الترجمة وبعض قضاياها عربيًّا

الترجمة وبعض قضاياها عربيًّا

الترجمة هي، في تقديري، تبادل أفضل ما يمكن تبادله بين الثقافات والمجتمعات؛ وأعني بذلك المعرفة، أساس كل تقدم وضمانة المستقبل، فقوة المعرفة هي الحاكمة لكل القوى الأخرى (السياسية، والاقتصادية، وسواها) المسيرة للمجتمعات في عصر العولمة. من هنا تبرز أهمية حركة الترجمة عالميًّا، وعربيًّا على وجه الخصوص في سعينا لولوج الساحة العالمية ولعب الدور المستحق والمطلوب منا، بعد انفجار الانفتاح على المستوى الكوني، وعلى رأسه انفجار إنتاج المعرفة وتسارعها بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية، وهو ما يحتم علينا أن نستدرك ونلحق بالركب. فالترجمة بما هي نقل المعارف وتبادلها لم تعد ترفًا، أو رهنًا بمجرد رغبات آنية ومعزولة بعضها عن بعض. من هنا تكمن أهمية مبادرة مجلة الفيصل في فتح ملف الترجمة في الوطن العربي.

ولا بد لي من الإشارة -قبل تقديم إسهامي المتواضع في الموضوع- إلى أنني لست مترجمًا محترفًا ومتفرغًا، إلا أنني أنجزت ترجمة أعمال مهمة في الاختصاص (علم النفس والاجتماع) عن كل من الفرنسية والإنجليزية. كما شاركت في تعريب تعليم علم النفس في الجامعة اللبنانية، لكوني عضو هيئة تدريس فيها. اشتغلنا خصوصًا على وضع مسرد المصطلحات العربية من خلال ورشة بحثية جادة جمعت ما بين المعرفة الدقيقة بالمصطلح الأجنبي ودلالته ضمن النظرية العلمية التي يندرج ضمنها، وبين العودة إلى منابع اللغة العربية وقدراتها الاشتقاقية البالغة الغنى، مستعينين بالمرجعيات اللغوية، إضافة إلى القواميس وإنتاج مجامع اللغة العربية. وهو ما يبيح لي البحث في إشكالات المصطلحات ووضعها عطفًا عما خبرته في أثناء مسيرتي التعليمية، في علم النفس، من واقع العديد من هذه المصطلحات، كما نقع عليها في كتب علم النفس بالعربية. وهو ما ينطبق على بقية الفروع العلمية الإنسانية منها كما المضبوطة.

لدينا عربيًّا العديد من المحاولات الجادة في هذا المجال من أبرزها، على سبيل المثال وليس الحصر، مكتب التعريب التابع لجامعة الدول العربية وإصداراته من معاجم ترجمة المصطلحات، وكذلك كل من مجمعَي القاهرة ودمشق، إضافة إلى محاولات أكاديمية من جانب جماعة علم النفس التكاملي في جامعة القاهرة، وقسم علم النفس في الجامعة اللبنانية. من أبرز الإشكالات إن لم يكن على رأسها، بقاء هذه المحاولات معزولة بعضها عن بعض، وتفتقر إلى تنسيق الجهود وصولًا إلى توحيد المصطلحات، والعمل على نشرها وتعميمها وصولًا إلى توحيد استعمالها.

وهكذا تعاني هذه الجهود البقاءَ ضمن دوائر إنتاجها الضيقة، حيث نجد مصطلحات عربية عدة مقابل المصطلح الأجنبي الواحد، ما بين قُطْرٍ عربيٍّ وآخر. قامت المنظمة العربية للترجمة بتنفيذ مشروع ترجمة ما يقارب مئة كتاب في العلوم المضبوطة، بطلب من بعض جامعات المملكة العربية السعودية. ووضعت لذلك مسرد مصطلحات علمية طلب إلى المترجمين اعتماد معطياته في أعمالهم. ولكن اتضح أنه ليس هناك التزام كلي بهذا المسرد من الجميع. وهو إن دل على شيء، فإنه يدل على قصور التأطير المؤسسي الملزم في هذا المجال عربيًّا، وهو ما تتكرر الشكوى منه في مجالات أخرى كثيرة. كما أن المنظمة تلزم المترجمين الذين يتعاقدون معها على عمل أو أكثر بوضع مسرد المصطلحات العربية وما يقابلها باللغة الأجنبية في نهاية العمل. ويبين الاطلاع على عدد منها قصورًا في توحيد المصطلح العربي في مقابل المصطلح الأجنبي، بحيث يتفاوت التعبير عنه عربيًّا من مترجِم إلى آخر.

