شكرًا لساعي البريد: العصر الرقمي يقتل المراسلة الشخصية

شكرًا لساعي البريد: العصر الرقمي يقتل المراسلة الشخصية

في معرض «أنا آشور بانيبال: ملك العالم» الذي نظمه المتحف البريطاني مؤخرًا، جذب انتباهي ذلك المظروف الطيني الصغير، بلونه البرتقالي الباهت، وفي داخله رسالة حروفها مسمارية هي الأخرى من الطين المفخور، كتبها الملك الآشوري الذي توفي عام 628 قبل الميلاد، إلى أحد ولاته البعيدين من عاصمة المملكة الآشورية، نينوى، وليس مستبعدًا أن تكون هناك حصون تشبه المقاهي والمطاعم السائدة اليوم بين المدن، يرتادها المسافرون على عجل خلال رحلاتهم. بين حصن وآخر هناك ساعي بريد، يتسلم الرسائل من زميله السابق له، فينقلها إلى الحصن اللاحق ليأخذها زميل آخر خطوة أخرى، حتى وصولها إلى الشخص المعنيّ.

في كل بلدان العالم تقريبًا هناك نُصْبٌ للجندي المجهول، أمامها يقف الزوار من ملوك ورؤساء ليضعوا طوقًا من الورود، بجانب تلك النار الموقدة دائمًا تخليدًا لأولئك الذين ضحوا بحياتهم من أجل أوطانهم. وماذا عن أولئك الذين ربطوا النقاط المتنائية بعضها ببعض، وضمنوا التواصل والتفاعل بين الأقارب والأصدقاء، أو بين الشيوخ ومريديهم، وحفظوا دون أن يدروا إمبراطوريات شاسعة من التفكك عبر نقل أوامر الرؤساء المكتوبة إلى مرؤوسيهم، أو بالعكس، نقل تقارير وطلبات المرؤوسين إلى رؤسائهم.

كم كان على سعاة البريد أولئك أن يقطعوا صحارى وجبالًا وأنهارًا ليوصلوا الرسائل وهم يتنقلون على ظهور البغال أو الجمال، وربما في بعض الأماكن «الأكثر تطورًا» كانت العربات التي تجرها الخيول هي وسيلة تنقلهم، وسط طرق ترابية أو رملية أو صخرية، حيث لم تكن معهم أي أجهزة ملاحة تدلهم سوى النجوم وذاكرتهم وحدسهم الذي شذبته وشحذته تجارب أجيال من السعاة الذين نقلوا مهنتهم جيلًا بعد جيل. كم تعرض هؤلاء الجنود المجهولون إلى السرقة والقتل وهم يتنقلون بين أقوام وقبائل مختلفة صوب أماكن توجههم، ومع ذلك لم تفتّ من عضدهم، فكأنما هم خلقوا لوظيفة لا تقلّ أهمية عن وظيفة الجندي المدافع عن شعبه وبلده، فهم يدافعون عن العالم المأهول من آفات النسيان والتفكك والاضمحلال، ويقيمون شبكات تواصل تشبه كثيرًا شباك العنكبوت البارعة. الفرق بين الاثنين هو في الهدف: العنكبوت يهدف من شباكه الصيد والبقاء حيًّا، بينما الهدف من شبكات الرُّسُل كسر الموت الروحي الناجم عن سكونية تجمعات بشرية لم تكن في أغلب الأحيان تتجاوز ثلاثة آلاف شخص في أحسن الأحوال.

كان عليَّ أن أذكّر بأن سعاة البريد لم ينقلوا الرسائل الشخصية فقط بوسائط نقل بدائية حتى بداية القرن العشرين، بل كانوا ينقلون الهدايا والكتب بين المتراسلين، ولاحقًا الصحف والمجلات. لا بد أن نتذكر أن الكثير من الكتب التي صاغها أدباء ومفكرون عرب خلال العصر العباسي خاصة كانت في الأصل رسائل موجهة إلى أشخاص محددين، أو على الأقل كان كاتبها يستحضر ضمير المخاطب في نصه، وفي حالات عديدة يذكر هذا الشخص. فرسالة الغفران (التي سبقت الكوميديا الإلهية للشاعر الإيطالي دانتي ) كتبها المعري في الأصل رسالة إلى صديقه اللغوي ابن القارح يبشره فيها أن مكانه سيكون في الفردوس لسبب واحد، هو اعترافه بخطأ ارتكبه تجاه رجل أحسن إليه. وطالما أنها رسالة، فهي في حاجة إلى ثلاثة أطراف لتحقق الهدف من كتابتها: المُرسِل والرسول (ساعي البريد) والمرسَل إليه.

