الترجمة والمثاقفة

الترجمة والمثاقفة

الترجمة، أو النقل، بلغة جدّنا الجاحظ، عملية تقوم على معرفة اللغتين، المنقول منها والمنقول إليها، ويجب أن تكون هذه المعرفة دقيقةً نحوًا وصرفًا وتاريخًا. ومن المفيد جدًّا أن يكون لدى الناقل، أو المترجم، معرفة طيّبة بلغة أجنبية، أو أكثر، تتّصل باللغتين. فمثلًا، يُستحسن أن يكون لدى الناقل إلى العربية معرفة باللغات الشرقية، من سريانية، أو فارسية؛ فذلك لأن بعض مفردات تلك اللغات قد تسلّلت إلى العربية، أو اتّخذت شكلا عربيًّا من دون أن يلتفت إليها كثيرٌ من النَّقَلة. أما النقل من لغة أورُبية، كالإنجليزية مثلًا، يُستحسن، بل يجب أن يكون لدى الناقل شيء من المعرفة بالأصول الأورُبية لتلك اللغة، كالإغريقية واللاتينية والفرنسية والألمانية في هذه الحالة. أمّا المعرفة بتاريخ تلك اللغات فهو ممّا يزيد الوضوح في الكلام المنقول من إحدى اللغتين إلى الأخرى.

وقد أسوق بعض الأمثلة من تجربتي الخاصة في النقل بين العربية والإنجليزية. ففي أثناء أبحاثي عن الموشّح والزجل وأثرهما في بدايات الشعر الغنائي الأورُبي الخارج عن نطاق الشعر باللاتينية، وهو المعروف في العصور الوسطى، يوم كانت الكنيسة هي المسيطرة على الثقافة في أورُبا جميعًا، ومنها الشعر، وجدتُ ترجمة غريبة في طرافتها لموشّح أندلسيّ إلى الإنجليزية، قام بها أستاذ في جامعة أميركية معروفة، ويبدو أنه استمزج رأي زميل له من بلد عربي. وقد ورد في خاتمة ذلك الموشّح، «عاشقان اعتنقا/ ربِّ لا يفترقا». وليست هذه من أفضل أمثلة الموشّحات لغةً ونحوًا. وقد فهم «الخبير اللغوي» كلمة «ربِّ» على أنها «رُبّما»، فجاءت الترجمة على شاكلة:

«Perhaps they will never meet.»

ومن الواضح أن هذه الترجمة قد قتلت المعنى قتلًا، وأساءت إلى النصّ أيّما إساءة. والجدير بالذكر أن الناقل كان من أبناء عمومتنا، فطبّل له أبناء العمومة وزمّروا ووصفوه بالمترجم الفذّ. والسؤال الخطير هنا: كيف تكون ردود الأفعال لدى القارئ، أو المثقّف، غير العربيّ تجاه هذا النوع من «الترجمة»، أو هذا الأدب العربي الذي يُراد له أن يكون مفهومًا في الغرب؟

وثمّة مثال آخر من الترجمة-الفضيحة لغويًّا وثقافيًّا، فقد قام بهذه العملية أستاذ إنجليزي، كان يدرّس في بغداد في أواسط الخمسينيات، وتعرّف إلى الكثير من أدباء العراق، والشعراء منهم خاصّة، وهم طليعة التطوّر في الشعر العربي في أواسط القرن العشرين. وقد ترجم لبعضهم إلى الإنجليزية، كما ترجم لاحقًا بعض الأعمال الروائية العربية. وقد ظنّ بعض المسؤولين في مجالات الثقافة في بلادنا يومها، ولا يزالون، أن هذا الرجل قد خدم الثقافة العربية، فكرّموه مؤخّرًا بجائزة كبيرة. كان الشاعر العراقي عبدالوهّاب البياتي ممّن حظي باهتمام هذا الأستاذ البريطاني، فترجم له قصيدة جاء فيها: «نحن لم نقتل بعيرًا أو قطاة، حاملين الوطن المصلوب في كفٍّ، وفي أخرى التراب»، فترجم المحروس كلمة «قطاة»، على أنها «غراب»، وكلمة «كفّ» على أنها «قبضة»، والسؤال المؤذي الآن: كيف يمكن المزج بين القطاة والغراب؟ ولكلٍّ منهما معنى، وظلال معنى، في التراث العربي؟ فالقطاة يسهل الإمساك بها قبل أن تطير، والغراب نذير شؤم في العربية وفي غيرها. فكيف لم يسائل هذا الناقل نفسه عن موقع هاتين الكلمتين في التراث العربي وغير العربي؟ علمًا بأن كلمة «قطاة» يندر وجودها جدًّا في اللغات الأورُبية، ممّا كان يتوجّب أن يدركه هذا «الناقل». ثم كيف تحمل الوطن المصلوب في «قبضة»؟ فما الذي بقي من الوطن المصلوب لكي تحمله في «قبضة»، أو في غيرها؟

