نرثي أنفسنا لغيابه.. يوسف بن يوسف رجل الضوء الذي ميز السينما العربية في عصرنا

نرثي أنفسنا لغيابه.. يوسف بن يوسف رجل الضوء الذي ميز السينما العربية في عصرنا

نظم المركز الوطني للسينما والصورة، ومكتبة الأفلام التونسية (السينماتيك) في قصر الثقافة في تونس العاصمة، ما بين 17 و22 سبتمبر الماضي، تظاهرة سينمائية لتكريم ولذكرى مدير التصوير السينمائي يوسف بن يوسف الذي فقدته السينما التونسية والعربية مع نهايات العام الماضي (28 ديسمبر 2018م)، والذي يعدّ واحدًا من أبرز المصورين السينمائيين العرب. تضمن هذا التكريم أيضًا إقامة معرض للصور عنه وله؛ والكتابات التي كتبت عنه وعن الأفلام التي حققها، وعروضًا يومية للأفلام التي صورها والتي ساهم بتحقيقها في حياته السينمائية؛ وأسست وساهمت في نشوء الموجة السينمائية الجديدة في السينما التونسية والعربية. كما في فلم «رجل الرماد» لنوري بو زيد، و«صمت القصور» لمفيدة التلاتلي، و«عصفور السطح» لفريد بوغدير، و«الليل» لمحمد ملص.

هذه الأفلام التي يمكن القول: إنها تنتمي لما يمكن تسميته بـــ«العصر الذهبي» للسينما العربية، التي كان ليوسف بن يوسف دور مهم في أن تتحقق على النحو الذي تحققت به.

***

من الذي نرثي أنفسنا لغيابه؟

الكتابة عن يوسف بن يوسف كصانع للصورة السينمائية، والكشف عن التجليات الإبداعية الكامنة في وجدان رجل الضوء هذا؛ هي قضية ثقافية ومسؤولية نقـديـة مهمة، تقع على عاتق النقد والنقاد السينمائيين. أما هذا الرثاء، فهو محاولة للتعبير عن التجربة الشخصية، والمعايشة اليومية المباشرة في أثناء تحقيق اثنين من الأفلام السينمائية التي حققناها معًا، وهو ما أتاح لي الكشف عن مكنون هذه الشخصية السينمائية الخاصة؛ والتعرف إلى السمات والخصائص التي يتصف بها هذا الإنسان، واستيضاح الملامح الإبداعية التي يتميز بها التي جعلته يتألق فيما صوَّره من الأفلام التي دعي لتحقيقها. وجعلت منه علامة استثنائية، تميزت من خلالها السينما العربية في عصرنا، وكرسته صديقًا روحيًّا لكثير من السينمائيين الذين عملوا معه. لم يسبق لي فيما يخص العلاقة الشخصية أو المهنية مع مديري التصوير الذين عملت معهم –من دون الانتقاص من القيمة الفنية لأي منهم- أن ترك أحدهم في نفسي تلك الطاقةَ الوجدانية الثرة بالدلالات والأبعاد، التي كان لها مثل ذاك الأثر العميق فيَّ، كتلك التي رسختها تجربة العمل مع يوسف بن يوسف في الفِلميْنِ اللذين حقق لي الصورة التي عليها هذان الفلمان «الليل» و«حلب مقامات المسرة». فهذه الدلالات والأبعاد لا ترسم فقط البنية الشخصية لهذا «المعلم»؛ بل تكشف عن «كنه» وجوهر العلاقة العميقة بينه وبين «الصورة». وتبين في الوقت نفسه المرجعيات الوجدانية والفنية لهذه العلاقة. إن «الصورة» له ليست إلا تعبيرًا عن الشعور العميق بــ«الغربة» التي يعيشها المُبدِع في حياتنا اليومية، والدافع الذي يسعى من خلاله إلى أن يكسر هذا الشعور، وأن يجد بتحقيقها عالمه الخاص. وهو ما قاده إلى أن يخلق من «الصورة» محراب صلاة.