هل بعث المعري برسالته -التي ستصبح، بعد قرون على وفاته، معلمًا عالميًّا في السرد القصصي القائم على الدعابة والفانتازيا الجارفتين- إلى صديقه ابن القارح، عبر ساعي بريد (رسول) يعرف أين كان الأخير مقيمًا، خصوصًا أنه كان عاشقًا للسفر والتنقل لغرض التدريس بين بغداد وحلب والقاهرة والموصل؟

أو لعله تعذر إرسالها إليه فبقيت أمام كاتبها، يمرر أصابعه فوقها لتلمس صفحاتها، متأسفًا على الوقت الذي أمضاه في إملائها على أحد تلامذته؟ لكن ما يهمنا أن هذا الإبداع تجاوز المخيلة العربية المحكومة بنقل تفاصيل الواقع الرتيب، لينقلنا في رحلة عبر اللغوي والشاعر ابن القارح إلى الفردوس والجحيم، حيث يبحث اللغوي العتيد عن الشعراء واللغويين الموتى ليستفسر منهم عما صعب عليه من فهم في نصوصهم.

هل كان بالإمكان أن يصوغ المعري هذا الكتاب الذي فتح الباب لدانتي بعد ما يقرب من ثلاثة قرون لكتابه الشهير «الكوميديا الإلهية» من دون أن يكون رسالة موجهة لشخص يحبه ويقدره ويستطيع مناجاته بكل ما يعتمل في نفسه من أفكار دون خوف ودون سوء تفسير.

كم عمقت مراسلات ما قبل العصر الرقمي فهمنا لبواطن الكثيرين من المفكرين والأدباء والفنانين، فهم قضوا حياتهم يتراسلون مع أفراد يعدون بأصابع اليد الواحدة، وفيما يكتبونه كانوا ينقلون بحرية كل ما يعتمل في أنفسهم من أفكار ورؤى ومشاعر وأزمات عاطفية. بل إن الكثير من أسس المنظومات الفكرية جاءت عبر تلك المراسلات والحوارات التي تختمر بين صديقين أو زميلين بفضل تلك الفجوة الزمنية القائمة ما بين تسلم الرسالة وقراءتها ثم الرد عليها وإرسالها وانتظار الرد عليها. كم كانت الرسائل تستغرق في رحلاتها إذا عرفنا أن سرعة حصان ماشٍ من دون قسر له لا تتجاوز 4 أميال في الساعة؟

فعلى سبيل المثال، تضمنت المراسلات التي دارت بين فرويد وزميله فيلهلم فلِيس، المقيم في برلين، خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، الكثير من النباتات التي تأسست عليها قواعد التحليل النفسي. في إحدى الرسائل الأخيرة التي كتبها للطبيب المهتم بعلم الأحياء، كشف فرويد ما سيكون نقلة نوعية في مقاربة النفس البشرية، لكنها بدت كأنها زلة لسان: «هاجس آخر يُعلمني، كأني أعرف سلفًا -على الرغم من أني لا أعرف أي شيء إطلاقًا- أنني موشك على اكتشاف مصدر الأخلاقية».

وكم كانت هذه الجملة التي رددها هيغل الشاب عام 1806م في رسالته المعنونة إلى صديقه نيتامَر يوم 13 أكتوبر 1806م بعد مشاهدته نابليون في مدينة يينا، نواة كتابه الأول «فينومونولجيا الروح»: «شاهدتُ الإمبراطور -روح العالم هذا- يخرج من المدينة لتفقّد مُلكه؛ إنه فعلًا شعور رائع رؤية فرد كهذا يركز على نقطة واحدة بينما هو راكب على ظهر حصان، يمتد على العالم ويتحكم فيه…».

