غنام غنام: الفعل المسرحي إعادة تحيين الفكرة، وتحيين الأسئلة، وتحيين الخسارات، لتظل هاجسنا اليومي

غنام غنام: الفعل المسرحي إعادة تحيين الفكرة، وتحيين الأسئلة، وتحيين الخسارات، لتظل هاجسنا اليومي

غنام غنام، الذي يحلم بالعودة إلى حيفا، لن يموت في المنفى؛ لأنه يحمل وطنه إلى بقاع الأرض، ورغم أنه يناضل من أجل تغيير السائد بكل ما أوتي من إبداع، فهو لا يزال يرى بصيص النور من خلف كثبان الإحباط والهزائم، ويقارع عتمة الجهل والتخلف بأضواء المسرح، ويسخر من الواقع المؤلم بكوميدياه السوداء. حصيلة واسعة من الوعي والإشادة به، والإدارة الثقافية الناجحة لمشاريع مسرحية مهمة أسهمت في تغيير خارطة المسرح العربي، وقدمت إنجازًا مسرحيًّا يتجذّر يومًا بعد يوم في كل البلاد العربية. في هذا الحوار مع «الفيصل» يتطرق غنام إلى تجربته المسرحية وإلى قضايا المسرح العربي وإشكالاته. إلى نص الحوار:

‭ ‬بين‭ ‬‮«‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬حيفا‮»‬،‭ ‬و‮«‬سأموت‭ ‬في‭ ‬المنفى‮»‬،‭ ‬طريق‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬النضال‭ ‬المؤمن‭ ‬بالعودة،‭ ‬والنضال‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬لتقديم‭ ‬مرافعات‭ ‬سياسية‭ ‬تنتظر‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬المنافي‭ ‬حتى‭ ‬تحين‭ ‬ساعة‭ ‬العودة‭ ‬غير‭ ‬المعروفة،‭ ‬هل‭ ‬قدم‭ ‬غنام‭ ‬غنام‭ ‬قراءة‭ ‬سياسية‭ ‬لمآلات‭ ‬الكفاح‭ ‬الفلسطيني؟‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬تنبؤات‭ ‬سياسي‭ ‬مبدع؟

‭ ‬في‭ ‬مونودراما‭ ‬‮«‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬حيفا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أخرجها‭ ‬الدكتور‭ ‬يحيى‭ ‬البشتاوي‭ ‬لفرقة‭ ‬طقوس،‭ ‬والتي‭ ‬تشرفت‭ ‬بعمل‭ ‬الإعداد‭ ‬المشترك‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬البشتاوي،‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2009م،‭ ‬طرحت‭ ‬على‭ ‬المخرج‭ ‬وبالطبع‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬الأسئلة‭ ‬التالية‭: ‬لماذا‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬حيفا؟‭ ‬لماذا‭ ‬نختار‭ ‬رواية‭ ‬كتبها‭ ‬الشهيد‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني‭ ‬عام‭ ‬1968م‭ ‬لنقدمها‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2009م‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬41‭ ‬سنة؟‭ ‬لو‭ ‬استمرت‭ ‬الحكاية‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬النقطة‭ ‬الدرامية‭ ‬التي‭ ‬وقفت‭ ‬عندها‭ ‬الرواية،‭ ‬تحققت‭ ‬أمنية‭ ‬‮«‬سعيد‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬يلتحق‭ ‬خالد‭ ‬بالمقاومة،‭ ‬فما‭ ‬المصير‭ ‬الذي‭ ‬ينتظر‭ ‬خالدًا؟

وكان‭ ‬القصد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬هو‭ ‬تحيين‭ ‬الفكرة،‭ ‬تحيين‭ ‬الأسئلة،‭ ‬تحيين‭ ‬الخسارات،‭ ‬فإذا‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬قد‭ ‬خسرنا‭ ‬‮«‬خلدون‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرقد‭ ‬في‭ ‬سريره‭ ‬مطمئنًا‭ ‬وعمره‭ ‬خمسة‭ ‬أشهر،‭ ‬وحال‭ ‬الإنجليز‭ ‬بين‭ ‬أبويه‭ ‬والعودة‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬ليجدا‭ ‬نفسيهما‭ ‬مهجرين،‭ ‬ولتفشل‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬أبيه‭ ‬بالعودة‭ ‬بسبب‭ ‬الاحتلال‭ ‬الصهيوني‭ ‬لحيفا‭ ‬عام‭ ‬1948م،‭ ‬تلك‭ ‬الخسارة‭ ‬التي‭ ‬حولته‭ ‬حين‭ ‬التقياه‭ ‬بعد‭ ‬عشرين‭ ‬عامًا‭ (‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬1967م‭) ‬إلى‭ ‬جندي‭ ‬‮«‬إسرائيلي‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بأبويه‭ ‬الأصليين،‭ ‬تلك‭ ‬الخسارة‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬الأب‭ ‬يتمنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬خالدًا‮»‬‭ ‬ولدهما‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬‮«‬يتفلت‮»‬‭ ‬للالتحاق‭ ‬بالثورة‭ ‬وأبوه‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬تلك‭ ‬الخسارة‭ ‬جعلت‭ ‬الأب‭ ‬يتمنى‭ ‬أن‭ ‬يفعلها‭ ‬الولد‭ ‬مستغلًّا‭ ‬غياب‭ ‬الأب‭ ‬عن‭ ‬البيت‭… ‬وتخيلت‭ ‬أن‭ ‬خالدًا‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬رمزًا‭ ‬جماهيريًّا‭ ‬للمقاومة،‭ ‬وأنه‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬أوسلو‮»‬‭ ‬قد‭ ‬صار‭ ‬مطلوبًا‭ ‬للاحتلال،‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬السلطة‭ ‬الفلسطينية‮»‬‭ ‬وضعته‭ ‬في‭ ‬سجنها‭ ‬لحمايته،‭ ‬لكن‭ ‬الاحتلال‭ ‬اختطفه‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الزنزانة‭ ‬ليضعه‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬إسرائيلي‭ ‬بزنزانة‭ ‬منفردة،‭ ‬وهذه‭ ‬هزيمة،‭ ‬لكن‭ ‬الأكبر‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬في‭ ‬زنزانته‭ ‬كمدًا‭ ‬على‭ ‬نزاع‭ ‬فتح‭ ‬وحماس‭.‬

