ميشيل سير.. لفلسفته جسم حقيقي له جلد وأحشاء ويدان خشنتان كما له روائح وآلام

ميشيل سير.. لفلسفته جسم حقيقي

له جلد وأحشاء ويدان خشنتان كما له روائح وآلام

برحيل الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير ( 1930 – 2019م) تفقد الساحة الفلسفية والثقافية الفرنسية واحدًا من أبرز مفكريها الكبار. مؤرخ للعلوم اهتم بمختلف أشكال المعرفة، العلمية منها والأدبية، عالم إنسانيات مستبصر حيث كان سباقًا إلى التنبؤ بما يشهده العالم من تقلبات مرتبطة بتكنولوجيا التواصل الجديدة. ردًّا عن السؤال: «ماذا يجب على المرء صنعه ليكون فيلسوفًا؟» كان جوابه دومًا: «يجب عليه أن يسافر». لقد رحل الفيلسوف في سن الثمانية والثمانين من عمره.

اسم سِير مسجل في بطاقة هويتي. هذا اسمٌ جبَلي، مثل جبل سيِيرا [الشارات] في إسبانيا أو سِيرا بالبرتغالية؛ ألفُ شخص يكنى بالمثل، على الأقل في ثلاثة بلدان. أما ميشيل، فيحمله عدد كبير جدًّا من السكان. حدث ذلك يوم 18 نوفمبر 2009م. مع حشد من الزملاء، كان ميشيل سير في مقر تحرير ليبراسيون، الواقع آنذاك بزقاق بيرانجي، قصد تحرير ركن «ليبي الفلاسفة» من الألف إلى الياء، وقتها كان النقاش حول الهوية القومية محتدمًا. وقد أنيط به دور رئيس التحرير ومهمة كتابة كلمة المحرر الافتتاحية. كان شعره الأبيض كما حاجبيه جفالًا، يلبس سروالًا من قطيفة وسترة أهل الجبال، حمراء. بعدما انفض مجلس التحرير ظل وحده بالقاعة الكبرى التي كان يستحب اسمها «الكوَّة». وفَّرنا له حاسوبًا، لكنه كان يفضل الحصول على أوراق معدودة فحسب: «عندي قلم».

ثم أخذ يكتب، بقلم رصاص صغير في حقيقة الأمر، له طول سيجارة. بعد ساعة كانت افتتاحيته جاهزة. وسوف نعلم في الأيام الموالية أن عددًا كبيرًا من الأساتذة قرأها على تلامذته في الأقسام الدراسية. «أعرف الكثير من ميشيل سير: أنا من هذه الجماعة كما أني من جماعة الناس الذين ولدوا في لوتيغارون. بالمختصر، لا شيء في بطاقة هويتي يذكر شيئًا عن هويتي، وإنما ثمة أنساب عدة. فيها يظهر نَسبان اثنان آخران: الناس الذين لهم قامة متر وثمانون سنتيمتر والمنتسبون للأمة الفرنسية. إن خلط الهوية بالانتساب غلط في المنطق، يضع قاعدته علماء الرياضيات.

إما أن تقول: «ألف هو ألف»، «أنا هو أنا»، تلك هي الهوية؛ أو تقول: «ألف ينتسب إلى هذا الطائفة» وهذا هو الانتساب. يقود هذا الغلط إلى قول أي كلام. لكنه يقترن بجريمة سياسية: العنصرية. فأن نقول، بالفعل، عن فلان أو علان: إنه أسود البشرة أو يهودي أو فلانة امرأة فذلك قول عنصري؛ لأنه يخلط الانتساب والهوية. لست فرنسيًّا أو غاسكونيًّا، بل أنتسب إلى جماعات من يحملون في جيوبهم بطاقة مكتوبة باللغة نفسها التي هي لغتي، وإلى من يحلُمون أحيانًا باللغة الأوسيتانية. إن اختزال امرئ في نسب واحد من أنسابه قد يحكم عليه بالاضطهاد. بيد أننا نقترف هذا الغلط، وهذه الإهانة حينما نقول: هوية دينية، ثقافية، قومية… كلا، إن الأمر يتعلق بأنساب. من أنا إذن؟ أنا هو أنا، ذلك كل ما في الأمر. كما أني مجموع أنسابي التي لن أعرفها إلا ساعة مماتي؛ لأن كل تقدم يتمثل في الدخول ضمن جماعة جديدة: جماعة من يتكلمون التركية إذا تعلمت هذه اللغة، جماعة من يعرفون إصلاح دراجة نارية أو طهو بيض مسلوق، … إلخ. الهوية القومية: غلط وجنحة.