أو تلك الجملة التي كتبها فينسنت فان غوخ في إحدى رسائله من بلدة آرل في جنوب فرنسا لأخيه تاجر الأعمال الفنية، ثيو، المقيم في باريس، وكأنه يستقرئ فيها انتحاره الوشيك بسبب الشيزوفرينيا الملازمة له: «الموت ليس أسوأ ما يمكن أن يواجهه الفنان في حياته».

وراء ذلك الكم الهائل الذي تركته مراسلات الفلاسفة والثوريين والفنانين والأدباء عبر القرون، يكمن كنز هائل لن يتكرر ثانية. ولا بد أن الفضل في تحققه يعود لذلك الشخص المجهول، الدؤوب على ربطنا بعضنا ببعض، في إغناء حوار ذي خصائص لن تتكرر أبدًا.

* * *

تعني كلمة «بريد» العربية مسافة تساوي أربعة فراسخ (12 ميلًا)، ولست واثقًا من أنها المسافة التي يستطيع الحصان قطعها دفعة واحدة قبل إراحته وإطعامه، ليبدأ «بريدًا» آخر. إذن فإن عبارة ساعي البريد، لها علاقة بالمسافة التي يسعى حامل الرسائل إلى قطعها دفعة واحدة على قدميه، أو على ظهر حمار أو حصان، وفي القرن العشرين ارتبطت صورته بالدراجة الهوائية، وهو يتنقل من بيت إلى آخر داخل بلدته الصغيرة، قبل اختفائه أخيرًا، وحلول ساعٍ من نوع آخر، يسوق دراجة نارية، وهو إذ يقرع بابك فإنه لا يحمل لك رسالة من صديق بعيد، بل سلعة أو وجبة طعام اشتريتهما عبر الإنترنت أو فواتير الغاز والكهرباء والماء.

لا بدّ من الإشارة إلى أن دخول وسائل تواصل آنية مثل التلغراف (الرسالة المشفرة) والتلغرام (أو البرقية بكلماتها الحقيقية) والهاتف الأرضي الذي جاء ابتكاره في عشرينيات القرن الماضي، ليزيح التلغرام من طريقه إلى الأبد، لم تؤثر في التواصل عبر المراسلة، وكأن التسارع في وسائط النقل قصرت زمن التواصل بين المتراسلَيْنِ، بشكل كبير، فبدلًا من استغراق وصول رسالة أسابيع وأشهر حين يكونان مقيميْنِ في قارتين متباعدتين، ساعد النقل الجوي على تقليص الفجوة المكانية الفاصلة بينهما كثيرًا. مع ذلك، فإن الفجوة الزمنية بين بعث الرسالة وتسلمها ظلت قائمة، فالمرسَل إليه ليس مضطرًّا إلى أن يبادر من فوره إلى الرد على المرسِل. كذلك أصبحت هناك شبكة من سعاة البريد تنقل الرسائل والرزم من بلد إلى آخر، حتى تنتهي بآخر ساعي بريد يقوم بتسليمها إلى المعنيّ، يدًا بيدٍ، أو يدفعها عبر شق في باب البيت مخصص للرسائل.

هنا في العلاقة التي تنشئها الرسالة بين الطرفين خصائص، أصبحت متوارثة جيلًا عن جيل؛ إذ على المرسِل قبل البدء في كتابة خطابه، أن يستحضر لا إراديًّا كل ما يجمعه بالمرسَل إليه من أواصر، أي بغياب الأخير عن بصره، عليه أن يشحذ الذاكرة لاسترجاع آخر ما وصله منه، فالرسالة هي مجرد حلقة ضمن سلسلة متنامية لأفكار وآراء ومشاعر ينقلها ساعي البريد من دون أن يعرف محتواها ما بين طرفي معادلة، وخلال هذه اللعبة تنمو رؤى وقناعات وشكوك باتجاه حواريّ. بصيغة أخرى، على المرسِل أن يستحضر المرسَل إليه لا بشكل مجرد بل كما تجسد له في آخر رسالة وصلته منه.