هذه بعض الأمثلة عن جهل الناقل، أو عدم اكتراثه بالإطار التراثي للمفردة. فما بالك بمعرفة الأرضية وراء حادثة تاريخية، أو شخصية في المجتمع، أو في السياسة، ممّا يقتضي نقله ليكون مفهومًا لدى القارئ، أو المثقّف، غير العربي؟

تجربة شخصية

والأخطر من ذلك كلّه ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية، أو غيرها من اللغات الأورُبية. وأتحدُث هنا عن تجربة شخصية، فلمّا كنت أستاذًا في الجامعة الإسلامية العالمية في كوالالمبور، ماليزيا، قبل عدة سنوات، وجدتُ بين أيدي الطلبة كتابًا بعنوان «ترجمة معاني القرآن الكريم»، يضمّ النصّ العربي الأصلي، تقابله الترجمة إلى الإنجليزية. وهي من عمل عبدالله يوسف علي، وهو هندي مسلم، نشر كتابه أول مرّة عام 1948م. والجامعة هذه من أهم مراكز المعرفة والثقافة الإسلامية في جنوب شرق آسيا. فلمّا نظرتُ في ذلك الكتاب، هالني ما وجدتُ في بعض الصفحات من سوء فهم واضح للمعنى الذي يقصده النصّ الأصلي، وشكل الترجمة، أو النقل، الذي يقابل ذلك النص. فمثلًا، كلمة «أمر» في العربية تفيد عددًا من المعاني، وأولها، وهو المقصود، هو «الشأن/ الغرض»، لكنه جاء في الترجمة بمعنى «إعطاء الأمر»، كأن تأمر أحدًا أن يقوم بعمل ما، أو بقول ما. ومن الواضح أن هذا ليس المقصود في الآية الكريمة: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)، فجاءت الترجمة بلغة توراتية لم تعُد مستعملةً حتى في ترجمة الكتاب المقدّس بجزأيه، العهد القديم والجديد. لكن الناقل بقي متعلقًا بتلك اللغة القديمة، وبفهمه المغلوط لكلمة «أمر». فجاءت الترجمة على الشكل الآتي:

«They ask thee about the spirit, say the spirit cometh by order of my Lord».

فأولًا، المقصود بـ «الروح» «soul»، وليس «spirit»، ولو أن المعنَيَين تعبّر عنهما كلمة «روح» العربية، مع أن كلمة «روح الإنسان» تختلف عن «روح العصر»، أو «روح النشادر»، مثلًا! إضافة إلى أن كلمة «spirit» قد تفيد في الإنجليزية معنى «شبح»، أو شيء غير منظور. لكن هذه «الترجمة» قد تصوّر للقارئ أن الخالق يمسك بيده «ريموت كونترول» ليأمر الروح أن تأتي إليه. والأكثر طرافةً وخطورة في آن أن الناقل ترجم «إنّما الصدقات للفقراء والمساكين… وذوي الأرحام…»، فترجم كلمة «الأرحام» على أنها جمع «رحم المرأة»، فقلَب المعنى قلبًا لا خير فيه. وقد زاد الطين بِلّة أن الناقل وضع هامشًا طويلًا يشرح فيه كلمة «الأرحام» بأنها تأكيد على أهمية الجنس وأهمية المرأة، لذلك كان اسم السورة «النساء»، على حد قوله، ممّا يؤكد، كما يرى، أهمية الجنس في الإسلام! والسؤال الذي لا مناصّ منه: كيف سيكون تلقّي القارئ، وبخاصة الشباب والطلبة في هذه الحالة، لهذا الكلام الصادر من عند الله؟ وثمّة أمثلة كثيرة على سوء فهم المفردات الواردة في القرآن الكريم مثل «النفس، الروح…» وكيف يمكن لمَن يحاول تفسير القرآن الكريم لطلبة أو شباب ممّن لا يفهم العربيّة لكنه يريد أن يفهم الإسلام دينًا وأسلوب حياة؟

