مارادونا صنع أسطورته قبل رحيله عدو الإمبريالية وصديق فيدل ونصير الفقراء

مارادونا صنع أسطورته قبل رحيله

عدو الإمبريالية وصديق فيدل ونصير الفقراء

في سيرته الذاتية المعنونة «أنا الدييغو» الصادرة عام 2006م، يقول دييغو أرماندو مارادونا: «كان يجب أن يعمل أبي كثيرًا حتى يطعم أفواهًا كثيرة، وكان يعمل كثيرًا حد قتل نفسه، وأنا كنت مضطرًّا لأن أتجنب الحمّام قدر الإمكان، لكن… ثم كان أبي يتلقى يوميته ويشتري لي حذاءً فأمزقه سريعًا لأني ألعب الكرة طول اليوم. كان ذلك يدعو للبكاء! وكنا نبكي، وكان يضربني… في الرابعة فجرًا كان يستيقظ ليذهب إلى عمله بالمصنع، إن لم يفعل كنا سنتعفن في البيت ونبقى بلا طعام».

بهذه الكلمات التي يفتتح بها سيرته وترسم لوحة لبؤس عائلة اللاعب الأرجنتيني، عائلة كبيرة مكونة من تسعة أبناء تسكن بيتًا فقيرًا، يمكن قراءة تاريخ مارادونا، ويمكن من خلالها فهم مواقفه السياسية التي منها انحيازه لفيدل كاسترو، ومواقفه الإنسانية المنحازة للفقراء، إضافة إلى ذلك، وفي الخلفية منها، يمكن قراءة تاريخ بلد من أكثر البلدان التي عانت من الدكتاتورية وتعرض مواطنوها للاختفاءات القسرية والقتل خارج القانون. وكانت حقبة الستينيات والسبعينيات، وبخاصة المدة السابقة لحكم خوان بيرون والتالية له، أقسى لحظات التاريخ الأرجنتيني المعاصر التي لم تنتهِ إلا عام 1983م مع إعلان التحول الديمقراطي. هذه المدة كانت طفولة مارادونا ومراهقته، وعام 1986م حين فاز الفريق الأرجنتيني بكأس العالم، لم يكن فوزًا كرويًّا صرفًا، إنما تتويجًا لسنوات طويلة من النضال للوصول إلى الديمقراطية المنتظرة، وانتصارًا على أوربا، وهدية مارادونا إلى أهله وزملائه في لعب الكرة في الشارع، ولمدربيه الذين آمنوا به.

سنوات قليلة لكنها تجربة طويلة وعميقة خاضها دييغو من اللعب في الشارع بعد المدرسة أو قضاء يومي الإجازة الأسبوعية في لعب الكرة حتى في عز القيظ أو المطر، ثم الانتقال للعب الاحترافي في فيوريتو وأرخنتينوس جونيورز وبوكا، والانضمام للمنتخب الوطني وهو في السابعة عشرة. سنوات قليلة انتقل فيها من بؤس الفقر إلى الرخاء، من المعاناة من أجل شراء حذاء للوفرة في القمصان والشورتات والأحذية والإقامة في الفنادق وشراء سيارة فيات، انتقال لم يدركه مارادونا في البداية حتى توقف وسأل ما سر هذا النهم في الشراء والامتلاك؟ وكانت إجابته «كنت أريد أن أعوّض أبي وأمي عن سنوات البؤس»، هذا الانتقام الأول من الماضي، كأنه حارس مرمى يريد أن يسدد فيه أهدافًا بلا نهاية، سيشكّل اللبنة الثانية في تركيبة اللاعب الأرجنتيني، لاعب يجد نفسه أملًا لبلد بأكمله وهو في الثامنة عشرة، وفي الثامنة عشرة تتجلى ملامح مشروعه السياسي بصوت مرتفع، وهي سن مشاركته في كأس العالم 1978م، حينها كانت الحكومة الأرجنتينية بقيادة بيديلا تتمسّح في كرة القدم وترى انتصار الفريق الوطني انتصارًا لها.

وروّجت صورة مصافحة بيديلا لمارادونا لتحسين صورة النظام، وانطلقت سهام المعارضة تصف دييغو بـ “المتناقض”، وهو الحادث الذي أشار إليه في سيرته بقوله: «لا أعرف إن كان العسكر في تلك الحكومة كانوا يستخدموننا، لا أعرف. بالتأكيد نعم، لأنهم كانوا يفعلون ذلك مع الجميع. لكن هذه نكرة وتلك نكرة أخرى: لا يجب أن نلطخ ذاك بذنب العسكر، ولا يجب أن تدار الشكوك حول موقفي منهم. أشخاص مثل بيديلا، تسببوا في إخفاء ثلاثين ألف مواطن، لا يستحقون شيئًا… لهذا أقول: يشكون مني، يقولون إني متناقض، وبلدنا؟ في بلدنا أناس لا يزالون يدافعون عن بيديلا وأقل منهم بكثير من يدافعون عن جيفارا. أقل بكثير! ولا حتى يعرفونه. أشخاص مثل بيديلا يلوثون اسم الأرجنتين في الخارج، فيما يمنحنا اسم جيفارا الفخر». ويبرر مارادونا مصافحته: «لم يكن أمامي حل آخر».

