في الدهشة الفلسفية

في الدهشة الفلسفية

صدر حديثًا كتاب «الدهشة الفلسفية» لجان هِرش، ترجمة محمد آيت حنا (منشورات الجمل). وسنحاول في هذا المقال إبراز منزلة الدهشة في الفلسفة، ودورها في صناعة التفلسف، ولا سيما أن أنظار الفلاسفة لم تكن ممكنة لولا دهشتهم أمام ظواهر الكون، وقضايا الحياة. فما الدهشة الفلسفية؟ هل هي دهشة مخصوصة أم تشترك مع دهشة عامة الناس؟ وما دورها في تاريخ الفلسفة؟ هل أسهمت في إحداث قطائع في تاريخ الفلسفة أم إنها استئناف للتفكير فيما تُفُكِّرَ فيه من ذي قبل؟

حاولت جان هرش فيما يقارب 500 صفحة من القطع الكبير تتبع خيط الدهشة الفلسفية بدءًا من الفلسفة ما قبل السقراطية، مرورًا بالفلسفة الوسيطية والحديثة، ووصولًا إلى الفلسفة المعاصرة، من دون أن يعني ذلك أن غرض المؤلفة من الكتاب هو عرض تاريخ الفلسفة، إنما قصدها الأول بيان منزلة الدهشة الفلسفية في صناعة التفلسف، ودورها في شحذ النظر الفلسفي، وتفكيك مسلمات بادئ الرأي.

ليست الدهشة الفلسفية مجرد تعجب سرعان ما يخفت لتحل محله الألفة المعهودة، إنما هي قلق أنطولوجي إزاء ظواهر الكون جليلها ودقيقها، وقضايا الحياة بسيطها ومركبها، وهو قلق يترجم إلى أسئلة فلسفية تحث صاحبها على البحث عن المعرفة، وتعليق الأحكام الجاهزة، والشك في معتقدات الحس المشترك؛ وهو ما يعني أن الدهشة الفلسفية، هنا، هي المدخل الرئيس للنظر الفلسفي، بما هو نظر حجاجي يروم بلوغ الحق.

ما أجملناه فيما تقدم تفصله جان هرش باستحضار تجارب فلسفية، حسبنا الوقوف عند بعضها، لإبراز مكانة الدهشة في التفكير الفلسفي، ولعل أول أنموذج يوضح هذا الغرض هو طاليس الذي كان أول من اندهش أمام ظواهر الكون، في الوقت الذي كانت انشغالات الناس تنصرف لتحصيل ضرورات الحياة من مأكل ومشرب، والاعتقاد في أساطير حول أصل العالم وظواهره؛ لقد قاد اندهاش طاليس إلى طرح سؤال جوهري وهو ما أصل العالم؟ لا شك أن هذا السؤال نفسه كان يطرحه التيولوجيون، إلا أن الجواب الذي قدمه طاليس يقطع مع التفكير التيولوجي؛ لأنه يفسر أصل العالم بإرجاعه إلى عنصر طبيعي وهو الماء؛ لا شك أن هذا الجواب بالقياس إلى مكتسبات العصر يبدو ساذجًا، لكنه بالقياس إلى القرن السادس قبل الميلاد يمثل فتحًا مبينًا في التفكير البشري؛ لأنه أرجع المتعدد إلى الواحد، والمتغير إلى الثابت، محاولًا تفسير ظواهر الكون تفسيرًا طبيعيًّا لا عهد به للسابقين عليه، وهو ما يجعل فيلسوفًا معاصرًا وهو فريدريك نيتشه يُبَوِّئ طاليسَ أبُوّةَ الفلسفة، وفتحها العظيم.

