فتحي عبدالله كتب قصيدة تعكس صور الحرب والعسف والطغيان

فتحي عبدالله كتب قصيدة تعكس صور الحرب والعسف والطغيان

الشاعر فتحي عبدالله (1957- 2021م) بالنسبة لي ليس مجرد شاعر ينتمي إلى جيل الثمانينيات الذي تحدرنا منه معًا، كما أنه ليس صديقًا اعتياديًّا يمكنني أن أعبر تاريخي معه من دون انتباه. فتلك العلاقة التي كانت من بين أشد أنماط الصداقات نضجًا في الوسط الثقافي المصري على مدار خمسة وثلاثين عامًا تقريبًا قامت على حوار معرفي وجمالي في شتى العلوم والفنون. تنامت معارفنا معًا ونضجت في أوقات متباينة، لكنها لم تكن متباعدة في أية لحظة على الرغم من اختلافاتنا حول أمور ليست قليلة، لكنّ جزءًا من نضج تلك العلاقة كان الثقافة نفسها، حيث كانت قناعاتنا بفكرة وجود الآخر أيًّا كان تسمح بتقبل مسافات من الشطط والتباعد الفكري والإنساني التي ربما استعصت أحيانًا على الفهم، لكن ذلك لم يدفع أيًّا مِنَّا لارتكاب أية أخطاء أخلاقية تجاه الآخر. كان من نتاج هذا التماهي أن خضنا معًا عشرات المعارك الثقافية ضد التيارات المحافظة على المستويين الفكري والإبداعي وهو ما دفع الأجهزة الثقافية، على كثرتها وعلى تواليها، إلى ممارسة انتقام وإقصاء لم يسبق له مثيل ضد مشروعينا كشعراء وضد وجودنا كمثقفين.

كانت النية معقودة على إسكات صوتينا للأبد عبر إشاعة حال من السوداوية والإحباط في مناخاتنا القريبة والبعيدة؛ لينتهي الأمر بانصرافنا عن الكتابة جملة، والخروج من الثقافة برمتها في نهاية الأمر. لكن ما حدث كان على عكس ما يرغبون، وارتدت ريح هؤلاء عليهم بغبار أسود عكر صفوهم حتى لحظتنا الراهنة. فقد تمكنا معًا، بالاشتراك مع أصدقاء الجيل، من إقامة فعاليات لم يغادر تأثيرها الحركة الثقافية حتى لحظتنا؛ وعلى رأس تلك الفعاليات كان ملتقيا قصيدة النثر في عامي 2009م، 2010م على التوالي. وكذلك الشراكة في إصدار مجلات خاصة ومستقلة بينها «الكتابة الأخرى» و«العصور الجديدة» ثم مجلة «مقدمة» المكرسة لقصيدة النثر، ثم تأسيس «حركة غضب الشعرية»، ومواجهة عنت أجيال شعرية أكبر منا حاولت النيل بكل السبل من حضورنا بسبب يرجع إلى مواقفنا المشتركة من شعرهم. وكان بعض شعراء جيل السبعينيات يمثل رأس حربة في مؤامرات غير محصورة حيكت ضدنا معًا. وقد كان الشاعر فتحي عبدالله شريكًا أيضًا في تأسيس منتدى الشعر المصري الذي تنعقد فعالياته أسبوعيًّا في حزب التجمع، وهي فعاليات لم توقفها سوى أزمة فيروس كورونا. الثمن قطعًا كان باهظًا لكن النجاحات التي كان يحققها حضورنا ظلت أكبر من أي إقصاء مورس ضدنا، ولم تنجح المؤسسة في أية لحظة في تحديد مساحة حضورنا، العكس كان هو الصحيح دائمًا، فلطالما تراجعت المؤسسة عن عشرات الأفعال المشينة والمسيئة تحت ضغط بياناتنا ومقالاتنا وقدرتنا على توحيد مواقف الجماعة الشعرية المجايلة.

* * *

سأترك هذا التاريخ المشترك مؤقتًا لأتحدث قليلًا عن فتحي عبدالله كشاعر، وأشير في البداية إلى أننا معًا ربما نكون الوحيدين اللذين عملا بالسياسة بين شعراء جيل الثمانينيات، وأقصد هنا السياسة بالمعنى الحركي والتنظيمي. حيث كان فتحي عبدالله عضوًا في أحد التنظيمات التروتسكية عندما كان في الجامعة في بداية العقد الثامن من القرن الماضي، وتعرض بسبب ذلك لمطاردة أجهزة الأمن والحبس فيما بعد تخرجه. وربما كان هذا السبب بين أهم الأسباب التي جعلت من علاقتنا بالشعر علاقة غير اعتيادية، وكان يبدو مطلبنا منه مختلفًا عن مطلب كثيرين من شعراء نقرأ لهم ونقدر مكانتهم.

