«من نبحث عنه بعيدًا، يقطن قريبًا» ترهين الليالي

«من نبحث عنه بعيدًا، يقطن قريبًا»

ترهين الليالي

هذا الكتاب الصادر عن دار توبقال للنشر، ترجمة من الفرنسية إلى العربية أنجزها المترجم إسماعيل أزيات، يضم عشرة فصول، إضافة إلى ملحق عبارة عن ترجمة لمقال نقدي لبينيدكت لوتيليي حول كتاب «أنبئوني بالرؤيا».

وكأني بكيليطو يشعر بأنه لم يؤدّ بعد دين الليالي؛ ذلك أنها شكلت كتابه الأول بلا زيادة (كيليطو: أنبئوني بالرؤيا)، وكانت العلاقة بها هي فاتحة دخوله عالم القراءة الاحترافية (كيليطو: الأدب والارتياب). وثمة أسباب أخرى أكثر وجاهة، وهي: غنى هذا الأثر على مستوى أشكاله وبنياته، وتقاطعه مع كثير من الآثار الكونية في قضاياه، ثم انطواؤه على طاقة جمالية هائلة وساحرة. هكذا يعود كاتبنا إلى الليالي بعنوان جديد: «من نبحث عنه بعيدًا، يقطن قريبًا»، بأسلوبه المعهود؛ أسلوب الحكاية، والبحث في الهوامش، ليقدم لنا قراءة تُظهر غنى الليالي الثقافي والتاريخي بما تخلقه من امتدادات وتماثلات مع نصوص أخرى من مختلف المشارب: القرآن الكريم، وسفر التكوين، والأوديسة، وملحمة جلجامش، وجاك القدري، والبحث عن الزمن الضائع، وقصص الأنبياء، وكتابات بورخيس، والكوميديا الإلهية.

ونستشف من هذا التناول ثلاثة أمور: أولها هو كشف قيمة الليالي التي تتمثل في كونها نصًّا فريدًا في الثقافة العربية؛ بالنظر إلى غناه، وإلى هذه الجذور الممتدة من الثقافات الإنسانية الأخرى وإليها. وثانيها هو كشف خصوصية القراءة لكيليطو؛ فهي قراءة يمكن وسمها بالموسوعية- الثقافية؛ لأنها تنهل من مشارب متعددة، وتحفر في الأساطير القديمة، وتكشف عن إلمام واسع بالآداب الغربية. وثالثها أن كيليطو بهذه القراءة يواصل تغيير أفق توقعنا حول هذا النص، ويمنحه راهنيته في واقعنا المعاصر.

وعلاقة بقضية ترهين الليالي هذه؛ يمكن القول بأن المقولة الواردة في العنوان التي جسدتها بعض الحكايات المدروسة لها راهنيتها، في حياتنا، فكم من الأشياء الثمينة نمتلكها بين أيدينا؛ إلا أننا لا نقدر قيمتها، فنذهب إلى البحث عنها بعيدًا، فإذا كنا محظوظين وجدنا من ينبهنا فعدنا كما هو حال البغدادي، وأما إذا خاننا الحظ، فإننا نرجع بعد أن يكون الأوان قد فات كما هو حال شارل مع أوجيني. بهذه الراهنية تؤكد الليالي استمراريتها بيننا، وبهذه القراءة «يتواصل سحر الليالي، ولا شيء يدعو لتوقع أن ينتهي ذلك يومًا». وما قدمناه ليس سوى مقبّلات لقراءة نرجو أن تكون شهية.

فما مضامين هذا الكتاب؟ شهرزاد الأولى: في هذا الفصل يتناول الباحث قصة الصبية مع الجني. ويسجل مجموعة من التماثلات: الجني/ شهريار، والقصر/ الصندوق الزجاجي، وعدد الخواتيم/ عدد الليالي، ووضع الصبية في علبة والعلبة داخل الصندوق والصندوق في البحر/ كتاب الليالي الذي يتضمن حكايات تحتوي أخرى.

حلم ليلة في بغداد: تتناول هذه الدراسة حكاية رجل من بغداد أفلس فرأى في منامه قائلًا يقول له: إن رزقك في مصر، فسافر إليها، ولما وصل تعرض لمحنة وسجن، فلما علم الوالي بقصته سخر منه وأخبره بأنه رأى ثلاث مرات قائلًا يقول له: اذهب إلى مكان في بغداد ففيه كنز، ووصف له المكان. فطابق الوصف بيت البغدادي، فعاد ووجد المال. يسجل الباحث بخصوص هذه الحكاية ما يأتي:

أولًا- تشابه هذه الحكاية مع العديد من الحكايات الليلية في ثيمة «تضييع المال».