الانتصار لفكرة الوطن

هذا الانتصار لفكرة “الوطن” لازمت مارادونا طوال حياته، فبعد النجاح المذهل والأسطوري في نابولي تلقى عرضًا من شركة أميركية لعمل دعاية لها مقابل 100 مليون دولار، وكان شرطها الوحيد أن يحمل مع الجنسية الأرجنتينية الجنسية الأميركية. رفض مارادونا أن يحمل جنسية أخرى، وكان رده أنه أرجنتيني للأبد. لم يمر وقت طويل حتى تلقى عرضًا من شركة يابانية لعمل مجموعة إعلانات لها واختاروا عدة أماكن في الولايات المتحدة للتصوير، فاعترض وقدّم لهم بديلًا: التصوير في الأرجنتين، وبالفعل تجول معهم في عدة مدن وقرى أرجنتينية حتى استقروا على أماكن تصوير مناسبة، واتفقوا على أن يكون الموديلز أرجنتينيين أيضًا.

هذه التفاصيل الصغيرة في حياة مارادونا كانت تعكس موقفه المبدئي من الولايات المتحدة، لكونها دولة تسيء استخدام دول أميركا اللاتينية، وذات نفوذ قوي من أجل خراب القارة التي تعاني من الفقر على رغم مواردها الكبيرة، وتأتي أيضًا كدعم للموقف الكوبي الذي كان يعاني من الحصار الأميركي بسبب شيوعية فيدل كاسترو وإصراره على استقلال بلده.

لكنه أيضًا موقف داعم لاقتصاد الأرجنتين، الدولة التي عانت اقتصاديًّا في الثمانينيات وعانت في بداية مدة حكم كارلوس منعم (1989-1999م) من التضخم، من هنا جاء دعم مارادونا لإنقاذ البلد من كارثة محققة. إضافة إلى فكرة «مساعدة أهله»، ويعني بها أهله المباشرين كما يعني الأرجنتينيين في عمومهم.

بدأ مارادونا مسيرة موازية لمساعدة الأطفال الفقراء في كل مكان، وكان هو من تواصل مع منظمة اليونيسيف في عام 1988م في رسالة قال فيها: «أحب أن أتعاون مع المنظمة من أجل مساعدة كل الأطفال الذين يعانون الفقر والبؤس». كان أطفال نابولي الفقراء أيضًا على أولوياته، كان يشاركهم الاحتفالات ويقدم لهم الهدايا كبابا نويل.

هذا الرصيد من المحبة الذي زرعه بيديه في المدينة الإيطالية البائسة جناه بعد ذلك، وبأسرع ما يتوقع. كان مارادونا قد قرر ألا يترك نابولي من أجل أي نادٍ إيطالي آخر، على رغم تعدد العروض وإغراءاتها، كان من الصعب عليه أن يواجه نادي نابولي كخصم، لكن حين جاءه عرض في اللعب في مرسيليا وافق على أن يبدأ من الموسم التالي، ووعده رئيس نادي نابولي بالموافقة كذلك إن حصل على كأس إيطاليا.

وعلى الرغم أن مارادونا وفّى بوعده، إلا أن رئيس النادي رفض بيعه لتبدأ أزمة كانت جذر كل الأزمات التي أدت لتوقفه عن اللعب بعد ذلك. قرر مارادونا أولًا أن يستمتع بإجازته، وحينها جاءته مراسلات من نادي نابولي بألا يعود إلى إيطاليا لأن حياته معرضة للخطر ولأن جمهور نابولي ينتظره للانتقام. عاد مارادونا على الرغم من كل شيء ثقةً في جمهوره، ومرت المباريات الأولى بدون أن يبدي الجمهور أي اعتراض عليه، فحيكت مؤامرة ضده بتسريب صورة له مع رئيس المافيا الإيطالية مصحوبة بتقارير صحفية أقرب للصحافة الصفراء عن أنه يتعاطى المخدرات وأنه يتاجر فيها، مستدلين بالصورة المرفقة على أنها دليل.

