مقدمة على ضوء «دراسات الترجمة»: المبحث البيني الجديد عن ترجمة النصوص المقدسة

مقدمة على ضوء «دراسات الترجمة»:

المبحث البيني الجديد عن ترجمة النصوص المقدسة

تمهيد

لم يشهد تاريخ اللغة العربية والترجمة منذ أن خلق الله الإنسان تطورًا يضاهي ما حدث في الخمسين عامًا الأخيرة من النظر إلى اللغة وإلى الترجمة باعتبارها نشاطًا ثقافيًّا إنسانيًّا يتوسل باللغة، وهو التطور الذي يتلخص في عنوانه الجديد دراسات الترجمة باعتباره مبحثًا علميًّا بينيًّا، أي أنه مشترك بين عدة تخصصات، على رأسها اللغة، وما أتى به علم اللغة الحديث [اللغويات] من نظريات ومفاهيم جديدة، وبعدها تأتي النظريات الفكرية التي تتناول الغرض من الترجمة، ودورها في العلوم الإنسانية والطبيعية، بل دورها في حياة الإنسان المعاصر وسبلها وأشكالها وما إلى ذلك بسبيل. كما شهدت الحقبة المذكورة نشأة الحاسوب وإمكانياته الهائلة، وما أصبح يتيحه للمترجم وللقارئ من التفهم الأعمق لهذه المسائل كلها. فأما التقدم في التحليل اللغوي للترجمة ومذاهبها فقد صدرت فيه كتب كثيرة في العالم وفي الوطن العربي خصوصًا منذ التسعينيات، ولمن يريد الاطلاع على تفاصيل التطورات المذكورة أن يرجع إلى بعض هذه الكتب، بالعربية والإنجليزية، وقائمة المراجع تضم عددًا لا بأس به منها.

وأما التقدم في نشاط الترجمة ذاته بوصفه نشاطًا ثقافيًّا فهو مجال حديث نسبيًّا، وكان الوطن العربي سباقًا إلى الإسهام في دراسته، لا بسبب تراثه الحافل بالمترجمات والنظريات فقط بل أيضًا بسبب مشاركته علماء العالم بآراء المفكرين العرب المعاصرين، في كتب ودراسات كفلت اعتدال كفتى الميزان، بمعنى أن نشاط الترجمة لم يعد مقصورًا على الترجمة من اللغات الأجنبية (ودراساتها) بل أصبح يتضمن الترجمة من العربية إلى تلك اللغات ودراساتها. وأما القضية التي أعتزم بإذن الله التركيز عليها في هذا المقال فهي هذه الأخيرة، وخصوصًا ترجمة الأدب وترجمة النصوص المقدسة، وعلى رأسها كتاب الله العظيم، والحديث الشريف. وأحمد الله على أن وهبني من القوة والصبر منذ الثمانينيات ما مكنني من الإشراف على عدد كبير من الرسائل الجامعية في هذا الموضوع، بحيث أضفت إلى خبرتي الطويلة في دراسة الإنجليزية وآدابها، وخبرتي التي لا تقل طولًا في اللغة العربية وتربيتي الدينية، خبرة تطبيقية في ترجمة النصوص المذكورة من العربية إلى الإنجليزية، وأن أنشئ جيلًا يواصل جهودي، فأنا من المؤمنين بأن جانبًا من جوانب عمل دارس اللغات الأجنبية يتمثل في أن ينقل إليها بعضًا من دُرَر العربية والنصوص المقدسة نقلًا صادقًا، بدلًا من أن يتركه نهبًا لبعض الأجانب (الذين يكثر من بينهم شُذَّاذُ الآفاق) والذين قد يخلصون النوايا فيقعد بهم جهلهم بالعربية عن تحقيق الغاية، وقد لا يخلصون فيترجمون ترجمات عن العربية، خصوصًا النصوص الأدبية والمقدسة، تعدُّ صورًا شائهة عن الأصل، ثم ينشرونها بِغَضِّ النظر عن الهدف المؤكد وهو الشهرة والمال أو الهدف المشتبه فيه وهو تشويه صورة العربي عامة والمسلم خاصة. وفيما يلي بسط حجتي:

مسائل أساسية

المسألة الأولى خصوصية اللغة العربية. ومعنى الخصوصية أنها تختلف عن اللغات الأوربية الحديثة في كونها عريقة وحديثة معًا، وفي أن صيغها العريقة لا تزال مفهومة ولا تزال تستعمل جنبًا إلى جنب مع صيغها الحديثة، التي نطلق عليها بشيء من التجاوز صفة «الفصحى المعاصرة»، كما تمتاز العربية بتعدد مستويات صورها الدارجة أو الإقليمية، كما بَيَّنَ المرحوم السعيد بدوي في كتابه «مستويات اللغة العربية» (1973م). وقد تتداخل المستويات الخمسة التي يحددها في الحديث اليومي أو في الكتابة بحيث يصعب على من لم ينشأ في كنفها التمييز بين معنى قديم ومعنى جديد، وقد كان المستشرقون الأوائل منذ القرن الثامن عشر الميلادي (مثل وليم ﭼـونز) ومن تلاه في القرن التاسع عشر (مثل ريتشارد بيرتون، ونيكولسون، وبلنت وغيرهم) يركزون على تعلم اللغة التراثية، وندر مِن بينهم مَن أجاد مستويات أخرى للعربية (مثل إدوارد لين) فقدموا ما قدموا من ترجمات وفق التصور الاستعماري القديم الذي يقول بتفوق الجنس الأبيض، وتوقفوا عند القديم مع إساءة فهم في حالات كثيرة للصيغ العربية الأصيلة، وكان الرأي السائد الذي استمر معظم سنوات القرن العشرين أن العالم لا يريد أن يعرف شيئًا عن الأدب العربي الحديث أو عن الإسلام، فلديهم من ترجم ألف ليلة وليلة وترجم القرآن الكريم وترجم عيونًا من الشعر الجاهلي، وقد أثبت الباحثون العرب المحدثون فداحة الأخطاء التي وقعوا فيها (ولهذا حديث آخر).