تنزل صاحبة الكتاب الدهشة الفلسفية منزلة المادة التي لولاها لما كان لإسهام فلسفي أن يجد طريقه للوجود، فهي فتح الفلسفة مع طاليس، وهي التي جعلت أرسطو يخرج من إسار أستاذه أفلاطون، وجعلت من هذا ينظر في مسائل عديدة تتعلق بالنفس والدولة والإيروس والمثل والكهف، وهي التي جعلت الفلاسفة في العصر الوسيط ينظرون في أوجه الاتصال والانفصال بين الفلسفة والدين، وهي التي فرقت الفلاسفة في العصر الحديث شيعًا، بين عقلانيين وتجريبيين، وهي التي جعلت كارل ماركس ينظر في التفاوت الطبقي، وسيغموند فرويد في خبايا النفس البشرية، وهنري برغسون يبدع نظرية في الحرية تُعيد للذات الإنسانية كينونتها الخلاقة، ضدًّا للنزعات الوضعانية الفجة التي سادت في عصره، والتي تجعل الإنسان ريشة في مهب رياح النزعات العلموية، وهي كذلك التي جعلت فريدريك نيتشه يتفلسف بمطرقة تقوض الادعاءات الأخلاقية، وأوهام الحقيقة، وهي التي جعلت إدموند هوسرل يبدع منهجًا فينومينولوجيًّا للنظر الفلسفي، منهجًا يسعف الناظر في تعليق الأحكام، والاكتفاء بالنظر فيما يقع تحت أنظارنا، من دون تعديه لإدراك الأشياء في ذاتها، وهو الأمر الذي يحُول دون جعل الفلسفة علمًا صارمًا كما أراد لها إدموند هوسرل أن تكون.

يمْكن القول، بناء على ما تقدم: إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ دهشة فلسفية، أي تلك الدهشة التي سرعان ما يحولها الفيلسوف إلى سؤال فلسفي يدعوه للبحث عن الحقيقة. الكتاب، إذن، الذي نحن بصدده ليس كتابًا في تاريخ الفلسفة فحسب، إنما هو كتاب في أحد أسس الصناعة الفلسفية ألا وهي الدهشة الفلسفية، بما هي الخطوة الأولى نحو التفلسف. يتضح إذن أن صاحبة الكتاب حقَّقت هدفين؛ فهي من جهة عرضت تاريخ الفلسفة كما تتصوره، ومن جهة ثانية تتبّعت خيط الدهشة الفلسفية التي تخترق تاريخ الفلسفة منذ طاليس وصولًا للإسهامات الفلسفية المعاصرة، حيث إن لكل حقبة فلسفية دهشتها الخاصة التي تختلف باختلاف الشروط التاريخية والإبستمولوجية؛ فإذا كانت دهشة طاليس ارتبطت بالكون، فإن دهشة سقراط ارتبطت بالإنسان، حتى صدق عليه أنه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، ولا سيما أن الإشكال الذي استأثر باهتمامه هو «كيف ينبغي للمرء أن يحيا، لتكون حياته موافقة للخير؟» ص 32. حاصل القول أن كل فيلسوف اندهش حسب ما يسمح به شرطه التاريخي، وما الفيلسوف في المحصلة إلا ابن عصره، مثلما أن الفلسفة بنت زمانها، ولكل عصر فلسفته الخاصة التي تنظر في إشكالاته، وتلتمس جوابًا لتحدياته، وما الوعي الفلسفي إلا شعور الإنسان بالوضعيات المحدِّدة لوجوده،
بلغة كارل ياسبرز.

تكمن أهمية الكتاب موضوع المقال في كون صاحبته تفكر في مفهوم الدهشة الفلسفية عل نحو فلسفي؛ إذ لم يكن همها هو الانتصار لهذا الفيلسوف على حساب ذاك، ولا الإشادة بنسق فلسفي على حساب آخر، ولا لعب دور الأستاذ الذي يشطب بقلم أحمر على أخطاء التلميذ؛ كلا، إنما هي ترفعت عن كل ذلك، محاوِلة التفكير في سؤال أساس وهو ما الذي يجعل فيلسوفًا ما يندهش؟ وكيف اندهش؟ وما حدود دهشته؟ وهذه لعمري أسئلة فلسفية تجعل من تاريخ الفلسفة ورشة للتفلسف، وإعمال الفكر، بدل الانتصار لهذا على حساب ذاك، على شاكلة الصراع الديني بين المِلَل والنِّحَل الذي لا يحركه قلق السؤال إنما وثوقية الجواب.

