نور عسلية: الغضب هو المحرك الأوّل لأعمالي الفنية! فنانة سورية ليس لديها ذكريات سعيدة في بلادها

نور عسلية: الغضب هو المحرك الأوّل لأعمالي الفنية!

فنانة سورية ليس لديها ذكريات سعيدة في بلادها

لا‭ ‬مقدمات‭ ‬تفي‭ ‬بالغرض‭ ‬هنا‭ ‬كمشاهدة‭ ‬أعمالها‭ ‬الصادمة،‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬فضاءاتها‭ ‬الخاصة‭ ‬بها،‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬مصادرات‭ ‬على‭ ‬الوعي‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬التلقي،‭ ‬إذ‭ ‬تحيلنا‭ ‬الفنانة‭ ‬السورية‭ ‬نور‭ ‬عسلية‭ ‬إلى‭ ‬منحوتاتها‭ ‬الباهظة‭ ‬ورسوماتها‭ ‬المشغولة‭ ‬بماء‭ ‬العين،‭ ‬مطوحةً‭ ‬بنا‭ ‬بين‭ ‬الطيف‭ ‬والجثة،‭ ‬منجزةً‭ ‬عالمها‭ ‬الشبحي‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬تجلياته‭ ‬المادية،‭ ‬معلنةً‭ ‬انتماءها‭ ‬لتجربتها‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬تصقلها‭ ‬بمعرفة‭ ‬واسعة‭ ‬وأكاديمية‭ ‬رفيعة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬التشكيل‭ ‬المعاصر‭. ‬‮«‬الفيصل‮»‬‭ ‬التقت‭ ‬الفنانة‭ ‬نور‭ ‬عسلية‭ ‬وكان‭ ‬معها‭ ‬الحوار‭ ‬الآتي‭:‬

‭ ‬لحظة‭… ‬دعينا‭ ‬أولًا‭ ‬نتكلم‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الأوقات‭ ‬الدفينة‭ ‬والسرية‭ ‬التي‭ ‬تقضينها‭ ‬في‭ ‬مشغلكِ‭.. ‬لا‭ ‬ليس‭ ‬المحترف‭.. ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬الرأس‭.. ‬كيف‭ ‬وأين‭ ‬تبدأ‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬الشاطرة‭ ‬في‭ ‬القفز‭ ‬إلى‭ ‬مخيلتكِ؟‭ ‬حسنًا،‭ ‬دعينا‭ ‬نرتب‭ ‬هذا‭ ‬أكثر،‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الصيد‭ ‬كان‭ ‬لمحًا‭ ‬من‭ ‬لمحات‭ ‬مخيلتكِ‭ ‬الأولى‭ (‬الأب‭) ‬الكائنات‭ ‬تتخبط‭ ‬قبل‭ ‬تحنيطها،‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬الإلهام‭ ‬الأول‭ ‬البريء،‭ ‬ربما؟

‭ ‬يُشعرني‭ ‬ترتيب‭ ‬سؤالك‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬بالراحة‭. ‬تشكل‭ ‬ذكريات‭ ‬الطفولة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬منبعًا‭ ‬عاطفيًّا‭ ‬وحسيًّا‭ ‬على‭ ‬حدِّ‭ ‬سواء،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬بمشغل‭ ‬والدي،‭ ‬مشغل‭ ‬التحنيط‭. ‬كان‭ ‬أبي‭ ‬يعمل‭ ‬كمحنّط‭ ‬للحيوانات‭ ‬والطيور،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يومًا‭ ‬صيادًا‭. ‬أتذكّر‭ ‬بدقة‭ ‬أيضًا‭ ‬مدى‭ ‬تجنبه‭ ‬لإنهاء‭ ‬حياة‭ ‬هذه‭ ‬الكائنات‭. ‬كانت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬مهن‭ ‬مارسها‭ ‬خلال‭ ‬حياته‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تدريس‭ ‬مادة‭ ‬علم‭ ‬الأحياء‭ ‬والإشراف‭ ‬على‭ ‬صيدلية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬سلميّة‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬عشنا‭. ‬وإذ‭ ‬أقول‭: ‬إن‭ ‬التحنيط‭ ‬يمثّل‭ ‬منابع‭ ‬عاطفية‭ ‬فهو‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أرافق‭ ‬أبي‭ ‬لأوقات‭ ‬طويلة‭ ‬وأشعر‭ ‬بقساوة‭ ‬هذه‭ ‬المهنة‭ ‬على‭ ‬جسده‭ ‬وعلى‭ ‬قلبه‭. ‬أما‭ ‬أثرُها‭ ‬الحسيّ،‭ ‬فها‭ ‬أنا‭ ‬اليوم‭ ‬أستطيع‭ ‬استرجاع‭ ‬صور‭ ‬الحيوانات‭ ‬المدمّاة‭ ‬وروائح‭ ‬تخثّر‭ ‬دمائها‭ ‬على‭ ‬فرائها‭ ‬أو‭ ‬رِيَاشها،‭ ‬أتذكر‭ ‬أيضًا‭ ‬أصوات‭ ‬ارتطام‭ ‬عظامها‭ ‬وجماجمها‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬التحنيط‭. ‬وسأكتفي‭ ‬هنا‭. ‬