ومن المسألة الأساسية الأولى، أي خصوصية اللغة العربية، تنبع مسألة فرعية تقول: إن المستشرقين الجدد، أي من يتخرجون في أقسام اللغة العربية التي أنشئت في الخمسين عامًا الأخيرة في الكثير من الجامعات الأميركية والأوربية، لا يقضون في دراسة العربية إلا سنوات مرحلة الليسانس. فهل تكفي سنوات ثلاث أو أربع لتعلُّم اللغة العربية ولو بمستوى واحد من مستوياتها؟ بعض المترجمين الأجانب الذين أجادوا العامية المصرية مثل أبا إبيان، الذي كان متخصصًا في اللغات السامية بجامعة كِمبريدج، وعمل أثناء الحرب العالمية الثانية في مصر في هيئة الاستخبارات البريطانية، ثم أصبح وزير الخارجية الإسرائيلي، كان يتفاخر بأنه منع نشر ترجمة كتاب حياة محمد الذي وضعه محمد حسين هيكل، عشرين عامًا أثناء عمله بالجامعة، ولم يُنشر ذلك الكتاب الذي ترجمة أحد الهنود قبل انفصال باكستان عن الهند، إلا في الستينيات من القرن الماضي، ومثل دنيس ﭼـونسون ديـﭭـيز الذي توفي في العام الماضي (وكان قد تجاوز المئة مثل برنارد لويس) فلم يكن يجيد إلا العامية المصرية، وكان دائمًا ما يستعين بقارئ عربي يشرح له النصوص الأدبية بالفصحى المعاصرة، وأخطاؤه في الفهم لا تحصى ولغته الإنجليزية لا يزكيها امتياز أدبي أو أسلوبي بل إن ترجماته التي نشرها في إنجلترا من أسوأ ما تُرجِمَ من العربية.

إننا نحن أبناء العربية نقضي حياتنا في القراءة باللغة العربية وحفظ شعرها ونثرها، والكتابة بها والاطمئنان إليها ثم لا نكاد نزعم أننا ملكنا ناصيتها، فما بالك بمن تعلمها في المرحلة الجامعية مثلما يتعلم اللغة الفرنسية أو أية لغة أوربية تنتمي إلى أسرة اللغات الأوربية الهندية؟ أضف إلى هذا أن الذي نبجله ونعامله معاملة «الخبير الأجنبي» لأنه يتكلم لغته الأم لا يتميز عن غيره إلا بإجادته اللغة العامية التي يتكلها الجميع ويكتبون بها، وقد لا يكون متبحرًا في هذه اللغة عالمًا بأسرارها، فالأوربيون عمومًا يتكلمون ويكتبون مستوى واحدًا من اللغة، لا يتفاوت إلا بما يقتضيه الموضوع (كالقانون والطب والهندسة وما إلى ذلك بسبيل) ولكننا أبناء العربية نتكلم لغة ونكتب أخرى، ونفهم لغة ثالثة (التراثية) من دون الإسراف في الرجوع إليها. والأجنبي الذي يتعلم العربية يندر أن يحيط بالفواصل بين هذه المستويات، ولن أتعرض للحديث عن كوارث ذلك الجهل بالفواصل، ويكفي أن أقول: إن أعظم وأشهر الترجمات المعاصرة من العربية إلى اللغات الأوربية أنجزها عرب يعرفون معنى ما يقرؤون، ويتمتعون بالدراسة العميقة للغات الأوربية من صغرهم، ويثبتون في كل يوم براعتهم في صوغ اللغـات الأجنبيـة وتفـوقهم على نظـرائهم مـن غير العـرب، فمثلًا ترجــم فاروق عبدالوهاب مصطفى -رحمه الله- إحدى عشرة رواية من العربية إلى الإنجليزية، نشرتها دُور النشر الأجنبية في أميركا وأوربا، (ت 2013م) وترجمات نجيب محفوظ التي نشرتها الجامعة الأميركية أبدعها «ولاد عرب» (كما نقول بالعامية) باستثناء «زقاق المدق» التي ترجمها تريـﭭـور لي جاسيك، وهي أسوأ ترجمة على الإطلاق بشهادة نقاد العالم. قد تحتاج هذه الترجمات إلى ما يسمى «التحرير» أي المراجعة من جانب أديب يُشهد له بعلو الكعب والأمانة وعدم التحيز، ابتغاء تدارك هفوات الترجمة التي تأتي نتيجة السهو والخطأ. ولكن «التحرير» مهمة لا تقتصر على الترجمة فكل كاتب منشى في الغرب لا ينشر ما يكتبه إلا بعد تحريره، وهو أمر مفروغ منه عالميًّا، وقد أُثر عن الكاتبة إدنا أوبراين قولها: لا تسلني كيف أكتب، سَلِ المحررَ!