في «أنا الدييغو» لا يتجاوز مارادونا الرد على هذا النوع من الاتهامات، يؤكد أنه بالفعل التقط صورًا مع الرجل وتلقى منه هدايا مثل ساعات رولكس وسيارات، وأنه حين سأله كل ذلك مقابل ماذا؟ قال ببساطة «مقابل هذه الصورة»، فقدّم له الصورة. يشير اللاعب الأرجنتيني إلى أن الكوكايين لا يدفع اللاعب إلى الأمام، وإنما إلى الوراء، ويتساءل كيف تمسك به النادي وقبل عودته لو كان يعلم بعلاقته مع المافيا أو تعاطيه للمخدرات؟ وكيف يكون مدمنًا ويأتي لهم بالكأس مرة أخرى ومجددًا؟

لكن نهاية مارادونا في نابولي كانت أسطورية: في إحدى مباريات كأس العالم 1990م، لعبت الأرجنتين ضد إيطاليا في ملعب نابولي، والنابوليون شجعوا مارادونا ولم يشجعوا فريق بلدهم. هذه اللحظة كانت حاسمة في نهاية مارادونا في إيطاليا، لكنها نهاية سعيدة ملأى بالمجد، فكل الخير الذي فعله لأهل نابولي تجسد في هذه اللحظة، لحظة انتصار النابوليين له. لحظة رأى فيها أطفال نابولي في مارادونا بطلهم الشعبي، ونسوا أنه أجنبي، نسوا ذلك رغم أن أوربا لم تنس قط أنه أجنبي.

مؤيد للحركات التقدمية

الأسطورة التي صنعها دييغو لنفسه في الملعب في عقد الثمانينيات بالذات ليست إلا جزءًا من أسطورة كبرى صنعها بمواقفه السياسية: رجل ضد الإمبريالية الأميركية، ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي، ومؤيد للحركات التقدمية في العالم، مؤيد للرؤساء الذين يرفضون التدخل الأجنبي في شؤون بلدانهم، وقبل كل شيء مؤيد للقضية الفلسطينية. لم يكن سهلًا بالنسبة للاعب حظي بهذه الجماهيرية الطاغية أن يعلن تأييده لفيدل كاسترو وهوغو تشافيز ومادورو، ولا كان سهلًا، مع قوة الغيتو اليهودي المسيطر على اقتصاد العالم، أن يعلن لاعبٌ، معرضًا مستقبله للخطر، أنه ضد الكيان الاسرائيلي وأن «قلبي فلسطيني»، عبارته الشهيرة.

لكن المتابع لتاريخ أميركا اللاتينية الحديث يعرف أن أبناء هذه القارة أكثر تأييدًا للقضية الفلسطينية من الأوربيين أنفسهم، وأنهم أكثر اطلاعًا على جرائم الدبابة الإسرائيلية من بقية القارات الأخرى. مارادونا ابن هذا السياق، ولأنه عُرِف عنه قوته في الدفاع عن مواقفه، التقط صورة مع محمود عباس في عام 2018م ونشرها على صفحته على الإنستغرام، وكتب تحتها هذا التعليق: «هذا الرجل يريد السلام في فلسطين. الرئيس عباس له بلد ويدافع عن حق».

لم تكن المرة الأولى، ففي عام 2012م وصف نفسه بأنه «المتعصب رقم واحد للشعب الفلسطيني»، «أحترم الشعب الفلسطيني وأتعاطف معه»، «أؤيد فلسطين بدون أدنى خوف»، «أنا المؤيد رقم واحد للقضية العادلة «القضية الفلسطينية» لأني تربيت على النضال ومواجهة الظلم، وفلسطين بلد محارب»، «الشعب الفلسطيني شعب كبير وواجبنا جميعًا أن نقف بجواره. أحبه كما أحب حفيدي بنخامين. سأظل أدعمه وسأزوره قريبًا». وفي 2015م نشرت بعض الصحف تقارير عن رغبة مارادونا في تدريب المنتخب الفلسطيني وأنه دخل في مفاوضات مع اتحاد الكرة الفلسطيني.

بطل شعبي على طريقته

مارادونا هو الأرجنتين، عبارة تشبه «ماركيز هو كولومبيا» التي قالتها الروائية الإسبانية إلبيرا نابارّو. ثمة شخصيات تلخص تاريخ بلد، وتعبّر عن طموحه وإخفاقاته، فيجسّدون بذلك صورة البطل الشعبي. ماركيز كان الوسيط بين جماعة الفارك المسلحة وبين الحكومة الكولومبية باختيار الفارك نفسها، ومارادونا كان النجم الذي منح لبلده كأس العالم في وقت عصيب، وكرّس شهرته لمساندة بلده والقارة اللاتينية، ومات في النهاية على سريره وبين أهله.