لكن ذلك كان يعني أيضًا أن على كل منا أن يفض الاشتباك بين عدة مفاهيم أساسية ترتبط بوظيفة الفن، وعلى رأسها فكرة الالتزام ومعناها في عصر ما بعد الحداثة، ولا سيما أن ذلك يأتي في لحظة كان يشهد فيها الشعر تحولات كبرى مع بزوغ حقبة قصيدة النثر، ثم زحفها المتواصل لتحتل فيما بعد معظم خارطة الشعر المكتوب. كان ذلك أيضًا يعني تحديد موقف الشعر من الأيديولوجيا ومن مفهوم التاريخ كعامل من عوامل نقض خطابات مستقرة ومركزية في الوعي العربي، ولا سيما فيما يتعلق منه بمفهوم البلاغة، ومن ثم علاقة الشعر باللغة بما تملكه من قداسة تاريخية، تلك القداسة التي عاقَتْ، في كثير من الأحيان، خيال الشعراء وحددت أشكالًا شبه نمطيه لوعيهم بالعالم. أيضًا كان ثمة إشكالية ترتبط بعلاقة الفن بالمكان، والدعوة المحمومة التي تبناها رعيل من شعراء قصيدة النثر فيما يتعلق بتخفيض حضور الرمز المحلي في النص الشعري بدعوى أن ذلك سيجعله نموذجًا أكثر انفتاحًا وتعددًا، بينما كان الهدف الحقيقي من وراء ذلك هو البحث عن طريقة لعبور النص العربي الجديد إلى الغرب بحثًا عن مكان في الثقافة الغربية المهيمنة بطبيعة الحال. مثل هذه المعتقدات ظلت تبدو كأمثولة كاذبة على تجاوز الشاعر العربي لأزمات الهوية، وكأنه صانع تلك الأزمة بينما هو نفسه أحد ضحاياها.

لكن المؤسف أن فكرة التخلص من الماضي ومن رموزه الحضارية عكست نوعًا من تجذر فكرة الفردية الميكافيلية، بينما كان يجب أن تعكس المزاج الرومانتيكي الجديد كتعبير عن اللعنات التي صبتها قصيدة النثر على رأس البرجوازية في العالم. على جانب آخر، كانت تجليات المدنية في النص الجديد تُقَدَّم بوصفها عبورًا مظفرًا لكل الثقافات الهامشية، ثم تأكد أن تلك التصورات الطوباوية استُخدمت سياسيًّا لمنع هجرة الجنوب إلى الشمال.

أصدر فتحي عبدالله خمسة دواوين كان أولها «راعي المياه»، ثم تبعه بديوان من أهم دواوينه صدر تحت عنوان «سعادة متأخرة». وقد ميزت تجربة عبدالله في دواوينه الخمسة ملامح عدة ترتبط بشكل ما بالصراع حول الذات في علاقتها بالعالم، ولا سيما في واحد من أبرز ملامح عصرنا الحديث وهو العنف في شتى صوره، لكن الشاعر فتحي عبدالله كان مهجوسًا بموقفه من الحرب ولا سيما الحروب الكلونيالية ذات الطابع الاستعماري، وهو ما يفسر ترداده لمفردات غير محصورة، تفسر هلعه من صور الحرب والعسف والطغيان.

تشوش الحواس كمعادل للعنف المجاني

لذلك بدت العزلة التي رسختها التجربة هي الرد الممكن على الوحشية والعنف المتجليين في معطيات المدنية الجديدة، وذلك عبر رموز تتمحور بشكل أساسي حول اللاوعي، أو حسبما يعبر «والاس فاولي»، مشيرًا إلى «أسطورة المعرفة المستمدة من مادة النشاط اللاواعي للإنسان»؛ لذلك فقد ميز الكثير من شعر فتحي عبدالله أفق اللاتوقع، مع مزيد من تشوش الحواس كمعادل لفكرة العنف المجاني في العالم المحيط، بينما ظل القليل بين قصائده بمنطقية التركيب وتوالد المعنى، وهما خصيصتان تضربان بعمق في القدم، غير أن فاعليتهما تأتي محملة بدلالات غير مسبوقة ومشفرة على نحو كبير، وهي على أية حال مناخات لم تكشف فحسب عن قناعات الشاعر، بل أسست لالتباسات استطاع الشاعر تجاوزها بمهارة، وإن ظلت كثير من قصائده تصدر بلا باعث، وهو ما يعني أن مفهوم فتحي عبدالله للشعر يقترب من البرناسيين الذين يرون أن الشعر غاية في ذاته بغض النظر عن مردوداته الاجتماعية.

