفئات، فإنها تسجل في نهاياتها انقلابات جذرية مفاجئة، في سلوك أفراد بعض الفئات المعروفة بمحافظتها وثباتها، وذلك كنتيجة لتغيير فضائها المكاني البدوي، والانخراط في تيار المدينة الحديثة الكوسموبوليتية، ونجد مثالًا لذلك في ظهور ابنة شيخ المحضرة في إحدى المسيرات الانتخابية الصاخبة : «إنها نفس الفتاة التي نبحث عنها.. ولكنها والعياذ بالله! أصيبت بالجنون.. ولم يزد الماكياج ملامح عزة إلا جمالًا، أحمر الشفاه على شفتيها.. وذراعاها الطويلان يرفرفان بعلم وصورة في يديها، تآلفا بانسجام مع لون السيارة وأبهة المسيرة، وهي تصرخ بأعلى صوتها: النصر لنا!».

ويمكن القول اعتمادًا على هذه التخريجات المسبقة للمادة الروائية: إن هذه الرواية تصب، هي الأخرى، في إضاءات عمودية وأفقية لتحولات المجتمع الموريتاني الجديد.

تكشف هذه التحقيبات المرفقة بمكوناتها التاريخية الرئيسة المؤسسة لمادتها الحكائية عن جديلة من التواريخ المتوازية والمتقاطعة في سرديتها العامة؛ التي يمكن، ربما مع قدر الاختزال والتعسف، تصنيفها إلى ما قبليات التاريخ الروائي (المرجع الذي يحيل إليه النص الروائي بكل أبعاده الافتراضية)، المنجز التاريخي المتجسد علاماتيا في نص الرواية بعد كتابتها، ما بعديات التاريخ الروائي (الصورة النهائية للقصة التاريخية التي تحاول إبدالات القراءة بناءها والوصول إليها عبر النص). ويلاحظ أننا قد طابقنا في هذا التصنيف بين مفهوم التاريخ ومفهوم الزمن، رغم ما يثيره ذلك من اعتراضات، وذلك بحكم التشارك بينهما في عدة قواسم دلالية؛ كالمدي والاتساع، والقابلية للاسترجاع والاستباق… إلخ.

وحين قمنا بذلك لم يكن غائبًا عنا الخصومة النقدية في مجال المصطلحات والتقسيمات للزمن الروائي وتاريخيته، التي يمكن القول بشيء من التبسيط: إنها تتأرجح بين زمنية الجملة المرتبطة بتقسيمات النحو المعياري، وزمنية النص المتولدة عن لسانيات الخطاب.

ومما تقدم، نخلص إلى القول: إن المدونة الروائية محل الدراسة قد تضمنت أنماطًا مختلفة من الزمن الروائي ومن استحضار التاريخ في كتابة النص الروائي، حلقات من التاريخ العام لموريتانيا، شخصيات روائية تخييلية وواقعية، تواريخ روائية نصية يمتزج فيها المحتمل بالتاريخي. وفي ضوء ذلك كله، نجدنا مدفوعين إلى طرح أسئلة تأسيسية مثل: ما المستوى التاريخي (النص، الشخصية، التاريخ) الذي سيُعتَمدُ لبناء تكوينية توالدية genèse للمدونة المدروسة؟ وهل سيُتعامَل مع النص الروائي من أجل كتابة تاريخ له، أم من أجل التعرف إلى أنماطه الشخصية سيكولوجيًّا وتاريخيًّا، أم من أجل استخلاص تاريخية عرقية وجماعية معينة؟

في هذا السياق، ربما توجد هرمية (أو هرميات) يمكن أن ننطلق منها إلى النص الروائي المدروس، التي ستحدد الأولوية في المنظور النقدي الذي سنتبناه لمعالجة هذا النص، والتي يمكن أن نقترح لها على سبيل المثال الشكل التالي:

الجدول رقم 01: النص الروائي بين السمات الشخصية والسياق التاريخي

النص الروائي.

