بيير روزانفالون: التعبير عن السخط لا يُعتبر سياسة

بيير روزانفالون:

التعبير عن السخط لا يُعتبر سياسة

أُجرِيَ هذا الحوار مع البروفيسور بـيـيـرْ روزانفالـون بمناسبة صدور كتابه «تاريخنا الثقافي والسياسي من 1968م إلى 2018م»، عن دار «لـو سـويْ»، 2019م؛ وفي هذا الكتاب يحلل المؤرخ انتفاضات المجتمع الفرنسي الذي خـلخلـتْه حركة «الســترات الصـفراء».

● تمـيّزتْ بداية هذا القرن بـصعودِ حركات شـعبوية في العالم وفي فرنسا. هل نعدّ «السترات الصفراء» نموذجًا لها؟

هذه الحركة توضّح أن طوائف منطوية على الألم والـحـقد تكـوّنتْ في الظــلّ. وهذه «السترات الصفراء» لم تكن تـحسّ أن صوتها مسموع وأنها مُـمـثـلـَة. إنها تطالب قبل كل شيء، بأن يُعتَرَفَ بها. وهذا يكشف أيضًا أن جزءًا من المجتمع قد هـجـر حــــقــــــــلَ الديمقراطية الانتخابية. إن هذه الحركة تستـقطب المُعـرضين عن الديمقراطية الذين يُحركهم الارتـياب من المؤسسات. لذلك فـإنها تعـبّـر عن غـضـبٍ يـصعب معه أن تـتــبــنْــيَـن هذه الحركة.

● لقد استُـعمِـلتْ كلمة ثور الفلاحين في توصيف هذه الحركة؛ هل استحضار تلك الـهَــبّات العنيفة للفلاحين في عهد النظام القديم {قبل ثورة 1789م}، لتحديد ماهية السترات الصفراء، يـبدو لك ملائمًا؟

لا أظـنّ. لا يتعلق الأمر لا بـهَــبـّةِ فلاحين ولا بـثورة. والاستيلاء على الحكم ليس هـو مطلبُ من يحـتجّـون اليوم. إن هذه الحـــــــركة تنطوي على شكل من المفارقة يجمع بين انـتـقادٍ جــذريّ للـذين يحـكمون، وتـطـلُّعٍ إلى حُـكمٍ أكثـر نشاطًا وفاعلية. إنها تُـشكّل تجـمّعًــا رُكــامـيًّـا حول ديمـقراطيةٍ رافــضـة. وهذه الديمقراطية الرافضة لا تـهتــمّ بالتمـاسُك المنطقيّ، وإلّا لَمَا كانت تطالب، في الآن نفســــــه، بـــدولةٍ أكــثـر، وبــضـرائب أقــلّ. وهذا المظهر لـديمقراطية سـلبية يُـكـوّن في آنٍ واحدٍ قـوة في الشارع، وضـعـفًا يحـــولُ دون صـوْغ مـقتــرحات. إن السّــخط يُــجــمّــعُ لـكنـه لا يُــقدم سـياسة {حـلًّا سياسيًّا}.

● أليس هذا بالضبط أحـــــدَ نتائج الــشــعـبـوية؟

انتــشار الشعـبوية هـو تـعـبير عـن هذه الـسـلبـية. وهو أيضًا مـا يُـفـسـر تـنـوع تجلياتها (هي قائمة في اليمين كما في اليسار). فضلًا عن ذلك، غالبًا ما تـتـوفـر على طابع هـجيـن. مثلًا، فكتور أوربان رئيس وزراء هنغاريا، هو في الوقت ذاته ليبـرالي متطرّف ووطـنيّ كـارهٌ لـلأجانب.