‭ ‬الطفولة‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ (‬تحنيط‭) ‬أطراف‭ ‬وأعضاء‭ ‬بشرية،‭ ‬هل‭ ‬يأخذنا‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬مراوغة‭ ‬بين‭ ‬الذاتي‭ ‬والموضوعي؟‭ ‬خصوصًا‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بالمسألة‭ ‬السورية؟

‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬طفلة‭ ‬كان‭ ‬التحنيط‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬مهنة،‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬أنه‭ ‬تعنيف‭ ‬أو‭ ‬تقطيع‭ ‬أو‭ ‬انتهاك‭ ‬لأجساد‭ ‬الحيوانات،‭ ‬أعتقد‭ ‬أنني‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬لليوم‭ ‬مقتنعة‭ ‬بذلك،‭ ‬فلقد‭ ‬كانت‭ ‬أحيانًا‭ ‬حيوانات‭ ‬يجدها‭ ‬الصيادون‭ ‬ميتة،‭ ‬وفي‭ ‬أحيانٍ‭ ‬أخرى‭ ‬يصطادونها‭ ‬ملتزمين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬بقوانين‭ ‬فترات‭ ‬الصيد‭. ‬وليس‭ ‬لذلك‭ ‬أي‭ ‬علاقة‭ ‬بالمسألة‭ ‬السورية‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭. ‬

‭ ‬معرضكِ‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬من‭ ‬فرجينيا‭ ‬وولف»؟‭ ‬هل‭ ‬يعكس‭ ‬رغبة‭ ‬لديكِ‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬عالم‭ ‬موازٍ‭ ‬بين‭ ‬تيار‭ ‬الوعي‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬الفن؟

‭ ‬يمثل‭ ‬عمل‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬من‭ ‬فرجينيا‭ ‬وولف‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أنجزته‭ ‬عام‭ ‬‮٢٠١٥‬م‭ ‬نقطة‭ ‬تحوّل‭ ‬وعودة‭ ‬في‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬النحت‭. ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬انقطعت‭ ‬لمدة‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬ونصف‭ ‬عن‭ ‬النحت‭ ‬بعد‭ ‬قدومي‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬للدراسة‭ ‬وإنجابي‭ ‬ابنتي‭ ‬ليلى‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬‮٢٠١١‬م‭. ‬لدى‭ ‬قراءتي‭ ‬لرسالة‭ ‬فرجينيا‭ ‬وولف‭ ‬الأخيرة،‭ ‬التي‭ ‬أعلمتْ‭ ‬فيها‭ ‬زوجها‭ ‬بقرار‭ ‬الانتحار،‭ ‬تأثّرتُ‭ ‬بشدة،‭ ‬كان‭ ‬لذلك‭ ‬أثر‭ ‬فكريٌّ‭ ‬عليَّ‭ ‬وليس‭ ‬عاطفيّ‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فكرة‭ ‬الانتحار‭ ‬العجيبة،‭ ‬أنّها‭ ‬ملأت‭ ‬جيوبها‭ ‬أحجارًا‭ ‬ورمت‭ ‬بنفسها‭ ‬في‭ ‬بحيرة‭ ‬صغيرة،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬شكّل‭ ‬لي‭ ‬صدمة،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬صياغة‭ ‬رسالتها‭ ‬الأخيرة‭. ‬تلك‭ ‬الصياغة‭ ‬الركيكة‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬تفتت‭ ‬ذهن‭ ‬هذه‭ ‬الكاتبة‭ ‬الناجحة‭ ‬الشهيرة‭. ‬في‭ ‬عام‭ ‬‮٢٠١٦‬م،‭ ‬اختير‭ ‬عمل‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬فرجينيا‭ ‬وولف‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬بينالي‭ ‬النحت‭ ‬الرابع‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬يير‭ ‬قرب‭ ‬باريس،‭ ‬وكانت‭ ‬فرصة‭ ‬رائعة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬العرض‭ ‬يشمل‭ ‬أعمالًا‭ ‬لأجيال‭ ‬عديدة‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬رودان‭ ‬إلى‭ ‬زادكين‭ ‬وجياكوميتي‭ ‬وأسماء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬فنانًا‭ ‬آخر‭ ‬منهم‭ ‬معاصرون‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬السابقة‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬هناك‭ ‬ست‭ ‬عشرة‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬وأيدٍ‭ ‬منحوتة‭ ‬ومغلّفة‭ ‬بقماش‭ ‬أسود‭ ‬شفاف‭ ‬وضعتها‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائي‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ارتباط‭ ‬ثابت،‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬كلمات‭ ‬رسالة‭ ‬فرجينيا‭.‬