المسألة الثانية: ما الغرض من الترجمة؟ ليس المقصود بهذا السؤال الإشارة إلى نظرية الغرض (Skopostheorie) التي وضعتها الألمانية كريستيان نورد (Nord) منذ نيف وعشرين سنة، وترمي إلى أن يترجم المترجم ما يقصده الكاتب لا ألفاظه، وهو ما يصدق أساسًا على ما يسمى التعابير الاصطلاحية (إما الخالصة وإما الاستعارية وإما المرتبطة بثقافة الكاتب) فقول أحدهم: إن فلانًا ثار وفار غضبًا؛ قد يعبر عنه بالإنجليزية بتعبير استعاري هو (he hit the roof) وقد يقول أحدهم: إنه متردد بقوله: (I have cold feet) وهلم جرًّا، ولكن المقصود بالغرض في هذا السياق ما أصبح يسمى بنظرية الفاعلية (agency) في السنوات القليلة الماضية، ومعناها: ما المقصود أن يفعله النص المترجم؟ أي ما التأثير المتوقع في قارئه أو سامعه؟ ويرتبط إدراك الغرض، أو فَلْنُسَمِّهِ «الغاية»، بواقع الحال، فإذا قيل: ما غرض ترجمة رواية «زينب» للدكتور محمد حسين هيكل بصفتها أول رواية عربية كاملة، والمترجم هو ﭼـون محمد جرينستد عام 1989م؟ فربما كانت الإجابة: سد ثغرة في التاريخ الأجنبي للأدب العربي الحديث، ولكن هذه الإجابة سوف تكون مضللة؛ إذ إن المترجم الذي أعلن إسلامه كان موقنًا بأن معرفته بالعربية ناقصة فأرسل النص المخطوط إلى أحمد هيكل، ابن المؤلف، طالبًا المراجعة، فأحالها إليَّ لأقوم بالمهمة وصححتُ أخطاء المترجم وبينتُ خصوصًا ما حذفه من النص، وهو كثير، بحيث فقد العنوان الفرعي للرواية معناه وهو «مناظر وأخلاق ريفية». ويُذكر للمترجم أمانته واعترافه بفضل جهد المراجع ذاكرًا اسمي المتواضعَ في التصدير، ولكن ذلك لا يعفيه من تغيير طبيعة النص بأن ركز على الأحداث أو ما يسمى «الحبكة»، مضحِّيًا بالأوصاف الكثيرة للريف المصري والعادات العربية و«الأخلاق» التقليدية التي تُصوِّرها الرواية. نعم أصبحت لدينا صورة إنجليزية لرواية «زينب»، ولكن غرض المؤلف لم يتحقق، وهذا النهج مألوف في كثير من الترجمات العالمية، ويسمى التلاعب بالنص (manipulation) حتى وإن تكن النوايا سليمة، فغرض جرينستد أن يقدم لقارئ الإنجليزية رواية عربية قريبة إلى حد ما من مفهومه للرواية الأوربية الحديثة وليس ذلك غرض المؤلف، وربما لا ينطبق ما يراه قارئ النص الأجنبي (المترجم) على ما يراه قارئ النص الأصلي (أي المصدر). وقد يعترض بعض الدارسين على هذا التلاعب، مطالبين بالأمانة الكاملة، ولكن الواقع أن ذلك معمول به، ويندر أن نجد عملًا كلاسيكيًّا التزم مترجمه فيه بالأمانة المطلقة، ولهذا حديث آخر خاص بالأنواع الأدبية.

من هذه المسألة الثانية أي الغرض من الترجمة تنبع المسألة الأساسية –وموضوع هذه المقالة– أي التي تتعلق بترجمة النصوص المقدسة وشروحها وما في حكم تفسيراتها، وذلك ما نراه عندما نبدأ الحديث عن ترجمة القرآن الكريم التي اشتهرت الإشارة إليها باسم ترجمة معاني القرآن، وما وراء هذه الإشارة إلا الخوف من الظن بإمكان وضع نص أجنبي يماثل القرآن العظيم مبنًى ومعنًى، فهذا مُحال، وإنما ينبع خوف الخائفين من إقامة مضاهاة مع الكتاب المقدس، بجُزْأيْهِ العهد القديم (المترجم من العبرية القديمة) والعهد الجديد المترجم من الآرامية (التي تطورت إلى السوريانية) وكلاهما مترجم في أقدم نُسخهِ من اليونانية القديمة. ولذلك نجد من يؤكد من يترجم ما يترجَم منه أنه رجع إلى أكثر من لغة، من بينها أو فلنقل «على رأسها» اليونانية. للخوف إذن ما يبرره. وانظر مثلًا إلى ثلاث صيغ لفقرة قصيرة من سفر أيوب في العهد القديم، في ترجمات مختلفة، إحداها الصورة الأوربية التي تُنسب إلى مدينة ﭼـنيـﭫ (Geneva Bible) والثانية إلى الصورة العربية المعتمدة لدى الكنائس الشرقية، والثالثة إلى الطبعة الأميركية الدولية من الكتاب المقدس [وكلها ترجمات للآيات 30/26-31 من سفر أيوب]:

1- حين طلبت الخير، جاءني الشر، وحين طلبت النور جاءني الظلام، أحشائي تغلي ولا تهدأ، وأيام العذاب تحبسني. غدوت أنوح من غير شمس، وقفت وصحت في الحشد، أصبحت أخًا لكل تنين، وصاحبًا للبوم، بشرتي اسودت فوقي، وعظامي تحرقها الحرارة، وقيثاري يصدر أنغام نواح، والأرغن يصدح بصوت الباكين.

(cited in The Tropics of Discourse, by H. White, 1978, p. 159)

2- حين ترقبت الخير أقبل الشر، وحين توقعت النور هجم الظلام، قلبي يغلي ولن يهدأ، وأيام البلية غشيتني، فأمضي نائحًا لكن من غير عزاء، أقف بين الناس أطلب العون. صرت أخًا لبنات آوى، ورفيقًا للنعام. اسودَّ جلدي عليّ وتقشر، واحترقت عظامي من لحمي. صارت قيثارتي للنوح، ومزماري لصوت النادبين.

(من الترجمة العربية الكاملة كتاب الحياة 1988-2003)

3- حين رجوت الخير أتى الشر، حين طلبت النور أتى الظلام، والخضخضة في داخلي لا تتوقف أبدًا، وأيام المكابدة تواجهني، أروح وأغدو أسود الوجه، ولكن ليس بسبب الشمس، وأقف وسط الحشد صائحًا أطلب العون. أصبحت أخًا لبنات آوى، ورفيقًا للبوم. بشرتي يسود لونها وتتقشر، ويحترق بدني بالحمى، وتحول قيثاري إلى أنغام نواح، ومزماري إلى صوت الولولة.