***

فلم رجل الرماد

في المرحلة التي كنا نحضر فيها تحقيق فلم «الليل»؛ ومع اقتراب التاريخ المحدد للبدء في التصوير؛ لم أكن حينها قد حسمت اختياري لمدير تصوير هذا الفلم «الخاص» بالنسبة لي. وبالمصادفة المحضة؛ شاهدت حينها فلم «رجل الرماد» للتونسي نوري بو زيد؛ فامتلكني يومها إحساس غامض وغريب؛ يخص «المذاق» الخفي للصورة، الذي يطوف حول عينيك ويتسرب إلى وجدانك وعقلك، ثم يأخذك إلى السؤال حول ذاك الذي يصيغ صورة كهذه. صورة تحدث لديك في تلقيها، ذاك التماس مع النفس، وتستقر لديك بهذه الجمالية البصرية والحرفية المتقنة. يومها استقبلت هذه الأحاسيس التي امتلكتني من دون أن أفهم، أو أهتم بماهيتها، أو البحث العقلاني عن أسبابها، أمام قوة الصوت الداخلي الذي كان يردد بإصرار، ويقول لي: إنه «هو». فاستجبت لقوة الصوت الداخلي، وقررت أنه هو الذي يجب أن يُصوِّر لي الفلم. حين دعوته إلى دمشق لتصوير الفلم؛ لم أكن قد التقيتُه؛ ولم أكن قد رأيت صورة شخصية له.

فوقفت يومها وشريكي السينمائي أسامة محمد في ممر الاستقبال في مطار دمشق لنستقبله، ونحن نعبث ونتكهن؛ أيهم سيكون هذا «اليوسف» بين أفواج القادمين على الطائرة التونسية. وفي لحظة ما، برز أمامنا رأس حليق الشعر بوجه خفر، وعينين صارمتين مغمستين بصفاء رطب؛ أخذنا وشدنا إليه، فتعانقنا بلا كلام، وأخذ كل منا ينظر للآخر بتأنٍّ حذر، دون أن نولي أي معنى لما تناهى منه من أحرف مبعثرة؛ نثرها بتأتأة مبحوحة الصوت، ومعلقة بلا اكتمال، كأنها صدى لشيء أو أشياء. حين خطا يوسف أمامنا لنخرج من القاعة، بدا كأنه يقف على عربة «الشاريو» وهي التي تسير به، ويرى العالم الذي يحيط به وعيناه على «فيزور» الكاميرا. فأخذت وأسامة نتبادل النظرات المتوجسة بقلق؛ وكلانا يُسائل نفسَه؛ أي مغامرة هذه التي أقدمنا عليها؛ التي يصعب التراجع عنها في هذه الظروف؛ ونحن عشية البدء في التصوير.

ما إن خرجنا من صالة المطار؛ حتى توقف يوسف بصلابة، وأخذ يعب الهواء ويحاول أن يشتم «الرائحة» ويغمض عينيه ليدرك رائحة المدينة التي يهبط فيها للمرة الأولى. ثم أشعل سيجارة وأخذ ينظر إلى وجوهنا ويبتسم ويبعث ببحة تخفي الكثير من الأسئلة؛ وكأنه هو أيضًا يتساءل من أنتم؟ بدا يوسف كأنه لا لسان له ليحكي؛ وأنه حين يبعث بهذا الفحيح المبحوح؛ فإنه يقول نتفًا من الكلمات التونسية الدارجة، مختلطة بشظايا من الكلمات الفرنسية، وأنه حين يصغي فإنه يقرأ ما تقوله عيناك، ويترصد إيقاع رنين هذا الكلام، فيهز رأسه ويطبق جفنيه كأنه يقطرُ المحكي بمراياه المختلفة. في صباح اليوم التالي حين دخلت إليه فتح عينيه وسألني ما عنوان الفلم الذي سنصوره؟ فأجبته: «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» (وهو العنوان الذي كان قبل التصوير). ضحك وهو يردد: طويل برشة؟ ومضى إلى النافذة ليتأمل صباح المدينة، ثم التفت بصمت فبدا كأنه يريد أن يربط بين ما كان يراه نائمًا وما شاهده من النافذة المطلّة على دمشق وذاك العنوان. حين بدأت أحكي له عن الفلم الذي جاء لتصويره؛ شعرت كأنه يفتح صندوقه «الأسود» الخاص به، وينظر إلى عيني ويصغي. كنت أحكي له كل شيء، ما كتبته وما لم أكتبه، ما أفكر فيه وما أحسه، ما أراه وما أعجز عن رؤيته. أحكي له في الصباحات؛ العشيات؛ قبل التصوير؛ خلاله؛ في الجولات العديدة لأماكن التصوير المتناثرة الأرجاء؛ بل في أي لحظة كانت تتاح لنا خلال مدة التعايش التي قضيناها معًا. فصعقني بقوة خلال التصوير حين كان يعود إليّ ويذكرني بما كنت قد قلته. فهو لا ينسى أبدًا ما قلته، ولا النبرة التي حكيت بها، ولا الإيقاع الذي عبرت به، ولا ما كانت عيناي تفصح عنه من الإحساس الداخلي لهذا المحكي. مهما تباعدت الأيام. ولذلك -كما أذكر- قرر ألّا يقرأ السيناريو. في الحوارات المتبادلة بيننا، كان قد ترسخ لدي أن تلك العينين هما بؤرة الإصغاء، والجسر إلى مستودع الكلام والصور التي تبادلناها ونطمح إلى تحقيقهما. هكذا كسر يوسف الأساليب التي تعلمناها من قبل، ودفع بالحوار حول الإبداع السينمائي إلى درجة عليا، مفتوحة وبلا حدود، من التفاهم الوجداني للعلاقة بين المخرج ومدير التصوير. في التصوير كان ما أردت التعبير عنه؛ من أحداث وشخصيات وتفاصيل، وبصمت مريب كان يوسف يعيد لي صياغته بالضوء، فترتسم أمامي الأحداث والمكان والوجوه، ويدعوني بعدها لأختار ما يجب تصويره.