إذن‭ ‬هي‭ ‬الخسارات‭ ‬التي‭ ‬تستنهض‭ ‬الجمهور‭ ‬الذي‭ ‬يحدد‭ ‬الأب‭ ‬‮«‬سعيد‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬لعبت‭ ‬دوره،‭ ‬وهو‭ ‬طريق‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬غيره‭ ‬للعودة،‭ ‬طريق‭ ‬المقاومة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعرفها‭ ‬خالد‭ ‬جيدًا‭. ‬وهنا‭ ‬تعمدت‭ ‬الدق‭ ‬على‭ ‬جرح‭ ‬الخسارة‭ ‬والهزيمة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاستفزاز‭ ‬الإيجابي‭ ‬لروح‭ ‬رفض‭ ‬الخسارة‭ ‬والهزيمة،‭ ‬وهذه‭ ‬أول‭ ‬دوافع‭ ‬المقاومة‭ ‬وأسسها،‭ ‬ولا‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬النهوض‭ ‬الجماهيري‭ ‬العربي‭ ‬المقاوم‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬الأنظمة‭ ‬كافة‭ ‬عام‭ ‬1967م‭.‬

في‭ ‬‮«‬سأموت‭ ‬في‭ ‬المنفى‮»‬‭ ‬قراءة‭ ‬أخرى‭ ‬للواقع‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬عاشته‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬من‭ ‬بوابة‭ ‬اجتماعية،‭ ‬وبمكاشفة‭ ‬ذاتية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬والعائلية‭ ‬لغنام‭ ‬وصابر‭ ‬غنام‭ ‬والدي،‭ ‬لفهمي‭ ‬غنام‭ ‬أخي‭ ‬ولأمي‭ ‬وأخي‭ ‬الأصغر‭ ‬ناصر،‭ ‬كشهود‭ ‬على‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬المنفى‭ ‬الإجباري،‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬بعد‭ ‬عيش‭ ‬في‭ ‬المنافي‭ ‬بين‭ ‬وجع‭ ‬فقدان‭ ‬الهوية‭ ‬والحرمان‭ ‬منها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تفاصيل‭ ‬صغيرة،‭ ‬لأبطال‭ ‬لا‭ ‬يلتفت‭ ‬إليهم‭ ‬مؤرخو‭ ‬الأحداث،‭ ‬أبطال‭ ‬تراجيديين‭ ‬بامتياز،‭ ‬شهداء‭ ‬لكن‭ ‬ليسوا‭ ‬ضحايا‭ ‬مباشرين‭ ‬للحروب‭ ‬والاحتلال؛‭ ‬الإحصاءات‭ ‬تعدّ‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يقتلوا‭ ‬برصاص‭ ‬الاحتلال‭ ‬ناجين‭.. ‬ناجين‭ ‬من‭ ‬ماذا؟‭ ‬هم‭ ‬ضحايا،‭ ‬تشرد‭ ‬وخوف‭ ‬وجوع‭ ‬وموت‭ ‬في‭ ‬الغربة‭ ‬والمنفى،‭ ‬عذابهم‭ ‬أطول؛‭ ‬لذا‭ ‬أجدهم‭ ‬شهداء‭ ‬بامتياز،‭ ‬وأبطالًا‭ ‬تراجيديين‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬معنى‭.‬

إذن‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬الدق‭ ‬على‭ ‬جرح‭ ‬المنفى‭ ‬والهوية‭ ‬المستلبة‭ ‬من‭ ‬العدو‭ ‬والشقيق‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬ولأسباب‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬استفزاز‭ ‬مشاعر‭ ‬رفض‭ ‬هذا‭ ‬المصير،‭ ‬وتلك‭ ‬أيضًا‭ ‬ومجددًا‭ ‬من‭ ‬أسس‭ ‬استنهاض‭ ‬روح‭ ‬المقاومة‭ ‬وإنعاش‭ ‬حلم‭ ‬العودة‭ ‬والعمل‭ ‬من‭ ‬أجله‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬تجد‭ ‬هذا‭ ‬الخيط‭ ‬الرابط‭ ‬بين‭ ‬العملين،‭ ‬وهما‭ ‬مشتبكان‭ ‬مع‭ ‬تفاصيل‭ ‬النضال‭ ‬والواقع‭ ‬والحلم،‭ ‬وأظن‭ ‬هذا‭ ‬ملخص‭ ‬ما‭ ‬خلصت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬المسيرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ينفصل‭ ‬فيها‭ ‬الفن‭ ‬عن‭ ‬الموقف‭ ‬الوطني‭ ‬لدي،‭ ‬ولا‭ ‬يقع‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬التنبؤات‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬قراءة‭ ‬الواقع‭ ‬ضمن‭ ‬صيرورة‭ ‬النضال‭ ‬والتاريخ‭.‬

اشتراطات‭ ‬خاصة

‭ ‬مونودراما‭ ‬‮«‬سأموت‭ ‬في‭ ‬المنفى‮»‬،‭ ‬أنت‭ ‬وحدك‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح‭ ‬أو‭ ‬خشبة‭ ‬الحياة،‭ ‬كاتبًا‭ ‬ومخرجًا‭ ‬ومؤلفًا؛‭ ‬ماذا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬اشتراطات‭ ‬الفعل‭ ‬الفني‭ ‬التي‭ ‬اقتضت‭ ‬هذه‭ ‬الضرورة؟‭ ‬