نستخلص مما تقدم أن الفيلسوفة تتبّعت خيط الدهشة الفلسفية عبر تاريخ الفلسفة، أمَّا ما عرضته من هذا التاريخ، على الرغم من أهميته، فلا يعدو أن يكون عرضيًّا، ومجرد وسيلة لتحقيق غرضها من الكتاب، ولعل هذا ما يفسر أن عروض الكاتبة حول الفلاسفة كانت مختلفة، بين من توقفت عنده طويلًا، شأن أفلاطون وإيمانويل كانط وكارل ياسبرز، وبين من اكتفت بالإلماع إليهم شأن باروخ سبينوزا وإدموند هوسرل ومارتن هايدغر، بل إن ما عرضته من تاريخ مشروط بمركزية أوربية لا تخفى على الناظر، وهو ما يتجلى بوضوح في القفز على إسهامات الفلاسفة في العالم الإسلامي التي لا تخلو من دهشة فلسفية، وهو قفز يدعو للاندهاش والنظر لولا أن المقام لا يسمح بالتفصيل، وقد حاولنا بدورنا أن نغض الطرف عن تفاصيل الكتاب، مكتفين بإعادة قراءته في ضوء قراءتنا الخاصة لتاريخ الفلسفة، من دون الخروج عن الغرض الأساس من الكتاب، أي تتبع خيط الدهشة الفلسفية عبر تاريخ الفلسفة، وهي دهشة مصحوبة بالشك الذي ينزل منزلة المهماز الذي «يعيد باستمرار تفعيل المساءلة الفلسفية ويجبرها على المضي قدمًا» ص 97، بتأكيد جان هرش.

من الدعوة إلى القراءة إلى التفكير فيها «القراءة رافعةً رأسها» لعبدالسلام بنعبد العالي

من الدعوة إلى القراءة إلى التفكير فيها

«القراءة رافعةً رأسها» لعبدالسلام بنعبد العالي

«كان ينبغي إعلان موت المؤلف كي يولد القارئ، إذا كان من المستحيل أن نرى في القراءة فعلًا بحق من غير أن تتهاوى السُّلطة التي كانت تدَّعي الهيمنة عليها» عبدالسلام بنعبد العالي

صَدَر كِتَاب «القراءة رافعة رأسها» لعبدالسلام بنعبد العالي عن دار توبقال للنشر(2019م) بالمغرب، وهو كتاب يعرِّج على امتداد مئة صفحة على قضايا فكرية شغلت صاحبه لثلاثة عقود من الزمن، ومنها قضية القراءة، وما يتصل بها من قضايا الكتابة والإبداع والتأويل والنقد، وهو جماع مقالات، يُراوِح أسلوبها بين الكثافة والتَّشَذُّر، وإن كان بينها من وحدة فهي وحدة متعددة، من حيث إنها تفكر على نحو مغاير في قضايا فكرية ظلت أسيرة بَداهات النقد الأدبي القديم، والتقاليد الفلسفية العتيقة؛ لذلك فإن موضوع القراءة لا ينزل في الكتاب منزلة الدعوة إليها، وإنما ينزل منزلة التفكير فيها، وما يستدعيه التفكير من نقد وشك وتحليل وتفكيك. فما القراءة إذًا؟ هل هي على ضرب واحد أم على أَضرُب؟ وما الذي يدعونا للتفكير فيها؟ هل للتذكير بفضلها فحسب أم لإعادة النظر في مسوغاتها وإستراتيجياتها حسب ما يمليه منطق العصر ومستجدات الفكر؟