(Holy Bible, New International version, 1974, p. 488)

أقول إن للخوف ما يبرره، ولكنه في الحقيقة واهٍ وقائم على غير أساس، فمهما اقتربت أو ابتعدت في ترجمتك لمعاني النص القرآني، سيظل ذلك النص قائمًا صامدًا لا يشوبه تغيير أو تعديل، فالله يحفظه عربيًّا إلى يوم الدين، وكل الذي يترجمه مترجم لن يزيد عن فهم معين أو تفسير معين بلغة أخرى موجهة لمن لا يعرف العربية ويريد اقتناص المعنى. ولكن كل ترجمة في الواقع ترجمة لمعنى ما، ولم يزعم أي دارس حديث مسلَّح بأدوات العلم أن ترجمة الألفاظ التي كانت تسمى الترجمة الحرفية (literal) ومصطلحها الحديث هو (intralinear) تعدُّ منهاجًا صالحًا للترجمة، فقد كان المترجمون يلجؤون إليها عند ترجمة النصوص اليونانية إلى اللاتينية بوضع كلمة لاتينية موازية [أو مرادفة افتراضًا] وفي الصورة الإعرابية نفسها للكلمة اليونانية [فهما لغتان معربتان] تحت كل كلمة يونانية في السطر، ثم قراءة الكلمات جميعًا للخروج بمعنى. وقد سبق أن بيّنت [في كتابي مرشد المترجم 2000، الملحق] كيف أدرك الناس فساد هذا النظام واستبدلوا به ما يسمى المعنى المستمر ما بين السطور (interlinear) ومنذ ذلك الحين، وهو قديم قدم كل ترجمة عرفها البشر، لم يعد لتعبير «الترجمة الحرفية» معنى ونبذه الجميع، مكتفين بلفظ الترجمة دليلًا على ترجمة المعنى، ولذلك فأنا أقبل رأي الأستاذ الدكتور محمد أبو ليلة، أستاذ علوم القرآن والدراسات الإسلامية في الأزهر، بأن كلمة الترجمة تكفي للدلالة على محاولة نقل المعنى من لغة إلى لغة، وأزيد على ذلك قولي: إن كل ترجمة تتضمن فهمًا خاصًّا قد يقترب من المعنى الظاهر للنص، وقد يتضمن تفسيرًا محددًا أو محدودًا لكلمة واحدة أو أكثر في هذا النص، بل أحيانًا ما يتضمن تأويلًا قد يخرج بالمعنى عما اتفق عليه جمهور الشراح والمفسرين، ولكننا في جميع الحالات نرى صورًا للمعنى لا تمس جوهر دلالات القرآن الذي لا يعلم تأويله إلا الله.

وقد فتح هذا الباب على مصراعيه دخول شعوب كثيرة تتحدث لغات متباينة، لكن الله شرح قلوبها للإيمان وأصبحت تطمح إلى معرفة كلام الله بلغاتها المختلفة، وتصدى عدد كبير من الباحثين لهذه المهمة، بعضهم يعرف العربية معرفة «معقولة»، وبعضهم أضاف إلى معرفته بها شروح المفسرين وآراءهم، وبعضهم لا يعرفون لا هذا ولا ذاك بل يترجمون اهتداء بما ترجمه أسلافهم، بل إن منهم من يتصدى بجهل أو بسوء نية إلى هذا العمل، محققًا كسبًا ماديًّا مؤكدًا، كما حدث بعد أحداث 11/9/2001 في أميركا.

في سياق المسألة الثانية إذن يمكننا أن نقول: إن الغرض من ترجمة النصوص الدينية من العربية إلى الإنجليزية تيسير فهمها للمؤمن الذي يريد أن يستضيء بنور القرآن بلغته الخاصة، من الإحاطة بالآيات الإيمانية (ومعظمها مكية) التي تثبت قلبه في الإيمان بلغة واضحة يفهمها في حدود ما درس وتعلم، إلى الإحاطة بآيات أسلوب العيش الذي اختاره الله وفق الفطرة التي فطر الناس عليها (ومعظمها مدنية)، وعلى رأسها الخلق القويم وطرائق التعامل في الدنيا بما يرضى الله، وقطعًا بما يفيد الناس ويسعدهم. أما القول بأن قراءة القرآن مترجمًا يمكن أن تهدي غير المسلم إلى الإسلام فهو وإن صح في الواقع في حالات كثيرة بل لعلي أقول: إنه إذا صح من ناحية المبدأ فإنه عمليًّا فيه نظر. فالذي يدعو الوثني إلى الإسلام، أي إلى حقائق الوجود الخالدة، قد لا يجد عند الوثني [بمعنى غير المؤمن] غير الجهل بحقائق الوجود المذكورة، والجهل يقهره العلم، وعلى هذا المنوال من النجاح المنطقي انتشر الإسلام في ربوع الشرق حتى وصل الصين، وكلنا يعرف قصة أبي القاسم، ابن أخي الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي خرج شرقًا مع نفر من المسلمين إلى الهند وكلما أقاموا في قرية اختلط الناس بهم وآمنوا بما عرفوا من الحق، وليقرأ من يريد التفاصيل في كتب التاريخ الإسلامي التي تبين كيف أن الترجمة الأمينة الصادقة لعبت دورًا بالغ الأهمية في هداية من لم يكونوا «يعلمون» والقصة التي يرويها الدكتور عبدالحميد العبادي في كتابه صور من التاريخ الإسلامي لا تنتهي بنهاية سعيدة لذلك الداعية الشاب؛ إذ استدعاه الحجاج [ربما خوفًا من مزاحمته إياه في السلطة والله أعلم].

