ثلاث قصص

ثلاث قصص

يدٌ‭ ‬تتسلق‭ ‬للأعلى

‮«‬تكذب،‭ ‬تهرب‭ ‬من‭ ‬الصف،‭ ‬تتلف‭ ‬منشآت‭ ‬المدرسة،‭ ‬تقلل‭ ‬من‭ ‬احترام‭ ‬المعلمات،‭ ‬ترسم‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬و‭…‬‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬المرشدة‭ ‬الطلابية‭ ‬متحمسة‭ ‬لإضافة‭ ‬خمس‭ ‬صفات‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬فقد‭ ‬فتحت‭ ‬الكف‭ ‬اليسرى‭ ‬وفردت‭ ‬كل‭ ‬أصابعها،‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬حتى‭ ‬للتفكير‭ ‬فيما‭ ‬ستعدده‭. ‬

في‭ ‬البيت‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬وبّخها‭ ‬والدها،‭ ‬نقلًا‭ ‬عن‭ ‬زوجته،‭ ‬نقلًا‭ ‬عن‭ ‬المرشدة،‭ ‬نقلًا‭ ‬عن‭ ‬المعلمات،‭ ‬توجهت‭ ‬للمطبخ،‭ ‬ثم‭ ‬فتحت‭ ‬القسم‭ ‬الأعلى‭ ‬الخاص‭ ‬بالمجمدات‭ ‬في‭ ‬الثلاجة‭. ‬ألقت‭ ‬بنظرة‭ ‬من‭ ‬الأسفل،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تستطيل‭ ‬بالوقوف‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬أصابعها‭. ‬تحسست‭ ‬مكانًا‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الكف‭ ‬تألفه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬العينين،‭ ‬وأخذت‭ ‬تتلمس‭ ‬ببطء‭ ‬خرزات‭ ‬الثلج‭ ‬المتجمدة‭ ‬فوق‭ ‬الدجاجة،‭ ‬وقلبها‭ ‬يزداد‭ ‬دفئًا‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬حتى‭ ‬غرق‭ ‬في‭ ‬الحرارة‭. ‬

كانت‭ ‬تلك‭ ‬لحظات‭ ‬الهناء‭ ‬الخاصة‭ ‬بها‭… ‬لحظات‭ ‬كونتها‭ ‬بنفسها‭ ‬وكررتها‭ ‬كثيرًا،‭ ‬لتسترجع‭ ‬باللمس‭ ‬فقط‭ ‬جبين‭ ‬أمها،‭ ‬وهي‭ ‬تقبلها‭ ‬لتودعها‭ ‬في‭ ‬لقائهما‭ ‬الأخير‭. ‬يومها‭ ‬أُخذت‭ ‬مع‭ ‬حشد‭ ‬من‭ ‬النسوة‭ ‬ليلقين‭ ‬السلام‭ ‬على‭ ‬الأم،‭ ‬في‭ ‬لقطة‭ ‬لاهثة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬لمدفنها‭. ‬يخيل‭ ‬إليها‭ ‬كلما‭ ‬فتحت‭ ‬باب‭ ‬الثلاجة‭ ‬ما‭ ‬تمنت‭ ‬حدوثه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬أن‭ ‬صدر‭ ‬الدجاجة‭ ‬تحت‭ ‬كفها‭ ‬يصعد‭ ‬ويهبط‭ ‬برفق‭. ‬ردت‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأنفاس‭ ‬المتخيلة‭ ‬بابتسامة‭ ‬مؤيدة‭ ‬بهزة‭ ‬رأس‭. ‬أرخت‭ ‬أصابع‭ ‬قدميها‭ ‬فقصرت‭ ‬عما‭ ‬كانت‭ ‬عليه،‭ ‬ثم‭ ‬أغلقت‭ ‬الباب‭ ‬العلوي‭ ‬للثلاجة،‭ ‬لتغرق‭ ‬مجددًا‭ ‬وحدها‭ ‬في‭ ‬الظلام‭.‬