***

في فلم «الليل» لم تكن لدينا أماكن عابرة للتصوير، وكل الأمكنة التي اخترتها، كانت تقع في مدن سورية متباعدة، حيث يسعى الفلم من خلالها إلى بناء مدينة «القنيطرة» التي توحد الأحداث التي يرويها الفلم. أي تلك المدينة التي كان الإسرائيليون قد احتلوها لسنوات طويلة خلال هزيمة 1967م؛ ودمروها كليًّا قبل أن يخرجوا منها بعد حرب عام 1973م. كان يوسف كلما أخذته إلى أحد الأماكن التي سنصورها؛ يتأمل مطولًا هذا «اللوكيشن» بصمت، ويصغي لعالمه الداخلي ويستعيد كل ما رويته له، ثم يسألني عن ذاكرتي لهذا المكان: فأقول له هنا يا يوسف! في هذه البقايا من الدمار كانت «دكان» أبي! وهناك حيث شجرة التين الميتة قبره… فتتناهى إليَّ لحظتها بحة صوته وأحرفه المتشظية عن أبيه! وتخضل في عينيه دمعة تلتمع وتحتبس على أطرافهما الصافيتين. ففي استطلاعات أماكن التصوير غدا يوسف كـ«نورس» يحط بروحه على المكان، ثم يعلو وهو يشدو بترانيم وضوء ولون الصورة التي سيحققها لهذا المكان. وفي التصوير كنت أحس أنه مع نفسه، يتذكر؛ يستعيد، ويستعيدني معه، ثم يناديني لأضع الكاميرا أينما أردت، ولأختار الزاوية والكادر الذي أشتهيه! وبعدها يطل على الكاميرا؛ ويرى الكادر ويبتسم ابتسامة لا تنسى، ثم يمضي ويصنع الضوء. وبعد كلمة: ابدأ!

يحتضن يوسف الكاميرا، كمن يعانق آلته الموسيقية، ثم ينقر بأصابعه على أوتارها، وينصت للصوت المنبعث منها ويمنح «الصورة» التي يصورها صوتها الموسيقيّ الخفي. ومن يومها أخذت أناديه: يا معلم الضوء تعالَ واعزفْ للصورة صوتها! فكان يبتسم وهو يترنم ويتخيل النغمة التي سيغنيها؛ فيصعد إلى عربة «الشاريو» ويمضي بها إلى ذاكرة مشتهاة وإلى ذاكرة متخيلة؛ أو محكية أو معيشة.

في المشاهد الخارجية النهارية؛ كان يوسف بعد أن يفكر كثيرًا؛ يأتي إليّ ويردد أمامي الحكمة التونسية السائدة: «الله غالب!». ويعبر لي كيف أن النهار بضوئه يغلبه ويعجز أن يحقق الصورة التي يريد. لم يكن أمامي وفاء وحبًّا للصورة التي يستطيع أن يسيطر على تحقيقها كما نشتهي إلا أن أحول الكثير من مشاهد الفلم من النهار إلى الليل. وأن أغير عنوان الفلم إلى الليل أيضًا.