كذلك، فإنه خلال كتابة الرسالة يجب أن يحافظ على حضور المرسَل إليه، لا بشكل فيزيائي، بل بشكل أقرب إلى موجة لها ذبذبة خاصة تشبه موجة محطة إذاعية محددة، وكلما طال الانغمار في إنشائها، طال حضور الآخر معه. كأن الآخرين، باستثناء المرسَل إليه، خلال تلك التجربة المعيشة كفوا عن الوجود، أو أصبحوا مادة أولية يصوغ المرسِل منها أجزاءً من رسالته.

وقد يكون على المرسِل استكشاف ما جدّ في حياته وحياة أسرته وأصدقائه، وما جرى من أمور صغيرة طريفة تساهم في إمتاع المتلقي؛ إذ إن المرسَل إليه هو الآخر مسكون بفضول ما لمعرفة عالم المرسِل، أين يسكن؟ وكيف هو الطقس؟ وماذا فعل بعد آخر رسالة وصلته منه؟ … إلخ، ومن كل هذه التفاصيل يتخيل عالم المرسِل فيصوغه وفق تلك الجزئيات الصغيرة التي ضمنها الآخر في رسائله.

يمكن القول: إن المرسَل إليه يصبح خلال كتابة الرسالة، بشكل ما مرآة للمرسِل يتعرف فيها إلى نفسه، وما يجول في أعمق أعماقه من أفكار ومشاعر ورؤى وأسئلة، وكأن وجود المسافة الزمكانية الفاصلة عن الآخر يمنحه حرية في مكاشفة الذات عبره. في المقابل، تظل عينا المرسِل على جادة الطريق عند اقتراب الموعد المتوقع لوصول رد المرسَل إليه، كأنه منغمر في لعبة تنس، تتباطأ فيها حركة الزمن بين اللاعبين، مع ذلك تظل عيونهما مشدودة إلى حركة الكرة (الرسالة)، وكلما طالت المُدّة الزمنية الفاصلة بينهما زاد عدد صفحات الرسالة، وزادت تفاصيلها ذهابًا وإيابًا.

في العصور القديمة، حين كانت رحلة ساعي البريد تستغرق أشهرًا أو سنين، كانت بعض الرسائل عبارة عن أسفارٍ (وقد تكون هذه الكلمة مشتقة من السِّفْر نفسه وتعني كِتابًا أيضًا). وقد يستغرق تبادل ثلاث رسائل أو أربع رسائل عمريهما أو عمر أحدهما بالكامل. كم تصبح الحياة في هذه الحال محدودة وغنية: عقلان فقط يتحاوران طوال حياتهما، أحدهما يغذي الآخر بوقود غير قابل للنفاد.

ليس مستبعدًا أن تكون فكرة الكتاب جاءت أولًا من ذلك الحوار المتواصل عبر الرسائل، ليتجاوز حدود الطرفين المعنيين، إلى جمهور أوسع.

* * *

بضربة واحدة، جاءت الثورة الرقمية لتقضي على تراث امتد آلاف السنوات: المراسلة الشخصية بخصوصياتها الآنفة الذكر، لتُحلّ التخاطب المباشر محلها، كأن المتراسلَين جالسان في غرفتين متجاورتين، فلا مكان للشوق إلى وصول الرسالة، التي تقطع البراري والبحار والفضاءات في الزمن الحقيقي، ولا تفرغ ذهني أو عاطفي لتلك السطور التي خصصها الآخر لي فقط، كشف لي فيها عما صادفه من مسرات وأوجاع، عما تشكل في ذهنه من انطباعات وأفكار، تداعيات هنا وهناك، كشوفات لم يكن الآخر يستطيع الوصول إليها من دون وسيلة التواصل هذه معي.

فهل هناك تراسل حقيقي بين شخصين مقيمين في غرفتين متجاورتين، أي قارتين مختلفتين؟ غير أن التراسل أصبح بينهما بسرعة الضوء، البالغة 300 ألف كيلو متر في الثانية، وإذا تذكرنا أن الضوء المنعكس من القمر يحتاج إلى ثانية و0.3 من الثانية للوصول إلى الأرض، على الرغم من أن المسافة الفاصلة بينهما تزيد قليلًا على 380 ألف كيلو متر، فإن زمن انتقال الرسالة من شخص إلى آخر تساوي صفرًا، بغض النظر عن مدى تباعدهما.