‭ ‬هذا‭ ‬الانقضاض‭ ‬والحب‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬تطويع‭ ‬المادة‭ ‬الخام‭ ‬وتحويرها‭ ‬في‭ ‬لمسات‭ ‬ميكروسكوبية‭ (‬مونتاج‭ ‬العيون‭) ‬في‭ ‬منحوتات‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬العين‭ ‬البشرية‭ ‬كفوهة‭ ‬رؤية‭ ‬ورؤيا‭.. ‬كيف‭ ‬وصلتِ‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬التشريح‭ ‬المضني؟

‭ ‬من‭ ‬موقعي‭ ‬كاختصاصية‭ ‬في‭ ‬نظريات‭ ‬الفن‭ ‬المعاصر،‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬جوهر‭ ‬النحت‭ ‬المعاصر‭ ‬هو‭ ‬المادة‭ ‬la matière‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬للمادة‭ ‬الكلمة‭ ‬الأولى‭ ‬والأخيرة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭. ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬العيون‭ ‬مثلًا،‭ ‬قمت‭ ‬مرة‭ ‬بنحتها‭ ‬باستخدام‭ ‬مادة‭ ‬صلصالية‭ ‬ثم‭ ‬سكبت‭ ‬فوقها‭ ‬الريزين‭ ‬الشفاف،‭ ‬وفي‭ ‬تجربة‭ ‬أُخرى‭ ‬قمتُ‭ ‬باستخدام‭ ‬صور‭ ‬مطبوعة‭ ‬مغمورة‭ ‬بالمادة‭ ‬الشفافة‭ ‬ذاتها‭. ‬أخيرًا‭ ‬رحتُ‭ ‬أقوم‭ ‬بخياطات‭ ‬بواسطة‭ ‬الإبرة‭ ‬على‭ ‬صور‭ ‬العيون‭ ‬المطبوعة‭ ‬على‭ ‬ورق‭ ‬الأرزّ‭ ‬الهش‭. ‬واتخاذ‭ ‬هذا‭ ‬العنصر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عشوائيًّا‭. ‬هذا‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬قصص‭ ‬عايشتها‭ ‬في‭ ‬واقعي‭ ‬اليومي،‭ ‬تتعلق‭ ‬بانحسار‭ ‬شديد‭ ‬في‭ ‬البصر‭ ‬عند‭ ‬والدتي‭ ‬واضطرارها‭ ‬لتلقي‭ ‬حقن‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬العين‭. ‬تبع‭ ‬ذلك‭ ‬خضوع‭ ‬ابنتي‭ ‬لجراحة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬العين‭ ‬أمضيتُ‭ ‬عندها‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬الجلد‭ ‬للذات‭ ‬الأمومي‭ ‬الفطري،‭ ‬متألمةً‭ ‬لفكرة‭ ‬تعرضها‭ ‬لغرز‭ ‬في‭ ‬العين‭. ‬حقًّا‭ ‬إنه‭ ‬تشريح‭ ‬مُضنٍ‭. ‬

‭ ‬الوجه‭ ‬لديكِ‭ ‬ليس‭ ‬ظاهرة‭ ‬عابرة،‭ ‬بل‭ ‬تبدو‭ ‬الوجوه‭ ‬التي‭ ‬تنحتينها‭ ‬كلطخات‭ ‬في‭ ‬الضوء‭ ‬والفراغ؟‭ ‬كيف‭ ‬ترين‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه؟‭ ‬وجوماتها‭ ‬الطويلة؟‭ ‬واستدارة‭ ‬نظراتها‭ ‬في‭ ‬فراغ‭ ‬عدمي؟

‭ ‬ليس‭ ‬لدي‭ ‬الكثير‭ ‬لأقوله‭ ‬عن‭ ‬الوجوه‭. ‬يهمّني‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ذات‭ ‬تعبير‭ ‬هامد‭ ‬ومهدّئ‭ ‬ما‭ ‬أمكن‭. ‬فهي‭ ‬تقبع‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تكرار‭ ‬وقوعها‭ ‬أبدا،‭ ‬إنها‭ ‬لحظة‭ ‬الراحة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬الموت‭. ‬

فنون‭ ‬الحضارات‭ ‬السورية‭ ‬القديمة

‭ ‬الأيدي‭ ‬المبتورة‭ ‬كعلامات‭ ‬وكدمات‭ ‬دلالية‭ ‬عن‭ ‬أشخاص‭.. ‬العيون‭ ‬المزججة‭ ‬والمعزولة‭ ‬عن‭ ‬وجوهها‭.. ‬هل‭ ‬تعكس‭ ‬تأثرًا‭ ‬بالفن‭ ‬السوري‭ ‬البدائي‭.. (‬أصنام‭ ‬العيون‭ ‬مثلًا‭ ‬في‭ ‬تل‭ ‬براك‭ ‬بالحسكة‭)‬؟

‭ ‬بالإمكان‭ ‬استدعاء‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الروابط‭ ‬البصرية‭ ‬والفكرية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخصوص‭. ‬لكنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬تأثري‭ ‬بفنون‭ ‬الحضارات‭ ‬السورية‭ ‬القديمة‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬تمسّكي‭ ‬بالتشخيص‭ ‬واستخدام‭ ‬الإنسان‭ ‬أو‭ ‬أعضائه‭ ‬للتعبير‭. ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬حضارات‭ ‬كهذه،‭ ‬فالناحية‭ ‬الفنية‭ ‬فيها‭ ‬متطورة‭ ‬للغاية؛‭ ‬لأنها‭ ‬متحررة‭ ‬من‭ ‬أحكام‭ ‬التنظير‭ ‬الفني‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن،‭ ‬والناحية‭ ‬الروحية‭ ‬مهيبة‭ ‬للغاية‭ ‬تتعلق‭ ‬بأرواح‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬المنحوتات‭ ‬ومن‭ ‬يُمَثَّل‭ ‬في‭ ‬المنحوتات‭ ‬والمعتقدات‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭. ‬

‭ ‬تلك‭ ‬الوعول‭ ‬التي‭ ‬تنفر‭ ‬في‭ ‬رسوماتكِ؛‭ ‬حَدِّثِينا‭ ‬عنها؟‭ ‬أين‭ ‬رأيتِها‭ ‬أول‭ ‬مرة؟‭ ‬وماذا‭ ‬تعني‭ ‬لكِ؟

‭ ‬الوعول‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬مختلط‭ ‬يتعلق‭ ‬بالطبع‭ ‬بالتحنيط،‭ ‬امتزج‭ ‬لاحقًا‭ ‬باطلاعي‭ ‬على‭ ‬الرسوم‭ ‬التشريحية‭ ‬الدقيقة‭ ‬للفنان‭ ‬الألماني‭ ‬آلبرخت‭ ‬دورر‭ ‬في‭ ‬فجر‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬عام‭ ‬‮١٥٠٠‬م‭ ‬أشهرها‭ ‬رأس‭ ‬الوعل‭ ‬المقطوع‭ ‬والمطعون‭ ‬بسهم‭ ‬أعلى‭ ‬عينه،‭ ‬وكذلك‭ ‬رسوم‭ ‬الفنان‭ ‬الألماني‭ ‬أيضًا‭ ‬جوزيف‭ ‬بويز‭ ‬التبسيطية‭ ‬التي‭ ‬تصوّر‭ ‬الوعول،‭ ‬والمرسومة‭ ‬باستخدام‭ ‬أصبغة‭ ‬ممزوجة‭ ‬بدماء‭ ‬أرنب،‭ ‬وهي‭ ‬رسوم‭ ‬منجزة‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬السبعينيات‭. ‬تمثّل‭ ‬رؤوس‭ ‬الوعول‭ ‬التي‭ ‬رسمتُها‭ ‬روح‭ ‬والدي‭ ‬الذي‭ ‬توفي‭ ‬عام‭ ‬‮٢٠١٤‬م‭ ‬بعد‭ ‬عذابات‭ ‬مضنية‭ ‬مع‭ ‬سرطان‭ ‬الرئة‭.‬

‭ ‬يبدو‭ ‬أنكِ‭ ‬تمتلكين‭ ‬عالمًا‭ ‬داخليًّا‭ ‬ثريًّا‭ ‬للغاية،‭ ‬هل‭ ‬تسمحين‭ ‬بالولوج‭ ‬نحوه‭ ‬الآن‭ ‬بين‭ ‬حماة‭ ‬وباريس‭ ‬ودمشق‭… ‬كلية‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬البرامكة‭.. ‬متى‭ ‬وكيف‭ ‬تشكل‭ ‬هذا‭ ‬الثراء‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬العالم‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬البحتري‭ ‬في‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬تعريف‭ ‬الشعر‭.. (‬التفكير‭ ‬بالصور‭)‬؟