وكان اختيار «القنيطرة» المدمرة بذاتها للعديد من المشاهد وتصويرها في هذه المدينة، وإعادة بناء ما يلزم الفلم استعادته كما كان قبل احتلالها. وهو ما جعلنا نقضي مدة طويلة من التصوير في هذه المدينة المدمرة، وأن نعيش خلال تلك المدة فيها. فاختار أبو خليل أحدَ البيوت المدمرة وسكنه حيث يستطيع أن ينفرد بنفسه، ويؤنس وحشته «ضفدع» اتخذه مساكنًا له في عيشه خلال تلك الأيام الطويلة. على الرغم من أن العاملين معه من مجموعة الإضاءة لا يفارقونه، ويتلقفون لتقديم أي شيء يحتاجه سواء في التصوير أو غيره.

***

بعد إنجاز «الليل» دعوت يوسف لتصوير الفلم التسجيلي الذي صورته في حلب مع المؤذن والمغني الحلبي الشيخ صبري مدلل بعنوان: «حلب مقامات المسرة» حيث نعمنا معًا بالضوء الوجداني الداخلي لهذه القامة الموسيقية التي تعدّ الذاكرة الوثائقية للتراث الأندلسي للموشح والتي حافظت عليه وأسست للمدرسة الحلبية في الموسيقا والغناء. بعد تصوير هذين الفلمين غدا يوسف لي شخصية «روائية» تتصدر ما كنت قد كتبته في سيناريو «سينما الدنيا». بل ربما في رواية قد أكتبها وقد لا. فمن أحببنا لا يموت إلا حين نموت نحن.

يوميات سينمائي سوري في اليوم الأول ما بعد الحرب هذه الحرب  بما آلت إليه؛ ألـقمتنا  أحجارًا كثيرة

يوميات سينمائي سوري في اليوم الأول ما بعد الحرب

هذه الحرب بما آلت إليه؛ ألـقمتنا أحجارًا كثيرة

في اليوم الأول ما بعد الحرب.

فتحت عينيَّ في هذا الصباح؛ وأنا مبلل الروح؛ كأني أخرج من أعماق الماء؛ وكنت لحظتها أردد شكي في نسب كلام قرأته بالأمس؛ في رواية إلياس خوري «مجمع الأسرار»؛ إلى الخليفة هارون الرشيد؛ معلقًا على ما ذكر له ويقول فيه: «إن كنت رأيت ما ذكرته فقد رأيت عجبــــًا! وإن كنت ما رأيتـه، فقد وضعت أدبـــًا».

على الرغم من الإثارة والأهمية؛ لما قاله هارون الرشيد؛ فإن مبعث شكي في نسب هذا القول له؛ يعود إلى قناعتي؛ بأن أيًّا كان مهمًّا بلغ من العظمة والعبقرية؛ فإنه ما دام هو السلطان والحاكم؛ فإنه لا يمكن أن يقر بحكمة جميلة وهامة كهذه.

لكنه بصرف النظر عمن هو الذي قال ذلك؛ فقد أمسك بي منذ ليلة الأمس؛ ولعله هو الذي بعث بي إلى الكثير من الكوابيس والاختناقات؛ وبعثر تأملاتي وانتظاري لليوم الأول لما بعد الحرب. وعلى الرغم من ذلك كله؛ بقي يعتلج في داخلي؛ ويختلط مع أواخر هدير للطائرات الحربية من فوقنا؛ وبقايا القذائف العشوائية التي كانت تهطل علينا وعلى دمشق.