عندما نترجم الآيات وشروحها، مستعينين بالمفسرين المتنورين الذين يعتز بهم التاريخ الإسلامي، فإننا نضع النقط على الحروف، كما يقال، أمام الذين «لا يعرفون»، رغم إيمانهم بالرسالة، فكتب التاريخ الصادق (مثل فتوح البلدان للبلاذري) تقص علينا كيف نهض المترجمون العرب الأوائل بدور ملموس في «تعريف» الناس بهذا الدين العظيم بلغتهم، كما يروي حسين مؤنس بعض الرحلات التي كان يقوم بها التجار من العرب المسلمين إلى مناطق شرق إفريقيا، والجزائر التي تليها شرقًا، وكيف كانوا يقيمون مع سكانها، ويبهرونهم بسلوكهم الذي لم يكونوا عهدوه سلفًا، فإذا سئلوا عن حفظ الوعد، والأمانة، والخلق القويم، أجابوهم عن طريق مترجميهم بأن المصدر هو الإيمان، وحقيقة الروح وما لف لف ذلك، فإذا أحس التجار بأن الناس تريد أن «تعرف» تولَّى المترجمون الأوائل مهمة تقديم أهم أركان الإسلام وشرحها، وقد أعقب ذلك دخول كلمات عربية كثيرة في اللغات الأصلية للسكان، وازداد إقبال بعضهم على تعلم العربية، حتى يقال: إن اللغة الأوردية التي يتكلمها أهل باكستان ثمرة من ثمار تلاقي بعض اللغات الهندية الأصلية مع العربية والفارسية.

ما النسق القرآني؟

ولكنَّ للترجمة عيبًا واضحًا وهو التضحية بالنسق القرآني –فكريًّا ولغويًّا– في سبيل تبسيط الرسالة، فالإسلام «بلاغ» للناس ويدعو الناس «كافة» إلى رؤية حقائق وجودهم، ولكنه يبلغهم ويدعوهم بلغة خاصة كانت من أسباب اقتناع العرب بأن ذلك ليس من كلام البشر الذي يعرفونه، بل إن فيه روحًا مختلفة تبرز في نسقه اللغوي خصوصًا. ولقد أدرك ذلك كبار مترجمي القرآن إلى الإنجليزية، فمنهم من حاول وضع الترجمة في أبنية تشبه الشعر الإنجليزي، أملًا في جعل القارئ الأجنبي يشعر بالإيقاع الذي ينم عليه النسق اللغوي، مثل آربري، ومنهم من حاول إبراز خصيصة الإيجاز، وهو ما يقابل في اللغات الأوربية (ellipsis) أي إيجاز الحذف، بأن أضاف في الترجمة ما تصور أنه يملأ الفراغات الناشئة من هذا النوع المذكور، مثل يوسف علي، ومنهم من أدرك استحالة إبراز خصائص النسق القرآني في الترجمة فوضع لنفسه نهجًا نثريًّا يكفل نقل المعنى الذي استطاع استنباطه، مستعينًا بعالم أزهري، موقنًا بأنه لن يفلح في محاكاة النسق القرآني العظيم، مثل ﭘـيكتول. وقد بلغ النهج الأخير غايته في ترجمة المرحوم الدكتور محمد غالي، الذي جعل همه تقديم المعاني وظلال المعاني الموحى بها، واعيًا بأن لكل كلمة في القرآن دلالة خاصة، وهو ما تطلب منه إضافة حواشٍ وهوامش كثيرة لشرح ما قد يستعصى فهمه على المبتدئ. وأخيرًا وجدنا الدكتور محمد عبدالحليم يخرج علينا بترجمة بديعة بلغة إنجليزية معاصرة، متجنبًا أية محاولة للمحاكاة الأسلوبية، فأقبل عليها الناس يقرؤونها، مؤمنين وغير مؤمنين، حتى طبعت الترجمة في سلسلة بنغوين الشعبية عدة طبعات.

وأما المذهب العلمي، أو المبادئ الصياغية التي أتت بها العلوم الحديثة فتقول: إن لكل لغة نسقها الخاصة، ويقسم الباحثون أنواع الأنساق إلى ثلاثة أنساق رئيسية: أولها النص الإخباري (informative) الذي يقابل الأسلوب الخبري باللغة العربية أي الأقوال التي تحتمل الصدق والكذب، وثانيها هو النص التعبيري (expressive) أي الأقوال التي يعبر فيها القائل عن مشاعره مستعينًا بلغة المجاز والإيقاع، كما نجد في الشعر، وثالثها هو ما يسمى الأسلوب الإنشائي لدينا (operative) أو (appellative) أي الذي لا يحتمل الصدق أو الكذب، مثل الطلب والسؤال والرجاء والدعاء وهلم جرًّا. وفي ضوء هذا التقسيم وجدنا المترجمين حائرين في تصنيف «النسق» القرآني، أي تحديد انتمائه إلى كل أسلوب من هذه الأساليب، لأنهم وجدوا في لغة كتاب الله جميع الأنواع الثلاثة، إلى جانب نوع رابع يطلق عليه (phatic) أي إقامة الصلة، بمعنى أن الألفاظ المنطوقة قد لا تعني شيئًا في ذواتها ولكنها تلفت انتباه السامع أو تبقي على انتباهه، وهكذا وجدنا العلماء المحدثين يرفضون وصف النسق القرآني وصفًا يربطه بنموذج نثري واحد، ويبينون أن في كتاب الله أنواعًا أسلوبية قد تتجاوز ذلك التصنيف المرصود في اللغات الأخرى، فهي إما تمزج بين أكثر من نوع نصي واحد، وإما توحي بوجود نوع نصيٍّ خاص لم يتعرض له، أو لم يتعرف إليه، علماء اللغة.