‭ ‬عرض‭ ‬الممثل‭ ‬الواحد،‭ ‬‮«‬سأموت‭ ‬في‭ ‬المنفى‮»‬،‭ ‬عرض‭ ‬له‭ ‬اشتراطات‭ ‬خاصة،‭ ‬فهو‭ ‬بوح‭ ‬ذاتي،‭ ‬تطهري؛‭ ‬لذا‭ ‬كنت‭ ‬فيه‭ ‬ممثلًا‭ ‬ومخرجًا‭ ‬وكاتبًا،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬أنه‭ ‬بالإمكان‭ ‬أن‭ ‬يقدمه‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يخرجه‭ ‬شخص‭ ‬آخر،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬أخرى‭ ‬مختلفة،‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬تفضيل‭ ‬هذا‭ ‬عن‭ ‬ذاك،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬اختياري‭ ‬الفني‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تفرضه‭ ‬علي‭ ‬الحالة‭ ‬الدرامية‭ ‬والأسلوبية‭ ‬في‭ ‬إخراج‭ ‬العمل‭ ‬التي‭ ‬أردتها‭ ‬منطقة‭ ‬ثالثة‭ ‬تزاوج‭ ‬بين‭ ‬تقنيات‭ ‬المؤدي‭ ‬المشخص‭ ‬والحكواتي،‭ ‬في‭ ‬خروج‭ ‬ودخول‭ ‬على‭ ‬السرد‭ ‬بصيغ‭ ‬لغوية‭ (‬ضمير‭ ‬متكلم،‭ ‬ضمير‭ ‬مخاطب،‭ ‬ضمير‭ ‬مجهول،‭ ‬فاعل،‭ ‬نائب‭ ‬فاعل،‭ ‬مفعول‭ ‬به‭) ‬وهكذا‭ ‬مدعمًا‭ ‬بتعدد‭ ‬الشخصيات‭ ‬وتمازجها،‭ ‬وهو‭ ‬بناء‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬الشخصية‭ ‬الدرامية‭ ‬الأساس‭ ‬‮«‬غنام‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬المؤلف‭ ‬واللاعب‭ ‬والمخرج‭… ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬الأمر‭ ‬مربكًا‭ ‬نظريًّا،‭ ‬لكنه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إتقان‭ ‬اللعبة‭ ‬كان‭ ‬سلسًا‭ ‬سهل‭ ‬التلقي،‭ ‬لدرجة‭ ‬قد‭ ‬يعتقد‭ ‬بعضٌ‭ ‬أنها‭ ‬معالجة‭ ‬بسيطة‭. ‬هكذا‭ ‬إذن‭ ‬ولتحقيق‭ ‬السلاسة‭ ‬والبساطة‭ ‬والسهولة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬التركيب،‭ ‬كانت‭ ‬القوة‭ ‬الطاردة‭ ‬المركزية‭ ‬التي‭ ‬خلصتني‭ ‬مما‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬صممته‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬التمارين‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬ديكور‭ ‬بسيطة،‭ ‬وشاشة‭ ‬عرض‭ ‬فيديو،‭ ‬وبعض‭ ‬الموسيقا‭ ‬والإضاءة‭ ‬المسرحية؛‭ ‬لأتجرد‭ ‬مثل‭ ‬أي‭ ‬صوفي‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬حتى‭ ‬ذاتي،‭ ‬أَتوحَّدُ‭ ‬بالمكان‭ ‬الذي‭ ‬سيقدم‭ ‬فيه‭ ‬العرض،‭ ‬أتوحد‭ ‬بناسه،‭ ‬ولا‭ ‬أستخدم‭ ‬ضوءًا‭ ‬سوى‭ ‬ضياء‭ ‬الروح،‭ ‬ولا‭ ‬مكياجًا‭ ‬سوى‭ ‬التعابير‭ ‬الصادقة،‭ ‬ولا‭ ‬موسيقا‭ ‬سوى‭ ‬دقات‭ ‬القلب‭ ‬والأنفاس،‭ ‬ولا‭ ‬ديكورًا‭ ‬سوى‭ ‬المكان‭ ‬الحاضر،‭ ‬ولا‭ ‬إكسسوارًا‭ ‬سوى‭ ‬كرسي‭ ‬مما‭ ‬يجلس‭ ‬عليه‭ ‬الحضور‭ ‬وكوفية‭ ‬معتادة‭ ‬لتصبح‭ ‬غير‭ ‬معتادة‭ ‬حين‭ ‬تتحول‭ ‬لخارطة‭ ‬الوطن،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬تتحول‭ ‬صرخة‭ ‬درويش‭: ‬آه‭ ‬يا‭ ‬وحدي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬وَحْدة‭ ‬مع‭ ‬الجموع‭ ‬التي‭ ‬تشاهد‭ ‬العمل،‭ ‬ليعود‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬وقد‭ ‬حمل‭ ‬فلسطين‭ ‬وحكاية‭ ‬أبي‭ ‬وأخي‭ ‬معه‭.‬

أعتز‭ ‬بأن‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬سأموت‭ ‬في‭ ‬المنفى‮»‬‭ ‬قد‭ ‬وجدت‭ ‬صداها‭ ‬في‭ ‬تعبيرات‭ ‬الآخرين‭ ‬منذ‭ ‬انطلاق‭ ‬العمل؛‭ ‬لذا‭ ‬أحاول‭ ‬قدر‭ ‬استطاعتي‭ ‬ألَّا‭ ‬يكون‭ ‬العمل‭ ‬استعادة‭ ‬ذكريات‭ ‬أو‭ ‬قراءة‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬قادم،‭ ‬بل‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬موجات‭ ‬الوعي‭ ‬التي‭ ‬يبثها‭ ‬العمل‭ ‬ببساطة‭ ‬ويتلقاها‭ ‬المتلقي‭ ‬بحب‭.‬

‭ ‬في‭ ‬تاريخك‭ ‬الإبداعي‭ ‬المسرحي‭ ‬تنزع‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬عن‭ ‬السائد،‭ ‬العلبة‭ ‬الإيطالية‭ ‬مثالًا،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬نضال‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬السائد‭ ‬إبداعيًّا؟‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬التجريب‭ ‬الذي‭ ‬يتجرأ‭ ‬عليه‭ ‬الجميع؟‭ ‬

‭ ‬أنا‭ ‬ابن‭ ‬البيئة‭ ‬الشعبية‭ ‬بحارة‭ ‬البيادر‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬أريحا،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬البيئة‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬جرش،‭ ‬أنا‭ ‬ابن‭ ‬ساحات‭ ‬المخيمات‭ ‬الكشفية‭ ‬ومخيمات‭ ‬اللاجئين،‭ ‬أنا‭ ‬المحظوظ‭ ‬بأن‭ ‬ذاكرتي‭ ‬خزنت‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬أمينة‭ ‬وحسن‭ ‬وأبو‭ ‬زكر‭ ‬وأبو‭ ‬زكية‮»‬‭ ‬رباعي‭ ‬المشخصاتية،‭ ‬الفنانين‭ ‬الشعبيين‭ ‬في‭ ‬أريحا‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يقدمون‭ ‬بفطرتهم‭ ‬فنون‭ ‬موسيقا‭ ‬ورقص‭ ‬وغناء‭ ‬وتهريج‭ ‬ولعب‭ ‬فائقة‭ ‬الجمال،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لهم‭ ‬أية‭ ‬علاقة‭ ‬بالعلوم‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬نتحدث‭ ‬دومًا‭ ‬متكئين‭ ‬عليها،‭ ‬وننسب‭ ‬أعمالنا‭ ‬لمدارسها‭.‬