في هذا الصباح الرائق؛ أخذت حكمة هارون الرشيد؛ تـفتـق لدي الكثير من الصور للأسى والآلام التي عشناها وعايشناها في سنوات الحرب الطويلة. وأخذت أتساءل مع نفسي: «هل كان ما رأيناه عجبًا؟!». و«ألم نكن نحن ما رأيناه أيضًا؟!. فماذا يمكن أن يقال لنا؛ حين يكون الذي جرى ورأيناه؛ وكناه في وقت واحد؟!. وماذا كان من الممكن أن يصف هارون الرشيد ذلك؟!. وتساءلت ما الذي كان هارون الرشيد –هذا إذا كان نسب هذا الكلام له فعلًا- يريد أن يقوله بذلك؛ هل كان يريد أن يميز بين المعيش والمرئي في التعبير؛ وأن يضع للأدب أسسًا تقوم على الصدق؛ وأن يوحي لمن كان يجيب عن سؤاله؛ بأن التعبير الإبداعي يتطلب منك أن تستأصل الخوف الذي يبددك؛ وأن الأدب لا مرجعية له إلا «أدبيته». حسنًا! لنسأله إذن عن أحوالنا؛ فنحن كنا قد رأينا «العجب» وكنا ما رأيناه في الوقت نفسه؛ فما هو هذا الذي نضعه يا أيها السلطان والحاكم بأمره؟! فخيل لي أنه يقول: «لو أن الصور المتحركة؛ كانت قد اكتشفت في عصري؛ لقلت لكم بأنكم إذا كنتم قد رأيتم وكنتم ما ترون معًا فقد وضعتم سينما».

* * *

فوجدت نفسي أبحر وأغوص في فِلْم آخر؛ لا يناقض الفِلْم الذي كنت غارقًا فيه وأسعى لتحقيقه؛ وبدا لي أن «نعمة» السينما في بلدنا في جحيمها. أضأت الموبايل لأعرف أي يوم نحن؟! فارتبكت حين تبين لي أن اليوم هو 17 نيسان… ودهشت من أن هذه الـــ 17 من نيسان هذه المرة؛ قفزت أمامي بلا طعم؛ وأني لم أشعر معها بتلك الأحاسيس الدافئة التي كانت تبعثها في نفسي كل عام. لقد كان لها في الماضي مذاقها الخاص؛ كما عبرت عن ذلك؛ قبل نحو الثلاثين عامًا؛ في فِلْم «أحلام المدينة».

كما لم أجد اليوم أمي أمامي لأخبرها بأني: «رايح على العرض العسكري!. ولا لتسألني: أي عرض؟ ولا لأجيبها: اليوم عيد الجلاء! شو نسيانة؟

وأنها تقول لي: لأ! ما لي نسيانة! بس هي الشام كبيرة وبتخوف!

وأني قلت لها:

الحرب يا أمي بددت العيد.

وأن هذه الحرب بما آلت إليه؛ وبما فعلته؛ وما فعلناه بأنفسنا؛ ألـقمتنا أحجارًا كثيرة؛ وأننا تجاه الأسئلة العديدة التي يطرحها علينا أولادنا؛ نجد أنفسنا بُكْمًا أمامها. وأنهم خلالها لا يكـفون عن النظر بعيوننا؛ فـلا نجــد أمامنا إلا أن نغض الطرف؛ وندبر وجوهنا عن أعينهم.

* * *

لا أعرف لماذا بزغت أمامي هذه اللحظة؛ وجه صديقي المخرج السينمائي الشاب الذي زارني خلال هذه المحنة؛ وحكى لي عن فِلْمه الذي لم يكتمل؛ وروى لي بعينين مشبعتين بالحنان؛ عن تلك المرأة التي ما إن سيطرت «داعش» على مدينتها؛ حتى رمت بأولادها وبنفسها؛ من على الجسر المعلق لنهر الفرات.

وأخذت الدموع تحتبس في عينيه ويقول: «للأسف لم تكن لدي الكاميرا في تلك اللحظة». وشعرت حينها بخوف سديمي يتسلق على الأجنحة العديدة «للخوف» الذي يتربع في داخلي، وأن هذه الحرب التي قصمت ظهرنا؛ محنة كبيرة، وأنها كـ«السجن» يهمش الزمن؛ وينحت نتوءاته؛ ويمدده يومًا واحدًا لا نهاية له!