أما الإشكالية الأبرز والأكثر انتشارًا في مجال علم النفس الذي لدينا خبرة تعليمية وبحثية طويلة فيه، فتتمثل في الاستسهال الذي يصل إلى حد السطحية أحيانًا في وضع المصطلح العربي في مقابل المصطلح الأجنبي، في تأليف كتب التدريس. فتوضع كلمة عربية من وحي الخاطر، أو حتى يكتب المصطلح الأجنبي بالعربية. وهو ما يؤدي إلى تقديم إنتاج علمي لطلابنا يتصف بانعدام الدقة والإحاطة بِلُبّ النظرية العلمية قيد التناول، وهو ما لا يساعد على تكوين رصيد معرفي علمي دقيق ومتين لدى الطالب. وهو ما يمثل، في تقديري، معوقًا فعليًّا في استيعاب النظريات العلمية المنقولة من الأجنبية، وفي التكوين العلمي لطلابنا بالتالي؛ وهو ما يبقيهم من دون بناء الاقتدار المعرفي في الاختصاص، ومن ثَمَّ يلقي بهم في الهامشية المعرفية. وهنا يتحول تلقي هذه المعرفة (المنقوصة) إلى مجرد عبور الامتحان والحصول على الدرجة العلمية.

هناك ظاهرة أخرى تلاحظ على صعيد دقة المصطلح العربي مقابل الأجنبي، وبعض أجزاء النص المترجم ذاته، تستحق الإشارة إليها. تكلف بعض مؤسسات الترجمة أو دور النشر مترجمين محترفين بترجمة بعض الكتب العلمية إلى العربية. ولقد أتيحت لي الفرصة للقيام بمراجعة بعض هذه الترجمات بتكليف من الجهة الناشرة. ورغم كفاءة المترجم المكرسة (أستاذ ترجمة في العديد من الحالات)، فإن ترجمته ووضعه للمصطلحات بالعربية يجانب الدقة والصواب في كثير من المواضع: فلا يكفي لدقة الترجمة ووضوحها أن يكون المترجم متمكنًا من اللغتين العربية والأجنبية اللتين يتعامل معهما، بل لا بد له من استيعاب النظرية العلمية للعمل الذي يقوم بترجمته، حتى يأتي النص العربي أمينًا وينقل الدلالات النظرية ذاتها فيما يتعدى المطابقة اللغوية وحدها. ولا بد للمترجم المحترف أو الظرفي من الاحترام الكامل للنص في صياغته اللغوية والأسلوبية، كما في دلالاته النظرية الفعلية. ولا بد من إبداء أقصى ما يمكن من الأمانة للنص ومحتواه النظري، ونقله بلسان عربي مبين، يتصف بالدقة والتماسك والوضوح، بحيث يأتي النص المترجَم كأنه وُضِعَ بالعربية في الأصل. ويتطلب ذلك معايشة رُوح النص في دلالته اللغوية والنظرية ونقله إلى ما يوازيه بالعربية.

انعدام الدقة العلمية

تعاني المصطلحات العربية المعتمدة من بعض محترفي الترجمة، انعدامَ الدقة العلمية في كثير من المواضع حيث يعتمد المترجِم أقرب المصطلحات العربية من المصطلحات الأجنبية انطلاقًا من معيار الدلالة اللغوية وحده. وهو ما يجانب الدقة والصواب في كثير من الحالات؛ إذ إن هناك مصطلحات معتمدة علميًّا بالعربية لم يطلع عليها المترجم، فيأتي ببديل لها من لدنه يُجانِبه الصواب. ذلك أن المسألة ليست مجرد تطابق لغوي، بل إن النص اللغوي للمصطلح الأجنبي يتخذ أحيانًا دلالة علمية، من ضمن النظرية، يتباين كليًّا، عن دلالته اللغوية. فقط الاختصاصي في الموضوع يدرك هذه الدلالة، وهو وحده المؤهَّل لوضع ما يقابلها عربيًّا. تحضرني العديد من الأمثلة على هذه الحالة صادفتها في عملي في الترجمة وتعريب تعليم علم النفس، لا يتسع المقام للخوض فيها، خوف الخروج عن حدود النص المطلوب.

كما أن الاختصاصي بدوره لا بد له من الاستعانة بخبير لغوي أو خبير متمكن لغويًّا في الاختصاص؛ كي يضع المقابل العربي الفصيح المعتمَد في مقابل المصطلح الأجنبي؛ ذلك ما قمت به أكثر من مرة في أعمالي في ترجمة بعض النصوص(1).استعنت أكثر من مرة بأحد الزملاء من أساتذة المنطق، والضليع بالعربية والأجنبية، في الترجمة الدقيقة لبعض المصطلحات في المنطق التي يختلف مدلولها في الاختصاص عن نصها اللغوي الأجنبي الظاهري. وكان كل مرة يدلني إلى المصطلح العربي الدقيق المعتمَد من جانب قُدامى المناطقة العرب.