فلسفةُ عقلٍ علمي جديد

رحل ميشيل سير يوم السبت 2 يونيو الماضي في سن الثمانية والثمانين من عمره. في الوسع أن نقول من الآن فصاعدا: إنه كان فيلسوفًا فريد عصره، عنده حب استطلاع لا حد له، رجلًا خيِّرًا، لا مثيل لكرمه – مفكرًا لا يشبه سواه، وهو يشيد بأعراس الثقافة والطبيعة، فقد جعل بذلك للفلسفة ألوانًا وروائح، أدخل إليها ماء الأنهار والمراعي والذئاب والعجول والبُوم. سُئل ذات يوم: «ما تراك فاعلًا في أعلى الجبل وأنت في هذه السن من عمرك؟». أجاب: إعداد كتابتي. اشتغلوا بالدراسة، تعلموا هذا أمر مؤكد، سوف يبقى دائمًا ثمة شيء من ذلك، لكن على الأخص مرّنوا الجسد واجعلوا ثقتكم فيه؛ لأنه يتذكر كل شيء دون ثقل أو كدس.

منذ نسق «ليبنتز» ونماذجه الرياضية (1968م) ألَّف ميشيل سير أكثر من ستين كتابًا. إن من لم يقرأ أيًّا منها لن يعلم أن مؤلَّفًا في الفلسفة أو في تاريخ العلوم قد يكون له «جسم متماسك». في بداياته، في مؤلفات يقرّ بقيمتها أقرانه وليس بعد الجمهور الواسع، فإن سير كان يتفلسف مثل الجميع: في السلسلة العبقرية من هرمس Hermès، يشعّ نوره في كل حقول العلم والمعرفة، فإنه يرسم فلسفةَ عقلٍ علمي جديد، وانطلاقًا من دراسة فيزياء القرن التاسع عشر -الدينامية الحرارية- يقوم بوضع نظرية للمعلومة قادرة على خلق جسور بين علوم الإنسان والمناهج الخاصة بعلوم الطبيعة. لكنه بسرعة أخذ في رسم خطوط تطواف أشد غرابة: ها هو في بيت لوكريس لحضور ولادة الفيزياء، أو هو على مقربة من ليبنتز، حتى يشهد ولادة حساب التفاضل، ومن ديدرو ودالومبير، وها هو عند جول ڤيرن، ثم يتابع «أضواء وعلامات الضباب» لصاحبها زولا، ثم يغامر بنفسه في «ممر الشمال الغربي» المحفوف بالمخاطر، الذي يفتح الطريق من العلم نحو الأدب، وينبهر بكل من بوسان، لاتور، تورنر، كارباشيو، ويتردد على ميشلي أو فولكنر ويا للفضيحة على تانتان! وبفضل «الحواس الخمس (1989م) يجوز بكثير من الغبطة -وهذه المرة مغضبًا أقرانه- كل تخم بين الأجناس واللغات: ومن تلك اللحظة صار «متن فلسفته» جسمًا حقيقيًّا، له جلد وأحشاء، له عقل وعضلات، له يدان خشنتان، كما له روائح وآلام.