ويسيرنا على صراط نتداعى خلاله بين جحيم والجحيم. ولأنه ليس متاحًا اليوم، لأحد يرى ويعيش ما يرى، أن يوثق بالكاميرا ما يعيشه، وأن يتحرى الحياة في شوارع دمشق؛ فقد خرجت من البيت مرتكزًا على أن «القلب مصحف البصر». بعد أن هبطت درجات متعددة من سلم البيت؛ وجدت الجارة كما في الكثير من الأيام التي واجهناها؛ تقف عند نافذة المبنى الزجاجية للسلم؛ وتترصد الأفق البعيد وترتجف بحيرة وتيه؛ وهي تمسك بيد ابنها الصغير الذي أعدته للمدرسة على أحسن وجه. ما إن رأتني حتى هرعت نحوي مترجية؛ وسألتني بصوت مرتعش: «أبعثه على المدرسة ولا ما أبعثه؟!». أجبتها اليوم «ابعثيه!». وابتلعت نظرة الغيظ التي رمقني الصبي بها هذه المرة. خرجت من المبنى؛ ونقرت زجاج واجهة دكان جاري العجوز؛ الذي أصبح يعيش في الدكان؛ بعد أن دمر بيته في الضواحي. فأطل بابتسامته العذبة التي لا تقهر؛ وهو يردد: «اليوم ما لي خائف!». فرفعت يدي محييًا وابتسمت له مشجعًا بكل الإشارات الممكنة. لم يكن أمامي إلا خطوات قليلة؛ لتتناهى إليّ «الحكمة» اليومية التي يبعث بها جاري النجار. فدهشت حين تناهى إلي أزيز منشره الخشب مختلطًا بصوته يردد بلا توقف: «لا تصدق!». تسللت بين السيارات الكثيرة التي تحتل الأرصفة؛ وعبرت بينها. بينما كانت الدكاكين القليلة المتناثرة مغلقة بعد بأغلاق مطلية بالأعلام السورية. الحديقة المجاورة تتناثر في داخلها خيم اللجوء المرصعة بإشارات الأمم المتحدة؛ وبملابس الأطفال المنشورة على حبالها؛ بينما يرتصف الرجال على رصيف الحديقة؛ وأمام كل واحد منهم أدوات عمله يدخنون سجائرهم بتجهم وصمت؛ ينتظرون أن يأتي من يستدعي أحدهم لعمل يومي ما. في الفسح الصغيرة «بسطات» مختلفة لبيع أي شيء: جوارب؛ بطاريات صغيرة؛ دخان مهرب؛ موبايلات مسروقة. والباعة عيون مطفأة؛ وفي الأفواه الكثير مما يقال وكأنهم فقدوا شبابهم فجأة. في الشارع الرئيسي بين سبع البحرات وساحة المحافظة؛ فوجئت بكثافة العابرين على الأرصفة في الذهاب أو الإياب؛ مما لا يترك أي مجال للتأمل. الازدحام شديد؛ العجلة عشوائية؛ إيقاعات الحركة متداخلة ومتنوعة في مختلف الاتجاهات. العابرون من النساء والرجال يسيرون مجموعات؛ يتوقفون أمام أي شيء يصادفونه: يتفرجون؛ يسألون؛ يلمسون؛ ثم يمضون… كأنهم خرجوا من كهوف أو أقبية أو سجون أو مصحات؛ وكأنهم ينتظرون هذا النهار أن يغيب؛ لينتظروا يومًا مماثلًا آخر. يتوقف رجل فجأة بعد أن كان على عَجَلٍ؛ ويبدأ البحث عن موبايله؛ الذي يصدح بأغنية: «لأزرع لك بستان ورود». فقطع الأغنية وأجاب وتناهت إلينا لهجته الفراتية: «ولك يا زلمة شو عم تسألني (خفَض صوته وتلفت من حوله) عن الدولار؟! والله طلعت من الدير بلباسي هذا يلي ألبسه؛ وكنت ماشي الشرداق أشرب الشاي». يسير قليلًا وهو يردد ضاحكًا: «فوجدت حالي هين!».

مشهد من فِلم حجر الصبر

مرضى يستند ويسند كل منهم الآخر؛ عكاكيز؛ أطراف في الجصّ؛ كراسيّ متحركة بعجلات. تساؤلات عن عيادات؛ عن مَشافٍ؛ عن مخابرَ للتصوير الشعاعي أو التحليل. أطفال يبيعون العلكة. السجائر. موبايلات مسروقة. شحاذون من مختلف الأعمار. رجال ونساء وأطفال؛ وكلٌّ يلجأ بذكر مدينته المنكوبة في نداءاته. يهبط من السرفيس أحد الشباب وهو يحكي مع هاتفه وينظر إلى ساعته ويقول: «وكّـل ربك يا رجل! والله ثلاث ساعات لعبور الحواجز كيف تسجلني غياب! نساء تتهادى بمكالمات صاخبة. مناشدة. مشاجرة. مغازلة. ورجال يجيبون على هواتفهم يطالبون أو يرجون الانتظار؛ ودائمًا ثمة إشارة إلى الدولار. المتجمعون أمام مكاتب تحويل الأموال؛ يتبادلون ما حدث مع أي منهم في مدنهم. جمْع من النساء يتشاجرن على التاكسي التي وافق سائقها على النقل مع البطانيات والفرش البلاستكية والأغطية الصوفية التي استلمنها من مركز الإعانات المجاور.