‭ ‬ليس‭ ‬لدي‭ ‬تقريبا‭ ‬أيّة‭ ‬ذكريات‭ ‬سعيدة‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬حماة‭ (‬سلميّة‭ ‬حيث‭ ‬ولدت‭ ‬وعشت‭ ‬طفولتي‭) ‬أو‭ ‬دمشق‭. ‬لذا‭ ‬ليس‭ ‬لدي‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬التحدث‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأماكن‭. ‬في‭ ‬باريس‭ ‬تعلمت‭ ‬الكثير،‭ ‬تفتحت‭ ‬رؤيتي‭ ‬على‭ ‬مفاهيم‭ ‬كنت‭ ‬أجهل‭ ‬وجودها‭ ‬تمامًا‭. ‬ليست‭ ‬تلك‭ ‬المتعلقة‭ ‬بنظريات‭ ‬الفن‭ ‬وعلم‭ ‬الجمال‭ ‬فقط،‭ ‬إنما‭ ‬مفاهيم‭ ‬معيشة،‭ ‬كبنية‭ ‬الأكاديمية‭ ‬والإطار‭ ‬الجامعي‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬ومدى‭ ‬أهمية‭ ‬التخصص‭ ‬في‭ ‬سؤال‭ ‬بحثي‭ ‬محدد،‭ ‬ومدى‭ ‬أهمية‭ ‬التواضع‭ ‬وتقبّل‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬التعمق‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الفرادة؛‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬شخص‭ ‬يعيش‭ ‬تجربة‭ ‬مطابقة‭ ‬لآخر‭.‬

‭ ‬كيف‭ ‬تقرأ‭ ‬نور‭ ‬اليوم‭ ‬حركة‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬في‭ ‬بلادها‭ ‬وتطوره‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭ ‬المخضرمين‭ ‬والرواد؟‭ ‬هل‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬المحترف‭ ‬السوري‭ ‬اليوم‭ ‬يحتفظ‭ ‬بشخصية‭ ‬فريدة؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬يبدو‭ ‬ضربًا‭ ‬من‭ ‬الرومانسية؟‭ ‬أين‭ ‬تجدين‭ ‬نفسكِ‭ ‬اليوم‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمحترف‭ ‬السوري‭ ‬المعاصر؟‭ ‬سواء‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬سوريا‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬المنفى؟

‭ ‬سأجاوب‭ ‬على‭ ‬السؤالين‭ ‬معًا‭. ‬لدي‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬أخشى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬محبِطة‭ ‬للكثيرين،‭ ‬لكنها‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬وسأقولها‭ ‬على‭ ‬أيّة‭ ‬حال‭. ‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬هوية‭ ‬للفن‭ ‬السوري‭ ‬المعاصر‭ ‬بالمعنى‭ ‬التصنيفي‭. ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬حكمًا‭ ‬سلبيًّا،‭ ‬إنما‭ ‬أجد‭ ‬هذا‭ ‬التصنيف‭ ‬قاصرًا،‭ ‬كيف‭ ‬نصنّف‭ ‬نتاجًا‭ ‬فنيًّا‭ ‬حسب‭ ‬الانتماء‭ ‬الجغرافي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬الفنانين‭ ‬السوريين‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬السابقة‭ ‬قد‭ ‬تلقوا‭ ‬تدريبهم‭ ‬الفني‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أوربية‭ ‬أو‭ ‬غيرها؟‭ ‬هذا‭ ‬مدخل‭ ‬واسع‭ ‬وأعتقد‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬متسع‭ ‬هنا‭ ‬لتقديم‭ ‬إجابة‭ ‬توضيحية‭. ‬لكن‭ ‬باختصار،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬هموم‭ ‬مشتركة‭ ‬تسم‭ ‬الفن‭ ‬السوري،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تحديد‭ ‬سمات‭ ‬أسلوبية‭ ‬أو‭ ‬تشكيلية‭ ‬أو‭ ‬انتماء‭ ‬لمدارس‭ ‬وحركات،‭ ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬مطلوبًا،‭ ‬فكما‭ ‬نقبل‭ ‬بيكاسو‭ ‬فنانًا‭ ‬عالميًّا‭ ‬استفاد‭ ‬أكبر‭ ‬استفادة‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬الإيبيري،‭ ‬فعلينا‭ ‬ألّا‭ ‬نشعر‭ ‬بشكل‭ ‬سلبي‭ ‬تجاه‭ ‬حقيقة‭ ‬تأثر‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬السوريين‭ ‬بالحركات‭ ‬الفنية‭ ‬الغربية‭. ‬أما‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬الفنية،‭ ‬فمن‭ ‬الضروري‭ ‬التنويه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬المعاصر‭ ‬بمجمله‭ ‬قد‭ ‬ابتعد‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬التصنيفات‭ ‬الشمولية‭ ‬لصالح‭ ‬تكريس‭ ‬الشخصية‭ ‬الفردية‭ ‬للفنان؛‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬الفنان‭ ‬يمثل‭ ‬الانتماء‭ ‬الحقيقي‭ ‬لسمات‭ ‬المعاصرة‭. ‬أما‭ ‬مكاني‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الفني‭ ‬السوري‭ ‬المعاصر‭ (‬ولا‭ ‬أتفق‭ ‬مع‭ ‬كلمة‭ ‬محترف‭) ‬فهذا‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬أحبّ‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬فيه‭ ‬أية‭ ‬كلمة‭.‬