ترجماتي من العربية إلى الإنجليزية

وقد كانت كل هذه الملاحظات في ذهني وأنا أقوم بالنقل من العربية إلى الإنجليزية، وهو ما بدأتُ توكيده منذ عام 2012م، يوم سمح لي التقاعد من الوظائف بالتفرّغ لما كنتُ أحرص على القيام به منذ زمن طويل. فبدأتُ بترجمة مختارات من الشعر العربي المعاصر إلى الإنجليزية. ففي عام 2014م، نشرتْ لي جامعة سيراكيوز في ولاية نيويورك ترجمة مختارات من شعر سميح القاسم، شطر البرتقالة الثاني من محمود درويش، بعنوان «أرى كلّ وجهٍ سوايَ»، وهو مُقتطف من قصيدة طويلة له بعنوان «كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه». وجاء بعد ذلك ترجمتي لرواية بالعربية للمغربيّ الدكتور عبدالإله بن عَرَفة بعنوان «جبل قاف»، وهي رواية عن حياة الفيلسوف الأندلسيّ الكبير محيي الدين بن عربيّ. وجاءت بعد ذلك ترجمتي للسيرة الذاتية لسميح القاسم بعنوان «إنّها مجرّد منفضة»، وهي وصف لحياة المثقّف العربي، والشاعر خاصّة، تحت الاحتلال الصهيونيّ. والأهمية الخاصة لذلك الكتاب أنه صورة مباشرة، واقعية، بعيدة من لغة الصحافة والإعلام التي عشّشت في عقول الناس، وبخاصة في أورُبا وأميركا. ثم بدأتُ بمختارات من الشعر العربي المعاصر، مثل عبدالرزّاق عبدالواحد، بعنوان «شاعر لكلّ الفصول»، وقد صدر هذا الكتاب عن ناشر كبير في لندن عام 2018م. وأعقب ذلك ترجمتي لمختارات من شعر مظفّر النّوّاب، أشجع مَن هاجم بشعره جميع الحكّام العرب، وعلى الرغم من ذلك، فشعره شائع في جميع البلدان العربية. وتصدر قريبًا مختاراتي من شعر بدر شاكر السّيّاب، وتليها مختارات من شعر نازك الملائكة، رائدة التجديد في الشعر العربي المعاصر. وستليها ترجمتي لمختارات من شعر عبدالوهاب البياتي وبُلند الحيدري، إذا ساعدت الصحّة، وسمح العمر.

إذا كان هدفي من ترجمة الآداب الأجنبية إلى اللغة العربية هو مساهمة في تثقيف القارئ العربي، مثل نقل بعض نظريات النقد الحديثة من الإنجليزية، أو ممّا تُرجم إليها من لغات أورُبية أخرى، فإن مساهماتي في نقل مختارات من الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية هي محاولات لتثقيف القارئ الأجنبي. ومن هنا أهمية أن يكون النقل، أو الترجمة، متميّزًا بالدقّة وتجنّب المزالق التي وقع فيها آخرون ممّن مثّلتُ لأعمالهم سابقًا. وأنا في كلّ ما قدّمتُ من ترجمات إلى العربية، أو عنها، مستعد لقبول أية ملاحظات، أو تصويبات؛ لأن ذلك ممّا يشكّل إضافة إلى عملية التثقيف، هنا وهناك. وأنا هنا لا أنسى قول العماد الأصفهانيّ: «ما كتب امرُؤٌ كتابًا في يومه إلّا قال في غده، لو قيل هذا لكان أحسن، ولو قيل ذاك، لكان يُستحسن…».