وذهب فريق آخر إلى القول بأن القرآن كتاب علمي بمعنى أن كل لفظة فيه ذات معنى دقيق محدد ثابت، أي أنه لا يتغير من سياق إلى سياق داخل التنزيل العزيز، ومن ثم فللمرء أن يحدد هذه المعاني المفردة في برنامج حاسوبي، وبعدها يعتمد على الحاسوب في ترجمة النص العظيم، وقد فوجئ هذا الفريق بأن بعض كلمات القرآن تحمل أكثر من معنى، وقد تخرج عن المعنى الشائع «الحقيقي» إلى معانٍ أخرى «مجازية» درسها الباحثون في علوم القرآن، ورصدوا لها دلالات تتفاوت بتفاوت السياق التي وردت فيه، وقد ضربت لها مثلًا «بالرحمة» في كتابي فن الترجمة مبينًا أن علماء القرآن أثبتوا لها خمسة معانٍ على الأقل، كما بينت في كتاب آخر بالإنجليزية (2000) أن كلمة الأخلاق والخلق في الحديث الشريف توازيها أو ترادفها عدة معانٍ لكل منها مقابل مختلف بالإنجليزية، ثم نشأت مشكلة لم يكن يتوقعها دعاة الحاسوب [أو ما يسمى الترجمة الآلية (machine translation)] وهي تأثير بناء الجملة في معنى أجزائها، فالقضية ليست أن تجمع معنى الجملة من معنى أجزائها، ولا أن تضفي المعنى العام على تلك الأجزاء، وأشهر مثال ذكرته في حواشي كتاب آخر بالإنجليزية (1986م) هو الآية الثانية من سورة البقرة ( الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2}) فلك أن تقسمها إلى: ( أ ) 1- ذلك الكتاب و2- لا ريب فيه و3- هدى للمتقين، ولك أن تقسمها إلى: (ب) 1- ذلك الكتاب لا ريب، و2- فيه هدى 3- للمتقين أو إلى: (ج) 1- ذلك الكتاب لا ريب فيه، 2- هدى للمتقين. وفي كل حالة ستأتي بترجمة مختلفة، على الرغم من عدم الخلاف على الدلالات القائمة في الألفاظ المفردة.

والطريف أن بعض المتحذلقين أضافوا طرائق أخرى لما يسمى «تقطيع الكلام الملفوظ» (Segmentation of uttered speech) ففصل بين «ذلك» وبقية الجملة، كما فصل بين «المتقين» وبينها، رابطًا إياها بما يتلوها (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، وفيما يلي الترجمات الثلاث الأولى، حسبما اتفق جمهور العلماء:

a.

  1. This is the book!
  2. There is no doubt about it;
  3. It is a guidance to the pious.

b.

  1. Undoubtedly this is the book;
  2. In it there is guidance
  3. for the pious.

c.

  1. This is no doubt the book!
  2. It is a guidance to the pious.

وقد يبدو الاختلاف طفيفًا بين الصور الثلاث للترجمة؛ إذ ترتكز على تغيير موقع «فيه»، أولًا بنسبتها إلى «لا ريب» [لا ريب فيه] وثانيًا بنسبتها إلى «هدى للمتقين» [فيه هدى للمتقين]. والمتحذلقون يقدمون الصورة التالية:

d.

  1. This is it!
  2. It is the book
  3. Wherein there is no doubt,
  4. But which is a guidance
  5. To those who are pious, and believe in the unseen

الحذلقة أدت إلى كثرة الألفاظ دون إيضاح للمعنى، ولكن مزيتها، كما يقول أحد مترجمي القرآن القدامي نسبيًّا (مثل Sale و Bell) أنها تعطيك جملة كاملة مفيدة مع التوكيد لكلمة «ذلك» المستعملة بمعنى «هذا» (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) (الكهف 64) والمترجمون القدماء يحتفلون بما يرونه توكيدًا في القرآن مثل بداية الجملة بالحرف «إن» أو «إنما»، وعلى غرار ذلك اعتبروا الحروف المقطعة في أوائل السور إشارات تنبيه وتوكيد، وعلى هذا سار القدماء، ولا أريد أن أفيض في ذكر هذه المسألة، فلكل مترجم ما يهديه الله إلى فهمه، ولعلي أشير إلى أن بعضهم قد يختار التحرز (hedging) فلا يلتزم بأن «لا ريب» تصف الهدى، كما يفعل يوسف علي، ولا بأنها تصف الكتاب، كما يفعل ﭘـيكتول، على النحو التالي:

  1. This is the Book

In it is guidance sure, without doubt,

To those who fear God

(يوسف علي)

  1. This is the scripture whereof there is no doubt, a

Guidance unto those who ward off (evil)

(ﭘـيكتول)

ولكن المتحرز يفضل أنه يأتي بصيغة الحال (adverb) في مقدمة الآية، تاركًا للقارئ اختيار موضوع التوكيد ونفي الشك، على النحو التالي:

  1. Undoubtedly this is the book wherein there is guidance

For those who are pious.

وهذا التحرز لا يعني إلا أن المترجم يريد أن يؤكد الجملة كلها، وهو توكيد له ما يبرره؛ لأننا بصدد آية واحدة، وما قصدت من إيراد إمكان تقطيع الكلام الملفوظ إلا أن أبين أن لدينا في القرآن صعوبة أخرى لا توجد في اللغات الأوربية الحديثة، وهي أنه نزل كلامًا منطوقًا لا مكتوبًا، وقد سجله المؤمنون الأوائل وفق معايير اللغة العربية التي نزل بها، وكانت القراءات (lections) التي سجلها ابن مجاهد، قراءات تتفاوت بتفاوت من سمع الآيات، وكان هؤلاء يقرؤونها على الرسول عليه الصلاة والسلام فإذا وافق عليها أصبحت مقبولة ومعيارية (انظر مقدمة شوقي ضيف لكتاب ابن مجاهد) ومن أشهرها ما نجم عن التصحيف، أي أن الذين دخلوا الإسلام من غير العرب كانوا يحتاجون إلى ما يسمى (diacritics) وهي النقط التي توضع فوق الحروف أو تحتها، والعلامات التي تدل على الوصل والفصل، إلى آخر ما اعتدناه في المصحف الحديث. ومن القراءات التي تختلف عن القراءة المعتادة الحالية وضع نقط مختلفة على كلمة تتيح افتراض تغييرها على الورق مثل كلمة «فتبينوا» وكلمة فتثبتوا (فى سورة الحجرات) ومثل كلمة يُوقَدُ التي يمكن أن تُقْرَأَ تَوَقَّدَ في الآية: (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ) (النور- 35) وكان ذلك موضوع رسالة الباحثة أميرة الخولي لدرجة الماﭼـستير، وحصلت بعدها على الدكتوراه في تأصيل أسماء الأعلام في القرآن الكريم (وهي تعمل حاليًا في إحدى جامعات المملكة العربية السعودية).