‭ ‬صدمة‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬بالغ‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬المحترف‭ ‬السوري،‭ ‬كيف‭ ‬ترين‭ ‬اليوم‭ ‬مفعولها‭ ‬وأثرها‭ ‬البعيد‭ ‬والقريب‭ ‬في‭ ‬اشتغالكِ‭ ‬وبحثكِ‭ ‬المضني‭ ‬عن‭ ‬بصمة؟

‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬المقصود‭ ‬بصدمة‭ ‬الحداثة‭ ‬وأثرها‭ ‬في‭ ‬المحترف‭ ‬السوري‭. ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المقصود‭ ‬هو‭ ‬النهضة‭ ‬الفنية‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬‮٢٠١١‬م،‭ ‬فهذا‭ ‬أمر‭ ‬متشعب‭ ‬أيضًا،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬السوري‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬أثبت‭ ‬وجوده‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الفنانين‭ ‬الشباب‭ ‬عالميًّا‭ ‬بشكل‭ ‬منافس‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬أدوات‭ ‬التعبير‭ ‬أو‭ ‬الموضوعات‭ ‬أو‭ ‬القوة‭ ‬التعبيرية‭.‬

الهشاشة‭ ‬في‭ ‬النحت

‭ ‬حَدِّثِينا‭ ‬عن‭ ‬رسالتك‭ ‬لنيل‭ ‬الدكتوراه؟‭ ‬فحواها‭ ‬والمصاعب‭ ‬التي‭ ‬تواجهينها‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬العمل‭ ‬عليها؟

‭ ‬أعمل‭ ‬على‭ ‬الهشاشة‭ ‬في‭ ‬النحت‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجربة‭ ‬أعمال‭ ‬النحت‭ ‬الورقية‭ ‬لدى‭ ‬بيكاسو‭ ‬وأعمال‭ ‬الزجاج‭ ‬الـ‭ ‬ready-made‭ ‬خاصّة‭ ‬مارسيل‭ ‬دوشامب‭. ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬الصعوبات‭ ‬أنني‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬هذين‭ ‬الفنانين،‭ ‬وهو‭ ‬البلد‭ ‬الأشد‭ ‬عناية‭ ‬تقريبًا‭ ‬بالناحية‭ ‬الفكرية‭ ‬والأبحاث‭ ‬حول‭ ‬الفن،‭ ‬فكان‭ ‬إيجاد‭ ‬سؤال‭ ‬مميز‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬دراسته‭ ‬ومتعلق‭ ‬بهذين‭ ‬الفنانين‭ ‬يُعَدّ‭ ‬تحدِّيًا؛‭ ‬لأنهما‭ ‬الفنانان‭ ‬الأكثر‭ ‬شهرة‭ ‬واللذان‭ ‬قد‭ ‬خصّص‭ ‬لهما‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭. ‬

‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬أعمالكِ‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬جندر‭ ‬ثالث؟‭ ‬هل‭ ‬ثمة‭ ‬تمايز‭ ‬بين‭ ‬نسوية‭ ‬كلاسيكية‭ ‬وأخرى‭ ‬ترد‭ ‬الضيم‭ ‬والصاع‭ ‬لكل‭ ‬تلك‭ ‬القراءات‭ ‬التي‭ ‬تضع‭ ‬المرأة‭ ‬ككائن‭ ‬تحت‭ ‬إنساني‭ ‬بحجة‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬والدفاع‭ ‬عنها؟‭ ‬كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬قراءة‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬أعمالكِ؟

‭ ‬لست‭ ‬مهتمة‭ ‬أبدًا‭ ‬بسؤال‭ ‬النوع‭ ‬الجنسي‭. ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬إن‭ ‬التحركات‭ ‬النسوية‭ ‬بمنحاها‭ ‬المتطرّف‭ ‬منفّرة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭. ‬خصوصًا‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬بمفارقات‭ ‬مثل‭ ‬التي‭ ‬تطالب‭ ‬باحترام‭ ‬جسد‭ ‬المرأة‭ ‬وعدم‭ ‬تسليعه‭ (‬في‭ ‬الإعلانات‭ ‬مثلًا‭) ‬في‭ ‬حين‭ ‬يُستخدَم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المجموعات‭ ‬ذاتها‭ ‬للفت‭ ‬النظر‭ ‬والإشارة‭ ‬بشكل‭ ‬ساطع‭ ‬إلى‭ ‬قضايا‭ ‬معينة،‭ ‬مثل‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الجسد‭ ‬العاري‭. ‬ليس‭ ‬لهذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬أعمالي‭. ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬التفريق‭ ‬بين‭ ‬الأثر‭ ‬العاطفي‭ ‬أو‭ ‬الفكري‭ ‬لقضية‭ ‬ما‭ ‬عليّ‭ ‬كامرأة‭ ‬فنانة‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬تتركه‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬رجل‭ ‬فنان‭. ‬إنما‭ ‬قد‭ ‬يكمن‭ ‬الفرق‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬أسئلة‭ ‬معينة‭ ‬بشكل‭ ‬تفصيلي‭ ‬وفي‭ ‬مرجعياتها‭ ‬البصرية‭ ‬والمواديّة‭ (‬المتعلقة‭ ‬بحساسيتها‭ ‬للمواد‭ ‬الخام‭) ‬في‭ ‬حين‭ ‬تبدو‭ ‬نظرة‭ ‬الرجل‭ ‬أكثر‭ ‬عمومية‭. ‬ولكنّ‭ ‬بكلّ‭ ‬تأكيد‭ ‬عند‭ ‬التطرق‭ ‬إلى‭ ‬القضايا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بالنساء‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية،‭ ‬سيتوجب‭ ‬النظر‭ ‬بخصوصية‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬المرأة‭ ‬وتمكينها‭ ‬من‭ ‬أخذ‭ ‬حقوقها‭ ‬الكاملة‭ ‬كإنسان‭. ‬

‭ ‬تعكس‭ ‬معارضكِ‭ ‬هروبًا‭ ‬من‭ ‬قفص‭ ‬الأسلوب؟‭ ‬هل‭ ‬تخافين‭ ‬أن‭ ‬يصير‭ ‬لكِ‭ ‬أسلوب؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬يظل‭ ‬برانيًّا‭ ‬وبعيدًا‭ ‬من‭ ‬هواجسكِ‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬العمل؟

‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬وحدة‭ ‬الموضوع‭ ‬وتآلف‭ ‬العناصر‭ ‬التي‭ ‬تثير‭ ‬اهتمام‭ ‬الفنان‭ ‬وحساسيته‭ ‬تجاه‭ ‬مواد‭ ‬معيّنة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬غيرها‭ ‬تخلق‭ ‬ما‭ ‬يوحِّد‭ ‬نتاجه‭ ‬الفني‭. ‬لكن‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هاجسًا‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬العمل‭. ‬صحيح‭ ‬أنني‭ ‬أحاكم‭ ‬عملي‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬نقديّة،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬يكون‭ ‬بعد‭ ‬الإنجاز‭.‬

العصر‭ ‬المتوحش

‭ ‬العزلة‭ ‬والخوف‭ ‬والنأي‭ ‬والحب‭ ‬والرغبة‭ ‬والحنين،‭ ‬كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬قياس‭ ‬ضغط‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬في‭ ‬أشغالكِ‭ ‬العديدة؟‭ ‬هل‭ ‬يستطيع‭ ‬الفن‭ ‬أن‭ ‬يروي‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬العطش‭ ‬للخلق‭ ‬والتعويض‭ ‬عن‭ ‬حنين‭ ‬الكائن‭ ‬إلى‭ ‬نقصانه؟

‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬حاضرة‭ ‬طبعًا،‭ ‬لكنها‭ ‬حاضرة‭ ‬لديّ‭ ‬مثل‭ ‬أي‭ ‬إنسان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬المتوحّش‭. ‬أما‭ ‬الشعور‭ ‬الأقوى‭ ‬حضورًا‭ ‬عندي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬سلطان‭ ‬لديّ‭ ‬عليه‭ ‬فهو‭ ‬الغضب‭. ‬غضب‭ ‬ممسوس‭ ‬بالاحتجاج‭. ‬نعم‭ ‬الغضب‭ ‬هو‭ ‬المحرك‭ ‬الأوّل‭ ‬لعملي‭ ‬الفني‭. ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬واضحة‭ ‬فيَّ‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬الصور‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬أقوم‭ ‬بها‭ ‬بشكل‭ ‬متكرر‭. ‬

‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬النحت‭ ‬أم‭ ‬الرسم؟‭ ‬أيهما‭ ‬هنا‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إغواء‭ ‬نور‭ ‬كي‭ ‬يكون‭ ‬أداتها‭ ‬المثلى‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬لواعج‭ ‬المخيلة‭ ‬وتأملاتها؟

‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬التحديد‭. ‬مؤخرًا‭ ‬مثلًا‭ ‬استخدمت‭ ‬المقصوصات‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬العيون‭ ‬والإبر‭ ‬والخيطان‭. ‬يجب‭ ‬ألّا‭ ‬يرضى‭ ‬الفنان‭ ‬أبدًا‭ ‬عن‭ ‬أدواته‭ ‬ونتاجه،‭ ‬وإلّا‭ ‬فهي‭ ‬نهاية‭ ‬جوهر‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬التحرر‭ ‬والتجديد‭.‬

‭ ‬كيف‭ ‬تصنع‭ ‬باريس‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬مخيلة‭ ‬وعقل‭ ‬نور؟‭ ‬كيف‭ ‬تصنع‭ ‬بجسدها؟‭ ‬هل‭ ‬حررته‭ ‬من‭ ‬سطوة‭ ‬الرأس‭ ‬وحاكميته‭ ‬الأفلاطونية؟‭ ‬

‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬ليس‭ ‬ممكنًا‭ ‬التحرر‭ ‬جسديًّا‭ ‬أو‭ ‬عاطفيًّا‭ ‬أو‭ ‬فكريًّا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سطوة‭ ‬الرأس‭ (‬بمعنى‭ ‬العقل‭). ‬أحبّ‭ ‬أن‭ ‬أحتفظ‭ ‬بالضوابط‭ ‬العقلية‭. ‬ليكن‭ ‬العقل‭ ‬متحرّرًا‭ ‬لكن‭ ‬حاكمًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يطرأ‭ ‬ويصدر‭ ‬عن‭ ‬الجسد‭ ‬والروح‭. ‬ففي‭ ‬حال‭ ‬مغايرة‭ ‬سندخل‭ ‬في‭ ‬عبثية‭ ‬الرغبات‭ ‬والمشاعر،‭ ‬وهي‭ ‬مصدر‭ ‬اللذات‭ ‬لكنها‭ ‬تغدو‭ ‬بسهولة‭ ‬مصدرًا‭ ‬للآلام‭ ‬والضياع‭.‬

‭ ‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬معارضكِ‭ ‬المقبلة‭… ‬الماضية؟‭ ‬هل‭ ‬ثمة‭ ‬تنويه‭ ‬يمكن‭ ‬تسجيله‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬المعرض؟‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬يبقى‭ ‬الحدث‭ ‬الأهم‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الفنان؟‭ ‬هل‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬المحترف‭ ‬أهم‭ ‬منه‭ ‬أم‭ ‬ماذا؟

‭ ‬أعرض‭ ‬حاليًّا‭ ‬عمل‭ ‬‮«‬خياطة‮»‬‭ ‬بأبعاد‭ ‬‮١٥٠‬‭/ ‬‮١٢٠‬‭ ‬سم،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬تسع‭ ‬قطع‭ ‬من‭ ‬العيون‭ ‬المطبوعة‭ ‬على‭ ‬ورق‭ ‬الأرزّ‭ ‬ومخيطة‭ ‬بخياطات‭ ‬متنوعة‭. ‬يحدث‭ ‬هذا‭ ‬العرض‭ ‬الجماعي‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬‮«‬ثورات‭ ‬شخصية‮»‬‭ ‬في‭ ‬جادة‭ ‬السركال‭ ‬في‭ ‬دبي‭ ‬بتنظيم‭ ‬مؤسسة‭ ‬أتاسي‭. ‬العرض‭ ‬هو‭ ‬حدث‭ ‬لاحق‭ ‬بالإنتاج؛‭ ‬لذا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬أهمية‭ ‬من‭ ‬المشغل‭. ‬هو‭ ‬ضروري‭ ‬ليدفع‭ ‬بالفنان‭ ‬إلى‭ ‬التجدّد،‭ ‬ليس‭ ‬عبر‭ ‬الحوار‭ ‬فقط،‭ ‬إنما‭ ‬مجرّد‭ ‬فكرة‭ ‬خروج‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬ملكية‭ ‬الفنان‭ ‬له‭ ‬سيتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬كيان‭ ‬مستقل،‭ ‬هذا‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬الفنان‭ ‬بضرورة‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭. ‬لكن‭ ‬العرض‭ ‬ضروري‭ ‬للانتشار‭ ‬وتوسيع‭ ‬فرص‭ ‬البيع،‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬برأيي‭ ‬عاملًا‭ ‬أساسيًّا‭ ‬للاستمرارية‭.‬