العقد الطبيعي

كانت لديه كل الوثائق القانونية، بكل تأكيد: كان قادمًا من المدرسة العليا للأساتذة، مبرزًا، حاصلًا على درجة الدكتوراه بفضل أطروحة عن ليبنتز، درَّس بجامعة كليرمان فيران (في المدة نفسها وميشيل فوكو)، ثم في ڤانسان، ثم غادر إلى الولايات المتحدة الأميركية، بستانفورد، وأصبح، عام 1990م من زمرة المخلدين. لكن كان يُنظر إليه شيئًا ما على نحو غير سويّ. مثلا حينما نودي عليه إلى جامعة باريسI- السوربون لتدريس إبستمولوجيا وتاريخ العلوم، استُقبِلَ في قسم التاريخ وليس في قسم الفلسفة. أما أصحاب «الفلسفة المتشددة»، التقنية، البرهانية، فقد دفعوا به نوعًا ما إلى هوامش الفلسفة، نحو الأدب أو «الشعر»، نحو فلسفة سهلة، إنشادية، حيث يستمتع اللسان، الذي يمتدحه العقل ويداعبه، بأن يرى نفسه شديد الجمال في مرآته. لم يلتفت لذلك بالطبع، لكن عند انتخابه عضوًا في الأكاديمية الفرنسية صرَّح لصحيفة ليبراسيون بأنه يقبل الكرسي بفرح، ما دامت الجامعة لم تقدم له قط سوى مقعد قابل للطي، مثلما فعلت مع جيل دولوز.

بعد الحواس الخمس، ألَّف كتبًا جعلها طوع القراء أكثر فأكثر، وذلك بتخليصها من كل بلبلة لُغوية ومن كل عُدَّة نقدية عالِمة. في كل كتاب منها يقول بلسان عجيب كيف يسير العالَم وكيف ينبغي للفكر أن يفكر فيه، ويقود معاركه بقوة الملَّاح أو الفلَّاح الهادئة. إنه يدعو كل إنسان في العالم إلى احتواء قدرته بين حدود معقولة، بحيث لا تُشَوَّهُ صورة جمال الطبيعة الهش، الذي تُرى انعكاساته في الفن والعلم والثقافة جمعاء. ويدعوهم إلى التوقيع على «عقد طبيعي» لا يجعل من الطبيعة فضاء للغزو وإنما موضوع حق ويُحيي من جديد عند الإنسان قيمة التحفظ، والحياء والاعتدال والحس الكبير بعدالة توزيع الثروات. وصار واحدًا من أكثر الفلاسفة شعبيةً، الذي طبقت شهرته الأفاق مع «الإبهام الصغير» (أكثر من 200000 نسخة بِيعتْ في فرنسا): انطلاقًا من تلك الحركة اليومية للأصابع التي تكتب بسرعة ألف كلم في الساعة على المحمول، يصف معنى الثورة الرقمية الجارية، التي تُغير تقريبًا كل شيء؛ الممارسات، الرؤية إلى العالم، اللغات، الاهتمام بالأشياء، العلاقة بالآخرين، طرائق التعلم، الحق، السياسة، وكينونتنا في العالم في حد ذاته.

ثعلب متحمس

ولد ميشيل سير يوم فاتح نوفمبر عام 1930م بآجن، تحت رعاية الكرة المستطيلة ومنطقة الغارون، في بيت «جمهوري وضد الكنيسة حد التشدد». كان أبوه يسمى ڤالمي: شارك في الحرب العالمية الأولى، شهد «المجزرة» وهناك في ميدان المعركة، صار متدينًا، وعُمِّدَ واتخذ اسم يوحنا. اسم آل سير يحيل إلى مخالب النسر أو الصقر، لكن «بيتهم» هو الماء. لمَّا كان مراهقًا، انتسب ميشيل أعوامًا طويلة عند الكشافة إلى فرقة النمور، لها شعار خاص «الثعلب المتحمس». لكنه في الحقيقة سمكة وإن كان بين فينة وأخرى على الخط الثالث من الكرة المستطيلة. كان يعيش في وسط هش: كان أبي البحَّار وكل من معه لا يعرفون العوم، لا المكلف عنده بجرف المحار ولا متعلمه، ولا حتى ملَّاحه الذي كان يفرغ غرابيل الرمل من الحصى، ولا مُشغل الرافعة. أيام الخميس بعد الظهيرة (حينذاك كان الخميس يوم عطلة التلاميذ)، كان يتعلم السباحة على الصدر «وبطنه مشدود بحبل إلى أعمدة في الرصيف» و«ينتهز الفرصة ليغرق» – لينقذه في آخر لحظة «ضخ الهواء فمًا لفمٍ»: «بما أني ولدتُ أسود مخنوقًا، تشد عنقي حبال ملتوية مثلثة، فإني ولدتُ من جديد». ولد مرة أخرى في صورة سمكة بيضاء، أو سمكة شبوط أو غجوم، وكان يسبح بكل فرح. صحبة أخيه كلود و«مشاغبين» آخرين صغار، كانوا يذهبون مثل سرب من الأسماك أكثر مما هم عصبة أطفال «يسبحون تحت شباك المحار ويكتشفون قيعان المراكب المخضرَّة»، يسكنون النهر أكثر من بيوتهم: «كنا نعرف الروافد والتيارات المعاكسة، الحصى المدوَّر واللزج، الصخور الحادة والطين اللازب وقصب الضفاف…». لم يكف يومًا عن وصف نفسه بأنه «آخر فرد من آخر قبيلة لآخر الملَّاحين بمنطقة الغارون الوسطى».