أيديولوجيًّا‭ ‬أنا‭ ‬استئناف‭ ‬على‭ ‬السائد،‭ ‬وهكذا‭ ‬كنت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الاستئناف‭ ‬في‭ ‬أعمالي‭ ‬ممثلًا‭ ‬أو‭ ‬كاتبًا‭ ‬أو‭ ‬مخرجًا،‭ ‬منذ‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬فرقة‭ ‬جرش‭ ‬المسرحية‭ ‬للهواة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أسستها‭ ‬برفقة‭ ‬زملاء‭ ‬لي‭ ‬نهاية‭ ‬السبعينيات،‭ ‬حتى‭ ‬عبوري‭ ‬مطلع‭ ‬الثمانينيات‭ ‬إلى‭ ‬الاحتراف‭ ‬المسرحي‭ ‬مع‭ ‬المؤسس‭ ‬هاني‭ ‬صنوبر،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬جعلني‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬1985م‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬فرقة‭ ‬موال‭ ‬مع‭ ‬جبريل‭ ‬الشيخ‭ ‬في‭ ‬رابطة‭ ‬الكتاب‭ ‬الأردنيين،‭ ‬وضمت‭ ‬في‭ ‬عضويتها‭ ‬آنذاك،‭ ‬الموسيقيّ‭ ‬نصري‭ ‬خالد‭ ‬والممثلين‭ ‬صلاح‭ ‬الحوراني‭ ‬وموسى‭ ‬عزت‭ ‬وحنان‭ ‬عساف‭ ‬وآخرين،‭ ‬ومثَّل‭ ‬معنا‭ ‬فيها‭ ‬الفنان‭ ‬محمود‭ ‬مساعد‭ ‬آخر‭ ‬أعماله‭ ‬المسرحية،‭ ‬وغنَّت‭ ‬معنا‭ ‬فيها‭ ‬أمل‭ ‬السيد‭.. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬المغايرة‭ ‬وقول‭ ‬الموال‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬رأسي،‭ ‬حيث‭ ‬قدمت‭ ‬أول‭ ‬نصوصي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الاحتراف،‭ ‬ومثَّلت‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الأول،‭ ‬وحقق‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬أخرجه‭ ‬جبريل‭ ‬الشيخ‭ ‬‮«‬اللهم‭ ‬اجعله‭ ‬خيرًا‮»‬‭ ‬ما‭ ‬أردنا‭ ‬حينها،‭ ‬وكنت‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬المغايرة‭ ‬في‭ ‬المضمون‭.‬

وكانت‭ ‬الحال‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬أُوقِفَ‭ ‬عن‭ ‬العرض‭ ‬‮«‬مريم‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬لكم‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1987م،‭ ‬ولكن‭ ‬عام‭ ‬1990م‭ ‬حمل‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬حين‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬شعار‭ ‬ناظم‭ ‬لعملنا‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬مسرح‭ ‬لكل‭ ‬الناس‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬قدمنا‭ ‬‮«‬الجاروشة‮»‬‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬زيناتي‭ ‬قدسية‭ ‬لفرقتنا‭ ‬الجديدة‭ ‬مختبر‭ ‬موال‭ ‬المسرحي،‭ ‬وقد‭ ‬أخرجت‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬الفنان‭ ‬ناصر‭ ‬عمر،‭ ‬لكن‭ ‬تقييمي‭ ‬الشخصي‭ ‬للتجربة‭ ‬رغم‭ ‬نجاحها‭ ‬الكبير‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تحقق‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬مسرح‭ ‬لكل‭ ‬الناس‮»‬،‭ ‬فدخلت‭ ‬مغامرة‭ ‬خاصة‭ ‬بمسرحية‭ ‬‮«‬من‭ ‬هناك؟‮»‬‭ ‬للأميركي‭ ‬الأرمني‭ ‬وليم‭ ‬سارويان،‭ ‬وفيها‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الحلقة‮»‬‭ ‬لتكون‭ ‬شكل‭ ‬العرض،‭ ‬وأعترف‭ ‬بأن‭ ‬الفرجة‭ ‬الشعبية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هي‭ ‬ملهمي‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬بل‭ ‬الهندسة،‭ ‬حيث‭ ‬إنني‭ ‬درست‭ ‬هندسة‭ ‬مساحة‭ ‬الأراضي،‭ ‬فأردت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الدائرة‭ ‬هي‭ ‬شكل‭ ‬العرض،‭ ‬وهذا‭ ‬فرض‭ ‬عليَّ‭ ‬الخروج‭ ‬عن‭ ‬العلبة‭ ‬الإيطالية،‭ ‬والاقتراب‭ ‬من‭ ‬الحلقة‭ ‬كشكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الاحتفال‭ ‬الشعبي،‭ ‬وذهبت‭ ‬بذلك‭ ‬العمل‭ ‬عام‭ ‬1992م‭ ‬إلى‭ ‬مهرجان‭ ‬القاهرة‭ ‬التجريبي‭ ‬وعرضته‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬زكي‭ ‬طليمات‭ (‬حلقة‭) ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الشكل‭ ‬ولاقى‭ ‬ترحابًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬المهرجان‭ ‬أعدت‭ ‬اكتشاف‭ ‬المخزون‭ ‬الكبير‭ ‬للمشخصاتية‭ ‬الذين‭ ‬شاهدتهم‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬أمينة‭ ‬وحسن‭ ‬وأبو‭ ‬زكر‭ ‬وأبو‭ ‬زكية‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬أعادهم‭ ‬للحياة‭ ‬في‭ ‬رأسي‭ ‬عرض‭ ‬ألماني‭ ‬‮«‬لماذا‭ ‬السماء‭ ‬عالية‭ ‬هكذا؟‭!‬‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬وجدت‭ ‬الممثل‭ ‬الألماني‭ ‬يلعب‭ ‬المسرح‭ ‬بطريقة‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬أمينة‮»‬‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الألماني‭ ‬يلعب‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬برتولد‭ ‬بريخت،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬أمينة‭ ‬يلعب‭ ‬بالفطرة‭ ‬وتقنيات‭ ‬التشخيص‭ ‬الشعبي‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬مدارس‭ ‬مسرحية‭ ‬ولا‭ ‬غيره؛‭ ‬وأعتبر‭ ‬هذه‭ ‬نقطة‭ ‬التنوير‭ ‬والتحول‭ ‬في‭ ‬مساري‭ ‬المسرحي؛‭ ‬إذ‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬ذاكرتي‭ ‬واستخرجت‭ ‬ملفات‭ ‬للمشخصاتية‭ ‬الأربعة،‭ ‬بدأت‭ ‬أعيد‭ ‬قراءتها‭ ‬وبدأت‭ ‬رحلة‭ ‬تمثيلها‭ ‬وإعادة‭ ‬إنتاجها،‭ ‬فإذا‭ ‬بي‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬منهج‭ ‬‮«‬الفرجة‭ ‬المسرحية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬قدمني‭ ‬للمسرح‭ ‬العربي‭ ‬بخصوصية‭ ‬تجربتي‭ ‬تلك،‭ ‬حيث‭ ‬قدمت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬بهذا‭ ‬المنهج،‭ ‬وصدرت‭ ‬بيان‭ ‬الفرجة‭ ‬بموازاة‭ ‬ثاني‭ ‬مسرحية‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المنهجية؛‭ ‬لذا‭ ‬جاء‭ ‬التمرد‭ ‬على‭ ‬الخشبة‭ ‬والعلبة‭ ‬الإيطالية‭ ‬مترافقًا‭ ‬مع‭ ‬البحث‭ ‬والتفتيش‭ ‬والاكتشاف‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أقدمه‭ ‬كشكل‭ ‬مسرحي‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬ثقافتنا،‭ ‬متقاطع‭ ‬مع‭ ‬ثقافات‭ ‬شعوب‭ ‬كثيرة‭ ‬أخرى؛‭ ‬وقد‭ ‬عزز‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬تبنيه‭ ‬من‭ ‬دراسات‭ ‬وآراء‭ ‬لمؤرخين‭ ‬وأنثروبولوجيين‭ ‬من‭ ‬لعبنا‭ ‬كأمة‭ ‬وحضارة‭ ‬في‭ ‬ميلاد‭ ‬مفاهيم‭ ‬الدراما‭ ‬الأولى،‭ ‬وبالتالي‭ ‬حملنا‭ ‬لكل‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬وزراعته‭ ‬في‭ ‬أثينا‭ ‬وأثيكا،‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬الفينيقيون‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الإغريق،‭ ‬ثم‭ ‬حملهم‭ ‬لما‭ ‬تطور‭ ‬من‭ ‬أثينا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المفاهيم‭ ‬لتصبح‭ ‬مسرحًا‭ ‬إلى‭ ‬روما‭ ‬التي‭ ‬حكمها‭ ‬الفينيقيون‭.. ‬فصرت‭ ‬أرى‭ ‬كل‭ ‬المدرجات‭ ‬التي‭ ‬نسميها‭ ‬رومانية‭ ‬في‭ ‬روما‭ ‬وأم‭ ‬قيس‭ ‬وجرش‭ ‬والإسكندرية‭ ‬وقرطاج‭ ‬وغيرها‭.. ‬فضاءات‭ ‬مسرحية‭ ‬ابتدعها‭ ‬أجدادي؛‭ ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬لديّ‭ ‬تردد‭ ‬في‭ ‬أهمية‭ ‬الفضاءات‭ ‬المفتوحة‭ ‬والحلقة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬العلبة‭ ‬المسرحية،‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬أعاني‭ ‬عقدةَ‭ ‬تفوق‭ ‬الآخر‭ ‬أو‭ ‬تخلف‭ ‬تجربتنا‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬صار‭ ‬اختيارات‭ ‬تجاربية،‭ ‬يعنى‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬تجربة‭ ‬مسرحية‭ ‬فضاءها،‭ ‬وصار‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تفضلت‭ ‬به،‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬فكري،‭ ‬وتحدي‭ ‬السائد‭ ‬والتجريب‭ ‬على‭ ‬تجربتي‭.. ‬كلها‭ ‬تجتمع‭ ‬في‭ ‬الشكل‭ ‬والمبنى‭ ‬ومحمولات‭ ‬العرض،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬تستعرض‭ ‬تلك‭ ‬المسرحيات‭ ‬التي‭ ‬أنجزتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬‮«‬عنتر‭ ‬زمانه‭ ‬النمر،‭ ‬الزير‭ ‬سالم،‭ ‬التي‭ ‬أخرجها‭ ‬محمد‭ ‬الضمور،‭ ‬كأنك‭ ‬يا‭ ‬بوزيد،‭ ‬عبدالله‭ ‬البري،‭ ‬معروف‭ ‬الإسكافي،‭ ‬تجليات‭ ‬ضياء‭ ‬الروح،‭ ‬آخر‭ ‬منامات‭ ‬الوهراني،‭ ‬غزالة‭ ‬المزيون،‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬حيفا‭ ‬التي‭ ‬أخرجها‭ ‬يحيى‭ ‬البشتاوي‭ ‬وأخيرًا‭ ‬ساموت‭ ‬في‭ ‬المنفى‮»‬‭.‬