وحيدًا‭ ‬كإبهام

كَبُرَ‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يُعلّم‭ ‬فيه‭ ‬أحدًا‭… ‬فقط‭ ‬يتعلم‭ ‬الصواب‭ ‬والخطأ‭ ‬بالممارسة،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬مراقبته‭ ‬للآخرين،‭ ‬وبالطريقة‭ ‬التي‭ ‬يُحسّن‭ ‬له‭ ‬خياله‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬لتبدو‭ ‬بصورة‭ ‬أجمل‭. ‬أحيانًا‭ ‬يرى‭ ‬السكون‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الحركة،‭ ‬فيبدو‭ ‬متجمدًا‭ ‬في‭ ‬مكانه،‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جُرف‭ ‬حماسة‭ ‬مكثفة،‭ ‬فيتخذ‭ ‬من‭ ‬الحواف‭ ‬الخطرة‭ ‬مكانًا‭ ‬آمنًا‭ ‬له‭. ‬تباينت‭ ‬نسبة‭ ‬تقييم‭ ‬ذكائه‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬معلميه،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬رآه‭ ‬ذكيًّا،‭ ‬وبالطبع‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬وسمه‭ ‬بالتخلف‭ ‬العقلي‭ ‬الحاد‭. ‬

جدٌّ‭ ‬وجدةٌ‭ ‬هما‭ ‬الأكثر‭ ‬اصطدامًا‭ ‬بالأبواب،‭ ‬ونسيانًا‭ ‬لموعد‭ ‬ذهاب‭ ‬الحفيد‭ ‬للمدرسة؛‭ ‬لأنهما‭ ‬يقضيان‭ ‬نصف‭ ‬يومهما‭ ‬نائمين،‭ ‬ونصفه‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬مستعجلة‭ ‬لتذكير‭ ‬بعضهما‭ ‬بقصص،‭ ‬يبدو‭ ‬محوها‭ ‬أسهل‭ ‬على‭ ‬الذاكرة‭ ‬من‭ ‬استرجاعها‭. ‬أحصى‭ ‬الحفيد‭ ‬الفروق‭ ‬الشاهقة‭ ‬بين‭ ‬الجدين‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬نومهما‭ ‬الكثيرة،‭ ‬ولم‭ ‬يفته‭ ‬تمييز‭ ‬الأمر‭ ‬الوحيد‭ ‬المشترك‭ ‬بينهما،‭ ‬لحظة‭ ‬استيقاظهما‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬من‭ ‬ساعات‭ ‬النهار‭ ‬الطويل،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬قولهما‭ ‬له‭ ‬العبارة‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬ولكن‭ ‬بدرجات‭ ‬تعجب‭ ‬متفاوتة‭: ‬‮«‬لِمَ‭ ‬لمْ‭ ‬تَنَمْ‭ ‬بعدُ‭ ‬أيها‭ ‬الصغير؟‮»‬‭. ‬