يكتسي القارئ في كتاب «القراءة رافعة رأسها» اليد الطولى؛ فهو صاحب السلطة والصولجان؛ وهو الذي يملك القول الفصل، متحررًا بذلك من سلطة المُؤَلِّفِ والمُؤَلَّفِ على حدّ سواء. غير أن فعل القراءة ليس على ضرب واحد، إنما هو على ضربين: قراءة منفعلة أو فعالة بلغة لوي ألتوسير، وقراءة ميتة أو حية بلغة رولان بارت. القراءة المنفعلة أو الميتة هي تلك التي ترتبط بالنص ولا تحيد عنه، محاولة بذلك القبض على تلابيب المعنى، وتحصيل الحقيقة بشكل مباشر لا لفَّ فيه ولا دوران؛ وهي قراءة مشروطة بفلسفة الحضور. في حين القراءة الفعالة أو الحية هي التي تكشف في النص عما لم يُكْتَب، محاولة بذلك كتابة اللامفكر فيه والمُضْمَر، جاعلة النص المكتوب مجرد علامة على ما لم يُكتب بعد، وما لم يظهر بعد للعلن؛ إنها باختصار قراءة تُشخِّص الأعراض على حد قول فريدريك نيتشه، فضلًا عن أنها قراءة لا تدَّعي الفهم الأول أو الفتح المبين، إنما هي دومًا قراءة ثانية، ما دام النص نفسه لا يعدو إلا قراءة من جملة قراءات، وهو ما يعبِّر عنه عبدالسلام بنعبد العالي بالقول: «تقدِّم الكتابة نفسها مقروءة مُؤَوَّلَةً، فكأنما لا وجود لدرجة صفر في القراءة»؛ من حيث إن القارئ يُوَلِّدُ النص ويعيد كتابته على نحو مغاير، وتلك على التحديد القراءة التي ترفع رأسها بلغة رولان بارت، من أجل مشاغبته ومشاكسته، والانفلات من سلطته، والتمرد على قواعده، والتفكير ضده.

القراءة مخاض عسير

يرمز عبدالسلام بنعبد العالي لهذين الضربين من القراءة بثقافتين: الأولى مريحة، والثانية مُتْعِبَة؛ تستمدّ الأولى أريحيتها من كونها تتوسل الكنبات، وتطمئن لظاهر النصوص، من دون خوضها فيما تطرحه من إشكالات ومفارقات وإحراجات، في حين الثانية مُتْعِبَة لأنها تعلن تبرّمها من الصالونات المريحة، مفضِّلة الكراسي الخشبية الخشنة، وعيًا منها أن القراءة على الحقيقة مخاض عسير يقتضي بذل الجهد، وتحمّل العناء، والصّبر على الشدائد، بل إن هذه الثقافة المُتْعِبة قد تستغني عن الكراسي على الرغم من خشونتها مفضِّلة الوقوف أو المشي، وهي نصيحة فريدريك نيتشه عندما يقول في إحدى شذراته: «أن تَظَلَّ جالسًا أقل ما يمكن، وألَّا تضع ثقتك في فكرة لم تخطر وأنت تمشي في الهواء الطَّلق، ولم تنخرط في احتفاء العضلات»، ولعلها نصيحة وَجَدَتْ أثرًا عند كُتَّاب من أمثال ألبير كامو وإرنست همنغواي اللذين كانا يكتبان واقفين، كما وَجَدَتْ أثرًا عند مونتني الذي كان يكتب وهو يمشي، وهذا بحق حال القراءة الفعّالة، فهي تفضِّل العُسر على اليُسر، مثلما تفضل الحياة على الموت.

يَتَبَيَّنُ إذًا أن القراءة الفعالة أو الحية هي دومًا قراءة ثانية؛ لأنها لا تقبل الخضوع للنص، إنما تَظلّ على سبيل المجاز رافعة رأسها، ولعل مَرَدّ شموخها هذا يَرْجِعُ إلى مكتسبات الفكر المعاصر الذي سعى لتقويض فلسفة الذات والحضور، وفضح وَهْم الموضوعية، وأسطورة العِلْمِيَة، منتصرًا بذلك للتعدد والاختلاف والانفصال، وهو ما يلخِّصه موريس بلانشو في القول: «إن فكرة العَوْدِ الأبديّ عند نيتشه هي أقوى إثباتات الفكر المعاصر؛ لماذا؟ لأنها تضع محلَّ الوَحْدة اللامتناهية التعددَ اللامتناهي، ومحلَّ الزمانِ الخطِّيّ، زمان الخلاص والتقدم، زمان المكان الدائري (…) ولأنها تضع موضع سؤال تطابق الكائن وخاصية وحدة ما هو الآن وهنا».