المسرح‭ ‬فن‭ ‬طرح‭ ‬السؤال

‭ ‬‮«‬ليلك‭ ‬ضحى،‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬داعش‮»‬‭ ‬يفوز‭ ‬بجائزة‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬الأردن،‭ ‬وتفوز‭ ‬أنت‭ ‬بجائزة‭ ‬الفنان‭ ‬العربي‭ ‬المتميز‭ ‬عن‭ ‬عرض‭ ‬‮«‬ليلك‭ ‬ضحى‮»‬‭ ‬مؤلفًا‭ ‬ومخرجًا،‭ ‬ثم‭ ‬يختار‭ ‬في‭ ‬اليابان‭ ‬ليُترجَم‭ ‬ويعاد‭ ‬إنتاجه‭ ‬مسرحيًّا،‭ ‬ماذا‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬التخبّط‭ ‬في‭ ‬الانحيازات‭ ‬والاصطفافات‭ ‬دون‭ ‬وعي؟‭ ‬ولمن‭ ‬انحاز‭ ‬غنام‭ ‬ليحوز‭ ‬نصه‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام؟

‭ ‬بوضوح‭ ‬يبدأ‭ ‬العمل‭ ‬المسرحي‭ ‬لدي‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬ذاتي‭ ‬أطرحه‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬وعلى‭ ‬الظرف‭ ‬الموضوعي‭ ‬الذي‭ ‬أعيشه،‭ ‬وأطرح‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬أسئلة‭ ‬أخرى،‭ ‬وهكذا‭ ‬فالمسرح‭ ‬فن‭ ‬طرح‭ ‬السؤال،‭ ‬وأنا‭ ‬أطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬تلو‭ ‬الأسئلة‭. ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الظلامية‭ ‬التي‭ ‬شكلها‭ ‬المد‭ ‬الإسلاموي‭ ‬على‭ ‬أوطاننا‭ ‬وهو‭ ‬الخطر‭ ‬الذي‭ ‬نحذر‭ ‬منه‭ ‬منذ‭ ‬عشرات‭ ‬السنين،‭ ‬لكن‭ ‬معظمنا‭ ‬لم‭ ‬يشعر‭ ‬بخطره‭ ‬الداهم‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬صار‭ ‬قائمًا‭ ‬بين‭ ‬ظهرانينا‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬دولة‭ ‬إسلامية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والشام،‭ ‬وباتت‭ ‬كابوسًا‭ ‬يهدد‭ ‬بسحبنا‭ ‬إلى‭ ‬عصور‭ ‬جاهلية‭ ‬بالفعل؛‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬أواجه‭ ‬به‭ ‬نفسي‭: ‬أنت‭ ‬كغنام‭ ‬غنام،‭ ‬الذي‭ ‬اختطَّ‭ ‬لنفسه‭ ‬نهجَ‭ ‬حياة‭ ‬وفكر‭ ‬وموقف؛‭ ‬ماذا‭ ‬ستقول‭ ‬في‭ ‬هذا؟‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬كلمتي،‭ ‬وقد‭ ‬قلتُها‭ ‬حين‭ ‬صدمت‭ ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭ ‬بجرائم‭ ‬الدواعش،‭ ‬وصدمت‭ ‬أكثر‭ ‬بأن‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬البسيطة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬تؤهلها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الظلم‭ ‬وغياب‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والعيش‭ ‬الكريم،‭ ‬تؤهلها‭ ‬للتحول‭ ‬إلى‭ ‬دواعش‭ ‬بكل‭ ‬بساطة،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬الصدمات‭ ‬الكبرى‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬جريمة‭ ‬حرق‭ ‬الطيار‭ ‬الأردني‭ ‬معاذ‭ ‬الكساسبة‭ ‬وفيديوهات‭ ‬تقطيع‭ ‬الرؤوس،‭ ‬كان‭ ‬الفيديو‭ ‬الذي‭ ‬يحطم‭ ‬فيه‭ ‬سلفيون‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬حادثة‭ ‬انتحار‭ ‬زوجين‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬داعش‭ ‬بيتهما‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تتحول‭ ‬المرأة‭ ‬إلى‭ ‬سبية‭ ‬ويقتل‭ ‬زوجها،‭ ‬فبدأتُ‭ ‬بكتابة‭ ‬هذا‭ ‬النص،‭ ‬لأجعل‭ ‬المواجهة‭ ‬بين‭ (‬معلم‭ ‬ومعلمة‭ ‬يدرسان‭ ‬التربية‭ ‬الفنية‭ ‬–‭ ‬مسرح‭ ‬وموسيقا‭- ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬القرى‭ ‬النائية‭) ‬وبين‭ ‬الفكر‭ ‬الديني‭ ‬المتطرف‭ ‬وغير‭ ‬المتطرف،‭ ‬ففي‭ ‬المدى‭ ‬البعيد‭ ‬كله‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬متطرف‭. ‬مواجهة‭ ‬بين‭ ‬الموسيقا‭ ‬والمسرح‭ ‬والقتل،‭ ‬مواجهة‭ ‬بين‭ ‬التسامح‭ ‬والكراهية،‭ ‬بين‭ ‬الحب‭ ‬والحقد،‭ ‬بين‭ ‬الشمعة‭ ‬والظلام،‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬يتأثر‭ ‬بغسان‭ ‬كنفاني‭ ‬والماغوط‭ ‬وجبران‭ ‬وفيروز،‭ ‬وبين‭ ‬من‭ ‬يكون‭ ‬أبو‭ ‬البراء‭ ‬وأبو‭ ‬الشقاء‭ ‬هم‭ ‬مفكروه‭.‬