ولنتأمل هنا نماذج من مردودات العنف الذي أشرنا إليه في تلك الشعرية، وهي نماذج من ديوان سعادة متأخرة. يقول عبدالله في قصيدته «قهوة الصباح»: «في لحظة كهذه عليهم أن يبحثوا عن شقة أخرى/ ليضعوا جثمان صديقهم/ الذي قطع على نفسه أن يتزوج من عاملة المقهى/ ويتركها لهم، بعد أن اكتشفوا أنه أنثى/ يقطع أثداء من يحب/ ويلبس ملابسها في النهار/ ويزور الهيبيين الذين برروا له أن يقتل أصدقاءه/ أثناء لذاتهم». هل هو إذن اكتشاف ميكانيكي لما فوق الواقع أو ما يسمي «الواقع الأسمى»؟! ربما كانت اللامعقولية التي تجمع عناصر النص هي ذاتها التي تحمله إلى مناطق هذه المعقولية مرة أخرى، وهي غير المنطق الذي يراد به الترسيخ وتقديس الركام. البطل الجديد ليس هو الشاعر وليس هو الضمير، بل هو الإنسان غير المنسجم، أو مقترف الجريمة أحيانًا: «ولإنقاذ جثتي عرضت عليهم ذبح الممثلة الصغيرة / في حرارة تناسب أدوارهم المليئة بالصراخ»، من قصيدة «لابسو الكاوبوي»، وأظن أن تلك أبرز الصور حدة وتمثيلًا للآلية غير المتحضرة لاستخدامات المدنية لأشيائها التي انتشرت عبر محيط الكتابة وتكررت بشكل لافت ومنها «المسدس، الملاكم، الملابس، الإعلان، القطار». وقد عبرت هذه المفردات عن حال من حالات الرفض المقنع لعوالم تبدو لفرط غرابتها أسطورية، ومع ذلك فإن تلك القصائد قد عينت أبعاد الدلالة أي الدلالة ذات المردود، على الرغم من أن الفضاء الشعري لم يفارق نسيجه منذ القصيدة الأولى حتى الأخيرة، وذلك من خلال تواتر مفردات أساسية للكتابة معبرة ودالة دائمًا على هذا الفضاء.

إعادة اكتشاف الكتابة الآلية

وهو ما يؤكد عليه الشاعر فتحي عبدالله الذي أعاد اكتشاف الكتابة الآلية التي تحاول من خلال أطروحاتها أن تكون هجومًا لاذعًا ضد أنماط اللغة الاعتيادية، من خلال سيل من التعارضات التي تبدو أحيانًا على أنها رغبة في بلوغ المطلق، وهي تصورات نجحت على رغم هذه القتامة والتشابكات من الخروج على عبودية اللغة، ليس بتحويلها إلى أداة ولكن بشحنها بدلالات غير مسبوقة تنفرد بها تجربة الشاعر: «أبريل أيها الطيب/ بقرات أبي في حاجة إلى دواء/ وأولادي مصابون بأمراض الكلاب/ ولحيتي طويلة/ وأحبها هكذا/ لأنني وحيد/ وأفعالي كلها لي».

«من قصيدة أبريل أيها الطيب». كما تتبدى هذه التشابكات بشكل أعنف وأكثر كثافة من خلال المشهدية التي تصاحب الكتابة في معظم قصائد الديوان، وهي مشهدية طاغية حولت الصورة الشعرية إلى صورة ممتدة تستغرق القصيدة بكاملها، فلا يمكن التعامل معها بوصفها صورًا جزئية، وهو الأمر الذي نأى بالديوان عن البلاغة التقليدية التي تعتمد قيمتها من الاستعارات والصور المقطعية أو الصور اللفظية الخالصة، وهو رفض موضوعي لكل رقابة يمكن فرضها مسبقًا على اللغة أو على تصوراتنا عنها.

غير أن مأزق هذه الكتابة المشهدية يظل هو السقوط المروع لما سماه بودلير «استقلال الخيال»، وهو أحد الأسس المهمة التي انطلقت منها السريالية، وظلت تقرن الصدق الفني بهذه الاستقلالية، رغم أنها لم تتعامل مع الشعر على اعتبار أنه الشكل الأعلى للكلام، ونفت عن الفن غائيته، ونظرت إلى الحياة بوصفها الغاية الوحيدة.

وقد يفسر هذا التصور بعض الارتباكات التي تسببها القراءة الأولى لمثل هذه الشعرية، التي وصمت الواقع في كل سطورها وقدمته كعجينة أولى، فبدا الواقع الأكثر مدنية من خلال المفردات على أنه الأكثر بدائية، وكذلك تبدو النظرة غير المنضبطة للفعل الإنساني رميًا للشعر بالفوضى، وعودة للتأكيد على جمالياته المحضة، من دون النظر إلى دوره في هذا الإطار، وهي تصورات اكتنفت الشعر الجديد في جملته بدرجات متفاوتة.