السياق التاريخي، الشخصيات، مكونات اجتماعية وسياسية وتاريخية… أحداث، تحولات مفصلية، تواريخ بارزة… سمات شخصية نمطية وسيكولوجية… الأدوار، التحول، التفاعل، الرؤية للعالم…

وبإمكاننا أن نطبق إبدالات أخرى، مثل السياق التاريخي أو الشخصيات الرئيسة اللاعبة في الفضاء الروائي، كالشكل التالي الذي يشتغل على المنظور التاريخي.

الجدول رقم 02: السياق التاريخي في ضوء المكونات الروائية.

السياق التاريخي

النص الروائي، الشخصيات، وحداته السردية، إحالاته، إحداثياته الزمكانية الداخلية… أصداء الأحداث الخارجية، تحولات داخلية مفصلية، تواريخ بارزة… سمات شخصية نمطية.. الأدوار، التحول، الرؤية للعالم…

وتأسيسًا على متضمنات الجدولين، يتجلى بوضوح أن تحليل النص الروائي قد لا يقود إلى تكوينية واحدة، إنما إلى عدة تكوينيات بنيوية، تتعدد بحسب المنظور الذي نشتغل انطلاقًا منه، على هذا النص في سياقه الخارجي اللامتناهي، ونصيته الفنية المتعالية على التأويل، وشخصياته المتفاعلة عبر علاقاتها الداخلية والخارجية.

4-2- التاريخ الروائي: من إشكالية التأويل إلى إشكالية التلقي.

وفي آفاق التساؤلات المذكورة أعلاه سننطلق من خلفية نقدية تداولية، مفادها أنه إذا كانت البنيوية التكوينية تذهب إلى القول: إن الكاتب يستدعي المادة الخام من حقبة تاريخية معينة، لبناء منظوره الأيديولوجي والاجتماعي المجسد لرؤيا فردية وجماعية عن العالم، فإن هذا يقتضي موقعة القارئ في وظيفة تأويلية وتخريجية في منتصف المسافة بين النص وتاريخيته، وهو ما يطرح إشكالية العلاقة المعقدة بين الكاتب/ النص/ التاريخ/ القارئ، كما يثير مسألة اشتراطات ممارسة لعبة الكتابة/ القراءة، وهو ما يلقي بالمعالجة النقدية في قلب «نظرية التلقي» وتساؤلاتها (حول حدود التأويل، والقواسم التاريخية والثقافية المشتركة بين الباثّ والمتلقي…)، فالرواية بوصفها مرسلة على النحو الذي يصوره رومان جاكبسون في ترسيمته الشهيرة، فعمل الروائي شديد الدقة؛ إذ يشتغل على عوالم بالغة الخصوصية في أنظمتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية.

وفي هذا السياق، واستئناسًا بالتصنيف السابق لمجالات الرواية التاريخية، المحددة لمصادر مادتها المسرودة، يمكن أن ننتقل إلى مقاربة النماذج الرئيسة لقراء هذه الروايات ذات المنحى التاريخي، مقترحين النمطين التاليين من المتلقين:

1- القارئ/ الناقد المحلي (الداخلي): ينتمي لنفس الحيز الجغرافي الذي تدور فيه أحداث الرواية، ويمتلك هذا القارئ/ الناقد بعض الكفايات الضرورية لفك شفرات وسجلات اللهجات الخاصة، الموظفة في مسرحة شخصيات الرواية، وهي تتحرك في مجالها الاجتماعي الطبيعي، بوصف هذه اللغات ذات حمولة بلاغية تصويرية. ومما يساعد المتلقي على ممارسة هذه القراءة التفكيكية، أن الراوي يؤسس معه ما يشبه «العقد المرجعي»، باعتماده شخصيات قاعدية، منمطة بمقوماتها التداولية الجمعية، نضرب له مثلًا في الروايات المدروسة باعتمادها على فئات حسان والزوايا والزناقة.. ومثلها في ذلك حضور بعض الفئات الاجتماعية في المسرح الشعبي.