النص‭ ‬الذي‭ ‬كتبته‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬عام،‭ ‬أنهيته‭ ‬قبل‭ ‬انتهاء‭ ‬مهلة‭ ‬التقديم‭ ‬لجائزة‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬المسرحي‭ ‬التي‭ ‬تنظمها‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬الأردن‭ ‬بأيام‭ ‬قليلة‭ ‬فأرسلت‭ ‬النص‭ ‬لياتيني‭ ‬الفوز‭ ‬فوزين،‭ ‬الأول‭ ‬فوز‭ ‬بياني‭ ‬الفني‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الإرهاب،‭ ‬وفوزي‭ ‬مناصفة‭ ‬مع‭ ‬معلمي‭ ‬وصديقي‭ ‬وزميلي‭ ‬ورفيق‭ ‬رحلتي‭ ‬جبريل‭ ‬الشيخ،‭ ‬ولأن‭ ‬العالم‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة،‭ ‬فقد‭ ‬اهتم‭ ‬مكتب‭ ‬اليابان‭/ ‬الهيئة‭ ‬الدولية‭ ‬للمسرح،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتواصل‭ ‬معي‭ ‬ضمن‭ ‬تواصله‭ ‬مع‭ ‬كُتّاب‭ ‬ومسرحيي‭ ‬مناطق‭ ‬الصراع،‭ ‬اهتمَّ‭ ‬بالفوز‭ ‬وطلبوا‭ ‬النص‭ ‬وبعد‭ ‬مدة‭ ‬أخبروني‭ ‬أنهم‭ ‬مهتمون‭ ‬بترجمته‭ ‬وتقديم‭ ‬قراءات‭ ‬مسرحية‭ ‬له‭ ‬باليابانية‭ ‬وأنهم‭ ‬مهتمون‭ ‬باستضافتي‭ ‬لتقديم‭ ‬ندوتين‭ ‬كبيرتين‭ ‬واحدة‭ ‬عن‭ ‬النص‭ ‬والثانية‭ ‬عن‭ ‬المسرح‭ ‬العربي،‭ ‬وفعلًا‭ ‬تم‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2017م،‭ ‬وبالمناسبة‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬فقط‭ ‬وصلني‭ ‬تسجيل‭ ‬كامل‭ ‬للقراءة‭ ‬المسرحية‭ ‬باليابانية،‭ ‬وكان‭ ‬شعورًا‭ ‬مدهشًا‭ ‬أن‭ ‬تسمع‭ ‬جملتك‭ ‬بلغة‭ ‬أخرى‭ ‬وبذات‭ ‬الانفعال،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬تسمعهم‭ ‬يغنون‭ ‬‮«‬نسم‭ ‬علينا‭ ‬الهوى‮»‬‭ ‬باللغة‭ ‬اليابانية‭ ‬بمرافقة‭ ‬العود‭ (‬عازف‭ ‬ياباني‭) ‬ويوظفون‭ ‬الأداء‭ ‬كما‭ ‬أردتُه‭ ‬في‭ ‬النص‭… ‬وقد‭ ‬أبلغوني‭ ‬أنهم‭ ‬ينوون‭ ‬إنتاجها‭ ‬كعمل‭ ‬كامل،‭ ‬والمراسلات‭ ‬مستمرة‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬قدمت‭ ‬النص‭ ‬كمخرج‭ ‬لصالح‭ ‬فرقة‭ ‬المسرح‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬الشارقة،‭ ‬ودخلنا‭ ‬المنافسة‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الشارقة‭ ‬المسرحية،‭ ‬وكان‭ ‬العمل‭ ‬فارقًا،‭ ‬وحقق‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الزملاء‭ ‬جوائز‭ ‬وتنويهات،‭ ‬ونلت‭ ‬جائزة‭ ‬الفنان‭ ‬العربي‭ ‬المتميز‭ ‬عنه‭. ‬إنه‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وهذه‭ ‬القيم‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يلقى‭ ‬الاهتمام‭.‬

‭ ‬‮«‬يا‭ ‬مسافر‭ ‬وحدك‮»‬،‭ ‬الكوميديا‭ ‬السوداء‭ ‬والرؤية‭ ‬الجارحة‭ ‬لواقع‭ ‬المثقف‭ ‬والفنان‭ ‬الأردني،‭ ‬وواقع‭ ‬الحركة‭ ‬الثقافية‭ ‬والفنية‭ ‬ككل؛‭ ‬كيف‭ ‬ترى‭ ‬الواقع‭ ‬الثقافي‭ ‬والفني‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬التراجع‭ ‬أمام‭ ‬سطوة‭ ‬الصورة‭ ‬والإعلام‭ ‬المزيف؟‭ ‬هل‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬هنالك‭ ‬دور‭ ‬للمثقف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يلعبه؟‭ ‬