يسمي الفيلسوفُ الفرنسي جان بودريلار ظاهرةَ إلغاء الفاصلة الزمنية بين الأفراد مع بقاء المسافات الشاسعة الفاصلة بينهما تلوثَ الزمنِ، حاله حال تلوث المكان الناجم عن انبعاث الغازات الكربونية إلى الهواء. لكن التلوث هنا مجازي أكثر من أن يكون حقيقيًّا.

وإذا نظرنا إليه من زاوية التواصل بين الأفراد عبر المراسلة، فإن هذا الانتقال الفجائي من زمن ومسافة محددين، كان على الرسالة أن تقطعهما معًا، إلى انتفائهما تمامًا معًا، أفقدها خصائصها التي تنامت جيلًا بعد جيل، عبر قرون، حتى مع تطور وسائل النقل بظهور القطار في القرن التاسع، ثم العربات والطائرات في القرن العشرين.

كأن كل الجهود التي بذلها سعاة البريد لإيصال الرسالة إليك بأسرع وقت ممكن وما لاقوه من عناء ومشاق ومخاطر، خلال زمن طويل، ذهبت أدراج الرياح، فها أنت تتسلم رسائلك النصية أو الإلكترونية، على شاشتيهما، وكأن بروزها بأسرع من لمح البصر على سطحيهما، يدفعك أنت الآخر للرد سريعًا عليها.

غير أن هذا التخاطب اللساني يظل مختلفًا عن المراسلة البريدية، ومختلفًا في الوقت نفسه عن المراسلة الإلكترونية (الرقمية)، واختلافه مع الأولى هو أنه يستحث العقل والمشاعر للمساهمة الآنية في لعبة تفاعلية فورية، والزمن الفاصل بين نطق الكلمات وبلوغها إلى أذن المتلقي يساوي صفرًا، مثلما هو الحال مع الثانية.

إذن نحن نشهد موت المراسلة البريدية، وبدلًا من وجود عدد محدود جدًّا نتواصل معهم عبر الرسائل، أصبح هناك عدد كبير من الأصدقاء «الافتراضيين» القادرين على اختراق مجالك الذهني والروحي في أي لحظة يشاؤون من دون قيد أو شرط، فيحرفون مزاجك الشخصي في تلك اللحظة، ومن هناك هم يلوثون الزمن برسائلهم الإلكترونية، زمنك الشخصي الذي هو عالمك الداخلي في علاقته مع الماضي والحاضر، مع الآخرين المحيطين بك من زملاء وأصدقاء وأفراد عائلتك.

غير أن ذلك لا يعني التقليل من أهمية الثورة الرقمية في تسهيل نقل المعلومات والتواصل الفوري مع الآخرين في مجال العمل والأنشطة الاجتماعية والعلمية وغيرها، لكنها وبشكل تدريجي راحت تدفعنا بعيدًا من تلك الوحدة التي كانت تشدنا لشخص محدد أو أشخاص قلائل محددين نتواصل معهم بانتظام عبر الرسائل، ذلك العالم المحكوم بالشوق واللهفة للدخول في خضم السطور المكرسة لي بعد سفرها في الزمان والمكان طويلًا، ودخولها عبر شق الباب المخصص للرسائل لي بالذات.

بدلًا من ذلك حلت تلك الكتلة الضخمة من الآخرين الذين يصرون على بعث رسائلهم البريدية والنصية للإعلان عن خدمة أو سلعة ما، فيذهب غالبيتها إلى المفضلة، أو أولئك الأصدقاء الافتراضيين الحريصين على التواصل معك لا كشخص بحد ذاته، بل كعارض لسلع مجانية قد يعجبهم بعضها، وهذه السلع هي الأفكار والطرائف والآراء المكتوبة، من دون الحاجة إلى خوض نقاش معك عنها، فهم يتصرفون كزبائن يدخلون إلى محل فيختارون ما يحبونه فقط ويهملون البقية.

نحن نمرّ بمرحلة انتقالية فقط، فكأن الطفرة الهائلة التي تحققت بتطوير الإنترنت وتطويع الإلكترون بدرجة مدهشة، تتطلب تحولات عديدة في عاداتنا وطباعنا وأذواقنا.