فكيف لي أن أنسى «صورته»؛ ذاك الذي يرتسم الشحوب على ملامحه؛ والضنى والتعب في عيونه. أما هذا الذي عبر من أمامي كعاصفة؛ ولم يترك إلا رائحة ملابسة؛ بدا لي هاربًا من شيء أو من أحد وقد اكتسى وجهه بالذعر.

في المسافة الضيّقة التي تفصل بين باعة الألبسة المستعملة المرميّة بإهمال وفوضى فوق طاولات مرتجلة. يلتف الكثيرون حولها وينقبون بعبث عمّا يحتاجونه. أمهات يضعن بخجل ما اشترينه لأطفالهن من الملابس المستعملة بأكياس سوداء؛ ويَسِرْنَ متوّجات بعرق ينضح من جباههن. يتحلق حول السرفيس الذي توقف عند الإشارة الحمراء؛ أطفال يبيعون العلكة أو السجائر أو الموبايلات. لا أمل على وجه تلك الصبية التي تمشي بانكسار. لعلها تشعر بانقطاع السياق الذي كان؛ انقطع عن المكان؛ عن الزمان؛ عمّا عاشته؛ وعمّا كانت تنتظره؛ بل حتى عن الإحساس بالمسافة بينها وبين من يعبر بجوارها. أتوغَّل في الأزقة الضيّقة، بين مقاهي الرصيف المرتجَلة؛ ونرابيش النراجيل في أفواه الشباب والصبايا الملفعات بالأغطية البيضاء. في سوق الحقائب أجد نفسي في زحام وحركة صاخبة، وأينما الْتفتُّ أجد من يحمل أو يجرّ حقيبة وراءه. يبدو له كأني في «كراج» وأن ثمة حافلةً على وشك التحرك؛ فتهرع نحوها امرأة؛ تشكو وهي على وشك البكاء، وتقول في هاتفها: «وين تريديني أنام يا أمي؟». أقف عند بائع أقراص مدمجة لأفلام مُقَرْصَنة؛ يركن أفلامه على جدار مرحاض عمومي. فأعثر بين ركام الأفلام على فِلْم «حجر الصبر» للأفغاني عتيق رحيمي. إلى القريب من ساحة المرجة؛ دخلت دكانًا لبيع القرطاسية؛ وسألت الرجل العجوز؛ عن قلم! فيحضر لي وهو يتمتم بصوت غريق مضى زمن طويل لم يجد أحدًا لينطق: «الله يقدم يلي فيه الخير لها البلد»! يتأملني قليلًا ويسألني: «الاسم بالخير» وأجيب «سينما»؛ ويقول: «والله يا ابني يا سينما! على أيامنا من زمان؛ كان رحمه الله… شو كان اسمه؟ والله نسيت! كــان رجلًا وطنيًّا! بتذكر شو كان اسمه؟».

* * *

في مقهى الروضة أطل صاحب رواية «اختبار الندم» التي صدرت في بيروت والتي اقتبست فكرتها وبعض شخصياتها في سيناريو «صفر واحد واحد» الذي أنتظر وأسعى لتصويره. وروى لي بدهشة واستغراب؛ بأنه اليوم وهو آتٍ إلى المقهى؛ اشتبه بصديق من أصدقاء طفولته في قريته؛ وأنه مضى وراءه ليتأكد هو أم لا … فلاحظ أنه كلما أسرع وَهَمَّ نحوه ليرى وجهه؛ كان ذاك يسرع أكثر ويبتعد ويهرب منه. وأنه حين التقطه واستوقفه وجده يلهث وقد جف ريقه؛ والفزع على وجهه. فذكره بنفسه؛ فارتمى نحوه وعانقه؛ وهو يعتذر؛ فقد كان يظن أن أحدًا من الأمن يطارده. لم يكن أمامنا إلا أن نسخر من مرارة حالنا؛ ونتساءل: هل هذا سينما أم…؟