. كما يحتاج المترجم، إضافة إلى ذلك، إلى التمكن من مهارة الاشتقاق اللغوي بالعربية؛ كي تأتي ترجمته لبعض المصطلحات مستوفية لشروط الترجمة الدقيقة. كما يؤخذ على بعض النصوص العربية المترجمة حرية تصرف واسعة تجعل المترجم يترجم بتسرع وعدم الوقوف المتأني عند النص الأجنبي كي يستوعب فكره الحقيقي وينقله إلى العربية. وهكذا نرى بعضًا لا يحترم شروط الدقة والاستيعاب، بل هو يضع نصًّا عربيًّا تقريبيًّا في نوع من عرض الفكرة العامة عن النص الأجنبي، وهو ما يحد من قيمة هذه الترجمات العلمية. تبرز الحاجة إذًا إلى سياق عام ومدروس لصياغة المصطلح العلمي وتوحيده، وتعميمه على كل محافل الترجمة الفردية منها أو الجماعية. ويقوم على صياغة علمية تعتمد في كل البلاد العربية ويفرض على المترجمين. بذلك تتأسس حركة ترجمة علمية تهضم العلوم على اختلافها وتؤسس لنهضة معرفية في مختلف فروع المعرفة. وهو ما يحول دون ميول التصرف والاستسهال عند شريحة من المترجمين أو مؤسسات ترجمة تبغي الربح، وتقدم أعمالًا سريعة تفتقر إلى المصداقية. ولقد سبقتنا إلى ذلك المؤسسة الصهيونية في فلسطين؛ إذ تكون مجمع علمي يضم لجانًا من جميع الاختصاصات، تضع كلُّ لجنة مصطلحات الفرع المعرفي الذي تَمَتُّ إليه، ثم تناقش هذه المصطلحات على مستوى اللجان. وحين يعتمد مصطلح ما فإنه يُعَمَّم ويُفْرَض استخدامه على الجميع، سواء على الصعيد الأكاديمي أو البحثي. وهو ما أرسى قواعد بنية معرفية باللغة العِبْرية.

أصبحت هذه الحاجة مُلِحَّة نظرًا لانفجار المعرفة في بعض مجالات العلوم التقنية والتواصلية؛ إذ تبرز كل سنة المئات من المصطلحات المُعبِّرة عن الاكتشافات العلمية المتسارعة. وهكذا وجدت مؤسسة لاروس الفرنسية للمعاجم ذاتها تلهث وراء ترجمة هذه المصطلحات المستجدة إلى الفرنسية. ويتجلى ذلك في العمل الدائم لتطوير مفردات القواميس؛ كي تستوعب المستجدات على مستوى المفاهيم، في طبعات سنوية متلاحقة وإضافة ما استجدَّ منها. بينما يبدو أن الترجمة في عالمنا العربي هي الأقل تقدمًا من بقية دول العالم، في مقدار ما يُترجَم ويُنشَر، ويُعَمَّم من كُتب ودوريات في مختلف فروع العلوم؛ الإنسانية منها والمضبوطة.

مؤسسات الترجمة

نتوقف في القسم الثاني من هذه العجالة حول وضع المؤسسات العربية التي تعنى بالترجمة، وآليات اشتغالها وتعاونها بعضها مع بعض، واختيارها للكتب الأجنبية التي ستترجم.