برقية بموت لم يصل

برقية بموت لم يصل

إلى‭ ‬جوزيف‭ ‬كونراد‭ ‬وروايته‭ ‬‮«‬قلب‭ ‬الظلام‮»‬‭.‬

في‭ ‬‮«‬قلْبِ‭ ‬الظلام‮»‬‭ ‬

تتمشى‭ ‬سيدةٌ‭ ‬فَقَدَتْ‭ ‬حبيبَها‭ ‬

علَى‭ ‬شاطئٍ‭ ‬بعيد‭ ‬

يشاهدُها‭ ‬رجالُ‭ ‬المال‭ ‬وقادةُ‭ ‬الحرب‭ ‬

عَبْرَ‭ ‬الأقمار‭ ‬الاصطناعية‭ ‬

ويبكون‭ ‬مِن‭ ‬فَرْطِ‭ ‬التأثرِ‭ ‬

سمراءُ‭ ‬حقًّا‭ ‬

لكنها‭ ‬شهية‭ ‬

هكذا‭ ‬يرونها‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الكاميرات‭ ‬

السيدةُ‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتسلى‭ ‬

بقراءةِ‭ ‬الروايات‭ ‬وطِلَاء‭ ‬القواقع‭ ‬

لَمْ‭ ‬تُقابل‭ ‬قط‭ ‬‮«‬جوزيف‭ ‬كونراد‮»‬‭ ‬

‭ ‬تاجرُ‭ ‬الموالح‭ ‬

الذي‭ ‬ترك‭ ‬لها‭ ‬بضعة‭ ‬سنتات‭ ‬

وبرقيةَ‭ ‬عزاءٍ‭ ‬ناعمة

السيدةُ‭ ‬واقفةٌ‭ ‬في‭ ‬الميناء‭ ‬

تستمعُ‭ ‬إلى‭ ‬دقاتِ‭ ‬قلبها‭ ‬المتصاعدة‭ ‬

مع‭ ‬صافراتِ‭ ‬البواخرِ‭ ‬

والتِمَاعِ‭ ‬الأفلاك‭ ‬

كان‭ ‬ثَمَّةَ‭ ‬أقنانٌ‭ ‬جُدُدٌ‭ ‬

في‭ ‬طريقهم‭ ‬إلي‭ ‬عالم‭ ‬مجهول‭ ‬

لكن‭ ‬التُّجارَ‭ ‬طمأنوهم‭ ‬

بأنه‭ ‬يخلو‭ ‬مِنَ‭ ‬الحشراتِ‭ ‬والملاريا‭ ‬

في‭ ‬‮«‬قلب‭ ‬الظلام‮»‬‭ ‬

كان‭ ‬الرجالُ‭ ‬البِيضُ‭ ‬يأخذون‭ ‬حَذَرَهُم‭ ‬

باعتبارهم‭ ‬أهدافًا‭ ‬

لمجموعاتِ‭ ‬النضالِ‭ ‬الأخْرَق‭!‬

والحريةِ‭ ‬العَرْجَاء‭!‬

البِيضُ‭ ‬لامِعُون‭ ‬جدًّا‭ ‬

في‭ ‬ملابسهم‭ ‬الملونة‭ ‬

والطلقاتُ‭ ‬الطائشةُ‭ ‬تخرج‭ ‬مِن‭ ‬مسدساتهم‭ ‬

دون‭ ‬اكتراثٍ

المُلوك‭ ‬السودُ‭ ‬يبجلونَهُم‭ ‬

ويدبجون‭ ‬الروايات‭ ‬المَرِحَةَ‭ ‬مِن‭ ‬أجْلِهم‭ ‬

أما‭ ‬السمراء‭ ‬الشهية‭ ‬

التي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تنتظر‭ ‬حبيبها‭ ‬

فَقَدْ‭ ‬أصبَحَتْ‭ ‬تُسَلِّي‭ ‬وِحْدَتَها‭ ‬

بِصيدِ‭ ‬السناجبِ‭ ‬

بَعْدَ‭ ‬أنْ‭ ‬أمطَرَتِ‭ ‬الراحلين‭ ‬

بعشراتِ‭ ‬الرسائِل‭ ‬

لحبيبٍ‭ ‬

لَمْ‭ ‬تعرفْ،‭ ‬بَعْدُ،‭ ‬أنه‭ ‬يرقدُ‭ ‬

مع‭ ‬ثوارِ‭ ‬إفريقيا‭ ‬

في‭ ‬بَطْنِ‭ ‬المحيط‭.‬