‭ ‬أشكرك‭ ‬لتذكرك‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬صرختنا‭ ‬ضد‭ ‬الواقع‭ ‬الرديء‭ ‬ثقافيًّا‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬وكان‭ ‬النص‭ ‬مسلحًا‭ ‬بكتابات‭ ‬لثلاثة‭ ‬كتاب‭ ‬أردنيين‭ ‬هم‭: ‬فخري‭ ‬قعوار،‭ ‬وهاشم‭ ‬غرايبة‭ ‬وموسى‭ ‬حوامدة،‭ ‬وقد‭ ‬كتبت‭ ‬قصصهم‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬25‭ ‬سنة،‭ ‬وأنا‭ ‬قدمت‭ ‬العمل‭ ‬لأصرخ‭ ‬في‭ ‬وجه‭ (‬تحويلنا‭ ‬إلى‭ ‬كومبارسات‭) ‬متزودًا‭ ‬بصرخاتهم‭ ‬واحتجاجاتهم،‭ ‬فكان‭ ‬العمل‭ ‬صادمًا‭ ‬حتى‭ ‬للمثقفين‭ ‬الذين‭ ‬يتحملون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬المسؤولية‭ ‬في‭ ‬حدوث‭ ‬ذلك،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يعجب‭ ‬زميلًا‭ ‬اعتقدَ‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬موجه‭ ‬له‭ ‬شخصيًّا،‭ ‬وقدَّم‭ ‬شكوى‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬لدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬رسمية‭ ‬ونقابية،‭ ‬لقد‭ ‬حمل‭ ‬العمل‭ ‬شحنة‭ ‬شجن‭ ‬أيضًا‭ ‬عن‭ ‬حنين‭ ‬المثقف‭ ‬الذي‭ ‬دفعته‭ ‬الظروف‭ ‬للهجرة؛‭ ‬كي‭ ‬يعود‭ ‬بعد‭ ‬عشرين‭ ‬عامًا‭ ‬ليجد‭ ‬شابًّا‭ ‬فنانًا‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬محطة‭ ‬السفر‭ ‬ناويًا‭ ‬الهجرة‭ ‬هو‭ ‬أيضًا،‭ ‬صورة‭ ‬جارحة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬العوامل‭ ‬الطاردة‭ ‬للمبدع‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬قائمة،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬الحنين‭ ‬فقط‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يرجع‭ ‬من‭ ‬تغرب،‭ ‬فيقول‭ ‬مجيبًا‭ ‬سؤال‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬يستعد‭ ‬للهجرة‭: ‬‮«‬حنيت؟؟‭!!‬‮»‬‭:‬

الثاني‭: ‬حنيت،‭ ‬لزقاق‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬طريق‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬عرفته،‭ ‬وما‭ ‬أحببت‭ ‬طريقًا‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭.‬

لصحبة‭ ‬تضحك‭ ‬رغم‭ ‬التعب‭. ‬لأدراج‭ ‬جعلت‭ ‬لهاثنا‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬أصواتنا‭.‬

‭…)‬الثاني‭ ‬يشير‭ ‬للأول‭ ‬بعدم‭ ‬السفر،‭ ‬الأول‭ ‬مُصِرّ‭(‬

‭ ‬الثاني‭: ‬مُصِرّ؟‭! ‬اذهب،‭ ‬رُح،‭ ‬الله‭ ‬يسهل‭ ‬عليك‭.‬

لكن‭ ‬أمانة‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬الحلال،‭ ‬إذا‭ ‬عدت،‭ ‬مر‭ ‬بي،‭ ‬ستجدني‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬أسامة‭ ‬المشيني،‭ ‬هناك‭ ‬أتمرن،‭ ‬ادخلْ،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬وجدتَ‭ ‬الباب‭ ‬الحديد‭ ‬مغلقًا،‭ ‬ادفعْه‭ ‬سيفتح،‭ ‬ستستقبلك‭ ‬فيه‭ ‬أرواح‭ ‬حسين‭ ‬أبو‭ ‬حمد‭ ‬ومحمود‭ ‬أبو‭ ‬غريب‭ ‬وهاني‭ ‬صنوبر‭ ‬ورشيدة‭ ‬الدجاني‭ ‬ووليد‭ ‬بركات‭ ‬وأبو‭ ‬سرور‭ ‬وأسامة‭ ‬وغيرهم‭ ‬وغيرهم،‭ ‬سلِّمْ‭ ‬على‭ ‬أرواحهم‭ ‬وادخلْ،‭ ‬ادخل‭ ‬واسأل‭ ‬عني‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬جميل‮»‬‭. ‬اسأل‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬جميل‮»‬‭ ‬عني،‭ ‬سيدلك‭ ‬عليَّ،‭ ‬وسيقدِّم‭ ‬لك‭ ‬فنجان‭ ‬قهوة‭ ‬ولن‭ ‬يقبل‭ ‬ثمنًا‭ ‬له‭. ‬عِدْني‭ ‬بأنك‭ ‬ستفعل‭.‬

إنني‭ ‬أُحمِّل‭ ‬المثقف‭ ‬والمبدع‭ ‬مسؤولية‭ ‬عدم‭ ‬فرضه‭ ‬احترام‭ ‬دوره‭ ‬ومكانته‭ ‬على‭ ‬المسؤول‭ ‬وعلى‭ ‬المواطن‭ ‬معًا،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬المؤسسة‭ ‬الرسمية‭ ‬تتحمل‭ ‬مسؤولية‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬السياسات‭ ‬والتشريعات‭ ‬والإستراتيجيات‭ ‬التي‭ ‬تضع‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مقامها‭ ‬كمكون‭ ‬أساس‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المواطن،‭ ‬فإن‭ ‬المثقف‭ ‬والمبدع‭ ‬يتحمل‭ ‬مسؤولية‭ ‬تكاسله‭ ‬وعدم‭ ‬نضاله‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬ذلك،‭ ‬ويتحمل‭ ‬مسؤولية‭ ‬ضعف‭ ‬المنتج،‭ ‬وضعف‭ ‬الموقف‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يمنحه‭ ‬استقطاب‭ ‬الجماهير‭ ‬إلى‭ ‬صفه‭ ‬واقتناع‭ ‬المسؤول‭ ‬باهميته،‭ ‬علينا‭ ‬باختصار‭ ‬أن‭ ‬نثقف‭ ‬المواطن‭ ‬والمسؤول‭ ‬معًا‭.‬