مطالب من هم تحت

● أليست الأحزاب التقليدية هي الضحية الأولى لـهذا التيار الجديد {الشعبوية}؟

الأحزاب هي إلى انـحدار، بينما هذه الحركة صاعدة بالقوة. إن مـيـزة حـزبٍ ما، هي أن يؤسس مشروعًا على أساسٍ اجتماعي، ثقافي وأحيانًا إقليـمي. إنه يـعكس مطالبَ مَـنْ هم تحت، لـدى مَـنْ هم فــوق. أما هذه الحركة فهي على عكس ذلك، تحتلّ رأس الملصق، وتنظم صفوفها حول شخص، وتكتفي بأبسط عناصر الديمقراطية الداخلية. وهذا ما نلاحظه سواء في التجمع الوطني (أقصى اليمين) أو في حزب فرنسا المتمردة، بل حتى في حزب الجمهورية المتحركة (حزب الرئيس ماكرون). إننا نـمرّ بمرحلة تاريخية حيث الخوف والقلق والفسولة تُـشـكّـل طوائف مُـتـنافرة، مُتـنابـِذة. وأزمة الأحزاب تُـترجم عجزها عن التكـفــل بتـنظيم خطابٍ جماعي داخل مجتمع مُتـشظٍّ لم يـعــدْ مُـهيــكلًا ضمن طبقات محددة. عندئذٍ تصبح مـرجعية التعارض بين الأعلى والأدنى هي وحدها الصورة المشوشة.

● في الكتاب الذي نشـرتَــه أخيرًا، تفضح ازدياد الـفـروق (بين الفئات)؛ فـهل هي السبب في سُـوء الوضع الديمقراطي؟

في جميع الأحوال، لقد تفاقـمَ هذا التفاوت داخل كل أقــطـار العالم، وأسهــم في مـحْـو الدرجة المتوسطة بين الطبقات، وأَوْجَــدَ ما أسميـه «مجتمع الـتبـاعُـد». والأمـر لا يتـعلق فقط بالفرق الفاصل بين الأغنياء والفقراء. فإذا كانت بعض الـفـروق غير مقبولة، فهناك أخرى مسموح بـها. وعلى سـبيل المثال، يكون الانتـقاد أخفّ حـدة عندما يبتــسم الحظ لــلاعـبي كرة الـقدم أو لـفنـانين. وبصفةٍ عـامّة، مصدر المشكلة يـعود إلى أن المجتمع الفرنسي انقسم إلى غـيتـوهات، وهو ما أذكــى الاستــيهامات والأحكامَ المسـبقة والسلوكات الجامدة. لأجل ذلك، لن نحقق شيئًا ما دمنا لم نؤسس بوضوح أكثر، مجتـمعًا يضمّ كل الأفـراد من دون استـثناء.

● أليست الأزمة الراهنة هي قبل كل شيء، أزمة اجتماعية تجـسّــدها مطالب تـندّدُ بالتفاوت والفُـروق؟

نــعم؛ لكن الأمـر يتعلق بـظاهـرةٍ مُـعقــدة يتـوجّبُ أن ندرك بـواعثها، ولا نكتـفي بـمُـحـصّـلتها. ذلك أن تحرير العمل والانفجار الـرّقمـي قـد زعـزعــا أشياء كـثيـرة. ومن ثـمّ فإن إعادة تأسيس الحماية الاجتماعية هي رهــانٌ على جانب كبير من الأهمية. لكن هذا الرهان لم يـُـنجز بعد. ومن الواجب أن نـضاعف الجهود لكي نواجـه تـأثيرات الانفتاح الاقتصادي الذي أيـقـظ الحركات القومية- الحـمائيـة. ويبدو لي أن ربط الاستقلال الذاتي للشـغل بأشكـال جديدة لحماية العامل، هو طريق حاسم لحلّ الإشكال. ولا شك أن تحويل نظام الإجـارة يجعل من الضروري إعادة النظر في كرامة الرجال والنساء الأجــراء. يُـضاف إلى ما تقدم، شـعـورٌ بأن المجتمع بات منذ الآن يعمـل من خلال سُـرعـتـيْن تـتـعلقان بالأماكن الشـاغرة وأيضًا بالحظوظ في الحصول عليها.