المسألة الثالثة

تلك كما يقولون بيت القصيد أو مربط الفرس، فإذا لم نكن قادرين على البت في معنى واحد لكل كلمة فكيف نستطيع استخدام الحاسوب فيما أسميته الترجمة الآلية آنفًا؟ والإجابة بالنفى تفتح لنا بابًا جديدًا وهو باب متاهة لا مفر من وُلُوجها حتى نقدم للقارئ المؤمن صورة صادقة لما يقول الله، والمتاهة التي أعنيها ثقافة أديان التوحيد السابقة، وخصوصًا النصرانية بصورها المتعددة، واليهودية كما تصورها التوراة [(الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم (the Pentateuch) في الكتاب المقدس] فنحن نعرف أنه عندما انقطع الوحي بانتقال الرسول إلى جوار ربه، بدأ الناس يتساءلون عن تفاصيل بعض القصص الواردة في القرآن، ولم يكن أمامهم إلا الكتاب المقدس والتراث التفسيري الذي تراكم عبر عدة قرون منذ أعلن الإمبراطور قسطنطين تحول الإمبراطورية الرومانية [البيزنطية فيما بعد] إلى المسيحية، والمتابع لهذا التراث سوف يرصد تأثيره في الفكر الإسلامي، وتقديم التفاصيل التي كان المسلمون يريدونها. ويمكن للدارس رصد اتجاهين رئيسيين في هذا التراث: أولهما التراث اللاهوتي (القريب مما نسميه اليوم أصول الدين) أي الخاص بالعقيدة الربانية عند اليهود ثم المسيحيين، وكان دارسوها الأوائل ما انفكوا يقدمون أفكارًا زاخرة عن الدنيا والآخرة، وإن لم ينشأ الخلاف حول طبيعة المسيح إلا فيما بعد، وأما ثانيهما فهو التراث الثقافي، بمعنى ما يترتب على إيمان المؤمن من سلوك ومعاملات، وما يتعلق بهذا الإيمان من عقائد فرعية، وهي في ظاهرها لا تتناقض مع أي دين سماوي، أو مع الإسلام تحديدًا، لكن هذا التراث الثقافي سرعان ما أثر في تفكير المسلمين بنشأة الفرق الإسلامية، ويورد الشهرستاني في الملل والنحل كيف كانت إحدى الفرق تؤمن بمقولة مسيحية هي: «إن الرحمن خلق الإنسان على صورته»، ومقولة أخرى من التراث النصراني اليهودي على أن في الجنة «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، ولمن يريد المزيد أن يرجع إلى كتب الفصل بين الفرق للبغدادى وابن حزم.

هذه هي المتاهة التي أعنيها بالنسبة للمترجم، فالمسيحيون واليهود عندما يترجمون القرآن لا يرونه على حقيقته بل يفهمونه على ضوء خبرتهم بدينهم، وقصة داود عليه السلام والملكين اللذين تَسَوَّرَا عليه المحراب مشهورة، ونحن نرفضها فيما نرفض مما يسمى الإسرائيليات، ولكن عددًا كبيرًا من التفاسير التي يرجع إليها المترجم الحديث تتضمن الحديث عن «الملك داود» وتنسب إليه ما ورد في العهد القديم من قصص، والمترجم حين يحاول أن يفهم الآية حتى يفسرها في الترجمة تفسيرًا صحيحًا يجد نفسه مضطرًّا إلى مجالدة التراث المذكور، وقد لا تسعفه التفاسير الحديثة الموجزة –أو سَمِّها المبسطة– التي يحاول فيها علماء أجلاء تقريب النص القرآني من مفاهيم العامة.

والأرجح ألا يجد المترجم المعنى المقصود إذا اعتمد على شارح واحد دون غيره؛ إذ ربما كان هذا الشارح ذا مذهب خاص يقوم على التأويل (to construe) والاسم (construction) [هجاء الاسم من (construct) نفسه] فالتأويل إحالة القارئ إلى شيء من خارج النص، وهو الذي وجدته بعض الفرق الإسلامية في تفاسير الكتاب المقدس، وهنا لا بد أن أفصل بين عدة ألفاظ تستخدم في الهرمانيوطيقا (Hermeneutics) المبحث الذي اشتهر باسم التفسير أو الاجتهاد (interpretation) ثم قسمه المحدثون إلى عدة فروع: أولها الشرح أي تبيان معاني الألفاظ، ويقابل (explanation/ explain) أي إزالة وعورته أو تعقيده، والثاني هو الإيضاح (clarification) ويقابله المصطلح الحديث إلقاء الضوء على سياق النص حتى يتضح معناه غير الظاهر أو تتضح معانيه «التاريخية» أو «الشخصية» ويستخدم نقاد الأدب في هذا المعنى كلمة (elucidate/ elucidation) المشتقة من اللاتينية (Lux, Lucis) بمعنى الضوء، وهو ما يزيد إيضاح الفكرة، فإذا قال الشاعر: [يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة/ والأذن تعشق قبل العين أحيانًا] وعرفنا أن الشاعر كان مكفوف البصر، رأينا دلالة طريفة لعشق الأذن، وعلى غرار ذلك قول الشاعر نفسه: [يا منظرًا حسنًا رأيته/ في وجه جارية فديته]؛ إذ يتضح لنا معنى «الرؤية» هنا، وهي بالبصيرة لا بالبصر، لكننا نصدقه إذا قال: [حسناء إن نظرت إليــ/ــــك سقت بالعينين خمرًا/ وكأن وقع حديثها / قطع الرياض كُسِينَ زهرًا]. والثالث هو التفسير أي تبيان الدلالة التي قد تكون خافية على القارئ المبتدئ أو المتعجل، فهو ما يفعله الشيخ الصابوني في مجمع تفاسيره؛ إذ يربط ما بين الألفاظ حتى يخرج لنا تفسيره، فالرؤية عند الشاعر تشتبك مع الرؤيا في سورة يوسف (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ {4}) (لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ) (5) [ومع كلمة «الأحاديث» في السورة نفسها (6، 21) وكلمة «الأحلام» (44) وهكذا نجد أن تأويل الأحلام (44) وتأويل الأحاديث (101) ذات الدلالة نفسها لعبارة (تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ) (100). وهذا التفسير يبين لنا أن التأويل لا يشرح معنى الألفاظ بل يجعلها تشير إلى شيء خارجها، لا على أساس لغة المجاز، القائمة على التشبيه، بل على علم لدنيٍّ خاص، فلا إخوة يوسف يشبهون الكواكب ولا أبواه يشبهان الشمس والقمر، ولكن البناء كِنَائِيّ، وهو ما يفرق المحدثون بينه وبين الاستعارة، فالاستعارة ربط وتشبيه، والكناية (metonymy) إحلال وإبدال. وفي داخل الشرح والإيضاح والتفسير والتأويل يكمن ما يسميه المحدثون «الفهم».