الطفل الفقير ابن السكان الأصليين في الأرجنتين كان أكبر من العنصرية والمؤامرة، كان بطلًا شعبيًّا على طريقته الخاصة. لم يسع ليقدم نفسه كنجم «كامل» ولا اختار لنفسه صورة ملائكية. كان بجرأته يتحدى مجتمع النفاق والشيزوفرينيا، كان يخطئ كأي إنسان، أو كما وصفته إحدى الجرائد «نصف ملاك ونصف شيطان»، وإن كان الوصف فيه ظلم له. لقد كان دائمًا متسقًا مع ذاته، مع تناقضاته، وكان يستميت في الدفاع عن قضاياه، متخذًا غيفارا نموذجًا له.

حتى الذين أخذوا عليه تأييده لطغاة، مثل كاسترو وتشافيز ومادورو، لا يمكن أن ينكروا اليد الأميركية في القارة اللاتينية، ولا السعي الأميركي لتحويل القارة الجنوبية إلى مصرف صحي لها، ولا تأييد الولايات المتحدة لانقلابات عسكرية لجنرالات يتبعون سياستها، وليس الانقلاب على سلفادور الليندي بعيدًا من الذاكرة. هذه الانتقادات ذاتها نالت ماركيز من قبل، إذ انطلق الكاتب الكولومبي من موقف ضد إمبريالي.

فن مارادونا، سحره في الملعب، مواقفه السياسية والتزامه، وجماهيريته الطاغية، تجعل منه شاعرًا، تجعل منه ماركيز كرة القدم.


أعظم‭ ‬لاعب‭ ‬كرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬العصور

لم تشهد الأرجنتين جنازة مثل جنازة مارادونا، الملايين اصطفوا في الشوارع والميادين لوداعه، لم يستطع أفراد الأمن المكلفون بالسيطرة، أن يسيطروا على مشاعر الحزن والاندفاع. رئيس الجمهورية راح لتوديعه برفقة الحكومة، وأمر بثلاثة أيام حداد وتنكيس العلم الأرجنتيني. وكتب الروائي الأرجنتيني اللافت باتريثيو برون «أن مارادونا حقق أسطورته كبشر في حياته، ولم يكن ينقصه ليصل إلى الأسطورة الإلهية إلا الموت، وها هو قد مات».

خارج الأرجنتين، خلّد أنخيلو كامبوس، الفنان البرازيلي، مارادونا برسمة غرافيتي هائلة على جدران ريو دي جانيرو، فيما أعرب لويس لاكايي بو، رئيس الأوروغواي، عن حزنه لرحيل «لاعب كرة قدم عظيم». مدرب نادي ليدز، الأرجنتيني مارثيلو بيلسا قال: «كان رمزنا ولا يزال. ما من أحد أفضل من دييغو». رئيس كوبا، ميغيل دياث، بعث ببرقية قال فيها «باسم الشعب الكوبي وحكومته وجنرال الجيش راؤول كاسترو، أرسل لكم خالص تعازيّ في رحيل مارادونا، صديق فيدل القريب والمخلص وصديق شعبنا». في برشلونة نُكست الأعلام، وفي نابولي أطلقوا اسم «دييغو مارادونا» على ملعب سان باولو، وفي الهند رسم فنان جدارية غرافيتي بطول وعرض الحائط.

بابا الفاتيكان، فرانثيسكو بينيديكت، أرسل مسبحة لتوضع فوق تابوت مارادونا. وطالب المدير الفني لنادي أوليمبيك دي مارسيليا، أندريه فيلا بوا، بأن «تسحب الفيفا رقم 10 تكريمًا لمارادونا». واتحاد كرة القدم الصيني ودّع مارادونا وعدّه «ملك كرة القدم». النجوم البرازيليون رونالدينيو جاوتشو ورونالدو وريفالدو وأبطال آخرون رفعوا صورة مارادونا بعبارة «العبقري» الذي ألهمهم «على مدار سنواتهم الرياضية».

الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قال «ستبقى يا دييغو» ووصفه بأنه عبقري لا يمكن تصنيفه ترك وراءه «ملايين من اليتامى»، وأضاف بيان الرئاسة الفرنسية «يد الله وضعت على الأرض عبقري كرة القدم… إنه ليس لاعبًا، إنه فنان». وفي مشهد ظهر فيه زين الدين زيدان في شدة الحزن قال: «موت مارادونا خسارة كبيرة للعالم أجمع». وأصدرت جماعة الفارك الكولومبية المسلحة نعيًا قالت فيه: «لقد رحل أعظم لاعب كرة في كل العصور». وجاءت رسالة ميسي مقتضبة ومؤثرة، قال فيها: «لقد رحل لكنه لم يمت، لأن مارادونا خالد». وكتب الفنان ريكي مارتين على صفحاته بالوسائل الاجتماعية «طِر عاليًا يا صديقي. لقد خسرنا نجمًا، سنفتقدك جدًّا».