كلما أفتح أضابير الرسائل القديمة، أتلمس في صفحاتها رائحة الزمن: متى كتبت، وفي أي ظروف، وماذا كان الموضوع المشترك الذي شدني إلى الآخر في سلسلة من هذه الرسائل أو تلك. الرسائل الرقمية حررتنا من الإحساس بالزمن، وأفقدتنا في الوقت نفسه ذلك الشغف الغريب عند اختراق رسالة شق الباب لفتحها والسفر في سطورها.

شكرًا ساعي البريد، لقد بقيت فعلًا بشكل ما تؤدي دور الإنترنت لكن بسرعة أبطأ بكثير: ربط خيوط هذا الحوار بين الأفراد المتفرقين فوق سطح كوكبنا، محققًا ربط أجزاء الممالك والإمبراطوريات بعضها ببعض، مانحًا فرصة لازدهار الأفكار وتطور المجتمعات على نار هادئة.

العود الأبدي لدى نيتشه: «اعشق قدرك الشخصي»

العود الأبدي لدى نيتشه: «اعشق قدرك الشخصي»

كم منا أصابتهم الحيرة أمام شعور عميق يغزوهم فجأة: اللحظة التي يعيشونها الآن، بما تتضمنه من تفاصيل حياتية صغيرة، سبق لهم أن عاشوها في زمن ما مجهول تمامًا بالنسبة إليهم. وكل ما هناك أن ذاكرتهم تواجهها وكأنها فِلْم سبق أن شاهدوه لكنهم نسوا أين ومتى. لعل هذا الإحساس المخادع، وراء تلك النظريات القديمة التي نادت بها ديانات الشرق الأقصى، وأخذها الفلاسفة الفيثاغوريون الذين آمنوا أيضًا بأن الروح لا تموت بل تولد ثانية في تناسخات جديدة. وهذه الفكرة استثمرها الفيلسوف الألماني شوبنهاور في نظريته التي تقول: إن الإرادة (للحياة) لا تموت بل تُظهر ذاتها مرة أخرى في أفراد جدد، غير أنه رفض في الوقت نفسه نظرية التقمص لروح محددة.

بعد اندثار نظرية العود الأبدي الإغريقية في أوربا القرون الوسطى والعصر الحديث، عادت ثانية للظهور بأكثر من صيغة (لا دينية)، ولعل أبرزها تلك التي تصورها وبرر وجودها الشاعر الألماني هاينريش هاينه (1797- 1856م)، انطلاقًا من حقيقة كون الزمن لا محدودًا، في حين أن الأجسام المحسوسة فيه محدودة عدديًّا، ولعل هذه الأجسام تتحول إلى جسيمات صغرى، والأشكال التي تنجم عنها، هي الأخرى محدودة، لكنها في نهاية المطاف يجب أن تظهر مرة أخرى على هذه الأرض؛ بسبب محدودية عددها مهما امتد الزمن، فهي لا بد أن تستنفد نفسها في هذا البحر الممتد دون بداية أو نهاية، فتعود إلى الظهور في الزمن اللامتناهي: إنها محكومة بالعود الأبدي، لذلك فإن شخصًا مثل زيد لا بد أن يولد مرة أخرى، لكن (إذا كان محظوظًا قليلًا) بتهور أقل من سلفه.

كان نيتشه (1844- 1900م) من عشاق هذا الشاعر، ويتفق العديد من الأكاديميين المهتمين بكتاباته أنه كان اطلع على نظريته، غير أنه دفع العود الأبدي باتجاه آخر مختلف عن هاينه. كذلك هو لم يقدم مثله دليلًا ما على صحتها، بل تركها أقرب إلى أن تكون اقتراحًا أو افتراضًا قابلًا للقبول أو الرفض، إنها نوع من تميمة تزيح ذلك الشعور بالقصور أمام عجز الإرادة بالالتفات إلى الخلف وإزالة ما فعله الفرد من أفعال وخيارات يراها الآن مجرد حماقات. ولعله كما تقول الفيلسوفة البريطانية ماري وارنوك: شعر بها كعاطفة.