والفهم إذن صلب الترجمة، بمعنى أن المترجم «يفهم» شيئًا بأحد الطرق المبينة، ثم يحاول أن ينقل هذا الفهم إلى القارئ أو إلى السامع، ولكن ماذا يعني الفهم؟ أقول في الفصل الأول من كتابي «مصطلحات الفلسفة الوجودية عند هايديغر» (2017م): إن الفهم يعني إحالة القارئ إلى ما يعرفه، بمعنى أن يتوسل من يريد الإفهام بما يعرفه القارئ في توصيل ما لا يعرفه. وهذا ما كان قال به هايدن وايت (White) (1978م)، ولم أكن قد اطلعت عليه من قبل، فاكتسبت اطمئنانًا إلى رأيي، وفي هذا السياق أجد أن فهم بعض الكلمات الأساسية فهمًا صادقًا يعين على الخروج من المتاهة التي ذكرتها، أي التخلص من «المفاهيم» التراثية في المسيحية واليهودية، وسأشير عرضًا إلى كلمة «السكينة» العربية، التي يخلط آربري بينها وبين الشكينة العبرانية والمسيحية، فالأخيرة تعني وجود روح الله في الأرض، والأولى تعني حالة الاطمئنان النفسي النابعة من الإيمان، وآربري يكتبها (Sechina) دائمًا، وربما كان يحاول تقريب المعنى الإسلامي من المعنى العبراني والنصراني، ولكننا ندرك مغبة تفسير لفظ بمعناه في عقيدة أخرى.

وأما الكلمة التي تبين أهمية الخروج من هذا التيه فهي كلمة أسلم يسلم إسلامًا فهو مسلم؛ إذ يتجه بعض المترجمين الأجانب إلى الربط بين الفعل بمعناه الأصلي المجرد، أي يخضع (to submit) [submission] أو [surrender] (بمعناها الحديث أي يستسلم) باسم الفاعل منه وهو المسلم ويتجه بعض آخر إلى تخصيص الإشارة إلى الإسلام، فالمترجم ﭘـيكتول الذي استعان بشيوخ الأزهر وعلمائه دائمًا ما يستعمل أحد الفعلين الإنجليزيين المشار إليهما، وفيما يلي بعض الأمثلة:

(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) (الحجرات 14)

«The wandering Arabs Say: We believe; Say (unto them, O Mahammad) Ye believe not but rather say» «we submit».

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم) (الحجرات 17)

«They make it a favour unto thee (O Muhammad) that they have surrendered (unto Him)».

(أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل 38)

«Which of you will bring me her throne before they come unto me surrendering?».

(قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل 44)

«She Said, My Lord! I have wronged myself, and I surrender with Solomon to Allah, the Lord of the worlds».

وأما يوسف علي فيقدم الترجمتين التاليتين للآيتين المقتبستين على الترتيب:

«They impress on thee as a favour that they have embraced Islam. Say, »Count not your Islam as a favour upon me: Nay, God has conferred a favour upon you that He Hath guided you to the faith«.

والثانية:

»He said (to his won men): «ye chiefs! Which of you can bring me her throne before they come to me in submission».

ولكنه يترجم الآيتين 42 و44 بذكر الإسلام بين قوسين، كما يلي:

(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) (النمل 42)

«And knowledge was bestowed on us in advance of this, and we have submitted to Goa (in Islam)».

(قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل 44)

«She said: ‘O my Lord! I have indeed wronged my soul: I do (now) submit (in Islam) with Solomon, to the Lord of the worlds».

وكما يرى القارئ، كل آية تتضمن مشكلات لفظية وبنائية، ولمن يود التوسع أن يقرأ تحليلي لمعاني «النفس» و«الروح» في القرآن، في كتابي: علم النفس التحليلي عند كارل جوستاﭪ يونغ: دراسة ومعجم، دار رؤية، 2019، ص 62-66) وعندها يمكن أن يتساءل إن كانت عبارة «ظلمت نفسي» توازي (I have wronged my soul) على نحو ما نراه عند يوسف علي، أم يمكن استبدال (myself) بالكلمة الأخيرة، أو حتى (my spirit) أو بتعبير يونج (my psyche)؟

والخلاصة أن ترجمة النصوص المقدسة تعتمد على الشرح والتفسير والتأويل وهي عناصر الفهم التي من المحال أن تدركها آلة صنعها الإنسان مثل الحاسوب إلا إذا توافر لواضعي برامجه من الخبرة والوقت الطويل ما يسمح بإدراج احتمالات معنى كل كلمة، في كل سياق محتمل، حتى توفر للمترجم المادة الحافلة التي يختار ما يريده منها، ومعنى ذلك في نهاية الأمر أن الاختيار سيظل إنسانيًّا لا آليًّا، أي أن من يحاول إخراج نص مترجم مثالي في نظره لأي نص مقدس سوف يستعين بالمادة التي توفرها الآلة، لكنه هو الذي سوف يقرر في النهاية ما يراه أقرب إلى الصحة. ولذلك فنحن عادة ما نقول «الترجمة المستعينة بالحاسوب» (computer – aided translation) لا الترجمة الحاسوبية.