هناك العديد من المؤسسات التي تُعنَى بالترجمة في العالم العربي، مثل مشروع الألف كتاب للمركز القومي في القاهرة، ومشروع نقل المعارف الأكثر حداثة التي تقوم به «إدارة الثقافة والتراث» في البحرين، وفرع الترجمة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت، وكذلك المنظمة العربية للترجمة في بيروت التي أتعاون معها ترجمةً ومراجعةً لبعض الترجمات، وهناك غيرها كثير يحتاج إلى دراسة مسحية لرصدها عربيًّا. لكل من هذه المؤسسات رؤيتها الخاصة وطبيعة عملها، وسياساتها الخاصة في اختيار الكتب التي سوف تُترجِمها، وآليات الترجمة، وسياسات النشر والتوزيع. جُلُّ هذه المؤسسات الحكومية أو الخاصة تنحو في اختيارها للكتب التي ستُترجَم نحو كتب الثقافة والفكر، وهو الشائع في الأعم الأغلب من الحالات. وهي تقدم عادة الفكر الغربي والأنغلوسكسوني الكلاسيكي والحديث على تنوعه. ويبقى اهتمامها محدودًا جدًّا بترجمة الكتب العلمية؛ ذلك أن هذا المجال يحتاج إلى مؤسسات متخصصة في نقل العلوم المضبوطة، وهي عملية مكلفة ماديًّا، فضلًا عن محدودية الكفاءات العلمية العربية القادرة على نقل المعارف العلمية بالمهنية والحجم المطلوبين. نتوقف تحديدًا عند المنظمة العربية للترجمة ومقرّها بيروت. وهي منظمة تترجِم الكتب الفكرية (الفلسفية والإنسانية والسياسية والتاريخية). لدى المنظمة آلية محددة لاختيار الكتب وترجمتها. فهي تضم تسع لجان متخصصة، تقوم باختيار الكتب المقترحة للترجمة؛ كلٌّ في مجاله. أعضاء هذه اللجان هم من ذوي الكفاءات العلمية والأكاديمية. يقدم كل عضو في اللجنة سنويًّا قائمة بالكتب المقترَح ترجمتها، مبيِّنًا خصوصية كل كتاب، ومدى أهميته للمكتبة العربية، من خلال وضع نبذة عن كل كتاب يرشِّحه للترجمة. تُعَمَّمُ هذه النبذة على بقية أعضاء اللجنة التي تجتمع لدراسة الاقتراحات واختيار ما يلقى الإجماع منها. كل ذلك ضمن إطار من الاستقلالية، حيث لا تتدخل إدارة المنظمة في هذه الخيارات. ويلي ذلك مصادقة اللجنة التنفيذية للبتِّ في الكتب وتحديد المبالغ الخاصة بها، ووضع خطة العمل.

تتبع الترجمة في المنظمة العربية للترجمة آلية مهنية تبدأ باختيار المترجِم انطلاقًا من التمكُّن من حيث الاختصاص والترجمة في آنٍ واحد. وهناك آلية لمتابعة تقدُّم العمل في الترجمة، مع نظام للتوثيق، ووضع قائمة المصطلحات للكتاب المترجَم. ويليها مراجعة ترجمة الكتاب بعد إنجازها، تُوكَلُ إلى اختصاصي متمكِّن. وبذلك تخرج الكتب المترجَمة مستوفيةً لشروط الدقة العلمية والمستوى، بحيث تقدَّم مادة علمية في مختلف المجالات تتصف بالمصداقية، إضافة إلى الحرص على سلامة اللغة. وتخطط المنظمة لوضع مسرد مصطلحات موحد لجميع فروع المعرفة.

هناك قصور على مستوى التنسيق بين مؤسسات الترجمة العربية لا بد له من علاج، وصولًا إلى تأسيس قاعدة فكرية علمية تضع الأساس لمشروع نهضة جديد، يتصف بالقدرة على توحيد الجهود وتعميم المعرفة في عملية إثراء متبادل بين هذه المؤسسات؛ إذ إن الوضع العربي الراهن علميًّا وفكريًّا هو بأمسِّ الحاجة إليها.

يتمثل أحد أبرز المعوقات في هذا المجال في انعدام استمرارية التمويل وتذبذبه، مع ميل متزايد لانحسار هذا التمويل، وهو ما يعوق تحقيق المشروعات الطموحة لمؤسسات الترجمة العربية؛ ذلك أن الترجمة المتخصصة وذات المستوى عالية الكلفة عادة نظرًا لما يستغرقه المترجم المتمكن من وقت وجهد، وما يحتاجه من أتعاب على عمله، إضافة إلى كلفة المراجعة الملزمة في كل عمل جادّ. هناك عربيًّا موجات حماس قصيرة النفس من جانب الجهات المانحة. تنطلق من طموحات كبرى ترصد لها ميزانيات وفيرة، لكنها مُعَرَّضة للانحسار أو حتى التوقف عند أول أزمة مالية، فيتراجع التمويل، أو هو يحوَّل إلى مجالات أخرى مستجدة وتبدو أكثر إلحاحًا. وإن دل ذلك على شيء، فهو يدل، في تقديري الشخصي، على أن المعرفة والتمكين المعرفي ليسا دومًا في أولويات الجهات المموِّلة التي تنفق بإسراف على مشروعات أخرى مظهرية.

______________________________________________________________________________________________________

هوامش:

1. استعنت أكثر من مرة بأحد الزملاء من أساتذة المنطق، والضليع بالعربية والأجنبية، في الترجمة الدقيقة لبعض المصطلحات في المنطق التي يختلف مدلولها في الاختصاص عن نصها اللغوي الأجنبي الظاهري. وكان كل مرة يدلني إلى المصطلح العربي الدقيق المعتمَد من جانب قُدامى المناطقة العرب.