إذن الإرادة في حالة تنافر مع الزمن الماضي. مقابل ذلك، ينفي نيتشه وجود قانون السببية الذي يتحكم في خيارات الإنسان، فمن وجهة نظره أنه ليس هناك علاقة سببية في حد ذاتها لـ«ضرورة» انعدام الحرية للفرد؛ هناك النتيجة التي لا تأتي بعد السبب وليس هناك قانون يحكم: إننا، حسب رأيه، مَن فبرك الأسباب والتتابع، والدافع والغرض… إنها في الحياة الحقيقية مسألة إرادات قوية وإرادات ضعيفة.

يمضي نيتشه خطوة أبعد حين يؤكد أن القيمة الحاسمة لفعل ما هي بالضبط في أن يكون غير إرادي. وهذا لأن السبب وراء أي فعل إنساني هو وجود قدر من الطاقة المكبوتة التي تنتظر أن تستعمل من قبل شخص ما ولغرض ما، أما العقل فهو «الحرب التي هي نحن». أمام العجز عن تغيير ما قمنا به في الماضي يقدم نيتشه دعوته العميقة التي يضعها باللغة اللاتينية: «اعشق قدرك الشخصي». ولاختبار المتلقي عن مدى استعداده لتحقيق هذا الهدف، يقدم نيتشه هذه الرؤيا الحالمة نوعًا من التحدي له. في كتابه «العلم المرح» يأتي صوته كأنه شامان غامض بصياغة تساؤل مفزع كهذا: «ماذا لو خرق جني ليلًا أو نهارًا أكثر لحظات وحداتك توحدًا، وقال لك: هذه الحياة التي تعيشها الآن والتي عشتها، عليك أن تعيشها ثانية ومرات لا متناهية؛ ولن يكون هناك أي شيء جديد فيها، فكل وجع وكل مسرة وكل فكرة وكل آهة وكل فعل مهما يكن صغيرًا في حياتك يجب أن يتكرر معك، بالترتيب والتعاقب نفسيهما، حتى هذا العنكبوت وضوء القمر هذا بين الأشجار، بل حتى هذه اللحظة التي أنا فيها. الساعة الأبدية للوجود تنقلب رأسًا على عقب مرة أخرى وأخرى، وأنت معها، بقعة غبار».

بين هذين الخيارين يضع نيتشه المتلقي حسب إجابته: فمن يرفض عرضه يضعه ضمن خانة الضعفاء، ومن يقبل به يضعه ضمن خانة الأقوياء.

غير أن الضعف والقوة لدى نيتشه ليسا بالمعنى المباشر للمفردتين. فمفهوم «إرادة القوة» لا علاقة له بالقوة (الهيمنة) بل هو نوع من التسامي للفرد: ميله لتجاوز ضعفه والمضي أكثر فأكثر بالتغلب على ما يعوق بلوغه الاكتمال. ومع هذا المفهوم يقف مفهوم «الإنسان المتفوق» بوصفه ذلك الفرد المتفوق على ذاته، ويعطي نيتشه نماذج قليلة لهذا الفرد؛ أبرزها يوليوس قيصر وغوته.

فيوليوس قيصر صاغ قدره بنفسه، ودافع عن ذاته مما كان يعانيه من اضطرابات صحية وصداع متكرر مزمن، بالمشي مسافات شاسعة، واتباع أشد أشكال شظف العيش، والإقامة المتواصلة في الهواء الطلق، وبذل الجهد العضلي الشاق. وأكثر ما يشده إلى هذه الشخصية التاريخية لا الجانب العسكري أو النجاحات السياسية بقدر كونه «يُجسِّد الرجل العزائمي الذي يتحكم في عواطفه: الرجل الذي أمام التفكك والفجور الشامل، يعرف هذا الانحطاط كجزء من نفسه، فيقوم بفعله الفريد بتحقيق تكامل ذاته وإعادة ابتكارها والتحكم فيها». أما الشاعر غوته فهو النموذج الأمثل لدى نيتشه عن مفهوميه الأساسيين: «إرادة القوة» و«الإنسان المتفوق»، فهو «انتصر على طبيعته الحيوانية، ونظم فوضى عواطفه، وسامى نزواته وأعطى أسلوبًا لشخصيته.