‭ ‬عندما‭ ‬فتحت‭ ‬لك‭ ‬الأبواب‭ ‬بمسرحية‭ ‬‮«‬تغريبة‭ ‬ظريف‭ ‬الطول»؛‭ ‬هل‭ ‬كنت‭ ‬ترى‭ ‬هذا‭ ‬العتمة‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الطريق‭ ‬أم‭ ‬إنك‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تكابر‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الضوء‭ ‬الذي‭ ‬ينزوي‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬النفق؟‭ ‬

‭ ‬بداية‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬ذكر‭ ‬فضل‭ ‬المؤسس‭ ‬الفنان‭ ‬هاني‭ ‬صنوبر‭ ‬عليَّ؛‭ ‬إذ‭ ‬أخذ‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬بيدي‭ ‬ليضعني‭ ‬في‭ ‬صف‭ ‬متقدم‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬المشوار‭ ‬الاحترافي‭ ‬عام‭ ‬1984م،‭ ‬كأنه‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬سيعزز‭ ‬من‭ ‬صمودي‭ ‬واستمراري‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسير‭ ‬المسرحي‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭. ‬وللعلم‭ ‬فقط‭ ‬فإن‭ ‬اختياري‭ ‬المسرح‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬القاسية‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬البلاد‭ ‬السياسي،‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬الذهاب‭ ‬بلا‭ ‬عودة،‭ ‬والإقدام‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬الثمن،‭ ‬ففي‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬كانت‭ ‬الأحكام‭ ‬العرفية‭ ‬تحاصرنا‭ ‬من‭ ‬الجهات‭ ‬الست؛‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬تقدمي‭ ‬في‭ ‬تغريبة‭ ‬ظريف‭ ‬الطول‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬إغواء‭ ‬عالي‭ ‬المستوى‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬النفق،‭ ‬وأؤكد‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬المسرح‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬منحني‭ ‬طاقة‭ ‬الصمود،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬تجاوز‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬وسائل‭ ‬أفضل‭ ‬وأكثر‭ ‬نبلًا‭ ‬للتعبير‭ ‬والتأثير،‭ ‬وإنني‭ ‬شاهد‭ ‬حي‭ ‬على‭ ‬مرحلة‭ ‬منع‭ ‬العمل‭ ‬المسرحي‭ ‬وطردنا‭ ‬من‭ ‬المسرح،‭ ‬حتى‭ ‬الاعتراف‭ ‬بنا‭ ‬وتمثيلنا‭ ‬للأردن‭ ‬في‭ ‬محافل‭ ‬عربية‭ ‬ودولية‭ ‬ونيلنا‭ ‬الجوائز‭ ‬والتكريمات‭ ‬محليًّا‭ ‬وخارجيًّا،‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬منع‭ ‬نصوصنا‭ ‬رقابيًّا‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬إلغاء‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الوزير‭ ‬المتنور‭ ‬الدكتور‭ ‬خالد‭ ‬الكركي‭ ‬ووكيل‭ ‬الوزارة‭ ‬حينها‭ ‬محمد‭ ‬ناجي‭ ‬عمايرة،‭ ‬وكان‭ ‬عملي‭ ‬‮«‬من‭ ‬هناك‮»‬‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أسبابها،‭ ‬أي‭ ‬أنني‭ ‬مشيت‭ ‬في‭ ‬ظلمة‭ ‬النفق‭ ‬ورأيت‭ ‬وعشتُ‭ ‬تدفق‭ ‬بصيص‭ ‬النور،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أحلم‭ ‬بساحات‭ ‬نور‭ ‬وحرية‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تتحقق‭ ‬ليعلو‭ ‬شأن‭ ‬الإبداع‭ ‬والمبدعين‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬أغلى‭ ‬ما‭ ‬يملك‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭.‬

‭ ‬يختار‭ ‬مهرجان‭ ‬مسرح‭ ‬‮«‬أبعاد‮»‬‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬لدورته‭ ‬المسرحية‭ ‬الثانية‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬دورة‭ ‬الفنان‭ ‬غنام‭ ‬غنام»؛‭ ‬ماذا‭ ‬تعني‭ ‬لك‭ ‬هذه‭ ‬الالتفاتة‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬هذه‭ ‬الفرقة؟‭ ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تتويج‭ ‬فِعْلَك‭ ‬المسرحي؟‭ ‬ثم،‭ ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬أنَّ‭ ‬المبدع‭ ‬الأردني‭ ‬أخذ‭ ‬حقّه‭ ‬في‭ ‬التكريم‭ ‬في‭ ‬بلده؟‭ ‬

‭ ‬أشكرك‭ ‬وأشكر‭ ‬مسرح‭ ‬أبعاد‭ ‬على‭ ‬تكريمي‭ ‬بإطلاق‭ ‬اسمي‭ ‬على‭ ‬دورة‭ ‬مهرجانهم‭ ‬للمونودراما،‭ ‬وهذا‭ ‬شرف‭ ‬لم‭ ‬يحلم‭ ‬به‭ ‬العبد‭ ‬الفقير‭ ‬للمسرح،‭ ‬بالمصادفة‭ ‬كان‭ ‬الاحتفال‭ ‬وتكريمي‭ ‬وعرضي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المناسبة‭ ‬بمكان‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬مكان‭ ‬عرضت‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬عام‭ ‬1994م،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬منظمو‭ ‬المهرجان‭ ‬يعلمون‭ ‬هذا،‭ ‬المركب‭ ‬الثقافي‭ ‬كمال‭ ‬الزبدي‭/ ‬سيدي‭ ‬عثمان‭. ‬وكأن‭ ‬السيرورة‭ ‬تؤكد‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تزرعه‭ ‬بتعبك‭ ‬تحصده‭ ‬خيرًا‭.. ‬أما‭ ‬التكريم‭ ‬للفنان‭ ‬في‭ ‬بلده،‭ ‬فهذه‭ ‬أظنها‭ ‬مسألة‭ ‬توجع‭ ‬إن‭ ‬بحثناها،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ضمن‭ ‬النهوض‭ ‬الشامل‭ ‬الثقافي،‭ ‬على‭ ‬البلد‭ ‬أن‭ ‬يؤمن‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬هو‭ ‬النموذج‭ ‬المطلوب‭ ‬تعميمه‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وعلى‭ ‬المثقف‭ ‬أن‭ ‬يسعى‭ ‬لخلق‭ ‬ذلك،‭ ‬وحينها‭ ‬يكون‭ ‬التكريم‭ ‬وافيًا‭ ‬من‭ ‬إيجاد‭ ‬التشريع‭ ‬وحفظ‭ ‬الحق‭ ‬والكرامة‭.‬

كما‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬التكريم‭ ‬الصيغ‭ ‬المعنوية‭ ‬والمادية‭ ‬المالية‭ ‬إلى‭ ‬تكريم‭ ‬المبدع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توثيق‭ ‬تجربته،‭ ‬وتعميمها‭ ‬ودراستها‭.‬