وحين كنت عائدًا دخلت الصيدلية المجاورة للبيت؛ لأشتري دوائي؛ فاندفع نحوي الشاب الذي يعمل في الصيدلية؛ وسلم علي باليد على غير المعتاد؛ وكانت عيناه تتدفق بالكلام الذي لا يقال؛ ويتوقف عند طرف اللسان. لكني لاحظت على وجهه أنه يعيش يومه وفي داخله شيء طازج من الفرح والامتنان؛ كمن وقع في ما كان يتمناه. وحين كادت مشاعره أن تفلت ويحكي؛ انبرت الصيدلانية ودفعته جانبًا؛ ليحل محلها مع الزبائن الآخرين؛ وهي تغمز بعينيها؛ وترفع إصبعها إلى فمها وتشير إلى الكثيرين. ناولتني الدواء الذي طلبته. وخرجت وأنا أشعر أني أسير على شظايا متناثرة من الخوف. دخلت دكان بائع الصحف؛ فلفت نظري أن هذا الرجل الكهل في حال من الحيرة والشعور بالعبثية؛ وأخذ من دون أن أسأله أي شيء؛ يروي لي: «بيتي يطل على الساحة؛ وإلى جانبه مخفر البوليس؛ وإلى الجانب الآخر الجامع. يوم الجمعة لاحظت أن كمًّا هائلًا من الشرطة والأمن يتجمع في الساحة. فلم أرغب في الصلاة في هذا الجو؛ لأني شعرت بغربة أن أصلي في هذا الجو من الجنود والأسلحة؛ فجِئتُ إلى هنا؛ رغم أني لا أفتح الدكان يوم الجمعة، وفتحتها! ويوم السبت (هنا اكتشفت أنه يتحدث ليس عن الأمس؛ ولكن عن يوم من الأيام الماضية؛ ربما قبل ثماني سنوات). بقيت في البيت أتأمل من النافذة ما يحدث في الساحة ولم أخرج للصلاة. أدهشني هذا التداول العلني لهذه الحكايات المتشابهة؛ فبائع الصحف الذي أتعامل معه يوميًّا منذ سنوات طويلة؛ لم يكن يفتح فمه مرة؛ حتى ليرد على تحيتي؛ أو على ابتسامتي المجاملة؛ يوقفني اليوم وقبل أن يسألني عما أريد؛ أخذ يسرد لي حكاية أيام؛ لم يعد يعنيه متى حصلت؛ بالأمس أم قبل سنوات. لكنها باقية في نفسه؛ ربما هي ما تبعث في نفسه هذا الشعور بالحيرة والعبثية.

في البيت تذكرت صديقي «أبو الريش»؛ الطبيب الساخر دائمًا؛ الذي اكتشف أن لدى شعبنا ورمًا اسمه «الخوف»؛ لا بد من استئصاله لأنه متعفن، وأنه وصل إلى عتبات السحايا الدماغية، وأن اثنتين من ثلاثة؛ من عظميات هذه السحايا؛ قد تآكلت وذابت؛ وأن العفن بدأ يأكل الثالثة. تصفحت مفكرتي عن مشروع فِلْم وثائقي؛ كنت أعتزم تحقيقه في منتصف الثمانينيات؛ كتحية لعيد الجلاء وللسابع عشر من نيسان. فصعقني من جديد ما كان جرى معي وكتبته: «حين زرت أحد المجاهدين ضد الاستعمار الفرنسي؛ في رابطة المحاربين القدماء؛ وطلبت منه أن يتحدث لي أمام الكاميرا عن ذاكرته الشخصية. سألني: أين الموافقة؟ قلت له: أي موافقة؟ قال: الموافقة على التصوير! فأبرزت له موافقة وزارة الثقافة! قرأ الموافقة ورفع رأسه وقال: لا! هذه لا تعنيني! أريد الموافقة الأمنية! فقررت عدم تحقيق الفِلْم».

استلقيت في عتمة الثانية صباحًا؛ وأنا أشعر أن هذه الكتابة الذاتية ليست وقائع؛ بل رؤى وذاكرة معلقان على حبال الماضي أو المستقبل؛ وهي تعبير عن العجز الذي يحول السينما من «نعمة» إلى جحيم.