وثانيًا- التماثل بين البغدادي وكيخوطي وبينه وبين نبي الله يوسف. وبينه وبين نبي الله إبراهيم. ثم رصد اختلاف الحكاية عند بورخيس وعلق عليها.

أوجيني والحالمان: يبدأ الكاتب هذا الفصل باستخلاص مجموعة من الدروس: «ينبغي الافتراق ليتحقق الاجتماع، ينبغي الخسارة ليتحقق الربح، ينبغي التيه ليتحقق الوصول». ثم يستحضر فكرة قديمة يصفها بالطائشة، تقول بالذهاب بعيدًا بحثًا عن كنز، بينما الكنز موجود في البيت. ويعود إلى حكاية السندباد مماثلًا بينها وبين رواية أوجيني غراندي لبلزاك.

في الحياة والممات: تتناول هذه الدراسة حكاية السندباد الذي أرغم على الزواج في بلاد أحد الملوك، والمأزق الذي يقع فيه، ويماثل بين حوار السندباد والملك الذي يتشبث فيه كل واحد برأيه، وبين حوار الصم بين القبطان هادوك والحجّاج في القصة المصورة Coke en stock.

الليالي والقدري: يؤكد الباحث أن ديدرو مدين لليالي في تأليفه للجواهر المفشية للأسرار وفي جاك القدري، راصدًا أوجه التشابه بين جاك القدري والليالي على عدة مستويات، محددًا نقطة اختلاف واحدة هي أنه في الليالي يحدث القتل قبل الاستماع إلى الحكايات، وفي الحالة الأخرى، يحصل العكس.

لا أحد هذا هو اسمي، من أوديسيوس إلى السندباد: تتناول هذه الدراسة التماثلات القائمة بين الأوديسة والسندباد البحري، وتقارن بين صفتي العملاقين في الحكايتين، ثم بين صورة أوديسيوس والسندباد.

السفرة ما قبل الأخيرة: يقارن الباحث بين حال أوديسيوس الذي كان يتحرق شوقًا لرؤية أهله، وحال السندباد الذي لم يكن ينتظره أحد. ثم يتناول قصة السندباد والنذر الذي أخذه على عاتقه، بخصوص التوبة من السفر. لكن دائمًا ما تكون الأخيرة هي ما قبل الأخيرة، كما في حكاية الكأس الأخيرة لجيل دولوز، وفي الأوديسة.

الشجرة التي في وسط الجنة: يتناول الباحث في هذه الدراسة علاقة الليالي بملحمة جلجامش، راصدًا أوجه التشابه بين البطل وشهريار. ثم يسجل أن الحكاية التي تتضمن صدى لملحمة جلجامش بشكل جلي هي حكاية بلوقيا، محددًا العلاقة بين شهريار وجلجامش وبلوقيا. ويقدم قراءة لحكاية بلوقيا في تناصها مع سفر التكوين، ومع القرآن الكريم، ثم مع قصص الثعالبي.

بأي لغة سيكون عليَّ أن أموت: يتناول هذا الفصل علاقة بورخيس بالعرب وبالليالي، مشيرًا إلى أن بورخيس ظل يشغله سؤال: ما هو الشرق وما هو الغرب؟ مرجحًا أن يكون البحث عن جوابه هو ما دفعه لتعلم اللغة العربية، فشرع في ذلك وهو في سن متأخرة بقصد قراءة الليالي في النص الأصل. لكنه مات بعد شهور قليلة من بداية تعلمه.

الكتاب الذي كانوا يتمنون كتابته: هذا العنوان هو أمنية ليلية من حلم مشتت للكاتب، ويفترض أن الأمر يتعلق بالليالي، وأن الأمنية جماعية، ويناقش علاقة العرب بهذا الكتاب. مذكرًا بفضله على الآداب الإنسانية، ومؤكدًا استمرار حضوره في الساحة الأدبية والنقدية، مرجعًا الفضل إلى اختلاف الترجمات؛ إذ يحاول كل مترجم تقديم نسخة خاصة به. ويخلص إلى أن الكتاب المذكور في الحلم لم يكن الليالي، ولكنه إعادة كتابتها، وإعادة خلقها كما فعل بروست، وجورج بيرك.

ويختم الكتاب بملاحظة تجلّي قيمة الليالي، وهي أنها بفضلها سَبَقَ الشرقُ إلى غزو الغرب، وأن الليالي هي التي دشّنت ارتباط الغروب بالشروق. ثم يذكّر بفضل الغرب في استمرار الليالي.

______________________________________________________________________________________________________

المراجع: خورخي لويس بورخيس: سبع ليال، ترجمة عابد إسماعيل، دار الينابيع، ط1، 1999م.