هل كان في وسعه أن يذهب بكل بساطة للجلوس على مقاعد غير مريحة بكلية وتنشق هواء المدرجات الضاجّ بالدخان حينذاك؟ كلَّا. التحق بالمدرسة البحرية، ضابطًا في البحرية، شارك في الحملة على قناة السويس. لكن يوميات المَدافع والمدرعات اصطدمت بأفكاره المثالية السلمية، الموروثة عن أبيه. اختار إذن المدرسة العليا والفلسفة. وللدقة أكثر، تزوَّج «فتاة المسرَّة». بعبارة أخرى، المعرفة  التي يعلم مسبقًا أنها سوف تكون ثابتة في الأرض، تهزها الرياح والأمواج «ممتحَنة دوما، متغيرة وصابرة، خفيفة ومتحركة، تائهة في أغلب الأحيان، مغرمة دومًا، متلهفة حد الجنون، مستسلمة لحدوس غريبة ولأن لا تنعم أبدًا بطعم الانتصار». في كتبه الأخيرة، مثل كتابَيِ «الأعسر الأعرج» و«كُتَّاب» لا يتردد في أن يقدم بجرأة «حكاية عظيمة للكون»، ينتسب حاضرها إلى نظرية المعلومة. يقول: ما من كائن حيّ إلا يرسل معلومة، ويتلقى مثلها، ويخزنها ويعالجها. مثلما هو الشأن بالنسبة لما هو غير بيولوجي، من بلور، وصخر، ونجوم، وبالنسبة لما هو إنساني: من فرد وأسرة ومزرعة وقرية ومدينة كبرى… بيد أن التفكير هو أيضًا تلقٍّ، وإرسال، وتخزين ومعالجة للمعلومة.

عُمَّال يدويون

إذا كان الفكر اختراعًا وليس تكرارًا، فإنه ليس من المحال، حسب القواعد نفسها التي تحكم كل ما هو موجود، أن يسعه احتضان مستجدات الكون وتطور أحوال العالم، بتفرعاته وتشعباته…لكن من أجل ذلك، لا يمكننا الاكتفاء بمفاهيم باردة لبناء كاتدرائيات نظرية مهيبة لكن لا حياة فيها؛ إذ لا يوجد شيء في الذهن إن لم يمتحن الجسم نفسه بالتجارب، إذا «لم يرتعد الأنف أبدًا في طريق التوابل» أو لم تَذُبْ في الفم إجاصة شتوية أو عطرية، ما لم يصر الجسم كالأثير، والفكر بلا جسد. هكذا، من مؤلف إلى آخر، مزج الخطاب الفلسفي والإبستمولوجي، والتحليل البارد للمفاهيم بـ«كلام» العمال اليدويين من شتى الحِرف: «حطابون، صيادون أو بهلوانيون يمشون على الحبل، صمٌّ وبكم، خجولون وجاهلون»، يسند حركاتهم، وخفة أياديهم، وهيئاتهم، العرَق والنَّفَس، ويُدخل «الجلدة»، يعيد للعِلم مذاقه، وللأشياء جلدتها وتجاعيدها، وللشخص الذي يفكر بطنًا وأحشاء وأظافر وأعصابه الموتَّرة.