● ألــمْ يـفقد اليـسار وظـيفة تـمثـيل الطبقات الاجتماعية الأقــلّ حُــظـوة؟

الحزب الاشتـراكي الفرنسي تـُعـوزه الأفكــار، فضلًا عن أنه تـعـثـّـر في تـطبيق بـرنامجه التاريخي. غير أن هناك استـثناء يتـمثل في وفائه لخـــطٍّ تاريخي لـم يـحِــدْ عنه منذ انتفاضة مايو 1968م، وهو موافقته على انتزاع الحقوق عندما كان في الحكم. أضربُ مثلًا على ذلك بتوسيع الاستقلال الذاتي للـنساء، وأيضًا الحقوق الجنسية لــلأقليات. إلا أنـنا لا نزال بعيدين من بلوغ نهاية هذا الطريق؛ إذْ لا تـزال هناك حقوق تنـتظر أن نحصل عليها. لكن الحزب الاشتـراكي أخفق في رسـم أشكالٍ ديمقراطية أكثـر حيـوية، ولم ينجح في تـــــــــحليل تحولات الاقتصاد والمجتمع، إذن لـم يُـوفّــق إلى الاستجابة لـلانتـظارات الجديدة الناجمة عن تلك التحولات.

تجنب انفراط عقد العالم

● هل هذا هو السبب في أن قسمًا من اليسار أقـنـع نفسـه بأن يُـعطي الأولـوية لفكرة الجمهورية؟

في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وجد جـانْ بيـيـر شوفينومان أن فكرة الاشتراكية فقدتْ قوتها؛ ومن ثم ارتــأى أن يُـحـدّد المستقبــــل بـوصفه رجوعًا إلى أسـس الجمهورية. وهذا يُـذكـرني بـعبارة للكاتب ألبيـر كـامو كثيرًا ما يُـستشهد بها، وفيها يـجعل الهدف يتمثل فــي «تـجـنّـب أن يـنـفـرط عِــقد العالم». وهنا نجد مصدر النزعة المحافظة المعاصرة التي تـتـغذى من انتقاد حقوق الإنسان. يُـــضاف إلى هذا الرأي، فكرة رجعية عند آخـرين تـرى أن الطبيعة تـسيـطر على الإنسانية وأن على الإرادة البشرية أن تظل متواضعة. وانبعاث مثل هذه الأفكار يـعود، في نظري، إلى أن ملامح المستـقبل أضحتْ غائـمة القـسـمات.

● لقد استـحضر الرئيس ماكرون سنوات 1930م ليصف الوضع الـراهن؛ فـهل تبدو لك هذه المقارنة مع القرن الماضي مُـبررة؟

يمكن أن يكون هناك تشـابُه مع المناخ السائد في الحقبتين؛ لكن المحتوى مختلف جـدًّا. في ثلاثيـنيات القرن الماضي، كانت الديمقراطية هـي الـهدف، وكان المعارضون يلـعـنونها. وهذه ليست هي حالة الشـعـبـويين اليوم. غـير أنني أريد أن أثير الانتــباه إلى مسألة وردتْ في خطاب الرئيس. كثيرًا ما يـردد ماكـرون أنـه إذا كان المواطنون لا يفهمون سـيـاسته، فـلأنها مشـروحة بطريقة سـيئـة؛ وكأن الأمــر كـله يـعـود إلى مـسألة بيـداغـوجية. إنه على خـطأ في هذه المسألة؛ إذْ على السـلطة أيضًا أن تـعرف كيف تُـدبّـر الانـفـعالات وليس فقط المصالح «الموضوعية»؛ ذلك أن الانفعالات ليست فقط أوْهـامًا، فالمخاوف والـغضب لـهمـا أيضًا عـقـلانـيّــتـهما.

● كيف نُـعيـد القوة إلى الأنـظمة الديمقراطية الـمُـتأزّمــة؟

يجب أولًا أن نُـوجِـد الكلمات المطابقة لـما يـحـسّــه الناس. وعلى الهيـئات الـوساطية من نقاباتٍ وجمعيات، أن تـدعــم أيضًـا مــــفهوم الـنـفـــــع الـعام. وفي الاتجاه نفسه، يمكن أن نبعث الحياة في وظائف ديمقراطية مـنـسية. وهذا معناه، على سبيل المثال، تحقيق المزيد من الشفافـية في سـيْــرورات اتخـاذ الـقـرار، وأن نجعل الدولة تقدم عرضًا عن حساباتها لنتمكـن من مراقبتها. نعم، كانت هناك محاولات جيدة في هذا المضمار، مثل إنشاء «السـلطة الـعـليا لضمان شفافية الحياة العمومية»؛ لـكـنـنا لا نـزال في أول الطريق نحـــــــو الــثـورة الديمقراطية الـضرورية.