مساء‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬وبينما‭ ‬أصابع‭ ‬الجدة‭ ‬مرتخية‭ ‬فوق‭ ‬إناء‭ ‬تنخل‭ ‬فيه‭ ‬بعض‭ ‬الدقيق،‭ ‬برز‭ ‬لوهلة‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬أصابعها‭ ‬بعض‭ ‬السوس‭. ‬أطل‭ ‬بسواده‭ ‬اللامع،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬ليختفي‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬البياض‭ ‬كذاكرتها‭. ‬حينها‭ ‬تلفتتْ‭ ‬بفزع‭ ‬وكأن‭ ‬الغرفة‭ ‬تضيق‭ ‬بها،‭ ‬وهي‭ ‬تسأل،‭ ‬بصوت‭ ‬يشارف‭ ‬على‭ ‬البكاء،‭ ‬عن‭ ‬ابنها‭ ‬المتوفى‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثة‭ ‬أعوام‭:‬‮«‬‭ ‬أين‭ ‬سعد؟‭ ‬سعد‭… ‬سعد‭!!‬‮»‬‭. ‬لم‭ ‬يجبها‭ ‬العجوز‭ ‬فشفتاه‭ ‬تصليان‭ ‬باتجاه‭ ‬السقف،‭ ‬لكن‭ ‬الحفيد‭ ‬الذي‭ ‬يخطئ‭ ‬في‭ ‬تهجِّي‭ ‬اسمه،‭ ‬قام‭ ‬إليها‭ ‬ملتقطًا‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬غترة‭ ‬لا‭ ‬يرتديها‭ ‬جده‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬صلاة‭ ‬الجمعة‭. ‬وقف‭ ‬بين‭ ‬فخذيها،‭ ‬اللذين‭ ‬يعانيان‭ ‬غيابًا‭ ‬نسبيًّا‭ ‬للحم،‭ ‬كإبهام‭ ‬لطيف‭ ‬برأس‭ ‬موازية‭ ‬لرأسها،‭ ‬ثم‭ ‬رفع‭ ‬يده‭ ‬ورمى‭ ‬‮«‬بالغترة‮»‬‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائي‭ ‬ومائل‭ ‬فوق‭ ‬رأسه،‭ ‬ليختفي‭ ‬معظم‭ ‬وجهه‭ ‬تحتها،‭ ‬وهو‭ ‬يخرج‭ ‬صوتًا‭ ‬يظنه‭ ‬عميقًا،‭ ‬ليبدو‭ ‬أكثر‭ ‬رجولة‭… ‬ألقت‭ ‬الجدة‭ ‬بنظرة‭ ‬مشجعة‭ ‬للحفيد‭ ‬الرجل،‭ ‬بينما‭ ‬تعابير‭ ‬وجهها،‭ ‬تتبدل‭ ‬كانفراجة‭ ‬زرقاء‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬غائمة‭.‬

حين‭ ‬لا‭ ‬يهبط‭ ‬الحمام

كان‭ ‬لبيتنا‭ ‬مهبط‭ ‬حمام،‭ ‬تهبط‭ ‬الحمامات‭ ‬فيه‭ ‬واحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬مثل‭ ‬الندب‭ ‬الملونة‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬البيت‭. ‬عندها‭ ‬كنت‭ ‬أكتم‭ ‬صوت‭ ‬خطواتي‭ ‬كلما‭ ‬اقتربتُ‭ ‬منها،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬لطالما‭ ‬طمأنني‭ ‬والدي‭ ‬هامسًا‭:‬

‭- ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تخافك،‭ ‬بل‭ ‬تبتسم‭ ‬لكِ‭… ‬تقدمي‭ ‬منها‭ ‬أكثر‭!‬

الآن‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬كبرت‭ ‬بسرعة،‭ ‬كما‭ ‬يتزحلق‭ ‬طفل‭ ‬من‭ ‬الأعلى‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل،‭ ‬ينظر‭ ‬والدي‭ ‬إلى‭ ‬ابتسامتي‭ ‬المتململة‭ ‬ويقول‭ ‬ساخرًا‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬همس‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭:‬

‭- ‬لعلمك‭ ‬حتى‭ ‬الطيور‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬المبتسمين‭ ‬الذين‭ ‬تظهر‭ ‬أسنانهم،‭ ‬هم‭ ‬أقل‭ ‬تكبرًا‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يخفونها‭.‬

بالطبع‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬كان‭ ‬خطئي،‭ ‬فقد‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬الابتسامة‭ ‬المذمومة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعجبه‭ ‬ضحكة‭ ‬شيطانية‭ ‬مدوية،‭ ‬فتسببتُ‭ ‬في‭ ‬فزع‭ ‬الطيور‭ ‬كلها‭.‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬مهابط‭ ‬مباشرة‭ ‬بين‭ ‬السماء‭ ‬وسطح‭ ‬والدي،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يجلس‭ ‬هناك‭ ‬كل‭ ‬صباح،‭ ‬يحفر‭ ‬البلاط‭ ‬بمقدمة‭ ‬حذائه؛‭ ‬ليزيل‭ ‬مخلفات‭ ‬حمام‭ ‬يمر‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬بيته‭ ‬ولا‭ ‬يهبط‭.‬