لقد استطاع بصدق إنشاء فلسفة الجسد: لقد فضل أن «يُجسِّم» لغته الفلسفية الخاصة – التي «نسمع» صوتها الأجش، في كل صفحة من الصفحات التي كتبها. ماذا يجب على المرء صنعه ليكون فيلسوفًا؟ كان ميشيل سير يجيب دومًا: «يجب عليه أن يرحل!» جعل الفكر محمولًا بالخيال، مثل سجاد طائر، وكبح الخيال عبر الانشغال بالواقع والقول الصادق، والذهاب من المؤلفات العلمية إلى الأشعار، تبادل الألسن والمفاهيم، التهجين، التوصيل، الكشف بين المعارف عن دروب الجمارك الواصلة بينها… يعدُّ فيلسوفًا من دار حول العالم ثلاث مرّات، من زار ساحل الجليد، شاهد الزلازل والبراكين، جاز الصحارى، وقد ملأ نفسه «بجمال الكون القاسي» ثم وهو محبط لكنه جَلْدٌ، حاول القيام بدورة حول «العِلم»، وفي النهاية دون أمل في اكتمال ذلك، شرع في دورة حول «بني الإنسان»، واللغات والثقافات والأديان.

عصر الوداعة

كان ميشيل سير، وهو حينذاك مؤرخُ علوم شاب، لا يكف عن الإشادة بالفيلسوف ليبنتز. وكلما تدرج في أعماله قُدمًا، كان يوجه الشكر لمن علموه «التفكير»، كان بالأحرى يذكر أساتذته في الرياضة البدنية ومرشديه في الجبل، الذين كان لهم في نظره فضل في بناء المعرفة الحقة، تلك التي تتحرك وتنفعل من خلال تبادل المعارف، والإبحار بين المعارف الإنسانية ومناهج علوم الطبيعة. منذ ذلك الحين تختلط المشاهد بالحكماء، النظريات بالأشعار، تنسجم الرسوم بالموسيقا: لو تبعنا سير، لأصابتنا الدهشة حين يبرز أمامنا بَغْتةً ريمان، ليني، غاليليو أو إقليدس عند منعطف نهر أو على قمة درب حجري، نسترق النظر إلى ديكارت وبيرغسون إبان موسم قطاف العنب، ونرى من خلال ذلك لافونتين وفلوبير وبروست، وبالكاد نلمح بروغيل، ورابلي، وأفلاطون أو سترافنسكي، تحت مطر من أمطار الصيف… كم كان يحب المعرفة، مثل حب المرء لحبيبه، مثلما يحب الناس أكل مثلجة بالشوكولاتة أو السباحة في بحر من البحار المدارية. لقد أحبها من غير أن يفلح في «حدِّها» طبعًا – لكانت تلك كارثة له لو رآها «مغلقة»! لكنه زار في رحلات متعددة، «بحبور ديني تقريبًا» كل الخرائط: تاريخ العلوم، والطبيعة والمجتمعات. من كل هذا الطواف الملاحي عاد بحكمة أخلاقية: مهما ذهب مكتشف الثقافات بعيدًا، عند الإنويين أو عند البورغينيين، عند سكان فوجي أو أهل البامباراس، عند التزوتيل أو الأرمانياك، لن يجد سوى أبناء عمومة وإخوة.

كان ميشيل سير رجلًا وديعًا جدًّا، يبهره كل شيء، ويعرف بسحر كلامه الذي لوَّحته شمس الجنوب الغربي، كيف يبهر أي جمهور مستمع كيفما كان. كان رجل قلب وعقل، ليِّن الجانب، متسامح، يرى في الأفق المنظور، دون «نزعة تنبئية» أو «تبشيرية»، عصرًا جديدًا بدى له أنه عصر سلام: «عصر وداعة». الطريقة التي أخذ بها العالم في الدوران، من أزمة إلى أخرى، من عنف إلى رعب، أغرقته في سديم حزن عميق. إلا أنه كان «يقاوم»، ويواصل بذر حقول المعرفة، وزرع أشجار العلم. لم يستحسن قط الجذوع، القائمة مثل حقائق تامة الصنع، مثل اعتقادات جازمة جامدة ومتوازية، لكنه كان يحب القمم، يحب -وهذا عنوان كتاب من كتبه- «الأغصان» التي تتلامس وتتبادل وتتداخل من شدة نحافتها وتواضعها، ويُسمع لها هسيس من هبة الريح نفسها، ويبدو أنها تتهامس أحيانًا.

المصدر‭:‬ ليبراسيون،‭ ‬2‭ ‬يونيو‭ ‬2019م‭.‬