* * *

السؤال الذي يثار هو: لماذا أصر نيتشه على «العود الأبدي» بصفته إحدى دعامات فكره الأساسية؟ وكان موقف أكثر المتخصصين بفكر نيتشه، التقليل من شأن هذا المفهوم، إن لم يكن تجاهله. لعلي أجد السؤال يتحدد كالتالي: لو أن أي تغيير يحدث في مسار الماضي، هل سأكون الشخص نفسه القائم في هذه اللحظة بالذات؟ خصوصًا إذا سلمنا مع نيتشه إيمانه بأن هناك عددًا كبيرًا من الأرواح تسكن في أعماق الإنسان. وفي حالة التعبير عن قبولي بما أنا عليه الآن، يصبح السؤال الافتراضي الآخر الذي طرحه نيتشه منطقيًّا: هل تقبل بأن يتكرر كل شيء عشته ثانية وثالثة ورابعة أم أنك ترفض أي تكرار مفضلًا الانكفاء على ما أنت عليه الآن رافضًا ذاتك؟

كأن عشق القدر الشخصي هو الجواب عن استحالة مد اليد إلى الماضي وتبديل هذا القرار أو ذاك، فإرادة القوة تتحرك صوب المستقبل، وهي عاجزة بالمطلق على هز أي حجر من أحجار الماضي. بهذا العشق للماضي يقيم نيتشه مفهوميه الآخرين: الإنسان المتفوق (على نفسه) وإرادة القوة. وهنا تصبح الأبدية غير القابلة للتحقق شهوة لا متناهية للحياة. يكتب نيتشه في لحظة انخطاف، كاشفًا عن تلك الآصرة الخفية التي تجمع الفرح بالأبدية: «كل فرح يريد الخلود -يريد خلودًا عميقًا- بل كل ألم أيضًا هو فرح… هل قلتَ لنفسك ذات يوم: نعم لفرح واحد؟ ثم قلتَ: نعم، أيضًا لكل جرح، كل الأشياء متشابكة ومشرنقة ومفتونة.. إذا صادف أن أردت شيئًا ما مرتين، إذا قلت مرة واحدة: أيتها السعادة أبهجيني! أطيعي للحظة، عند ذلك فإنك تريد عودة كل شيء من جديد.. كل شيء مجددًا، كل شيء وبشكل أبدي… عند ذلك تكون قد أحببت العالم… أيها الخالدون، أحبوا العالم بشكل أبدي وأكثر، وللجرح أيضًا، أنتم تقولون: اذهب لكن عد! فكل فرح يريد الأبدية».

تتكرر هذه الصرخة ثانية على لسان بطله المتخيَّل في كتابه «هكذا تكلم زرادشت»: «أنتم أيها الأعلون تعلَّموا هذا: الفرح يريد الأبدية». والأعلون بالنسبة إلى نيتشه أولئك الذين تفوقوا على أنفسهم فغيروا طبيعتهم وحققوا اكتمالهم، وهم أيضًا أولئك الذين يعشقون قدرهم بعمق، من دون البحث عن مبرر لوجودهم، وفي هذا العشق يسكنهم فرح مطلق، غير عابئين تمامًا بصغائر الأمور الحياتية، وكأن سعيهم لتجاوز ذواتهم بتفوقهم عليها هو الطريق الذي يمكن منح معنى ما لوجودهم.

بتشبث المرء بوهم «العودة الأبدية» غير القابل للتحقق، وعشق القدر الشخصي غير القابل للتغيير، تنفتح بوابة إرادة القوة بدلًا من إرادة الحياة (كما بشر بها أستاذه شوبنهاور) أمام المرء ليتجاوز بواسطتها ذاته، ويصل إلى الطرف الآخر من جسر الوجود الذي يسميه نيتشه بـ«الإنسان المتفوق»، والمتمثل في أفضل نموذج، كما يراه، في الشاعر الألماني غوته، ويتفتح أخيرًا ذلك الفرح الطاغي الذي يتضمن في طياته الأسى أيضًا. لذلك فإن الإنسان الذي يتمكن من تحقيق اكتمال ذاته، وتغيير طبيعته، يحقق سعادة قصوى، وعبارة «اعشقْ قدرك» بالنسبة إلى نيتشه هي وصفته لتحقيق عظمة الإنسان.