وتشكل هذه المراجع الاجتماعية تشاكلات isotopies حافة، تشتغل في خلفية النص الروائي إنتاجًا وتلقيًا. وتتجه العلاقة الكمية بين ثقافتي المؤلف والمتلقي نحو متراشحة تحكمها صيغة كبرى، يزداد فيها الفارق باطراد، كلما ابتعد النص الروائي من حيزه الزمني، نتيجة اعتماد منتج الرواية على موارد شخصية غير موثقة (مشاهدات، حكايات، وثائق…) عرضة للاختفاء والتبدل. ونخرج من هذه العلاقة بين الثقافتين بالصيغتين التاليتين: ثقافة الراوي ≥ ثقافة القارئ: المعاصرة،

ثقافة الراوي ثقافة القارئ: البعدية.

ويجد هذا النوع من القراء صعوبة بالغة في ممارسة قراءة محايدة وموضوعية، نظرًا لتفاعله العاطفي والفئوي مع مضامين النص السردي. ويمكن عدّ هذه المسبقات الأيديولوجية والثقافية والحساسيات العرقية عائقًا كذلك أمام المؤلف، وتمنعه من التعامل الحر والمجرد مع هذه المادة الروائية.

2- القارئ الخارجي: لا يمتلك ثقافة مسبقة عن الفضاء الخاص لعالم الرواية الاجتماعي والتاريخي، ولكنه يتوفر على سجل قيمي أنثروبولوجي، كبِنية موضوعاتية كونية (الشرف، الشجاعة، الوفاء… وأضدادها…)، يسمح له بالتفاعل النشط مع المادة الروائية، والاندماج التدريجي في عالمها الخاص. وهنا يصبح النص الروائي معجمًا وحيدًا لذاته بالنسبة لقارئه. ويستطيع هذا المتلقي أن يمارس قراءة موضوعية ومحايدة لمخرجات الرواية، لعدم التداخل بين ذاته بأبعادها المختلفة، وبين المضامين الروائية المسرودة. ومن كل ما تقدم نستنتج أن الروائي أحمدو ولد عبدالقادر قد اعتمد على مراجع شفهية وعلى مصادر ذاتيه بحكم تجربته الشخصية، واعتمد في بناء الرواية على رؤيا كونية ومحلية، ولكن القارئ غير المحتك بوسط نصوصه السردية قد يجد صعوبة في تلقيها وفك بعض شفراتها المبثوثة عبر لهجاتها المحلية.

الخلاصة

لقد كشف النظر في الأنساق السوسيو- تاريخية على صعيد المدونة المدروسة، عن سعي الروايات الثلاث إلى رصد مظاهر التطور والتحول في مقاطع تاريخية متماسّة ومتعاقبة من حياة المجتمع الموريتاني. ولعله يمكن القول: إن اهتمام الكاتب بالسياق الخارجي لمدونته، وتأريخه وفق الأسلوب الروائي، يفسر لنا تعدد المداخل الزمنية التي وظفها الكاتب لرصد تحولات المجتمع الموريتاني الحديث، وتطور نظامه الاجتماعي وتبدل قيمه الثقافية والسياسية، ويسجل بروز ظواهر جديدة كالتبتيب والكزرة، وتشكل أنماط جديدة من الممارسات السياسية خصوصًا مع بداية المسار التعددي الذي انطلق مع أواخر الثمانينيات.

وتأسيسًا على ما تقدم، نخلص إلى القول: إن دراسة أنساق المدونة الروائية السوسيو– تاريخية قد كشفت عن معطيات البنية التاريخية الخارجية التي حاورها الكاتب في إنتاج نصوصه السردية، وهذا اتضح من خلال تعددية أصواتها وحوارياتها، ومن ثراء بنيتها الممثلية.