تَرَتَّبَ عن مكتسبات الفكر المعاصر إعلان موت المؤلِّف، وهو موت لم يظل مجرد استعارة فحسب، إنما يكاد يكون موتًا حقيقيًّا مثلما تشهد على ذلك إستراتيجيات القراءة المعاصرة، بل هو ما تؤكده وسائل الاتصال الجديدة التي جعلت إسهامات المؤلِّف تنفلت منه بالضرورة، فتتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي ضمن شبكة معقَّدة لا بدء لها ولا منتهى؛ تلك حال ظاهرة النشر الإلكتروني التي صارت ميسم الزمن المعاصر بدل الاكتفاء بالنشر الورقي كما كان سائدًا من ذي قبل.

التحرر من معايير النشر

أَدَّتْ الظاهرة الجديدة للنشر إلى انتفاء التصنيفات التقليدية للنشر، من قبيل منابر اليسار ومنابر اليمين، أو جرائد الحداثة وجرائد التقليد؛ بسبب التحرر من معايير النشر التقليدية، وما كانت تفرضه من رقابة وتوجيه، وهو ما جعل القارئ في الزمن المعاصر، بل الكاتب كذلك، يَنْعَمَان بهامشٍ كبير من الحرية في الكتابة والقراءة والتعليق والتعبير والنقد والنشر.

لكن تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم مما يبدو لنا من هامش الحرية الذي تتيحه الوسائط الجديدة للاتصال على شبكة الإنترنت، فإن هذه الوسائط غالبًا ما تغفل جانب الإبداع والنقد، مكتفية في الغالب بتسويق قدر هائل من المعلومات، مرفوقة بصور أصحابها مختلفة الألوان الذين ذاع صيت أسمائهم، وسحنات وجوههم، وتفاصيل أخبارهم ويومهم، وكأن مدار القول ينحصر على شخوص الكُتَّابِ رَأْسًا، وليس على شَكْلِ كتابتهم ومضمونها، ولعل هذه آفة مجتمع الفرجة الذي جعل من الثقافة كذلك بضاعة وسلعة خاضعة لمنطق السوق، منطق العَرْضِ والطَّلَب، حتى صارت العِبْرَة ليست بقيمة المكتوب أو الكتابة، وإنما بما تحققه من سعة الانتشار، ونِسَب المشاهدات، وعَدَد «اللايكات»، وهو الأمر الذي يكرِّس النمذجة والتنميط، ويشيع البلاهة والتفاهة، ويجعلنا نتساءل: كيف السبيل لوضع حدٍّ لهذا الواقع الذي ينذر بالجمود؟

يقترح عبدالسلام بنعبد العالي نموذجًا ثقافيًّا جديدًا يَخُصُّ المُثَقَّف بأدوار مغايرة لتلك التي سادت إبان الموجات الماركسية؛ ذلك أنه لم تَعُدْ وظيفةُ المُثَقَّف في الزمن المعاصر التبشيرَ بالعدالة والخير الأسمى، أو نصرة قُوى اليسار على حساب قُوى اليمين، أو الاصطفاف إلى جانب الأخيار ضدًّا على الأشرار؛ كلَّا، إنما إنْ كانت له من وظيفة في زماننا هذا فهي المقاومة الجذرية، تلك المقاومة التي لا تركن لأي مِلَّة أو نِحْلَة، ولأي نزعة أو مذهب، إنما تعمل على توليد المفارقات، ومساءلة البداهات، وتفكيك المسلَّمات، وخلخلة الوَحَدَات، وهذا مسعى القراءة الفعّالة التي لا ترضى أن تكون منفعلةً، أو قل القراءة الحية التي تأبى الاستسلام للموت، وهو ما يعني الانتقال من إبيستمولوجيا المباشرة، إلى إبيستمولوجيا اللامباشرة، ومن فلسفة الوَحْدة والتطابق، إلى فلسفة التعدد والاختلاف.